المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قال دمنة . . . يكتب إقي بعض الأفاضل من العلماء، والكتاب - تحت راية القرآن

[مصطفى صادق الرافعي]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المؤلف في سطور

- ‌تنبيه

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌المذهبان القديم والجديد

- ‌الميراث العربي

- ‌الجملة القرآنية

- ‌ما وراء الأكمة

- ‌الرأي العام في العربية الفصحى

- ‌تمصير اللغة

- ‌جلدة هرَّة

- ‌مقالات الأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌للتاريخ

- ‌مقال الجريدة الأولالأدب العربي في الجامعة المصرية

- ‌مقال الجريدة الثانيالأدب العربي في الجامعة

- ‌الدكتور طه حسين وما يقرِّره

- ‌التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم

- ‌أسلوب طه حسين

- ‌القنبلة الأولى

- ‌رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب

- ‌إلى الجامعة المصرية

- ‌وإلى الجامعة أيضاً

- ‌وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا

- ‌فلسفةٌ كمضغ الماء

- ‌قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى (عِلْمٍ) بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ

- ‌أستاذ الآداب والقرآنإلى هيئة كبار العلماء ومجلس إدارة الجامعة

- ‌للتاريخ

- ‌كتاب الشعر الجاهليرأي لجنة العلماء فيه

- ‌فلما أدركه الغرق

- ‌موقف حرج لوزارة المعارف

- ‌طه حسين ابن الجامعة البكر

- ‌عصبية طه حسين على الإسلام

- ‌قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

- ‌وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا

- ‌وشعر طه هو طه الشعر

- ‌خنفساء ذات لون أبيض

- ‌أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ

- ‌قال دمنة

- ‌حرية التفكير أم حرية التكفير. . .مقالة مرفوعة إلى البرلمان المصري

- ‌ذو الأقفال

- ‌فيلسوفة النمل

- ‌مسلم لفظاً لا معنى

- ‌رأيي في الحضارة الغربية

- ‌المجدد الجريء

- ‌الجامعة في مجلس النواب

- ‌جلسة يوم الاثنين13 سبتمبر سنة 1926خطبة الأستاذ عبد الخالقِ عطية

- ‌مسألة طه حسين

- ‌كلمة جريدة "الأهرام" الغراءالوزارة تعرض مسألة الثقةرشدي باشا وعدلي باشا في بيت الأمة ليلاًتفاصيل المسألة - تسويتها

- ‌جلسة يوم الثلاثاء

الفصل: ‌ ‌قال دمنة . . . يكتب إقي بعض الأفاضل من العلماء، والكتاب

‌قال دمنة

. . .

يكتب إقي بعض الأفاضل من العلماء، والكتاب يسألون عن نسختي من

"كليلة ودمنة" ويطلبون إليَّ أن لا أكتمها عنهم ولا أستبد بها من دونهم، وأن

أفضي إليهم في كل مقالة بمثل منها؛ ويقولون هذا هو الجديد في الأدب العربي لا ما يعللوننا به من فصول مترجمة ومقالات مسروقة وآراء منتحلة، ولا ما يكتب أشباه السوقة والعامة في اللغة والتعبير والحكاية.

وقال أديب فاضل إنه سيدل وزارة المعارف على هذه النسخة لتنتزعها مني

ولو بمثاقلتها ذهباً، فإنه - زَعم - لا يجوز أن يبقى هذا الكنز "لتوت عنخ

الرافعي". وقد ملكت الأمة كنز توت عنخ آمون.

وكتبت إليَّ سيدة معلمة تقول إن مثل الفيلسوفة الأمريكية الصلعاء قرئ

في جماعة من السيدات فكان رأيهن أن عشر قصص على هذه الطريقة تفيد في

نشر العربية الفصحى وتحبيبها إلى النفوس وإعادتها بعد شتات أمرها ما لا تُفيد عشر مدارس منها الجامعة.

وبعد فإني أستغفر الله وأقول إن كان هكذا فإنه لخير كان أصله من شر.

ولكن يا سبحان الله! ما لهذه الجامعة كأنها في سلاسلَ وأغلال ربضت بها إلى

الأرض وأعجزتها وحزت فيها وأكلت من جلدها؛ ألا تعلم أن باب الخطأ الذي دخلت منه يقابله باب التوبة، وأن الطريق التي انحدرت فيها لم يُخسَف بها فما جاءت فيه رجعت منه وما قطعته إلى الكفر تقطعه إلى الإيمان؟ بلى، ولكنهم يقولون إن الأستاذ الفاضل مدير هذه الجامعة يذهب بنفسه بعيداً، ويجوز بها فوق مبلغها، فكأنه ليس مديراً للجامعة بل هو مالكها المنفق عليها من ذات يده، فلا يسأل عما يفعل ساءت ملكته أم حَسُنت، ويقولون فما إبراهيم وإسماعيل والكعبة والقرآن والتوراة والأدب والتاريخ، وهذه الجامعة لو شاءت أن تزعم أن الهرم الأكبر مبني باللبِن لوسعَها ذلك ولجعلته تاريخاً مع وجود الهرم نفسه قائما من الصخر؛ ثم إنه ليس لأحد أن يُكرهها على أن تتكلم إذا

ص: 221

أرادت السكوت، لأنها مستقلة ولأنها تبحث بعقول أهلها وعلى قدر هذه العقول في أهلها، فإن كان ثَم تبعة من التبعات فعلى قوم غشوا الأمة في اختيار هذه العقول وظنوا أن نقش كلمة الجامعة في صفيحة من النحاس ثم وضع الصفيحة على باب دار يجعل الدار جامعة؛ ثم جَرَوْا هذا المجرى في الأساتذة، فرجعت الأشياء بعدُ إلى طبائعها لأنها لا تكذب ولا تغش، فوقعت الفوضى والاختلال وظهر الجهل

والخطأ وجاء درس الأدب وهو درس الكفر والتخليط والتزوير والتكير والمنكر، وسموا طه حسين أستاذاً في الجامعة وأظهرته الجامعة محرراً في السياسة على بذاءته ومساخته وفساد باطنه، كما كان في عهده إذ يسب دولة سعد باشا زغلول كل يوم بمقالة؛ وقس على طه من طرفيه إلى أعلى وإلى أسفل. . . (1)

قال دمنة: وكانت هذه الجامعة في إنشائها كالحلم: نُقِل من نوم إلى يقظة

في طرفة العين، فرأى الحالم الماهر. . . أن بحراً من البحار قد نفض قاعة

نفضه قذفت إلى الهواء أثمن لؤلؤة فيه، ثم اجتمع الهواء فرمى فى يده اللؤلؤة

فانتبه فإذا يده مقبوضة، فقال لمن حوله: ألا ترون أطبقوا أيديكم؛ فلما فعلوا قال: الآن في يد كل منكم لؤلؤة ثمنها مائة ألف؛ والآن أصبحتم من سرَوات الدنيا ولهاميم العالم، وإن بلاداً أنتم من أهلها لجمجمة الأرض، الآن

والآن. . . ومضى يَعِدُهم ويمنيهم ويقول وإن في هذا لكم الغنى والمجدَ

والسؤدد.

ثم حلم الحالم الماهر. . . أن في جمع مدرسة إلى مدرسة ما يبدع

جامعة، فقال وإن في هذا لكم العلمَ الأعلى، والآن هذا مدير الجامعة، وذاك أستاذ كذا، وذلك أستاذ كيت، وهذا وذاك وذلك يجتمع منهم هؤلاء، فاجتمعوا فكان ماذا؟

قال كليلة: فكان ماذا.

قال دمنة: كان منهم كالدار التي ظن بانيها أنها تلد. . .

قال كليلة: وكيف كان ذلك؟

قال دمنة: زعموا أنه كان بمدينة كذا رجل عقيم، وكانت به لوثة (2) ، فقال

(1) إشارة إلى الأستاذ الجليل علي ماهر باشا وزير المعارف كان، وهو الذي أخرج الجامعة، وكان مخدوعاً في طه حسين، ونعتقد أنه لو بقي وزيراً لأنصف، لأنه عالم ذكي، على أن عمله في إنشاء

هذه الجامعة كان كالذي يصنع طائراً من الطين، فبعد أن يفرغ منها ويضعه على الأرض يرمي بعينيه إلى الجو لينظر أين بلغ الطائر في طيرانه.

(2)

اللوثة بالفتح: الحماقة؛ وبالضم: الاسترخاء والحبسة في اللسان. . .

ص: 222

إني لم أرزق ولداً وما أرى من دار إلا وفيها أولاد، فلو قد بنيتُ داراً لرجوت من العَقِب ما يرجو الناس، وقام ذلك بنفسه ورسخ في يقينه، وخُيل إليه من ظاهره باطن، فجاء بالعمال والبنائين وقال أبنوا ههنا ووسعوا وأكثروا الغُرفات، فإنهم عشرة غلمان وخمس بنات،. فذلك خمس عشرة غرفة؛ ثم لي وللعجوز غرفتان، فقال رئيس البنائين: ومن أين الغلمان والبنات وأنت شيخ عقيم، وإنما حاجة مثلك إلى الكن الدافئ والبيت الضيق يلفك وامرأتك ويُمسك عظامكما أن تتبعثر في الدار الواسعة!

قال صاحب الدار: يا سبحان الله! ما تصنع الغرارة وقلة المعرفة بأهلها.. أيها الفِسل، أما علمتَ أن كل غرفة تُبنى لولد

تُهيأ له وتسمى باسمه وتُحبس عليه - فإن القدرة توحي إليها أن تصير "سنةَ

تجربة": فإن لم تلده أمه بعد السنة أوحت إليها القدرَة أن تلده هي فيصبح الشيخ مثلي وإذا ولده خمسةَ عشر مما تلد الدار. . .

قال كليلة: فقد زعمت يا دمنة أن هذه الجامعة الخرقاء كانت مستقلة.

ففسر لي استقلالها ما هو؟

أكان أساتذتها يأكلون كتباً ويشربون حبراً ويلبسون

جدراناً وأبو اباً؟

- قال دمنة: مَثَلها في ذلك مثل الخطيب الزنديق الأحمق الذي زعموا أنه

كان يُبطن الكفر ويظهر الإسلام، فتعالم الناسُ ذلك منه فوسِعُوه إشفاقاً عليه

ونظراً له، ثم أفشى طرفاً منه في بعض حديثه فقالوا إن الملة سمحة وللتأويل

أبواب ولكل قول وجوه ومعانٍ، فإن لم يكن في القول إلا جزء واحد من

الإيمان وكان فيه تسعة وتسعون من الكفر وجب حمله على الواحد دون التسعة والتسعين، ثم غرَّه ذلك منهم وحسبه ضعفاً ومَعجَزَة فتقخم في كفره وسوَّلت له نفسه أنه فوق الناس، فهو مستقل وهم التابعون، وهو الحر وهم العبيد، وقال إنه لن يكون الكفر في مثل هؤلاء الجامدين كفراً إلا في المسجد "الجامع".

وعلى المنبر وفي يوم الجمعة، فليهمس هامسهُم ولينطق ناطقهُم، وسأرى ما

يكون من تِلقائهم، فإني لخطيبُ صَلاتهم ولكني مستقل أفكر برأسي لا

برؤُوسهم، وإني لأرتزق منهم ولكني مستقل آكل ببطني لا ببطونهم. . . وإذا قالوا كفر فإنما هذا إيماني، وإذا قلت آمنوا فإنما ذلك كفرُهم، ولهم علي كلام يسمعونه والكلام فنون وأجناس، ففي أن أقول ما هَجَسَ في قلبي، أخطاتُ أو أصبت، وغيرتُ أو بدلت، ورضُوه أو كرهوه؛ وعليهم لي أجر يدفعونه لم يكن

ص: 223

يوماً ولا يكون ولن يكون إلا من جنس واحد: ذهباً خالصاً صحيحاً يرنُّ رنيناً صافياً لا أقبل فيه زائفاً ولا ناقصاً ولا مغيراً ولا مبدلاً، ثم لا أرضى فيه برأيي دون رأي الصيرفى الحاذق البصير، فكثيرُ غشِّي إياهم ليس بغش، وأنا بعدُ في عافية، وأنا مستقل، وأنا مختار، وأنا أفكر، فأنا موجود.،. وإن أهون الغش منهم ولو في درهم وما دون الدرهم لهُو الغش المفضوح والخيانة الأثيمة والخيانة الموبِقة، ولن يُقلتهم القانون ولا الشرع ولا العُرف، وهم مأخوذون به فمعاقبون عليه.

قال دمنة: فلما كانت الجمعة والتقى الناس لأداء المكتوبة جاء

الخطيب. . .

قلت: وبقية هذه الصحيفة مقطوعة من النسخة التي عندي فلعل في قراء

الكوكب من عنده نسخة أخرى فليعارض عليها وليأتنا بباقي المثل.

قرأت في الأهرام مقالاً لشيخنا وصديقنا نكتة الزمان وعلامة وادي النيل

أحمد زكي باشا قال فيه: " من بواعث الأسى في نفسي ودواعي الأسف في قلبي أن بعض أنصاف العلماء في مصر وسوريا، وأن بعض أشباه المتعلمين وأشباه الأشياخ في هذين القطرين الشقيقين قد أصابهم التفرنج بداء الحذلقة والتشكك، فصاروا لا يرون لأجدادهم فضلاً ولا يعرفون لهم مبرة ولا يذكرون عنهم مفخرة، بل صار أولاد الحلال هؤلاء يطأطئون رؤوسهم أمام كل إفرنجي، ويخرون ساجدين لكل وارد عليهم من بلاد الإفرنج أو باسم الإفرنج، حتى لقد أصبحوا وهم يرون العلم كل العلم ما جاءهم ولو بطريق التحريف أو على سبيل التخريف عن المستشرق فلان أو المسيو علان. . .؟ وإلا فالحجة الناطقة هي ما صدر عن شفاه السنيور هََّان بن بيَّان " أو عن

"الهر جامان بن ألمان" انتهى.

فاولاد الح. . . . . . لال هؤلاء على مواطاة من بعضهم لبعض لا يرضيهم

من الرضا إلا أن ينسى الشرقيون آباءهم وأجدادهم ويصبحوا بَدَداً متناثرين؛ وهم لا يعلمون أنه ما من رجل حر يسره أن له باسم أبيه أو جده الشرقي اسم أحد من الإفرنج ولو كان اسم دولة من الدول العظمى، ولئن كانت الجامعة قائمة

ص: 224

منهم على دعائم إنسانية تعمل في إضعاف الجنسية وإشراب الناس في قلوبهم ما تمجه العقيدة والفضيلة - فإنها لمحقوقة بتركها واطراحها وتحذير الناس منها؛ فلينظر نواب الأمة أين يضعون أيديهم من هذا الفساد لإصلاحه، وليبدأوا بهذا العنصر السام المسمى في كيمياء التعليم "بالطاهوية". . .

وبعد: فلنتمم كلامنا على ما سماه أستاذ الجامعة "البحث الفني"

قال في صفحة 144: ولننظر في المعلقة نفسها "معلقة امرئ القيس". . . ولكنا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة، فهم يشكون في صحة هذين البيتين:

"ترى بَعَرَ الأرام في عَرصاتها "

وهم يشكون في هذه الأبيات:

" وقربةِ أقوام حملتْ عصامها "

الأبيات الأربعة. . . ثم يقول: ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن

هذين البيتين قلقان في القصيدة، وهما:

وليل كموج البحر أرخى سدوله. . . عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بِصلبه. . . وأردفَ أعجازاً وناء بكلْكَل

فقد وُضِغ هذان البيتان للدخول على الذي يليهما وهو:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي. . . بصبح وما الأصباح منك بأمثل

قلنا: وعلى هذا فالقدماء شكوا في اثنتين واستخرج الشيخ الثالثة بفكره

الثاقب ومعرفته بالشعر كنه المعرفة. . . ونحن كنا نرفعه عن مثل هذا التدليس والتمويه، فقد جاءت الرواية بأنه يقال إن هذين البيتين المضروبين مثلاً في الاستعارة مما وضع "خلفُ الأحمر" على امرئء القيس كما وضع من مثل ذلك على غيره، ولم يجزموا أن خلفاً صنعهما بل جاءت الرواية بصيغة التمريض "يقال" ولوْ جاز لنا نحن أن نقول في ذلك لقلنا إن البيتين من شعر امرئ القيس، وإنما نسبوهما إلى "خلف" على الظن، إذ كانوا يذهبون إلى أنه وضع على كل شاعر فحل ما يجوز في شعره ولا يتميز فنه، مبالغة منهم في علمه بالشعر ونفاذه فيه وأنه من ثقافته وصناعته، فإذا أرادوا أن ينسبوا إليه شنيئاً من قول شاعر بعينه عمدوا إلى الاختيار من أحسن ما يقول هذا الشاعر، لأن صنعة (خلف) إنما كذلك تأتي.

ص: 225

ويقول الشيخ في صفحة 149: "ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع

العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون

جاهلياً، فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق "تنبه! فإن النص مترجم. . . "

خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثاراً حتى انتهى إلى غدير، وإذا فيه نساء يستحممن - يريد يستنقعن - فقال، ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل.

ليس كذا قال وإنما هو: الم أر كاليوم قط ولا يومَ دارةِ جلجل "

وولى منصرفاً؛ فصاح النساء به: يا صاحب البغلة! فعاد إليهن، فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث "دارة جلجل" فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله:

ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح. . . ولاسيما يوم بدارةِ جلجل

قال الشيخ والذين يقرأون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد

لِيم على هذا الفحش وهذه الغلظة، لا يجدون مشقة في أن يُضيفوا إليه هذه

الأبيات، فهي بشعره أشبه" انتهى.

قلنا: ولكن الأستاذ قد كذب وزاد في النص، فإن الرواية في الأغاني في

أخبار الفرزدق وليس فيها أن الفرزدق أنشدهن الأبيات، فكيف تكون من شعره؟

وعلى قياس طه فكل شاعر من شعراء الهجاء يمكن أن يلحق بشعره كل قول فيه هجاء وسب وإقذاع ويقال إنه بشعره أشبه، فيكون هذا هو البرلمان. . . وكل متغزل يضاف إليه شعر كل متغزل لأن طباعهما متشابهة وما يقوله هذا يقول هذا مثله؛ على أنه وصف أغلبُ على امرئ القيس من أنه غَوِي عاهر متفحش، وهو يجري في شعره من ذلك على خلق وطبيعة، وله جرأة عليه تشعرك أنه ابن ملك يرى لنفسه كلمة فوق كلام الناس، فكلامه إنما يشاكل نفسه، وفحشهُ إنما يأتيه من قبل الغزل والنسيب، لا كفحش الفرزدق فذاك من قبل الهجو واللؤم.

والفرزدق لا يعد من شعراء الغزل، وقد كان أهل الحجاز يقدمون

"جميلاً" عليه وعلى جرير معاً لموضع جميل من النسيب وقلة غنائهما فيه.

وكانا يعلمان ذلك من نفسيهما ولا يريان الشعر إلا في بابهما في الفخر

والهجاء، فروى أبو الزناد عن أبيه قال، قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن، أنا أشعر أم هذا الخبيث؟ يعني الفرزدق، وناشدني لأخبرنه، فقلت: لا والله ما يشارككْ ولا يتعلق بك في النسيب: قال: أوَّه قضيتَ وال له له علي. أنا والله أخبرك. ما دهاني إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعراً وأنه تفرد لي وحده.

أما حديث الفرزدق الذي استدل به طه فهو عندنا موضوع، لأن الفرزدق

ص: 226

فضح فيه نفسه وترك النساء يسخرون منه ويضربن وجهه بالطين والحمأة ويملأن منهما عينيه وثيابه ويتماجن به ويتركنه سَطيحاً على الأرض وبأسوأ حال وأخزاها، وما نحسب مثل الفرزدق يروي ذلك عن نفسه أو يرضاه له وهو مَن هو في الفخر، وإنما تلك أقاصيص توضع للنادرة والتظرف والسخرية، وهب الخبر صحيحاً أو هبه مكذوباً - فعلى أيهما - فإن الفرزدق لم يذكر شعر امرئ القيس، فلا معنى لأن يكون قد وضع الشعر بعد، وكيف يضع الفرزدق على امرئ القيس وهو يذكره في شعره ويقدمه ويعده أحد النوابغ الذين وهبوه الشعر؟

ثم يقول طه: "أما وصفُ امرئ القيس لخليلته وزيارته إياها وتجشمه ما

تجشم للوصول إليها وتخوفها الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر؛ فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن ابن أبي ربيعة قد احتكره احتكاراً لم ينازعه فيه أحد.

" ولقد يكون غريباً حقًّا أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا

الأسلوب ويُعرف عنه هذا النحو ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرئ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي

ربيعة والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يُعرف له ذلك؟ . . . ونحن نرجح أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس، أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين - الفرزدق وابن أبي ربيعة - " انتهى.

ونريد أن نسأل شيخ الجامعة عن قوله: "إن النقاد قد أشاروا إلى تأثير

امرئ القيس في طائفة في الشعراء فِي أنحاء من الوصف؛ فإن لم يكن هذا

كذباً فمن هم هؤلاء النقاد؟ ومن هم أولئك الشعراء؟ وما هي تلك الأنحاء من الوصف؟ وأين وجد ذلك، أفي كتاب كازانوفا أم كتاب كذَبَنوفا. . .؟ هذه كلها من ترهات الشيخ ولا أصل لها وإنما يأتفكها ليصل بعضَ الكلام ببعض في نظم

ص: 227

الدليل الذي يريده، وهي طريقة المستشرقين ولا قيمة لها في التاريخ وقد نبهنا

إليها مراراً.

كل ما قاله النقاد: إن من يقدم امرأ القيس على الشعراء احتج له فقال

ليس أنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها فاستحسنها

العرب واتبعته فيها الشعراء، منها استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض وتشبيه الخيل بالعقبان والعصي، وأنه أول من قيد الأوابد وأجاد في التشبيه وفصل بين النسيب وبين المعنى.

وبهذا تقدم الشعراء لأنهم اتبعوه فيه ولم يتبع هو أحداً، وفن ابن أبي

ربيعة إنما هو داخل في رقة - النسيب، إذالنسيب جنس يشمل صفة النساء

وحكاية أقوالهن، والتسبب إلى مودتهن الخ؛ فإذا كان ابن أبي ربيعة قد استحسن أسلوباً من أساليب امرئ القيس في النسيب فأكثر منه واستنفذ فيه جانباً عن شعره فليس معنى ذلك أنه اخترع الطريقة ولا احتكر الفن؛ ومن الثابت أنه لم يوضع شيء على الجاهلية بعد القرن الرابع، فلو عملوا على طريقة ابن أبي َربيعة ونحوله امرأ القيس لما فات هذا مثل صاحب الأغاني ولجعله كل الفخر لابن أبي ربيعة؛ والمعلقة كانت مدونة مروية في أوائل القرن الثاني.

أما أنهم لم يدلوا على أن ابن أبي ربيعة أخذ فنه من امرئ القيس فلأنهم

لم يكونوا يرون ذلك فناً ولا طريقة، إنما هو شعر كالشعر يُعرف عندهم بمعانيه لا بأسلوبه القصصي، ولم يسمِّه فناً إلا أستاذ الجامعة. "

وأنا أحسبني شاعراً أجد الشعر في طبعي وأفهمه وأنفذ في أغراضه وأقوله

وأحسن نقده وتمييزه، ولا أظن أحداً يكابر في هذا أو ينازعني عليه؛ وإني مع

ذلك لا أرى أثقل ولا أبرد ولا أسمج من شعر ابن أبي ربيعة هذا حين يفضح

النساء ويقول في شعره: قلت لها وقالت لي، وكان مني كذا وكان منها كذا.

وما هو عندي بفن؛ بل خلق سافل وطبع غوى ونفس عاهرة، بل هو فن هجو النساء إذ كان ابن أبي ربيعة لا يحسن مدح رجل ولا هجوه فسسقط من هذه الناحية ليرتفع من الناحية التي تقابلها في النساء، فكأنه ارتفع بقوتين؛ - ثم أراد الرجل أن يسير شعر في الأفواه ولا أسيَرَ من أخبار النساء وأحاديثهن، فهذا هذا.

وطريقته في شعره إنما تحسن حين تتفق في الأبيات القليلة والقصيدة

ص: 228

المفردة، وحين تجيء تظرفاً وتماجنا وحين تخرج مخرج النادرة أو تبعث عليها

الفتوة وميعة الشباب في بعض الحب الشديد، كما فعل امرؤ القيس، فأما أن

يكون فيها أكثر شعره وعليها كل عمله ويتقلب الرجل وكأنه ليس في فمه إلا لسان امرأة فهذا ما لا أراه فناً، إلا أن يقال فن الرجل اللص وفن المرأة العاهرة كما يقال فن الشاعر وفن المصور مثلاً!

وقد نصوا على أن امرأ القيس هو الذي افتتح تلك المعاني التي أومأنا

إليها وأن الشعراء اتبعوه، فأين النص أن ابن أبي ربيعة افتتح هذه الطريقة - مِن: قلت لها وقالت لي، وكنت وكانت، وفعلت وفعلت؟

ومن الذي اتبعه في هذا الباب وأنفذ فيه أكثر شعره ولو أنهم كانوا يرونه مبتدعاً لنصوا على ذلك كما نصوا على غيره. بل كان جرير يرى تلك الطريقة هذياناً، حتى استحكمت

معاني ابن أبي ربيعة فرآه حينئذ قال الشعر.

وإن هناك أصلاً مقرراً في الأدب العربي، وذلك أن فحول الشعراء

يسبقون إلى ابتداع المعاني والأساليب فيتبعهم فيها من بعدهم، إذ لا يقول أحد شعراً ولا يكون شاعراً إلا عن رواية وحفظ.

فقد يتفق المعنى لشاعر متقدم أو تستوي له الطريقة في بعض الأساليب فيأتي بعده من يجد ذلك في طبعه ويكون قد اعتاد منه في أسباب عيشه ودهره ما لا يجري به اعتبارُ شاعر آخر، فيحتذي

على حذو الأول ويتخذ كلامه أصلاً يبني عليه فيكثر من ذلك ويقلبه على

وجوهه حتى يميته ولا يدع فيه شيئاً لغيره، وليس ابن أبي ربيعة بدعا في ذلك، فإن أبا نواس احتذى على الأعشى في الخمر ولكنه أكثر فيها حتى عُرفت به هذه الطريقة وحتى لم يكن يُرى لغيره فيها معنى وهو حي، وهذا البحتري رأى بعض شعراء المتقدمين يذكر طيف الحبيب وزيارته، وقد قالوا إن أول من سبق إلى هذا المعنى " جران العود" في قوله:

سقياً لزوركِ من زَور أتاكِ بِه. . . حديث نفسِك عنه وهو مشغول

ثم أخذه العباس بن الأحنف وأخذه أبو تمام، فجاء البحتري فتعلق عليه

وأكثر منه وجعل وصف الخيال طريقة من طرائقه فعرف بها.

وكيف وضع فن البديع لو لم يكن مسلم بن الوليد قد جرى على هذا الأصل

فتتبع ما رآه في شعر الشعراء من استعارة وتشبيه ومجاز ثم قصدها في شعره وعمل على أن يتكلفها حتى نهج الطريقة لأبي تمام من بعده فجاء هذا واستنفذ فيها شعره

- حتى غرف بها وغرفت به والأصل - كما رأيت - من أبيات متفرقة وكلمات مأثورة.

ص: 229

أفإن رأيناه استعارة أو مجازاً في كلام جاهلي كامرئ القيس قلنا وضعهما

شاعر إسلامي متأثر بشعر مسلم بن الوليد وأبي تمام لأن هذا الفن احتكره أبو

تمام احتكاراً؟

إن سيدنا ومولانا طه حسين في يده ميزان دقيق اسمه ميزان القمحة، وهو

مع ذلك يزن به الجبال والمدن والأقطار، وقد وزن قصر الزعفران "أي الجامعة المصرية" فقال إنه عشرون ألف طن.. ولما قيل له إن وزارة الأشغال لا تقول بهذا ولا يقرك عليه المهندسون وأنت لست مهندساً ولا وزارة أشغال، قال: كل أولئك من أنصار القديم لأنهم يتبعون علوماً قديمة يحتذي فيها بعضهم حذو بعض. . . وقد وزن امرأ القيس في ميزان القمحة هذا فكان أقة واحدة إلا عشرة دراهم. . . فلو اجتمع الإنس والجن على أن يُثقلوا ميزان الشيخ ليزيدوا هذه الدراهم العشرة ويجعلوا امرأ القيس المسكين أقة كاملة لما استطاعوا إلا إذا كان في قدرتهم أن يزيدوا عقل الشيخ لأن التصحيح في عقله تصحيح في ميزانه.

وقال في صفحة 145 يكذب رحلة امرئ القيس إلى قيصر وأن شعره في

ذلك مصنوع: "وإذا لم يكن بد من التماس الأدلة الفنية على انتحال هذا الشعر نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر ودخل معه الحمام وفتَن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في القسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر في شعره.

لم يصف القصر ولم يذكره ولم يصف كنيسة من كنائس

القسطنطينية. لم يصف الفتاة الامبراطورية التي فتنها، لم يصف الروميات، لم

يصف شيئاً مما يمكن أن يكون رومياً حقاً.

ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور أن شاعراً عربياً قديماً قال هذا الشعر الذي

يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم" انتهى.

فيا شيخ، أما تعلم أن المتنبي في الإسلام "كامرئ القيس في الجاهلية.

"وقد اجتمع له،، من أسباب الشعر ووسائله ما لم يجتمع لذاك، وأن المتنبي

جاء إلى مصر وعاش فيها وخالط أهلها؛ فقل لنا يا أستاذ الأدب: أين وصفُ الهرم في شعر المتنبي؟ أم تحسب أن الهرم كان يومئذ صغيراً ثم كبر. . .

ومهما يكون من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور

أن شاعراً كالمتنبي يقيم في مصر ولا يصف الهرم؛ ومع ذلك فقد أقام المتنبي

ص: 230

في مصر ولم يصف الهرم.

إن أنصار الجديد سيلقون مشقة وعسراً في حل هذه

المشكلة ولا بد من حل هذه المشكلة. . .

لقد سئمنا من جهل طه وسخافة رأيه وخلطه بين طبائع الناس وخصائص

الأزمنة، فما زاد المتنبي على أن ذكر في شعره لفظ - الهرمين - كما ذكر امرؤ القيس لفظ - قيصر - فهذا من ذاك.

والعجب أن الشيخ كثيراً ما يضع رأسه في موضع ثم لا تكون إلا وثبة فإذا

رجلاه في موضع رأسه.

قال في صفحة 148: "ونحن نقبل أن امرأ القيس هو

أول من قيد الأوابد وشبَّه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك، ولكنا نشك

أعظم الشك أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة".

وهنا كما ترى عقل الشيخ، ثم وثب إلى صفحة 155 فإذا هو يقول عن

عمرو بن قميئة الشاعر: " لميئعرف من أمره شيء إلا اسمه كما لم يعرف من

امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما".

وهنا كما ترى حذاء الشيخ في مكان رأسه؛ وإلا فهل كان اسم امرئ

القيس هو الذي قيد الأوابد واخترع كل تلك المعاني؟

الحق أن طه حسين للأدب العربي كالكسوف والخسوف. . . يحجب حتى

نور الشمس وحتى نور القمر.

ص: 231