الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - فصل
ذكر لي شيخُنا العارفُ القدوةُ المُسَلِّكُ وليُّ الدينِ أبو الحسن [16] علي، المقيم بجامع بيت لهيا (1) خارج دمشق رحمه الله ُقال:"كنتُ/ مريضاً بمرض يسمى: "النِّقْرِس" (2)؛ في رجلي، فعادني الشيخُ محيي الدين -قدَّس الله روحه-، فلما جلس عندي؛ شَرَعَ يتكلَّم في الصبر".
قال: "فكلَّما تكلَّم؛ جعل الألمُ يذهب قليلًا قليلًا، فلم يزل يتكلَّم فيه حتى زال [جميع الألم] (3) كأن لم يكن قط".
قال: "وكنتُ قبلَ ذلكَ لمْ أَنَمِ الليلَ كُلَّه من الألمِ، فعرفتُ أنَّ زوالَ الألمِ من بركته رحمه الله"(4).
وذكر لي صاحبنا في القراءة على الشيخ رحمه الله لـ "معرفة السنن والآثار" اللطحاوي؛ الشيخ العلامة المفتي رشيد الدين إسماعيل بن
= من العلماء كراهتها وليست بمكروهة) (2/ 924). قال: "واعلم أني لا أُسمِّي القائلين بكراهة هذه الألفاظ؛ لئلا تسقط جلالتهم، ويُساء الظنّ بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نُقلت عنهم" وانظر "جلاء الأفهام" لابن القيم (الفصل العاشر)(ص 453) وتعليقي عليه، والله الموفق والهادي.
(1)
قرية مشهورة بغوطة دمشق.
(2)
النِّقرِس: مرض مؤلم، يحدث في مفاصل القدم، وفي إبهامها أكثر، وهو ما كان يسمَّى (داء الملوك).
(3)
ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.
(4)
نقله عن المصنف: الذهبى في "تاريخ الإسلام"(ورقة 577)، والسخاوي في "ترجمة الإمام النووي"(ص 34)، والسيوطي في المنهاج السوي" (ص 44).
المعلم الحنفي -فسح الله في مدته- قال: "عذلتُ (1) الشَّيخَ محيي الدين في عدم دخول الحمام، وتضييق عيشه في أكله، ولباسه، وجميع أحواله، وقلتُ له: أخشى عليك مرضاً يعطِّلك عن أشياء أفضل مما تقصده".
قال: "فقال: إن فلاناً صام، وعبدَ الله حتى اخضرَّ عظمه".
قال: "فعرفتُ أنه ليس له غرض في المقام في دارِنا هذه، ولا يلتَفِتُ إلى ما نحنُ فيه"(2).
ورأيتُ رجلًا من أصحابه قَشَّرَ خيارةً؛ ليطعمه إياها، فامتنعَ مِن أكلها، وقال:"أخشى أن ترطِّبَ جِسْمي، وتجلبَ النوم"(3).
وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلةً واحدة بعد عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السَّحر، وكان لا يشرب الماء
(1) أي: لُمْتُ.
(2)
قال السخاوي في "ترجمة الإمام النووي"(ص 38): "وفيما أدرجه الذَّهبي [في "تاريخ الإسلام" (ورقة 578)] في كلام ابن العطار مما لم أقف عليه في النّسخة التي وقفتُ عليها؛ قال: وعزم عليه الشيخ برهان الدين الإسكندراني أن يفطر عنده في رمضان، فقال: أحضر الطعام إلى هنا، ونفطر جملة. قال ابن العطار: فأفطرنا ثلاثين أو أكثر على لونين من الطعام، وكان الشيخ في بعض الأوقات يجمع إدامين". انتهى.
ولعل في هذا ما يشعر بمخالفة ما قاله اليونيني في "ذيل مرآة الزمان"(3/ 288)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (13/ 279) عنه:"ولم يجمع بين إدامين"!
ولا تضارب، فجمع اللونين على مائدته لإكرام الناس، وهو مباح شرعاً، بل ومرغب فيه، أما هو بخاصّة نفسه فلم يأكل إلَاّ طعاماً واحداً، والله أعلم.
(3)
نقلها عن المصنف: الذهبى في "تاريخ الإسلام"(ورقة 577)، والسخاوي في "ترجمة الإمام النووي"(ص 38)، والسيوطي في "المنهاج السوي"(45).
[17]
المبرَّد (1)، وكان لا يأكل/ فاكهة دمشق، فسألتُه عن ذلك، فقال:"دمشقُ كثيرةُ الأوقافِ وأملاكِ مَن هو تحت الحَجْر شرعاً، والتصرف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة والمصلحة (2)، والمعاملة فيها على وجه المساقاة (3)، وفيها اختلاف بين العلماء، [ومَن جوزها؛ قال:] (4) بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على [جزء من] (5) ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟! "(6).
(1) كان قوته على أرضٍ يزرعها والدُه، ويرسل منها ما يقتات به على سبيل الضرورة؛ كما قال الكتبي في "عيون التواريخ"(21/ 160)، واليونيني في "ذيل مرآة الزمان"(3/ 288)، ونقله السخاوي في "ترجمة النووي" (38 و 39) عن غير واحد من تلاميذِ الإمام؛ مثل: اللخمي، وابن الفخر، وسليمان الزُّرَعي.
(2)
الغِبْطة والمصلحة: كل ما يخدم مصلحة الجماعة، أو غالب الناس لمصلحةٍ خاصة يتوصَّل إليها بالرأي والاجتهاد.
(3)
المساقاة: أن يستعمل رجلٌ رجلاً في نخيل، أو كروم؛ ليقوم بإصلاحها، على أن يكون له سهم معلوم مما تغلُّه.
والخلاف فيها مبسوط في: "الحاوي الكبير"(7/ 363) و "الخراج" لأبي يوسف (ص88) و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 184) رقم (1031) وتعليقي عليه و"المغني"(7/ 530)، و"مختصر اختلاف العلماء"(4/ 21 رقم 1685)، و"فتح الباري"(5/ 17)، و"تنقيح التحقيق"(3/ 73)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية"(30/ 125، 324). وقال عنها المصنف في "تحرير التنبيه"(216): "المساقاة: من السَّقي، لأن العامل يسقط الشَّجَر، لأنه أهمُّ أمورهم، لا سيَّما بالحجاز". وانظر كلام النووي مبسوطاً في "المجموع"(15/ 220)، "روضة الطالبين"(5/ 150).
(4)
ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.
(5)
ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.
(6)
وزاد بعضهم على المذكور ما نصّه: "وأيضاً، فغالب مَن يُطَعِّم أشجارَهُ؛ إنما يأخذ الأقلام غصباً أو سرقة؛ لأن أحداً ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة، فتؤخذ تلك الأقلام سرقة، وتُطعم في أشجار النَّاس، فتطلع الثمرة =
وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشَف (1) أبو عبد الرحيم محمد الإخميمي -قدَّس الله روحه، ونور ضريحه-:
"كان الشيخ محيي الدين رحمه الله سالكاً منهاج الصحابة رضي الله عنه، ولا أعلم أحداً في عصرِنا سالكاً على منهاجهم غيره".
وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد بن الظهير الحنفي الأربليّ (2) -شيخ الأدب في وقته- كتاب "العمدة في تصحيح التنبيه" للشيخ -قدس روحه-، وسألني مقابلته معه بنسختي؛ ليكون له روايةً عنه مني، فلما فرغنا من ذلك؛ قال لي:"ما وصل الشيخ تقي الدين ابن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ محيي الدين من العلم والفقه والحديث واللغة وعذوبة اللفظ والعبارة"(3).
…
= في نفس القلم المغصوب، فيكون ملكاً لصاحب القلم لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراؤه حراماً". انتهى.
انظر: "ترجمة الإمام النووي"(ص 37)، و"المنهاج السوي"(ص 46)، و"تذكرة الحفاظ"(4/ 1472)، و "ذيل مرآة الزمان"(3/ 288)، و "عيون التواريخ"(21/ 162 - 164).
وما نقل من تعليل فإنه من الورع الدقيق عند الإمام النووي، والمعتاد في (الغوطة) والبلاد كثيرة الأشجار السماح بأعواد التطعيم هبةً أو إهداءً، والتقليم أنفع للشجر، وقل أن يوجد بين الناس من يكره ذلك.
(1)
عبارة صوفية، مأخوذة من (المكاشفة)، وهي تطلق بإزاء تحقيق زيادة الحال، وتطلق بإزاء تحقيق الإشارة، كذا في "المصطلح الصوفي"(140) لابن عربي! وانظر "رشح الزلال" للكاشاني (120).
(2)
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية"(13/ 282)، و"فوات الوفيات"(3/ 301)، و"شذرات الذهب"(5/ 359).
(3)
انظر: "تاريخ الإسلام"(ورقة 577)، و "ترجمة الإمام النووي"(ص 36)، و"المنهاج السوي"(ص 47).