الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنكبوت
33
- 37 {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا} المذكورون بعد مفارقتِهم لإبراهيمَ عليه السلام {لُوطاً سِىء بِهِمْ} اعتراه المساءة بسبهم مخافةَ أنْ يتعرَّض لهم قومُه بسوءٍ وكلمةُ أنْ صلةٌ لتأكيدِ ما بين الفعلينِ من الاتِّصالِ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاقَ بشأنِهم وتدبير أمِرهم ذرعُه أي طاقتُه كقولِهم ضاقتْ يدُه وبإزائِه رَحُبَ ذَرْعُه بكذا اذا كان مطيقا به قادراً عليه وذلك أنَّ طويلَ الذِّراعِ ينالُ ما لا يناله قصير الذِّراع {وَقَالُواْ} ريثما شاهدوا فيه مخايلَ التَّضجرِ من جهتهم وعاينوا أنه عجزَ عن مُدافعةِ قومِه بعد اللَّتيا والتِّي حتى آلتْ به الحالُ إلى أنْ قالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شديدٍ {لَا تَخَفْ} أي من قومِك علينا {وَلَا تَحْزَنْ} أي على شئ وقيل بإهلاكِنا إيَّاهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} ممَّا يُصيبهم من العذابِ {إِلَاّ امرأتك كانت من الغابرين} وقرئ لننجينَّك ومنجُّوك من الإنجاءِ وأيا ما كان فمحل الكافِ الجرُّ على المختارِ ونصب أهلكَ بإضمار فعلٍ أو بالعطفِ على محلِّها باعتبارِ الأصلِ
{إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء} استئساف مسُوقٌ لبيانِ ما أشير إليه بوعدِ التَّنجيةِ من نزول العذابِ عليهم والرِّجزُ العذابُ الذي يُقلقُ المعذَّبَ أي يُزعجُه من قولِهم ارتجزَ إذا ارتجسَ واضطربَ وقرئ مُنزِّلون بالتَّشديدِ {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسببِ فسقِهم المستمرِّ
{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا} أي من القريةِ {آيَةً بَيّنَةً} هي قصتها العجيبة وآثار ديارها الخربةِ وقيل الحجارةُ الممطورة فإنَّها كانتْ باقيةً بعدها وقيل الماءُ الأسودُ على وجهِ الأرضِ {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولَهم في الاستبصارِ والاعتبارِ وهو متعلقٌ إما بتركنا أو بينة
{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} متعلق بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا قي قصة نوح عليه السلام أي وأرسلنا إلى مدينَ شعيبا {فقال يا قوم اعبدوا الله} وحدَه {وارجوا اليوم الاخر} أي توقَّعوه وما سيقعُ فيه من فُنون الأهوالِ وافعلُوا اليوم من الأعمالِ ما تأمنون غائلتَهُ وقيل وارجُوا ثوابَه بطريقِ إقامةِ المسبَّبِ مقامَ السَّببِ وقيل الرَّجاءُ بمعنى الخوفِ {وَلَا تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ}
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزَّلزلةُ الشَّديدةُ وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليه السلام فإنَّها المُوجِبة للرَّجفة بسبب تمويجِها للهواءِ وما يُجاورها من
العنكبوت 38 41 الأرض {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي بلدِهم أو منازِلهم والإفرادُ لأمنِ اللَّبسِ {جاثمين} باركينَ على الرُّكبِ ميِّتينَ
{وَعَاداً وَثَمُودَ} منصوبانِ بإضمارِ فعل ينبئ عنه ما قبلَه أي أهلكنا وقرئ ثموداً بتأويلِ الحيِّ {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم} أي وقد ظهرَ لكم إهلا كنا إيَّاهم من جهةِ مساكنِهم بالنَّظر إليها عند اجتيازِكم بها ذهاباً إلى الشَّامِ وإياباً منه {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} من فُنون الكفرِ والمَعاصي {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} السَّويِّ الموصِّلِ إلى الحق {وكانوا مستبصرين} متمكنين من النَّظرِ والاستدلالِ ولكِنَّهم لم يفعلُوا ذلك أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبارِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ولكنَّهم لجُّوا حتَّى لقُوا ما لقُوا
{وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان} معطوفٌ على عاداً قيل تقديمُ قارونَ لشرفِ نسبِه {وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الارض وَمَا كَانُواْ سابقين} مفلتينَ فائتينَ من قولِهم سبقَ طالبَه إذا فانه ولم يُدركه ولقد أدركَهم أمر الله عزوجل أيَّ إدراكٍ فتداركُوا نحوَ الدَّمارِ والهَلَاكِ
{فكلا} تفسير لما ينيئ عنه عدمُ سبِقهم بطريقِ الإبهامِ أي فكلُّ واحدٍ من المذكورينَ {أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي عاقبناهُ بجنايتِه لا بعضِه دُون بعضٍ كما يُشعر به تقديمُ المفعولِ {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حاصبا} تفصيل للأخذِ أي ريحاً عاصفاً فيها حصباءُ وقيل مَلَكاً رماهم بهاؤهم قومُ لوطٍ {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} كمدينَ وثمود {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض} كقارون {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقومِ نوحٍ وفرعونَ وقومِه {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بما فعل بهم فإنَّ ذلك محالٌ من جهتِه تعالى {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالاستمرارِ على مُباشرةِ ما يُوجبُ ذلك من أنواعِ الكفرِ والمَعاصي
{مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي فيما اتخذوه متعمدا ومتَّكلاً {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} فيما نسجتْهُ في الوهنِ والخورِ بل ذلك أوهنُ من هذا لأنَّ له حقيقةً وانتفاعاً في الجُملة أو مَثَلُهم بالإضافةِ إلى المُوحَّدِ كمثله بالإضافة إلى رجلٍ بنى بيتاً من حجرٍ وجِصَ والعنكبوتُ يقعُ على الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنَّثِ والغالبُ في الاستعمال التأنيث وتاؤه
العنكبوت 42 45 كتاءِ طاغوت ويُجمع على عناكبَ وعنكبوتاتٍ وأمَّا العِكَابُ والعُكُبُ والأَعْكُبُ فأسماءُ الجموعِ {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت} حيثُ لا يُرى شئ يدانيِه في الوَهَنِ والوَهَى {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ لجزمُوا ان هذا مثلهم او ان دينهم أو هي من ذلكَ ويجوزُ أنْ يجعلَ بيتُ العنكبوتِ عبارةً عن دينِهم تحقيقاً للتَّمثيلِ فالمعنى وإنَّ أوهنَ ما يُعتمد به في الدِّين دينُهم
{أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شىء} على إضمار الفول أي قُل للكَفَرةِ إنَّ الله الخ وما استفهامَّيةٌ منصوبةٌ بيدعونَ معلقةٌ ليعلم ومِن للتَّبيينِ أو نافيةٌ ومن مزيدة وشئ مفعولُ يدعون أو مصدريةٌ وشئ عبارةٌ عن المصدرِ أو موصولةٌ مفعولٌ ليعلمُ ومفعولُ يدعون عائده المحذوف وقرئ تَدعُون بالتَّاءِ والكلامُ على الأولين تجهيلٌ لهم وتأكيدٌ للمثل وعلى الاخيرين وعيدلهم {وَهُوَ العزيز الحكيم} تعليلٌ على المعنيينِ فإنَّ إشراكَ ما لا يُعدُّ شيئاً بمن هَذا شأنُه من فرطِ الغباوةِ وإنَّ الجمادَ بالنسبة إلى القادرِ القاهرِ على كل شئ البالغِ في العلم وإتقانِ الفعلِ الغايةَ القاصيةَ كالمعدومِ البحت وأنَّ منَ هذه صفاتُه قادرٌ على مجازاتِهم
{وَتِلْكَ الامثال} أي هذا المثلُ وأمثاله {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تقريباً لما بعُد من أفهامِهم {وَمَا يَعْقِلُهَا} على ما هي عليه من الحُسنِ واستتباع الفوائدِ {إِلَاّ العالمون} الرَّاسخون في العلمِ المتدبِّرون في الأشياءِ على ما ينبغي وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه تَلَا هذه فقال العالمُ من عقلَ عنِ الله تعالى وعمِل بطاعتِه واجتنبَ سَخَطَه
{خلق الله السماوات والارض بالحق} أي مُحقَّاً مُراعياً للحكمِ والمَصَالح على أنه حال من فاعل خلقَ أو ملتبسةً بالحقِّ الذي لا محيد عنه مستتبعةً للمنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ على أنه حال من مفعولِه فإنَّها مع اشتمالِها على جميعِ ما يتعلَّقُ به معايشهم شواهد دالة على شئونه تعالى المتعلقةِ بذاتِه وصفاتِه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} دالَّة لهم على ما ذكر من شئونه سبحانه وتخصيصُ المؤمنينَ بالذكر مع عمومِ الهدايةِ والإرشادِ في خلقهِما للكلِّ لأنَّهم المُنتفعون بذلكَ
{اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} تقرُّباً إلى الله تعالى بقراءتِه وتذكُّراً لما في تضاعيفهِ من المعاني وتذكيرا للنا س وحملاً لهم على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ ومحاسنِ الآدابِ ومكارمِ الأخلاقِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} أي داوِمْ على إقامتِها وحيثُ كانتِ الصَّلاةُ منتظمةً للصَّلواتِ المكتوبةِ المؤدَّاةِ بالجماعةِ وكان أمرُه عليه الصلاة والسلام بإقامتِها متضمناً لأمرِ الأمَّة بها علِّل بقوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَر}
كأنّه قيل وصلِّ بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ومعنى نهيها عنهُما أنَّها سببٌ للانتهاءِ عنُهما لأنَّها مناجاةٌ لله تعالى فلا بدَّ أنْ تكونَ مع إقبالٍ تامَ على طاعتِه وإعراضِ كليَ عن معاصيِه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعداً وقال الحسنُ وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه ورَوَى أنسٌ رضي الله عنه إنَّ فتى من الأنصارِ كانَ يصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ لا يدع شيئاً من الفواحِش إلا ركبَهُ فوصف له صلى الله عليه وسلم حاله فقال إنَّ صلاتَه ستنهاهُ فلم يلبثْ أن تابَ وحسُنَ حالُه {وَلَذِكْرُ الله أكبر} أي للصلاة أكبرُ من سائرِ الطَّاعاتِ وإنَّما عبرَّ عنها بهِ كما في قوله تعالى فاسعوا إلى ذِكْرِ الله للإيذانِ بأنَّ ما فيها من ذكرِ الله تعالى هو العمدةُ في كونِها مفضَّلةً على الحسناتِ ناهيةً عن السيئاتِ وقيل ولذكرُ الله تعالى عندَ الفحشاءِ والمُنكر وذكرُ نهيهِ عنهُما ووعيدِه عليهما أكبرُ في الزَّجرِ عنهما وقيل ولذكرُ الله إيَّاكم برحمتِه أكبرُ من ذكِركم إيَّاه بطاعتِه {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} منه ومن سائرِ الطَّاعات فيجازيكم بها أحسن المجازاة
{وَلَا تجادلوا أَهْلَ الكتاب} من اليَّهودِ والنَّصارَى {إِلَاّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي بالخَصلة التي هي أحسنُ كمقابلةِ الخشونةِ باللِّينِ والغضبِ بالكظمِ والمشاغبةِ بالنُّصحِ والسَّورةِ بالأَناة على وجهٍ لا يدلُّ على الضَّعفِ ولا يُؤدِّي إلى إعطاءِ الدَّنيةِ وقيل منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ {إِلَاّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بالإفراطِ في الاعتداءِ والعنادِ أو بإثباتِ الولدِ وقولِهم يدُ الله مغلولةٌ ونحوِ ذلك فإنَّه يجبُ حينئذٍ المُدَافعةُ بما يليقُ بحالِهم {وَقُولُواْ آمنا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القُرآنِ {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وبالذي أُنزل إليكُم من التَّوراةِ والإنجيلِ وقد مرَّ تحقيقُ كيفيَّةِ الإيمانِ بهما في خاتمةِ سورةِ البقرةِ وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا تُصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذِّبُوهم وقولُوا آمنَّا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلالم تصدِّقوهم وإنْ قالُوا حقّاً لم تكذِّبُوهم {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} لا شريكٍ له في الأُلوهيَّةِ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مُطيعونَ خاصَّة وفيه تعريضٌ بحالِ الفريقينِ حيثُ اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً من دُونِ الله
{وكذلك} تجريدٌ للخطابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضلِ أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديع الموافقِ لإنزالِ سائرِ الكتبِ {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي القُرآنَ الذي من جُملتِه هذهِ الآيةُ الناطقةِ بما ذُكر من المُجادلةِ بالحُسْنَى {فالذين آتيناهم الكتاب} من الطَّائفتينِ {يُؤْمِنُونَ به} أريدبهم عبدُ اللَّه بنُ سَلَام وأضرابِه من أهلِ الكتابين خاصَّة كأنَّ من عداهُم لم يُؤتَوا الكتابَ حيثُ لم يعملوا بما فيهِ أو مَنْ تقدم عهدَ رسول الله
العنكبوت 48 51 صلى الله عليه وسلم منهم حيثُ كانُوا مصدِّقين بنزولِه حسبما شاهدُوا في كتابيهما وتخصيصُهم بإيتاءِ الكتابِ للإيذانِ بأنَّ مَن بعدهم من مُعاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد نُزع عنهم الكتابُ بالنَّسخِ فلم يُؤتَوه والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إيمانَهم به مترتِّبٌ على إنزالِه على الوجهِ المذكُورِ {وَمِنْ هَؤُلاء} أي ومِن العربِ أو أهلِ مكَّةَ على الأولِ أو ممَّن في عصره صلى الله عليه وسلم على الثَّانِي {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} أي بالقُرآنِ {وَمَا يجحد بآياتنا} عبَّر عن الكتابِ بالآياتِ للتنبيهِ على ظهورِ دلالتِها على معانيها وعلى كونِها من عند الله تعالى وأضيفتْ إلى نونِ العظمةِ لمزيدِ تفخيمِها وغايةِ تشنيعِ مَنْ يجحدُ بها {إِلَاّ الكافرون} المتوغِّلون في الكُفر المصمِّمون عليهِ فإنَّ ذلكَ يصدُّهم عن التَّأملِ فيما يُؤدِّيهم إلى معرفةِ حقّيتها وقيل هم كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابِه
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ} أي ما كنتَ قبل إنزالِنا إليك الكتابَ تقدرُ على أنْ تتلوَ شيئاً من كتابٍ {وَلَا تَخُطُّهُ} أي ولا تقدرُ على أنْ تخطَّه {بِيَمِينِكَ} حسبَما هُو المعتادُ أو ما كانت عادَتُك أنْ تتلوَه ولا أنْ تخطَّه {إِذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنتَ ممَّن يقدرُ على التِّلاوةِ والخطِّ أو ممَّن يعتادُهما لارتابُوا وقالُوا لعلَّه التقطَه من كتبِ الأوائلِ وحيثُ لم تكن كذلكَ لم يبقَ في شأنِك منشأُ ريبٍ أصلاً وتسميتُهم مُبطلينَ في ارتيابِهم على التَّقديرِ المفروضِ لكونِهم مُبطلينَ في اتِّباعِهم للاحتمالِ المذكورِ مع ظهورِ نزاهتِه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ
{بَلْ هُوَ} أي القرآنُ {آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} واضحاتٌ ثابتةٌ راسِخةٌ {فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} من غيرِ أنْ يُلتقطَ من كتابٍ يحفظونَهُ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على تحريفِه {وَمَا يجحد بآياتنا} مع كونِها كما ذُكر {إِلَاّ الظالمون} المُتجاوزونَ للحدودِ في الشرِّ والمكابرةِ والفسادِ
{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيات مّن رَّبّهِ} مثلُ ناقةِ صالحٍ وعَصَا مُوسى ومائدةُ عيسى عليهم السلام وقرئ آيةٌ {قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله} يُنزِّلها حسبَما يشاءُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلكَ قطعاً {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ليسَ من شأنِي إلا الإنذارُ بما أُوتيتُ من الايات
{أو لم يَكْفِهِمْ} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهتِه تعالى ردّاً على اقتراحِهم وبياناً لبُطلانِه والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقصُر ولم يكفِهم آيةٌ مغنيةٌ عن سائرِ الآياتِ {أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الناطقَ بالحقِّ المصدِّق لما بين يديهِ من الكتبِ السَّماويَّةِ وأنتَ بمعزلٍ عن مدارستِها وممارستِها {يتلى عَلَيْهِمْ} في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فلا يزالُ معهم آيةٌ ثابتةٌ لا تزولُ ولا تضمحلُّ كما تزولُ كلُّ آيةٍ بعدَ كونِها وتكونُ في مكانٍ دُونَ مكانٍ أو يُتلى على اليَّهودِ بتحقيقِ ما في أيديهم من نعتِك ونعتِ دينِكَ {إِنَّ فِى ذلك} الكتاب العظيم
العنكبوت 52 54 الشَّأنِ الباقِي على مرِّ الدُّهورِ {لَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمةً {وذكرى} أي تذكرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم همُّهم الإيمانُ لا التعنُّتُ كأولئك المُقترحينَ وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف فيها بعضُ ما يقولُه اليَّهودُ فقال كَفَى بها ضلالةَ قومٍ أنْ يرغبُوا عمَّا جاءَ به نبيُّهم إلى ما جاءَ به غيرُ نبيِّهم فنزلتْ
{قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} بمَا صدرَ عنِّي وعنكُم {يَعْلَمُ مَا في السماوات والارض} أي من الأُمورِ التي من جُمْلتِها شأنِي وشأنُكم فهو تقريرٌ لما قبلَه من كفايتِه تعالى شهيدا {والذين آمنوا بالباطل} وهو ما يُعبد من دونِ الله تعالى {وَكَفَرُواْ بالله} مع تعاضُد موجباتِ الإيمانِ به {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبُونون في صفقتِهم حيثُ اشترَوُا الكفرَ بالإيمانِ بأنْ ضيَّعوا الفطرةَ الأصليَّةَ والأدلَّةَ السمعيَّةَ الموجبةَ للإيمانِ والآيةُ من قبيلِ المُجادلةِ بالتي هي أحسنُ حيثُ لم يُصرِّحْ بنسبةِ الإيمانِ بالباطلِ والكفرِ بالله والخسرانِ إليهم بل ذُكر على منهاجِ الإبهامِ كما في قولِه تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} على طريقةِ الاستهزاءِ بقولِهم متى هذا الوعد وقولهم امطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ ونحوِ ذلكَ {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى} قد ضربَهُ الله تعالى لعذابِهم وبيَّنه في اللَّوحِ {لَّجَاءهُمُ العذاب} المعيَّنُ لهم حسبما استعجلوا به قيل المرادُ بالأجلِ يومُ القيامةِ لما رُوي أنَّه تعالى وعدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُعذِّبَ قومَه بعذابِ الاستئصال وأنْ يؤخِّر عذابَهم إلى يومِ القيامةِ وقيلَ يوم بدر وقيل وقتُ فنائِهم بآجالِهم وفيه بُعدٌ ظاهرٌ لِمَا أنَّهم ما كانُوا يُوعدون بفنائِهم الطبيعيِّ ولا كانُوا يستعجلونَ به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٍ لما أُشير إليه في الجُملةِ السَّابقةِ من مجئ العذابِ عند محلِّ الأجلِ أي وبالله ليأتينَّهم العذابُ الذي عُيِّن لهم عند حُلولِ الأجلِ {بَغْتَةً} أي فجأةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي بإتيانِه ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يأتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والاجابة الى مسئولهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} استئنافٌ مسوقٌ لغايةِ تجهيلِهم ورَكَاكةِ رأيِهم وفيه دلالة على أن ما استعجلوه عذابُ الآخرةِ أي يستعجلونك بالعذابِ والحال أنَّ محلَّ العذابِ الذي لاعذاب فوقَه محيطٌ بهم كأنَّه قيل يستعجلونك بالعذابِ وإنَّ العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم وإنما
العنكبوت 55 58 جئ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على تحقُّقِ الإحاطةِ واستمرارِها أو تنزيلاً لحالِ السَّببِ منزلةَ حالِ المسبَّبِ فإنَّ الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ جهنَّم محيطةٌ بهم وقيل إنَّ الكفرَ والمعاصيَ هي النَّار في الحقيقةِ لكنَّها ظهرتْ في هذهِ النَّشأةِ بهذه الصُّورةِ وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} ولامُ الكافرينَ إمَّا للعهدِ ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ المضمرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أو للجنس وهم داخلون فيه دُخولاً أولياً
{يَوْمَ يغشاهم العذاب} ظرفٌ لمضمرٍ قد طُوي ذكرُه إيذاناً بغايةِ كثرتِه وفظاعتِه كأنَّه قيلَ يومَ يغشاهُم العذابِ الذي أشير إليه بإحاطةِ جهنَّم بهم يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي به المقالُ وقيل ظرفٌ للإحاطةِ {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميعِ جهاتِهم {وَيَقُولُ} أي الله عز وجل ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ أو بعضُ ملائكتِه بأمرِه {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرارِ من السيئاتِ التي من جُملتها الاستعجالُ بالعذابِ
{يَا عِبَادِى الذين آمَنُواْ} خطابُ تشريفٍ لبعضِ المؤمنينَ الذين لا يتمكَّنُون من إقامةِ أمورِ الدينِ كما ينبغِي لممانعةٍ من جهةِ الكَفَرةِ وإرشادٌ لهم إلى الطَّريقِ الأسلمِ {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون} أي إذا لم يتسهَّل لكُم العبادةُ في بلدٍ ولم يتيسَّر لكُم إظهارُ دينِكم فهاجِرُوا إلى حيثُ يتسنَّى لكم ذلك وعنه صلى الله عليه وسلم من فربدينه من أرضٍ إلى أرضٍ ولو كان شبراً استوجبَ الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما السلام والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ إذِ المعنى إنَّ أرضي واسعةٌ إنْ لم تُخلصوا العبادةَ لي في أرضٍ فأخلِصُوها في غيرِها ثم حُذفَ الشَّرطُ وعُوِّض عنه تقديمُ المفعولِ مع إفادةِ تقديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} جملةٌ مستأنفة جئ بها حثاً على المُسارعة في الامتثالِ بالأمرِ أي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ واجدةٌ مرارةَ الموتِ وكربَه فراجعةٌ إلى حُكمِنا وجَزَائِنا بحسبِ أعمالِها فمَنْ كانت عاقبته هذه فليس له بدٌّ من التزود والاستعداد لها وقرئ يرجعون
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ} لننزلنَّهم {مّنَ الجنة غُرَفَاً} أي عَلاليَ وهو مفعولٌ ثانٍ للتبوئة وقرئ لثوينهم من الثُّواء بمعنى الإقامةِ فانتصابُ غُرفاً حينئذٍ إمَّا بإجرائِه مُجرى لنُنزلنَّهم أو بنزع الخافض او بتشببه الظرف الموقت بالمبهم كا في قولِه تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لغرفاً {خالدين فِيهَا} أي في الغُرَفِ أو في الجنَّة {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي الأعمالُ الصَّالحةُ والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه وقرئ فمنعم