الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصافات
91
- 96 {فراغ إلى آلهتهم} أي ذهب إليها في خيفة وأصله الميلُ بحيلةٍ {فَقَالَ} للأصنام استهزاءً {أَلا تَأْكُلُونَ} أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى {ضَرْباً باليمين} مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم أو لفعلٍ مضمرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً أو هو الحالُ منه على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله
…
إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجده
…
تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ
…
أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم
{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ} أي المأمورون بإحضاره عليه الصلاة والسلام بعد ما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنه عليه الصلاة والسلام فعلَه فقيل فأتُوا به {يَزِفُّونَ} حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ وقُرىء يَزِفُون من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارعهم إليه عليه الصلاة والسلام
{قَالَ} أي بعدما أتَوا به عليه الصلاة والسلام وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قولُه تعالى قالوا اانت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم إلى قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونَه من الأصنام وقولِه تعالى
{والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عز وجل ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها وإمَّا على عمومهِ فينتظم الاصنام انتظاما
الصافات 97 102 أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميعَ ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك
{قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم} أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التأجح واللَاّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء
{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} فإنَّه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلَاّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم {فجعلناهم الاسفلين} الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علو شأنِه عليه الصلاة والسلام بجعلِ النار عليه بردا وسلاما
{وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى {سَيَهْدِينِ} أي إلى ما فيه صلاحٌ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله وللبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السلام حيث قال عسى ربى أن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ
{رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين} أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رحمتنا أخاه هرون نَبِيّاً ولقوله تعالى
{فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} فإنَّه صريحٌ في أن المبشربه عينُ ما استوهبه عليه الصلاة والسلام ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ بشارةُ انه غلام وأنه يبلع او ان الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه يا أبت أبوه الذبح فقال يأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك والفاء في قوله تعالى
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التصريح
الصافات 103 به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى فلما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وفي قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبة ان يسعى معى في أشغالهِ وحوائجهِ ومعه متعلق بمحذوف ينبئ عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسعيه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً {قَالَ} أيْ إبراهيمُ عليه السلام {يا بني إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له أوفِ بنذرك والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السلام إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم أنا ابنُ الذَّبيحين فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السلام والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحق ثمة ولان بشارة إسحق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً وما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النَّسب أشرفُ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ اسرائيل الله ابن اسحق ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصلاة والسلام قال يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ اسحق بن ابراهيم الزوائد من الرَّاوي وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت وقرئ إنِّيَ بفتح الياءِ فيهما {فانظر مَاذَا ترى} من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزول وقرى ماذا تُري بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعول {قال يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به امرا وقرئ ما تؤمر به وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي استسلما لأمرِ الله تعالى وانقادا وخَضَعا له يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلَم واستسلَم بمعنى واحد وقد قرئ بهنَّ جميعاً وأصلُها من قولك سلم هذا الفلان إذا خلُص له ومعناه سَلِمَ من أنْ يُنازع فيهِ وقولهم سلَّم لأمرِ الله وأسلمَ له منقولانِ منه ومعناهما أخلصَ نفسَه الله
الصافات 104 109 وجعلها سالمةً له وكذلك معنى استسلَم استخلصَ نفسَه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه في أسلما أسلَمَ إبراهيمُ ابنَه وإسماعيلُ نفَسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعَه على شقِّه فوقع جبينُه على الأرض وهو أحدُ جانبَيْ الجبهةِ وقيل كبَّه على وجههِ بإشارتهِ كيلا يرى منه ما يُورِث رقَّةً تحولُ بينه وبين أمرِ الله تعالى وكان ذلك عند الصَّخرةِ من مِنَى وقيل في الموضعِ المُشرف على مسجدِ مِنَى وقيل في المنحرِ الذي يُنحر اليوم فيه
{وناديناه أن يا إبراهيم} {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به ترتيب مقدماتهِ وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النداء جواب لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى افعل مَا تُؤمَرُ ولم يحصلْ
{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الابتلاء البين الذي يتميَّز فيه المخلِصُ عن غيره أو المحنةُ البيِّنةُ الصُّعوبةِ إذ لا شئ أصعبُ منها
{وفديناه بِذِبْحٍ} بِما يُذبح بدله فيتمُّ به الفعل {عظِيمٌ} أي عظيمِ الجثَّة سمينٍ أو عظيم القدر لأنَّه يَفدي به اللَّهُ نبيًّا ابنِ نبيَ من نسله سيِّدُ المُرسلينَ قيل كان ذلك كبشاً من الجنَّةِ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه الكبشُ الذي قرَّبه هابيلُ فتُقبِّل منه وكان يَرْعى في الجنَّةِ حتَّى فُدي به إسماعيلُ عليه السلام وقيل فُدي بوعلٍ أُهبط عليه من ثَبير ورُوي أنه هربَ من إبراهيمَ عليه السلام عند الجمرةِ فرماه بسبع حصياتٍ حتَّى أخذه فبقي سنَّةً في الرَّميِ ورُوي أنَّه رَمَى الشَّيطان حين تعرَّض له بالوسوسةِ عند ذبحِ ولده ورُوي أنَّه لمَّا ذبحه قال جبريلُ عليه السلام اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال الذَّبيحُ لا إله إلا الله والله أكبر فقالَ إبراهيمُ اللَّهُ أكبرُ ولِلَّهِ الحمدُ فبقي سُنَّةً والفادي في الحقيقة هو إبراهيمُ وإنَّما قيل وفدينَاهُ لأنَّه تعالى هو المُعطي له والآمرُ به على التَّجوزِ في الفداءِ أو الإسنادِ
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إبراهيم} قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصة نوح عليه السلام