المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الزمر - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٧

[أبو السعود]

الفصل: الزمر

الزمر

ص: 256

‌38

- 42 {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ {قُلْ} تبكيتاً لهُم {أَفَرَايْتُم مَّا تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عز وجل فأخبروني أن آلهتَكم إن أرادنى الله بضر هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} أي أو أرادني بنفعٍ {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} فيمنعنها عنى وقرئ كاشفاتٌ ضرَّه وممسكاتٌ رحمتَه بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ ضُرِّه ورحمته وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصلاة والسلام للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ {قُلْ حَسْبِىَ الله} أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ رُوي انه صلى الله عليه وسلم لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} لا على غير أصلاً لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى

ص: 256

{قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونهما للمكان وقرئ على مكاناتِكم {إِنّى عامل} أي على مكانتِي فحذف للاختصار والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عز وجل وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُوراً عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}

ص: 256

{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصلاة والسلام وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ {وَيَحِلُّ عليه عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ

ص: 256

{أنا أنزلنا عليك الكتاب لِلنَّاسِ} لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ {بالحق} حالٌ من فاعلِ أنزلَنا أو من مفعولِه {فَمَنُ اهتدى} بأنْ عملَ بما فيه {فَلِنَفْسِهِ} أي إنَّما نفعَ به نَفسه {وَمَن ضَلَّ} بأنْ لم يعمل بموجبِه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتُجبرَهم على الهدى وما وظيفتك إلَاّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ

ص: 256

الزمر 43 45 بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهراً وباطناً كما عند الموتِ أو ظاهراً فقط كما عند النَّومِ {فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت} ولا يردها الى البدن وقرئ قُضِيَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الموتَ {وَيُرْسِلُ الاخرى} أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الوقت المضروب لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفساً وروحا بينهما مثل شعاع الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقل والتميير والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ {لَايَاتٍ} عجيبةً دالَّةً عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وحكمته وشمول رحمتِه {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حيناً بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها

ص: 257

{أَمِ اتخذوا} أي بل أتَّخذ قُريشٌ {مِن دُونِ الله} مِن دُون إذنِه تعالى {شُفَعَاء} تشفعُ لهم عنده تعالى {قُلْ أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئا وَلَا يَعْقِلُونَ} الهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه أي قل أتَّتخذونهم شفعاءَ ولو كانُوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلونَه فضلاً عن أنْ يملكوا الشَّفاعةَ عندَ الله تعالَى أو هي لإنكارِ الوقوع ونفيه على أنَّ المرادَ بيانُ أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الشفعاء في شئ لأنَّه فرعُ كونِ الأوثان شفعاءَ وذلك أظهرُ المحالاتِ فالمقدَّر حينئذٍ غيرُ ما قُدِّر أوَّلاً وعلى أي تقدير كان فالوا للعطفِ على شرطيةٍ قد حذفت لدلالة المذكورةِ عليها أي أيشفعون لو كانُوا يملكون شيئاً ولو كانُوا لا يملكون الخ وجوابُ لو محذوفٌ لدلالةِ المذكور عليه وقد مرَّ تحقيقُه مراراً

ص: 257

{قُلْ} بعد تبكيتِهم وتجهيلِهم بما ذُكر تحقيقاً للحقِّ {لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} أي هو مالُكها لا يستطيعُ أحدٌ شفاعةً ما إلَاّ أن يكونَ المشفوعُ له مرتضى والشفيعع مأذوناً له وكلاهما مفقودٌ ههنا وقولُه تعالى {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} تقريرٌ له وتأكيدٌ أي له ملكُهما وما فيهما من المخلوقاتِ لا يملك أحدٌ أنْ يتكلَّم في أمرٍ من أمورِه بدونِ إذنِه ورضاه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يومَ القيامةِ لا إلى أحدٍ سواهُ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيفعل يومئذ ما يريدُ

ص: 257

{وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} دون آلهتِهم {اشمأزت قُلُوبُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالأخرة} أي انقبضتْ ونَفَرتْ كما في قولِه تعالى وَإِذَا ذكر رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ ولوا على أدبارهم نفورا {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} فُرادى أو مع ذكرِ الله تعالى {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لفرطِ افتتانهم بها ونسيانِهم حقَّ الله تعالى ولقد بُولغ في بيان حالَيهم القبيحتينِ حيثُ

ص: 257

الزمر 46 49 بيّن الغايةُ فيهما فإنَّ الاستبشار هو أن يمتلئ القلبَ سُروراً حتَّى ينبسطَ له بَشَرةُ الوجهِ والاشمئزازُ أن يمتلئ غيظاً وغمَّا ينقبضُ منه أديمُ الوجهِ والعاملُ في إذا الأولى اشمأزَّت وفي الثَّانيةِ ما هو العاملُ في إذَا المفاجأةِ تقديرُه وقتَ ذكرِ الذين من دُونه فاجأوا وقتَ الاستبشارِ

ص: 258

{قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة} أي التجئ إليه تعالى بالدُّعاءِ لما تحيَّرتَ في أمر الدَّعوةِ وضجرت من شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة والعناد فإنَّه القادرُ على الأشياء بجُملتها والعالمُ بالأحوال بُرمَّتِها {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي حُكماً يُسلِّمه كلُّ مكابرٍ معاند ويخضعُ له كلُّ عاتٍ مارد وهو العذابُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ وقولُه تعالى

ص: 258

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان آثارِ الحُكمِ الذي استدعاه النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغايةِ شدَّتِه وفظاعتِه أي لو أنَّ لهم جميعَ ما في الدُّنيا من الأموال والذَّخائرِ {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} أي لجعلُوا كلَّ ذلك فديةً لأنفسِهم من العذاب الشَّديدِ وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ وهذا كما ترى وعيدٌ شديد وإقناط لهم من الخلاصِ

ص: 258

{وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرَ لهم من فُنون العقوباتِ ما لم يكن في حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قولُه تعالى فَلَا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} سيئات أعمالِهم أو كسبِهم حين تُعرض عليهم صحائفهم {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} أي أحاطَ بهم جزاؤُه

ص: 258

{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} إخبارٌ عن الجنسِ بما يفعله غالبُ أفرادِه والفاءُ لترتيب ما بعدها من المناقضةِ والتَّعكيسُ على ما مرَّ من حالتيهم القبيحتينِ وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإنكار عليهم أي أنَّهم يشمئزُّون عن ذكرِ الله تعالى وحدَهْ ويستبشرون بذكرِ الآلهةِ فإذا مسَّهم ضُرٌّ دَعَوا مَن اشمأزُّوا عن ذكره دون مَن استبشرُوا بذكرِه {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا} أعطيناهُ إياها تفصلا فإنَّ التَّخويل مختصٌ به لا يُطلق على ما أُعطي جزاءً {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} أي على علم منِّي بوجوهِ كسبه أو أبى فأعطاه لما لي من الاستحفاق أو على علمٍ من الله تعالى بي وباستحقاقي والهاءُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً وإلَاّ فلِنعمةً والتَّذكيرُ لما أن المراد شئ نعمة {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ وابتلاءٌ له أيشكرُ

ص: 258

الزمر 50 53 أم يكفرُ وهو ردٌّ لما قاله وتغييرُ السَّبكِ للمبالغة فيهِ والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس من باب الإيتاء المنبئ عن الكرامةِ وإنَّما هو أمر مباين له بالكُلِّيةِ وتأنيثُ الضَّميرِ باعتبار لفظ النِّعمةِ أو باعتبار الخبر وقرئ بالتَّذكيرِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك وفيه دلالة على أن المراد بالإنسانِ هو الجنسُ

ص: 259

{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ} الهاء لقوله إنَّما أُوتيته على علمٍ لأنَّها كلمة أو جملة وقرئ بالتَّذكيرِ والموصول عبارةٌ عن قارونَ وقومِه حيثُ قال إنما أوتيته على علم عندي وهم راضُون به {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاعِ الدُّنيا ويجمعون منه

ص: 259

{فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} جزاءُ سيِّئاتِ أعمالِهم أو أجزبة ما كسبُوا وتسميتها سيِّئاتٍ لأنَّها في مقابلة سيِّئاتِهم وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلَاء} المشركين ومِن للبيان أو للتَّبعيضِ أي أفرطوا في الظُّلم والعُتوِّ {سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} من الكُفر والمعاصي كا أصاب أولئك والسِّينُ للتَّأكيدِ وقد أصابهم أيَّ إصابةٍ حيثُ قحطوا سبعَ سنين وقُتل صناديدُهم يومَ بدرٍ {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائنين

ص: 259

{أولم يَعْلَمُواْ} أي أقالُوا ذلك ولم يعلمُوا أو أَغفلُوا ولم يعلمُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {وَيَقْدِرُ} لمن يشاء أن يقدرَه له من غيرِ أن يكون لأحدٍ مدخلٌ ما في ذلك حيثُ حبسَ عنهم الرِّزقَ سبعاً ثم بسطَه لهم سبعاً {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر {لَايَاتٍ} دالَّةً على أنَّ الحوادثَ كافَّةً من الله عز وجل {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ هم المستدلُّون بها على مدلولاتها

ص: 259

{قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم {لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ فضلاً عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ

ص: 259

الزمر 54 59 الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الفضلاء أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ والإخلاصِ في قوله تعالى

ص: 260

{وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لَا تنصرون} اذ ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ

ص: 260

{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ {من قبل أن يأتيكم العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له

ص: 260

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي كراهةَ أنْ تقولَ والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى عملت نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجر {يا حسرتى} بالألفِ بدلاً من ياءِ الإضافةِ وقُرىء يا حسرتَاه بهاء السَّكتِ وقفاً وقُرىء ياحسرتاي بالجمعِ بين العوضينِ وقُرىء ياحسرتي على الأصلِ أي احضُرِي فهذا او ان حُضورِك {على مَا فَرَّطَتُ} أي على تفريطي وتقصيرِي {فِى جَنبِ الله} أي جانبه وفي حقَّه وطاعتِه وعليهِ قولُ مَن قالَ

أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق

لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ

وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل في قُربِه من قوله تعالى والصاحب بالجنب وقُرىء في ذكرِ الله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ

ص: 260

ص: 260

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لو أن لي كَرَّةٌ} رجعةً إلى الدُّنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} في العقيدةِ والعملِ وأو للدِّلالةِ على أنَّها لا تخلُو عن هذه الأقوالِ تحسُّراً وتحيُّراً وتعلُّلاً بما لا طائل تحته وقولُه تعالى

ص: 260

{بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} ردُّ من الله تعالى عليه لما تضمَّنه قولُه لو أنَّ الله هداني من معنى النفي

ص: 260

الزمر 60 63 وفضله عنه لما أنَّ تقديمَه يفرقُ القرائنَ وتأخيرُ المردودِ يخلُّ بالتَّرتيب الوجوديِّ لأنَّه يتحسَّرُ بالتَّفريطِ ثم يتعلَّلُ بفقدِ الهدايةِ ثم يتمنَّى الرَّجعةَ وهو لا يمنعُ تأثيرَ قُدرةِ الله تعالى في فعلِ العبدِ ولا ما فيه من إسنادِ الفعلِ إليه كما عرفتَ وتذكيرُ الخطابِ باعتبار المَعنْى وقُرىء بالتَّأنيثِ

ص: 261

{وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله} بأنْ وصفُوه بما لا يليقُ بشأنِه كاتِّخاذ الولدِ {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشِّدَّةِ أو بما يتخيَّلُ عليها من ظُلمة الجهل والجملةُ حالٌ قد اكتفُي فيها بالضَّميرِ عن الواوِ على أنَّ الرُّؤيةَ بصريةٌ أو مفعولٌ ثانٍ لها على أنَّها عِرفانيةٌ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى} أي مقامٌ {لّلْمُتَكَبّرِينَ} عن الإيمانِ والطَّاعةِ وهو تقريرٌ لما قبلَهُ من رُؤيتهم كذلك

ص: 261

{وَيُنَجّى الله الذين اتقوا} الشِّركَ والمعاصيَ أي من جهنَّم وقُرىء يُنْجِي من الإنجاء {بِمَفَازَتِهِمْ} مصدرٌ ميميٌّ إما من فاز بالمطلوب أي ظفر به والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من الموصول مفيدةٌ لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيلِ الثَّواب أي ينجَّيهم الله تعالى من مَثْوى المتكبِّرينَ ملتبسين بفوزِهم بمطلوبِهم الذي هو الجنَّةُ وقوله تعالى {لَا يَمَسُّهُمُ السوء وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} إمَّا حالٌ أخرى منَ الموصولِ أو مِنْ ضميرِ مفازتِهم مفيدةٌ لكون نجاتِهم أو فوزِهم بالجنة غيرَ مسبوقةٍ بمساس العذاب والحزن وإمَّا من فازَ منه أي نجا منه والباء للملابسة وقوله تعالى لَا يَمَسُّهُمُ إلى آخرِه تفسيرٌ وبيانٌ لمفازتِهم أي ينجَّيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتِهم الخاصَّةِ بهم أي بنفي السُّوءِ والحُزنِ عنهم أو للسَّببيةِ إما على حذفِ المضافِ أي ينجيِّهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم كما يُشعِرُ به إيرادُه في حيِّزِ الصلةِ وإمَّا على إطلاقِ المفازةِ على سببها الذي هو التَّقوى وليس المرادُ نفيَ دوام المساسِ والحزن بل دوامَ نفيهما كما مرَّ مراراً

ص: 261

{الله خالق كُلّ شَىْء} من خيرٍ وشرَ وإيمان وكفر لكن لا بالجَبْرِ بل بمباشرة الكاسب لأسبابِها {وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} يتولَّى التَّصرُّفَ فيه كيفما يشاء

ص: 261

{له مقاليد السماوات والأرض} لا يملك أمرَها ولا يتمكَّن من التَّصرُّفَ فيها غيرُه وهو عبارة عن قُدرته تعالى وحفظِه لها وفيها مزيدُ دلالةٍ على الاستقلالِ والاستبداد لأنَّ الخزائن لا يدخُلها ولا يتصرَّفُ فيها إلا من بيده مفاتيحها وهو جميع مِقْليدٍ أو مِقلادٍ من قلدته اذا الزمته وقبل جمعُ إقليدٍ معرَّبُ كَلِيدٍ على الشُّذوذِ كالمذاكيرِ وعن عثمانُ رضي الله عنه أنَّه سأل النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال صلى الله عليه وسلم تفسيرُها لا إلَه إلَاّ الله والله أكبرُ وسبحانَ الله وبحمدِه وأستغفرُ الله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَاّ بالله العليَّ العظيمِ هو الأوَّلُ والآخرُ والظَّاهرُ والباطن بيده الخير يحي ويُميتُ وَهُوَ على كُلّ شَىْء قديرٌ والمعنى على هذا أنَّ لله هذه الكلمات يُوحد بها ويُمجّد وهي مفاتيحُ خيرِ السَّمواتِ والأرضِ من تكلَّم بها اصابه {والذين كفروا بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} متَّصلٌ بما قبله والمعنى أنَّ الله تعالى خالقٌ لجميع الاشياء

ص: 261

الزمر 64 67 ومتصرِّفٌ فيها كيفما يشاءُ بالاحياء والامانة بيده مقاليدُ العالم العلويِّ والسفلي والذين كفرُوا بآياته التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ والتَّنزيليةِ التي من جملتها هاتيك الآيات النَّاطقةُ بذلك هم الخاسرون خسرانا لاخسار وراءه هذا وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى وينجِّي الله وما بينهما اعتراض فتدَّبر

ص: 262

{قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} أي أبعدَ مشاهدةِ هذه الآياتِ غيرَ الله أعبدُ وتأمروني اعتراضٌ للدِّلالةِ على أنَّهم أمرُوه به عَقيب ذلكَ وقالُوا استلمْ بعضَ آلهتِنا نؤمنُ بإلِهك لفرطِ غباوتِهم ويجوزُ أن ينتصبَ غيرُ بما يدلُّ عليه تأمروني أعبدُ لأنَّه بمعنى تعبِّدونني وتقولون أعبد على أنَّ أصلَه تأمرونني أنْ أعبدَ فحُذف أنْ ورُفعَ ما بعدَها كما في قولِه

أَلَا أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوغى

وأنْ أشهدَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي

ويؤيِّدهُ قراءةُ أعبدَ بالنَّصبِ وقُرىء تأمرونني بإظهارِ النُّونينِ على الأصلِ وبحذفِ الثَّانيةِ

ص: 262

{وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} أي من الرُّسلِ عليهم السلام {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} كلامٌ واردٌ على طريقةِ الفرضِ لتهييجِ الرُّسلِ وإقناط الكفرةِ والإيذانِ بغايةِ شناعةِ الإشراكِ وقُبحهِ وكونِه بحيثُ ينهى عنه من لا يكادُ يمكن أنْ يباشرَه فكيف بمن عداهُ وإفرادُ الخطاب باعتبار كلِّ واحدٍ واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والأخريانِ للجوابِ وإطلاق الاحباطِ يحتملُ أنْ يكون من خصائصِهم عند الاشراك لأنَّ الإشراكَ منهم أشدُّ وأقبحُ وأن يكون مقيداً بالموتِ كما صُرِّح به في قوله تعالى من يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وعطفُ الخسران عليه من عطفَ المسبَّب على السَّببِ

ص: 262

{بَلِ الله فاعبد} ردٌّ لما أمروه به ولولا دلالةُ التَّقديمِ على القصرِ لم يكن كذلك {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} إنعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يُوجب الاختصاصَ ويقتضيهِ

ص: 262

{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} ما قدرُوا عظمتَه تعالى في أنفسهم حقَّ عظمتِه حيثُ جعلُوا له شريكاً ووصفُوه بما لا يليق بشئونه الجليلةِ وقُرىء بالتَّشديدِ {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} تنبيهٌ على غاية عظمتِه وكمالِ قدرته وحفارة الأفعال العظامِ التي تتحيَّر فيها الأوهامِ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى ودلالةٌ على أنَّ تخريبَ العالم أهونُ شيءٍ عليه على طريقةِ التمثيل والنخييل من غير اعتبارِ القبضةِ واليمينِ حقيقةً ولا مجازاً كقولِهم شابتْ لُمَّةُ اللَّيلِ والقبضة المرة من القبض اطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار

ص: 262

الزمر 68 71 المقبوضُ بالكفِّ تسميةً بالمصدرِ أو بتقديرِ ذات قبضةٍ وقُرىء بالنَّصبِ على الظَّرفِ تشبيهاً للموقَّتِ بالمُبهمِ وتأكيدُ الأرضِ بالجميع لأنَّ المرادَ بها الأرَضَون السَّبعُ أو جميعُ أبعاضِها الباديةِ والغائرة وقُرىء مطوياتٍ على أنَّها حالٌ والسَّمواتُ معطوفةٌ على الأرضُ منظومةٌ في حُكمِها {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما أبعدَ وما أعلى مَنْ هذه قدرتُه وعظمتُه عن إشراكِهم أو عمَّا يُشركونه من الشُّركاءِ

ص: 263

{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النَّفخةُ الأولى {فَصَعِقَ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض} أي خروا امواتا ومغشيا عليهم {إِلَاّ مَن شَاء الله} قيل هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ فإنَّهم لا يموتُون بعد وقيل حَمَلةُ العرشِ {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} نفخةٌ أخرى هي النَّفخةُ الثَّانيةُ وأُخرى يحتملُ النَّصبَ والرَّفعَ {فَإِذَا هُمْ قيام} قائمون من قبورهم أو متوقفون وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الخبرَ {يُنظَرُونَ} وهو حالٌ من ضميرِه والمعنى يُقلِّبون أبصارَهم في الجوانبِ كالمبهوتينَ أو ينتظرون ما يفعل بهم

ص: 263

{وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} بما أقام فيها من العدلِ استُعير له النُّورُ لأنَّه يزيِّنُ البقاعَ ويُظهر الحقوقَ كما يسمَّى الظُّلم ظُلمةً وفي الحديثِ الظُّلم ظلماتٌ يومَ القيامةِ ولذلك أضيف الأسمُ الجليلُ إلى ضميرِ الأرضُ أو بنور خلقه فيها بلا توسُّطِ أجسامٍ مضيئةٍ ولذلك أُضيف إلى الاسمِ الجليلِ {وَوُضِعَ الكتاب} الحسابُ والجزاءُ من وضع المحاسبِ كتابَ المحاسبةِ بين يديه أو صحائفُ الأعمال في أيدي العمَّالِ واكتفى باسم الجنسِ عن الجمعِ وقيل اللَّوحُ المحفوظُ يقابل به الصَّحائفُ {وَجِىء بالنبيين والشهداء} للأممِ وعليهم من الملائكةِ والمؤمنينَ وقيل المُستشَهدون {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} بين العباد {بالحق وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو زيادةِ عقابٍ على ما جرى به الوعدُ

ص: 263

ص: 263

{وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} الخ تفصيلٌ للتوفية وبيان لكيفيتها أي سِيقُوا إليها بالعُنفِ والإهانةِ أفواجاً متفرقةً بعضُها في إثرِ بعضٍ مترتِّبةً حسب ترتُّبِ طبقاتهم في الضَّلالةِ والشِّرارةِ والزُّمَر جمعُ زُمْرةٍ واشتقاقها من الزَّمرِ وهو

ص: 263

الزمر 72 75 الصَّوتُ إذِ الجماعةُ لا تخلُو عنه {حتى إِذَا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها} ليدخلُوها وحتَّى هي التي تُحكى بعدها الجملةُ وقرىء بالتَّشديدِ {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تقريعاً وتوبيخاً {ألم يأتكم رسل منكم} من جنسِكم وقُرىء نُذُر منكم {يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} أيْ وقتِكم هذا وهو وقتُ دخولِهم النَّارَ وفيه دليلٌ على أنَّه لا تكليفَ قبل الشِّرعِ من حيثُ أنَّهم علَّلوا توبيخَهم بإتيان الرُّسلِ وتبليغَ الكُتبِ {قَالُواْ بلى} قد أنونا وأندرونا {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} حيثُ قال الله تعالى لإبليسَ لأَمْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وقد كنَّا ممن اتبعه وكذَّبنا الرُّسلَ وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله من شئ إن أنتم إلا تكذبون

ص: 264

{قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} أي مقدَّراً خلودُكم فيها وإبهامُ القائلِ لتهويلِ المَقُولِ {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} اللامُ للجنسِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ثقةً بذكرِه آنِفا أي فبئسَ مثواهُم جهنَّمُ ولا يقدُح ما فيه من الإشعار بأن كونَ مثواهُم جهنَّمَ لتكبُّرِهم عن الحقِّ في أنَّ دخولَهم النَّارَ لسبق كلمةِ العذابِ عليهم فإنَّها إنَّما حُقَّتْ عليهم بناءَّ على تكبُّرِهم وكُفرِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سُورة الم السَّجدةِ

ص: 264

{وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة} مساقَ إعزازٍ وتشريفٍ للإسراعِ بهم إلى دار الكرامةِ وقيل سِيق مراكبُهم إذْ لا يُذهبُ بهم إلا راكبينَ {زُمَراً} متفاوتينَ حسب تفاوتٍ مراتبِهم في الفضلِ وعلوِّ الطَّبقةِ {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} وقرئ بالتَّشديدِ وجوابُ إذا محذوفٌ للإيذانِ بأن لهم حينئذٍ من فُنون الكراماتِ ما لا يَحدِقُ به نطاقُ العباراتِ كأنَّه قيل حتَّى إذا جاءوها وقد فُتحِتْ أبوابُها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ} من جميعِ المكارِه والآلام {طِبْتُمْ} طهرتم من دَنَس المعاصي أو طبتُم نَفْساً بما أُتيح لكُم من النَّعيمِ {فادخلوها خالدين} كان ما كان مَّما يقصر عنه البيانُ

ص: 264

{وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث والثَّوابِ {وَأَوْرَثَنَا الأرض} يريدونَ المكانَ الذي استقرُّوا فيه على الاستعارةِ وإيراثُها تمليكُها مخلَّفة عليهم من أعمالِهم أو تمكينُهم من التَّصرُّفِ فيها تمكينَ الوارثِ فيما يَرثُه {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نشاء} أي نتبوأ كلُّ واحدٍ مَّنا في أي مكانٍ أرادُه من جنَّتهِ الواسعة على أنَّ فيها مقاماتٍ معنويةً لا يتمانع واردوها {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} الجنَّةُ

ص: 264

سورة غافر

سورة غافر 1 3 ومِن مزيدةٌ أو لابتداءِ الحفوفِ {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ينزهونَه تعالى عَّما لا يليق به متلبسين بحمدِه والجملة حالٌ ثانيةٌ أو مقيَّدةٌ للأُولى والمعنى ذاكرين له تعالى بوصفى جلالِه وإكرامِه تلذُّذاً به وفيه إشعارٌ بأنَّ أقصى درجاتِ العلِّيينَ وأعلى لذائذِهم هو الاستغراق في شئونه عز وجل {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي بين الخلقِ بإدخال بعضِهم النَّارَ وبعضهم الجَّنةَ أو بين الملائكةِ بإقامتِهم في منازلِهم على حسبِ تفاضُلِهم {وَقِيلَ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي على ما قَضَي بيننا بالحق وأنزل كلامنا منزلتَه التي هي حقُّه والقائلون هم المؤمنون ممَّن قُضىَ بينهم أو الملائكةُ وطى ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سُورة الزُّمَر لم يقطعِ الله تعالى رجاءَهُ يومَ القيامةِ وأعطاهُ ثوابَ الخائفينَ وعن عائشةَ رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأُ كلَّ ليلةٍ بنى إسرائيل والزمر

سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

ص: 265

{حم} بتفخيمِ الألفِ وتسكينِ الميم وقرئ بإِمالةِ الألفِ وبإخراجِها بينَ بينَ وبفتحِ الميمِ لالتقاءِ الساكنينِ أو نصبِها بإضمارِ اقرأْ وَنَحوِهِ ومنعُ الصرفِ للتعريف وكونِها على زنةِ قابيلَ وهابيلَ وبقيةُ الكلامِ فيهِ وفي قولِه تعالى

ص: 265

{تَنزِيلُ الكتاب} كالذي سَلَفَ في آلم السجدةِ وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز العليم} كما في مَطْلعِ سُورةِ الزُّمَرِ في الوجوه كُلِّها ووجْهُ التعرضِ لنعتَي العزةِ والعلم ما ذُكرَ هناك

ص: 265

{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول} إِمَّا صفاتٌ أُخَرُ لتحقيق ما فيها منَ الترغيبِ والترهيبِ والحثِّ على ما هو المقصودُ والإضافةُ فيها حقيقيةٌ على أنَّه لمْ يُرَدْ بها زمانٌ مخصوصٌ وأريدَ بشديدِ العقابِ مشدِّدُه أو الشديدُ عقابُهُ بحذف اللامِ للازدواجِ وأمنِ الالتباسِ أوْ إبدالٍ وجعلُهُ وحْدَه بدلاً كما فعَلُه الزجَّاجُ مشوشٌ للنظمِ وتوسيطُ الواو بينَ الأوليَّنِ لإفادةِ الجمعِ بينَ محوِ الذنوبِ وقبول التوبةِ أو تغايرِ الوصفينِ إذْ رُبَّما يتوهمُ الاتحادُ أو تغايرُ موقعِ الفعلينِ لأنَّ الغفرَ هو السترُ معَ بقاءِ الذنبِ وذلكَ لمن لَمْ يتُبْ فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ والتوبُ مصدرٌ كالتوبةِ وقيل هُوَ جَمعُها والطَّولُ الفضلُ بترك العقابِ المستَحقِ وفي توحيد صفةِ العذابِ مغمورةً بصفاتِ الرحمة دليل سبقها

ص: 265

غافر 4 6 ورجحا بها {لا إله إلا هو} فيجبُ الإقبالُ الكُلِّي عَلى طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ {إِلَيْهِ المصير} فحسبُ لا إلى غيرِهِ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيجزى كلاًّ من المطيعِ والعاصِي

ص: 266

{ما يجادل في آيات الله} أي بالطعنِ فيَها واستعمالِ المقدماتِ الباطلةِ لإدحاضِ الحقِّ كقولِه تَعَالى وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق {إِلَاّ الذين كَفَرُواْ} بَها وأمَّا الذينَ آمنُوا فلا يخطرُ ببالهم شائبةُ شبهةٍ منها فضلاً عن الطعنِ فيها وأما الجدالُ فيها لحلِّ مشكلاتها وكشفِ معضلاتها واستنباطِ حقائقِها الكلية وتوضيحٍ مناهجِ الحقِّ في مضايقِ الأفهامِ ومزالقِ الأقدامِ وإبطالِ شبهِ أهلِ الزيغِ والضلالِ فمنْ أعظمِ الطاعاتِ ولذلكَ قال صلى الله عليه وسلم إنَّ جدالاً في القرآنِ كفرٌ بالتنكيرِ للفرقِ بينَ جدالٍ وجدالٍ والفاءُ فِي قولِهِ تَعَالَى {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد} لترتيبِ النَّهي أوْ وجوبِ الانتهاءِ على ما قبلَها من التسجيلِ عليهمْ بالكُفرِ الذي لا شئ أمقت منْهُ عندَ الله تعالىَ وَلَا أجلبُ لخُسرانِ الدُّنيا وَالآخرةِ فإنَّ منْ تحقق ذلك لا يكاد يَغترُّ بمَا لهُم من حظوظ الدنيا وزخارفها فإنَّهم مأخوذونَ عَمَّا قليلٍ أخْذَ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ حسبَما ينطِق بِه قولُه تَعَالَى

ص: 266

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم {وَهَمَّتْ كلَّ أمةٍ} مِنْ تلكَ الأممِ العاتيةِ {بِرَسُولِهِمْ} وقرئ برسولِها {لِيَأْخُذُوهُ} ليتمكنُوا منْهُ فيصيبوا بهِ مَا أرادُوا منِ تعذيبٍ أو قتلٍ منَ الأخذِ بمَعْنى الأَسْرِ {وجادلوا بالباطل} الذي لَا أصلَ وَلَا حقيقةَ لهُ أصلاً {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} الذي لا محيد عنه كما فعل هؤلاء {فَأَخَذَتْهُمُ} بسببِ ذلك أخذَ عَزيزٍ مُقتدرٍ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الذي عاقبتُهمْ بهِ فإنَّ آثارَ دمارِهم عبرةٌ للناظرينَ ولآخذنَّ هؤلاءِ أيْضاً لاتحادِهم فِي الطريقةِ واشتراكِهم في الجريرة كما ينبئ عنْهُ قولُه تعالَى

ص: 266

{وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} أَيْ كَما وجبَ وثبتَ حكمُه تَعَالى وقضاؤُهُ بالتعذيبِ عَلى أولئكَ الأممِ المكذبةِ المُتحزبةِ عَلى رُسلِهم المجادلةِ بالباطلِ لإدحاضِ الحقِّ بهِ وجبَ أَيْضاً {عَلَى الذين كَفَرُواْ} أيْ كفرُوا بكَ وتحزبُوا عليكَ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ كما ينبئ عنْهُ إضافةُ اسمِ الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلكَ للإشعارِ بأنَّ وجوبَ كلمةِ العذابِ عليهمْ مِنْ أحكامِ تربيتِهِ التي من جملتها نصرته صلى الله عليه وسلم وتعذيبُ أعدائِهِ وذلكَ إنَّما يتحققُ بكونِ الموصولِ عبارةً عن كفارِ قومِهِ لَا عنِ الأممِ المهلكةِ وَقولُه تعالَى {أَنَّهُمْ أصحاب النار} فِي حَيِّزِ النصبِ بحذفِ لام التعليلِ أيْ لأنهُمْ مستحقَّو أشدِّ العُقوباتِ وأفظعِها التي هيَ عذابُ النارِ وَملازمُوهَا أبداً لكونهمْ كُفَّاراً معاندينَ متحزبينَ عَلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم كدأبِ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ المهلكةِ فهُم لسائرِ فنونِ العقوباتِ أشدُّ استحقاقاً وأحقُّ استيجاباً وقيلَ هو في محلِ الرفعِ على أنَّه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك

ص: 266

غافر 7 الوجوب وجب على الكفرةِ المهلكةِ كونُهم من أصحابِ النارِ أي كما وجبَ إهلاكُهم في الدُّنيا بعذابِ الاستئصال كذلك وجب تعذيبهم بعذابِ النَّارِ في الآخرةِ وَمحلُّ الكافِ عَلى التقديرينِ النصب على أنه نعت لمصدرٍ محذوفٍ

ص: 267

{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلام وأولُهم وجُوداً وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبيرِهم له وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جل جلاله ومكانتِهم عِنْدُه ومحل الموصول الرفع عل الابتداءِ خبرُه {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ ربهم} والجملة استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهم السلام مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ تعالى عن كُلِّ ما لا يليقُ بشأنه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ عَلى نعمائِه التي لَا تتناهَى {ويؤمنون به} إيمانا حقيقا بحالِهم والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْساً لإظهارِ فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم للمؤمنينَ حسبما ينطِق بهِ قولُه تَعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ للذين آمنوا} فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ وفي نظمِ استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبيحهم وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ رُوي أنَّ حملةَ العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السفلى ورءوسهم قدْ خرقتِ العرشَ وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله من الملائكةِ فإنَّ خلقاً من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى حملةِ العرشِ تفضيلاً لهم عَلى سائِرهم وقيل خلقَ الله تعالى العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان الطيرِ المسرع ثمانين ألف عامٍ وقيل حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ صفٍ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ {رَبَّنَا} عَلى إرادةِ القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بيانٌ لاستغفارِهم أوْ حالٌ {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً} أيْ وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات ههنا والفاء في قوله تعالى {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سبيلك} أي للذين علمت منهم التوبةَ واتباعَ سبيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ

ص: 267