المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌مقدمة تحقيق "تحفه الطالبين

- ‌من أفرد ترجمة الإمام النووي بكتاب مستقل

- ‌تعريف بكتاب "تحفة الطالبين

- ‌توثيق نسبته لمصنِّفه وأهميته:

- ‌تاريخ تصنيف الكتاب:

- ‌النسخة المعتمدة في التحقيق:

- ‌عملي في التحقيق

- ‌يتلخص عملي في هذا الكتاب بما يلي:

- ‌ترجمة الإمام ابن العطار

- ‌اسمه ونسبه ولقبه وولادته:

- ‌شيوخه:

- ‌علاقته مع الإمام النووي:

- ‌طلبه للعلم ومرضه وتدريسه:

- ‌مدحه وثناء العلماء عليه:

- ‌مصنَّفاته:

- ‌وفاته:

- ‌تحفة الطّالبين في ترجمة للإمام محيي الدين

- ‌1 - فصل: في نسبه ونسبته

- ‌وأما نسبته:

- ‌2 - فصل: في مولده ووفاته

- ‌3 - فصل: في مبدأ أمره واشتغاله

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل: في ذكر شيوخه في الفقه

- ‌6 - فصل: في شيوخه الذين أخذ عنهم أصول الفقه

- ‌7 - فصل: فيمن أخذ عنه اللغة والنحو والتصريف

- ‌8 - فصل: فيمن أخذ عنه فقه الحديث وأسماء وجاله وما يتعلق به

- ‌9 - فصل: في الكتب التي سمعها

- ‌10 - فصل: في شيوخه الذين سمع منهم

- ‌11 - فصل

- ‌12 - فصل

- ‌13 - فصل

- ‌14 - فصل

- ‌15 - فصل

- ‌16 - فصل

- ‌17 - فصل: في ذكر المواثي التي رثاهُ بها العلماء

- ‌18 - فصل

- ‌20 - فصل

- ‌تتمة في تحذير الإمام النووي من البدع

- ‌المصادر والمراجع

- ‌الفهارس

- ‌فهرس الآيات الكريمة

- ‌فهرس الأحاديث الشريفة

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأماكن

- ‌فهرس كتب الإمام النووي

- ‌فهرس الكتب الواردة في النص غير كتب النووي

الفصل: ‌18 - فصل

مَتَى ذَكَرْنَاك قَدْ فاضَتْ مَدامِعُنا

حَتى جَرَتْ مِن دموعِ العَيْنِ غُدْرانُ

يَنُوحُ كُل امرىءٍ مِنْ فَرْطِ لَوْعَتِهِ

حَتَى لَقَدْ قَرِحَتْ بالدمْعِ أجْفانُ

مَن لا يَنوحُ إذا باتَتْ أحِبتهُ

أوْ لا يَسيلُ على خَدَّيْه عِقْيانُ/ [80]

الناسُ طُرّاً على ذِكْراكَ [في](1) حُرَقٍ

وليسَ يَعْرِضُ في ذِكْراكَ نِسْيانُ

قَدْ سالَ بَحْرُ دماءٍ مِن لواحِظِهِم

مُذْ قامَ مُكْتَئِباً يَرْثيكَ (عُثْمانُ)

عَساكَ تَشْفَعُ فيهِ حَيْثُ قامَ غَداً

لِيَنْمَحِي ذَنْبُهُ فاللهُ رَحْمانُ

فإنهُ مُذنِبٌ عاصٍ ومُعْتَرِفٌ

وقد ْمَلا صُحْفَهُ سُوءٌ وعِصْيانُ

يا نَفْسُ لا تُخْدَعي باللهْوِ واتَّعِظي

فإن رِبْحَكِ عندَ اللَّهْوِ خُسْرانُ

كَمْ مِن أناسِ مِن الأخْبار قَدْ عُدِموا

كأنَّهُمْ ساعةً في الدَّهْرِ ما كانوا

لا تَطْمَعي في البقايا نَفْسُ بَعْدَهُمُ

فإن كُل الوَرَى في الدَّهْرِ ضِيفانُ

‌18 - فصل

لما توفِّيَ رحمه الله ودُفِنَ؛ أرادَ أهلُهُ وأقاربهُ وجيرانُه أن يبنوا على ضريحه قُبَّةً، وأجمعوا على ذلك؛ إذ جاء رحمه الله في النوم إلى أكبر امرأةٍ من قرائبه -أظنُّها عمَّتَه- وقال لها:"قولي لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي قد عَزَموا عليه من البنيان؛ فإنه كُلما بنوا شيئاً؛ يُهْدَمُ عليهم".

فانتبهَتْ منزعجةً، فقصَّتْ عليهم الرُّؤيا، فامتنعوا من البنيان، وحوَّطوا على قبره بحجارةٍ تمنع الدَّوابَّ وغيرها (2).

(1) ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.

(2)

نقله عن المصنف: الذهبي في "تاريخ الإسلام"(ورقة 580)، والسيوطي في "المنهاج السوي"(ص 80)، والسخاوي في "ترجمة الإمام النووي"(ص 76). =

ص: 153

وقال لي جماعة من أقاربه وأصحابه بـ (نوى): إنهم سألوه يوماً أن لا ينساهم في عَرَصات القيامة، فقال لهم:"إنْ كانَ ثَمَّ جاهٌ، والله لا [81] دَخَلْتُ الجنة وأحدٌ / ممن أعرفه ورائي، ولا أدخُلُها إلَّا بعدَهم".

فرحمه الله، ورضي عنه، لقد جَمَعَتْ هذه الحكايةُ من الأدب مع الله عز وجل ومن الكرم ما لا يخفى على متأمِّل فطن (1).

19 -

فصل

كنتُ يوماً بين يديهِ لتصحيح درس عليه في "مختصر علوم الحديث" الأصغر له، فلما فرغتُ منهُ؛ قال لي: "رأيتُ الليلةَ في المنامِ كأنِّي كنتُ سابحاً في بحرِ، وكأني خرجتُ منه إلى شاطيء، وإذا

= لكن للأسف الشديد! لم يبق الأمر على الحال الذي ذكره ابن العطار، حيث تمَّ بناء القبَّة على قبر الشيخ الإمام النووي رحمه الله، وكان ذلك على خلاف الشرع، ومخالفة لما كان يدعو إليه الشيخ النووي من الابتعاد عن البدع، وقد قام ببناء القبة الأميرُ قانصوه الساعدي في أواخر القرن العاشر الهجري.

انظر: "ترجمة الإمام النووي"(ص 76) الحاشية، و "الإمام النووي وأثره في الفقه الإسلامي"(ص 81)، و"الإمام النووي"(ص 195 - 196)، للدَّقر.

(1)

نقله عن المصنِّف: الذهبى في "تاريخ الإسلام"(ورقة 580)، والسخاوي في "ترجمة الإمام النووي"(ص 34)، و"المنهاج السوي"(لوحة 31/ أ)، ووقعت عبارة الإمام النووي في مطبوعه (ص 80) مصحفة تصحيفاً شنيعاً، إذ جاءت فيه هكذا: "

لأدْخُلَنَّ الجنة وآخذ من أعرفه ورائي، ولا أدخلها إلَاّ بعدهم"!!

وهذا من التألِّي على الله عز وجل، وليس فيها الأدب الذي أشار إليه المصنّف مع الله عز وجل، فالشفاعة لا تكون إلا بإذنه عز وجل، وليس لأحدٍ من الخلق على الله حق أو جاه يرجى الله بما يأذن به ربُّنا -سبحانه- ويرضى.

ص: 154

أنا بشخص قد غرق فيه، وقد تعلَّق بخشبة على وجهه لحظةً، ثم غرق".

قلتُ: يا سَيدي! علمتَ الشخصَ مَن هُو؟ قال: "نعم". قلتُ: مَن هُو؟ قالَ: "ابن النَّجَّار". قلتُ: فما أوَّلْتَه؟ قال: "يظهَرُ قليلًا، ثم يَخفى خَفاءً لا ظُهورَ بعدَه، مع نفاقِ قلبهِ".

وكان مِن قصَّةِ المذكور أنَّه سعى في إحداث أمورٍ على المسلمين باطلة، فقام الشيخُ -قدَّس الله روحه- مع جماعة من علماء المسلمين، فأزالوها بإذن الله تعالى، ونصرَ الله الحقَّ وأهله، فَغَضِبَ لذلك؛ لكراهيتِه مصلحة المسلمين، ونصيحَة الدين، وبعثَ إلى الشيخِ يهَدِّدُهُ، ويقول:"أنت الذي تحزِّبُ العلماء عَلى هذا".

فكتَبَ إليه الشيخ -قدَّسَ الله روحَهُ- كتاباً هذا صورَتُه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالمين.

من يحيى النووي.

اعلم أيها المقصِّر فى التأهُّب/ لمعادِه، التاركُ مصلحَةَ نفسه في [82] تهيئةِ جهازِهِ له وزاده، أني كنتُ لا أعلمُ كراهَتَكَ لنُصْرَةِ الدين، ونصيحةِ السلطان والمسلمين؛ حملًا منِّي لك على ما هو شأنُ المؤمنين؛ مِن إحسانِ الظنِّ بجميع الموحِّدين، وربما كنتُ أسمعُ في بعض الأحيانِ مَن يذْكُرُكَ بِغشِّ المسلمين، فأُنْكِرُ عليه بلساني وبقلبي؛ لأنها غيبةٌ لا أعلم صحَّتها، ولم أزَلْ على هذا الحال إلى هذه الأيام.

ص: 155

فجرى ما جرى من قول قائل للسُّلطان -وفَّقه الله لكريمِ الخيرات-: إنَّ هذه البساتين يَحِلُّ انتزاعُها مِن أهلها عندَ بعضِ العلماء، وهذا من الافتراء الصريح، والكذب القبيحِ، فوجب عليَّ وعلى جميعِ مَن عَلِمَ هذا من العلماء أن يُبَيِّنَ بطلان هذه المقالة، ودَحْضَ هذه الشناعة، وأنَّها خلافُ إجماع المسلمين، وأنَّه لا يقولُ بها أحدٌ من أئمَّةِ الدين، وأن يُنْهوا (1) ذلك إلى سلطان المسلمين، فإنَّه يجبُ على الناس نصيحته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"الدِّينُ النصيحة؛ لله، ولكتابه، ولرسوله، وأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم"(2).

وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان -وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه بكرامته-.

وقد شاع بين الخواصِّ والعوام، أنَّ السلطانَ كثيرُ الاعتناءِ [83] بالشَّرْعِ، ومحافظٌ على العملِ به، وأنَّه بَنَى المدرسة لطوائف/ العلماء، ورتَّبَ القضاة من المذاهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل، لإقامة الشرع، وغير ذلك؛ مما هو معروف من اعتناء السُّلطان -أعزَّ الله أنصارَهُ- بالشرع، وأنَّه إذا طلبَ طالبٌ منهُ العملَ بالشرعِ؛ أمر بذلك، ولم يخالفه.

فلما افترى هذا القائلُ في أمرِ البساتين ما افتراه، ودلَّس على السلطان، وأظهر أن انتزاعها جائزٌ عند بعض العلماء، وغشَّ السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد؛ وجب عليهم نصيحةُ السلطان،

(1) أي: يرفعوا.

(2)

مضى تخريجُه.

ص: 156

وتبيينُ الأمرِ له على وجهه، وأنَّ هذا خلافُ إجماع المسلمين، فإنَّه يجب عليهم نصيحةُ الدين، والسلطانِ، وعامَّةِ المسلمينَ.

فوفَّقهم الله تعالى للاتفاقِ على كَتْبِ كتاب يتضمَّن ما ذكرتُه، على جهةِ النَّصيحة؛ للدين، والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه، بل قالوا: مَن زعم جوازَ انتزاعِها؛ فقد كذب.

وكتب علماءُ المذاهب الأربعة خطوطَهم بذلك؛ لما يجب عليهم من النَّصيحةِ المذكورة، واتَّفقوا على تبليغها وليَّ الأمرِ -أدامَ الله نِعَمَهُ عليه- لينْصحوه، ويُبَيِّنوا حكمَ الشرع.

ثم بلَّغني جماعاتٌ متكاثِراتٌ في أوقاتٍ مختلفاتٍ -حصل لي العلم بقولهم- أنك كرهت سعيَهم في/ ذلك، وسارَعْتَ في ذمِّ فاعل [84] ذلك، وأسندت معظم ذلك كله إليَّ، ويا حبذا ذلك من صنيع!

وبلَّغني عنك هؤلاء الجماعات أنَّك قلت: قولوا ليحيى: هو الذي سعى في هذا، فينكفّ عنه، وإلا أخذتُ منهُ دارَ الحديث.

وبلَّغني عنك هؤلاء الجماعاتُ أنَّك حلفتَ مراتٍ بالطلاق الثلاث أنَّك ما تكلَّمتَ في انتزاع هذه البساتين، وأنَّك تشتهي إطلاقَها!

فيا ظالم نفسه! أما تستحي من هذا الكلام المتناقض، وكيف يصح الجمع بين شهوتك إطلاقها (1) وأنَّك لم تتكلم فيها، وبين (2) كراهتك السَّعيَ في إطلاقها ونصيحة السلطان والمسلمين؟

ويا ظالم نفسه! هل تعرَّض لك أحدٌ بمكروه، أو تكلَّم فيك بعينِك؟ وإنما قال العلماءُ: مَن قالَ هذا للسلطان فقد كذَبَ، ودلَّس

(1) في الأصل "سهوتك وإطلاقها"!!

(2)

في الأصل: "فأين"، وفي الهامش:"صوابه: وبين".

ص: 157

عليه، وغشَّه، ولم ينصحه. فإن السلطان ما يفعلُ هذا إلا لاعتقادِهِ أنه حلالٌ عند بعض العلماء، فبيَّنوا أنه حرامٌ عند جميعهم. وأنت [قد] (1) قُلْتَ: إنك لم تتكلم فيها، وحلفتَ على هذا بالطَّلاقِ الثلاث، فأيُّ ضررِ عليك في إبطال قولٍ كاذبٍ على الشرع، غاشٍّ مدلس على السلطان، وقد قلت: إنه غيرُك؟! وكيف تكره السَّعْيَ [85] على شيءٍ قد أجمعَ الناسُ/ على استحسانِهِ؟! بل هو واجب على مَن قدر عليه.

وأنا -بحمد الله- من القادرين عليه بالطريق الذي سلكتُ، وأما نجاحُه، فهو إلى الله تعالى؛ مقلِّب القلوب والأبصار.

ثم إني أتعجَّب غايةَ العجب من اتِّخاذك إياي خَصماً، ويا حَبَّذا ذلك من اتخاذ، فإنِّي -بحمد الله تعالى- أحِبُّ في الله تعالى، وأبْغِضُ فيه، فأحِبُّ مَن أطاعهُ، وأبْغِضُ مَن خالفه، وإذا أخبرتَ عن نفسِكَ بكراهتِك السَّعْيَ في مصلحة المسلمين، ونصيحة السلطان؛ فقد دخلتَ في جملة المخالفين، وصرتَ ممَّن نُبْغِضهُ في الله ربِّ العالمين، فإنَّ ذلك من الإيمان؛ كما جاءت به الآثار الصحيحة، المنقولة بأسانيد الأئمة الأخيار (2).

ارْضَ لِمَنْ غَابَ عَنْكَ غِيْبَتَهُ

فَذاكَ ذَنْبٌ عِقابُهُ فِيهِ

ويا ظالم نفسه! أنا خاصمتُك، أو كالَمْتُك، أو ذكرتُك، أو بيني

(1) ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.

(2)

يشير الإمام النووي إلى حديث: "مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان".

أخرجه أبو داود في "السنن"(رقم 4681)، والطبراني في "المعجم الكبير"(رقم 7613و 7737 و 7738)، والبغوي في "شرح السنة"(13/ 54)، والبيهقي في "الاعتقاد"(ص 178 و 179)؛ وغيرهم بإسنادٍ حسنٍ.

ص: 158

وبينك مخاصمة، أو مُنازَعة، أو معاملةٌ في شيءٍ؟! فما بالك تكره فعل خيرٍ يَسَّرَني الله الكريمُ له؟! {وَمَا نَقَمُوا مِنهُم إلا أَن يُؤمِنُوا بِاللهِ اَلعزَيزِ الحميدِ} (1).

بل أنتَ لسوءِ نَظَرِكَ لنفسك تتأذى على نفسكَ، وتُشْهِدُ الشهودَ بكراهة هذه النصيحة، التي هي مصرِّحة بأنَّك أنت الذي/ تكلَّمتَ في [86] هذه البساتين، وأنَّ الطلاقَ واقعٌ عليكَ، وما أبعدَ أن تكون شبيهاً بمن قال الله تعالى فيهم:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} [محمد: 30](2).

ويا عدوَّ نفسه! أتُراني أكرَهُ مُعاداةَ مَن سَلَكَ طريقَتكَ هذه، بل -واللهِ- أُحِبها، وأوثرها، وأفعَلُها بحَمْدِ الله تعالى، فإنَّ الحُبَّ في الله، والبُغْضَ فيهِ، واجبٌ عليَّ وعليكَ، وعلى جَميعِ المكَلَّفينَ، ولستُ أدري أيَّ غرضٍ لك في حِرْصِكَ في الإنكار على السَّاعين في إعظام حُرُماتِ الدِّين، ونصيحة السلطان والمسلمين.

فيا ظالِمَ نفسه! انْتَهِ عن هذا، وارجِعْ عن طَريقةِ المباهتينَ المعاندين.

وأعْجَبُ مِن هذا تكْريرُك الإرسالَ إليَّ -بزعمك الفاسد- كالمتوعد-: إنْ لم يَنْكَفَّ أخذتُ منهُ دارَ الحديث.

فيا ظالِمَ نَفسِه! وجاهِلَ الخيرِ وتاركه! أطَّلَعْتَ على قلبي أني متهافِت عليها، أو علمتَ أني منحَصِرٌ فيها، أو تحقَّقْتَ أني معتمِدٌ عليها، مستَنِدٌ إليها، أو عَرَفْتَ أني أعتقدُ انحصارَ رزقي فيها. أو ما

(1) سورة البروج، الآية:8.

(2)

سورة محمد، الآية:30.

ص: 159

علمتَ -لو أنصفتَ- كيف كان ابتداءُ أمرها، أو ما كنتَ حاضراً مشاهِداً أخذي لها؟!

ولو فُرِضَ تهافُتي عليها؛ أكنْتُ أوْثرُها على مصلحةٍ عامةٍ للمسلمين، مشتملةٍ على نصيحة الله، وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، [87] والسُّلطان، وعامة المسلمين/؟! هذا ما لم أفْعَلْهُ ولا أفعله [إن شاء الله تعالى.

وكيف تتوهم] (1) أنِّي أترك نصيحةَ الله ورسوله وسلطان المسلمين وعامَّتِهم؛ مخافة مِن خيالاتك؟! إن هذه لغباوة منك عظيمة.

[ويا عجباً منك](2)! كيفَ تقول هذا؟! أنتَ ربُّ العالمين؟! بيدك خزائنُ السماوات والأرض، وعليك رزقي ورزق الخلائق أجمعين؟! أم أنت سلطان الوقت؛ تحكم في الرَّعيَّة بما تُريد؟!

فلو كنتَ عاقلاً؛ ما تهَجَّمْتَ على التَّفَوُّهِ بهذا الذي لا ينبغي أن يقولَه إلا ربُّ العالمين، أو سلطان الوقت؛ مع أن سلطان [الوقت](3) منزَّهٌ عن قولِك الباطلِ، مرتفعُ المَحَلِّ عن فعْلِ ما ذكرتَ.

يا ظالِمُ! فإنْ كنتَ تقولُ هذا استقلالاً منك؛ فقد افتأتَّ (4) عليهِ، واجْتَرَأتَ على أمر عظيم، ونسبتَه إلى الظلم عدواناً، وإنْ كنت تقوله عنه؛ فقد كذبتَ عليه، فإنه -بحمد الله- حَسَنُ الاعتقاد في الشَّرْع، وذلك من نِعَمِ الله تعالى عليه، والسلْطان -بحمد الله وفضله- أكثرُ

(1) ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.

(2)

ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.

(3)

ما بين المعقوفتين سقط في الأصل.

(4)

في الأصل: "افتت"!!

ص: 160

اعتقاداً في الشَّرْع مِن غيره، ومعظم حُرُماته، وليس هو ممن يقابلُ ناصِحَهُ بهذيانات الجاهلين، وتُرَّهات المخالفين، بل يقبلُ نصائِحَهُم؛ كما أمره الله تعالى.

واعلم أيَّها الظالمُ نفسه! أني -والله الذي لا إله إلَّا هو- لا أترُكُ شيئاً أقْدِرُ عليه من السعي في مناصحةِ الدين والسُّلطان والمسلمين في/ هذه القضيَّة، وإنْ رغمتْ أنوفُ الكارِهين، وإنْ كَرِهَ ذلك أعداءُ [88] المسلمين، وفَرِقَ حزبُ المخذِّلين، وسترى ما أتكلم به -إن شاء الله تعالى- عند هذا السلطان -وفقه الله تعالى لطاعته، وتولَاّه بكرامته (1) - في هذه القضية؛ غيرةً على الشرعِ، وإعظاماً لحُرمات الله تعالى، وإقامةً للدِّين، ونصيحةً للسلطان وعامة المسلمين.

ويا ظالم نفسه! أجْلِبْ بخَيْلِكَ ورَجِلِكَ إنْ قدَرْتَ! واسْتَعِنْ بأهل المشرقين وما بين الخافقَيْن، فإني -بحمد الله- في كِفايَةٌ تامة، وأرجو من فضلِ الله تعالى أنك لا تَقْوى لمنابذةِ أقل الناس مرتبةً، وأنا -بحمد الله تعالى- مِمن يَوَدُّ القتلَ في طاعةِ الله تعالى.

أتَقْوى يا ضعيف الحيلِ لمنابذتي؟! أبلَغَكَ يا هذا أنِّي لا أؤمِنُ بالقدر؟! أو بلغكَ أني أعتقِدُ أنَّ الآجالَ تنقُصُ، وأن الأرْزاقَ تتغيرُ (2)؟! أما تفكرُ في نفسك في قبيح ما أتَيْتَهُ من الفعال، وسوء ما نطَقْتَ بهِ من المقالِ؟!

(1) في الأصل: "بكرمته"!!

(2)

انظر -لزاماً-: "إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان" للشيخ مرعي الحنبلي، نشر دار عمار، و"تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدَّلائل" للشوكاني، نشر دار ابن حزم؛ وتعليقي عليهما.

ص: 161

أيا ظالمَ نفسه! مَن طلب رضى الله تعالى تردُّه خيالاتُك، وتمويهاتُك، [وأباطيلُك](1)، وتُرُّهاتُك؟

وبعد هذا كله، أنا أرجو من فضل الله تعالى أنَّ الله يوفق السلطان -أدام الله نِعَمَهُ عليه- لإطلاقِ هذه البساتين، وأن يفعَلَ فيها ما تقرُّ به [89] أعيُنُ المؤمنين، ويُرْغِمُ أنفَ المخالفينَ، فإن الله/ تعالى قال:{وَاَلْعاقبَةُ للمتقين} (2).

والسلْطانُ -بحمد الله تعالى- يفعل الخيراتِ، فما يترُكُ هذه القضيَّةَ تفوتُه.

واعلَمْ أنك عندي -بحمد الله تعالى- أقلُّ ممُّن أهتم بشأنك، أو ألتفتُ إلى خيالاتِك وبطلانِك، ولكنِّي أردتُ أن أعرفَكَ بعضَ أمري؛ لتدخلَ نفسكَ في منابذةِ المسلمين بأسرِهم، ومنابذةِ سلطانِهم -وفَّقه الله تعالى- على بصيرةٍ منك، وترتفع عنك جهالةُ بعضِ الأمر؛ ليكون دخولُك بعد ذلك معاندةً لا عذرَ لك فيها.

ويا ظالِمَ نفسِه! أتتوهَّمُ أنه يَخْفى عليَّ وعلى مَن سلَكَ طريقَ نصائحِ المسلمينَ وولاةِ الأمرِ وحُماةِ الدينِ، أنَّا لا نعتَقِدُ صِدْقَ قولِ الله تعالى:{وَاَلعاقبَةُ للمتقين} .

وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ المَكرُ اَلسيئ إِلا بِأهلِه} (3).

وقوله تعالى: {وَاَلذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلنا} (4).

(1) ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.

(2)

سورة الأعراف، الآية:128.

(3)

سورة فاطر، الآية:43.

(4)

سورة العنكبوت، الآية:69.

ص: 162

وقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7](1).

وقوله تعالى: {وَكاَن حَقَّا علينَا نَصْرُ اَلْمُؤمنِينَ} (2).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتى ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم خذلان من خذلهم"(3).

والمراد بهذه الطائفة أهل العلم؛ كذا قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره من أولي النُّهى والفهم (4).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "والله فى عون العبدِ ما كانَ العبدُ/ في عونِ أخيه"(5). [90]

هذا فيمَنْ كانَ في عْونِ واحدٍ من النَّاس، فكيفَ الظَّنُّ بمَنْ هُو في عَوْنِ المسلمين أجمعينَ؛ مع إعظامِ حُرُماتِ الشَّرْعِ، ونصيحة السلطان، وموالاته، وبذل النَّفس في ذلك؟!

واعْلَمْ أني والله لا أتعرَّضُ لك بمكروهٍ سوى أني أبْغِضُكَ لله تعالى، وما امتناعي عن التعرُّض لك بمكروهٍ عن عجزٍ، بل أخافُ الله ربَّ العالَمين من إيذاءِ مَن هُو مِن جملةِ الموحِّدين.

(1) سورة محمد، الآية:7.

(2)

سورة الروم، الآية:47.

(3)

أخرجه البخاري في "الصحيح"(13/ 293)(رقم7311)، ومسلم في "الصحيح"

(3/ 1523)، وغيرهما؛ بنحوه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

والحديث وارد عن جمع من الصحابة، بلغ عددهم ستة عشر نفساً من الصحابة، وعُدَّ من الأحاديث المتواترة؛ كما قال شيخ الإسلام في "اقتضاء المراط المستقيم"(ص 6)، وانظر "نظم المتناثر"(ص 93).

(4)

وكذا قال عبد الله بن المبارك، وعلي بن المديني، والبخاري، وأحمد بن سنان، وغيرهم.

راجع "شرف أصحاب الحديث"(ص 26 - 27) للخطيب البغدادي.

(5)

أخرجه مسلم في "الصحيح"(2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 163