الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص
25
- 27 {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي ما استغفرَ منه ورُوي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجداً أربعينَ يوماً وليلةً لا يرفعُ رأسَه الا الصلاة مكتوبةٍ أو لما لا بُدَّ منه ولا يرقأُ دمعُه حتَّى نبتَ منه العشبُ إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمعٌ وجهد نفسَه راغباً إلى الله تعالَى في العفوِ عنه حتَّى كادَ يهلك واشتغل بذلك عن المُلكِ حتَّى وثبَ ابنٌ له يقال له إيشا على ملكِه ودعا إلى نفسِه فاجتمع إليه أهلُ الزَّيغِ من بني إسرائيلَ فلمَّا غُفر له حاربَه فهزمَه {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} لقرابة وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنُ مآب} حسنَ مرجعٍ في الجنَّةِ
{يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض} إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصلاة والسلام مبينة لزُلفاه عنده عز وجل وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا أو حالٌ من فاعلِه أي وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ الخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليه الصلاة والسلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتماً {وَلَا تَتَّبِعِ الهوى} أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنصب على أنه جواب النَّهي وقيل هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالتقاء السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سبباً لضلالِك عن دلائله التي نصها على الحقِّ تكويناً وتَشريعاً وقوله تعالى {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقع الإضمار لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعتْ خبراً لأنَّ أوْ الظرف خبر لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعلية بمَا فيهِ من مَعْنى الاستقرارِ {بِمَا نَسُواْ} بسبب نسيانِهم وقوله تعالى {يَوْمِ الحساب} إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَهُمْ أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم ومن ضرورته أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبيه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر
ص 28 29 من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاء أي وما خلقناهُما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقاً باطلاً أي خالياً عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطوياً على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوساً أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحق دلائل آفافية وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلاً وأنزلنا عليها كتابا بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها {ذلك} إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلاً {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلَكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالَى عمَّا يقولونَ علوّاً كبيراً {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهُم عَلى ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للاشعار بما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم ومِنْ في قولِه تعالَى {من النار} تعليليةٌ كما في قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ونظائرِه مفيدة لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحاً بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم
{أم نجعل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كالمفسدين فِى الارض} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خالياً عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثَ وما يترتَّبُ عليهِ من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظَّاً منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتماً لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ وقوله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ
{كِتَابٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ وقولُه تعالى {أنزلناه إِلَيْكَ} صفته
ص 30 32 وقوله تعالى {مُّبَارَكٌ} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ وقُرىء مباركاً على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وقولُه تعالى {ليدبروا آياته} متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذهِ الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرىء ليتدَّبروا على الاصلى ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ احدى التاءين {وليتذكر أولوا الالباب} أي وليتَّعظ به ذوو العقول السليمة او ليستحضروا ماهو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى مالا سبيلَ للعقلِ إليه
{ووهبنا لداود سليمان نِعْمَ العبد} وقُرىء نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أيْ رجّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} راجع إليه عليه الصلاة والسلام قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه {بالعشى} هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ {الصافنات} فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل ظرف لأواب وقيل لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والصَّافنُ من الخيلِ الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ ينفق إلا في العِراب الخُلَّصِ وقيل هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم {الجياد} جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل الذي يجودُ عند الرَّكضِ وقيل وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها وقيل هو جمعُ جيِّد رُوي أنَّه عليه الصلاة والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعدما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره
{فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عن ذكر ربى} قالَه عليه الصلاة والسلام عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنْهُ منَ الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقُبه منْ الأمر بردِّها وعقرِها والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه
ص 33 34 والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخبر وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لانه بمعنى آثرت لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخير مفعوله كأنه قبل أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه وخير المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصلاة والسلام ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال صلى الله عليه وسلم الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يوم القيامة وقرىء أنِّي {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حب الخير عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل الضمير للصافنات أي حتى توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام مقالةِ سليمانَ عليه السلام ومرمى غرضِه من تقديم ما قدَّمه ومَن لَم يَتَنَبَّه لَه مع ظهورِه توهَّم أنَّه متَّصل بمضمرٍ هو جوابٌ لمضمرٍ آخرَ كأنَّ سائلاً قال فماذا قال سليمانُ عليه السلام فقيل قال ردها فتأمل والفاء في قوله تعالى {فَطَفِقَ مَسْحاً} فصيحةٌ مفصحةٌ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بغاية سرعةِ الامتثالِ بالأمرِ أي فردُّوها عليه فأخذ يمسحُ السَّيفَ مسحاً {بالسوق والاعناق} أي بسوقِها وأعناقِها يقطعها من قولِهم مسحَ عِلاوتَه أي ضرب عنفه وقيل جعل يمسحُ بيدهِ أعناقَها وسوقَها حُبَّاً لها وإعجاباً بها وليس بذاكَ وقُرىء بالسُّؤُقِ على همز الواوِ لضمَّتها كما في أدؤُر وقرىء بالسُّؤوقِ تنزيلاً لضمَّةِ السِّينِ منزلة ضمَّه الواوِ وقُرىء بالسَّاق اكتفاءً بالواحدِ عن الجمعِ لأمنِ الالباسِ
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} أظهرُ ما قيل في فتنتِه عليه الصلاة والسلام ما رُوي مرفُوعاً أنَّه قال لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتِي كل واحدة بفارس بجاهد في سبيلِ الله تعالى ولم يقُل إنْ شاءَ الله تعالى فطافَ عليهنَّ فلم تحمل إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءتْ بشقِّ رجلٍ والذي نفسِي بيدِه لو قالَ إنْ شاء الله لجاهدُوا في سبيلِ الله فُرساناً أجمعون وقيل وُلد له ابنٌ فاجتمعتِ الشَّياطينُ على قتلِه فعلم ذلكَ فكانَ يغذُوه في السَّحابِ فَما شعرَ به إلى أنْ أُلقي عَلَى كرسيِّه ميتاً فتنبَّه لخطئِه حيثُ لَم يتوكَّل على الله عزَّ وعَلَا وقيل إنَّه غَزَا صيدونَ من الجزائرِ فقتلَ ملكَها وأصابَ بنْتاً له تسمَّى جرادةَ من أحسنِ النَّاسِ فاصطفَاها لنفسِه واسلمت حبها وكان لا يرقأُ دمعُها جَزَعاً على أبيها فأمرَ الشَّياطينَ فمثَّلوا لها صورتَه وكانت تغدُو إليها وتروحُ مع ولائدها يسجدون لها كعادتهنَّ في مُلكِه فأخبرهَ آصفُ بذلك فكسرَ الصُّورةَ وعاقَب المرأةَ ثم خرج وحدَهُ إلى فَلَاة وفُرش له الرَّمادُ فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى باكياً متضرِّعاً وكانتْ له أمُّ ولدٍ يُقال لها أمينةُ إذا دخلَ للطَّهارةِ أو لإصابةِ امرأةٍ يعطيها خاتمه وكان ملكُه فيه فأعطاها يوماً فتمثَّل لها بصورتِه شيطانٌ اسمه صخر وأخذ الخاتمَ فتختَّم به وجلس على كُرسِّيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفَّذ حكمَه في كلِّ شيءٍ إلَاّ في نسائِه وغيَّر سليمان
ص 35 38 عن هيئتِه فأتى أمينةَ لطلبِ الخاتمِ فأنكرتْهُ وطردتْهُ فعرفَ أنَّ الخطيئةَ قد أدركتْهُ فكان يدورُ على البيوتِ يتكفَّفُ وإذا قال أنَا سليمانُ حثَوا عليه التُّرابَ وسبُّوه ثم عمد إلى السَّماكين ينقلُ لهم السَّمك فيعطونَه كلَّ يومٍ سمكتينِ فمكثَ على ذلك أربعينَ صباحاً عددَ ما عُبد الوثنُ في بيتِه فأنكر آصفُ وعظماءُ بني إسرائيلَ حكمَ الشَّيطانِ ثم طارَ اللعينُ وقذفَ الخاتمَ في البحرِ فابتلعتْهُ سمكةٌ فوقعتْ في يدِ سليمانَ فبقرَ بطنَها فإذَا هُو بالخاتمِ فتختَّم به وخرَّ ساجداً وعادَ إليه ملكه وجاب صخرةً لصخرٍ فجعلَه فيها وسدَّ عليه بأُخرى ثم أوثَقهما بالحديدِ والرَّصاص وقذفه في البحرِ وعلى هذا فالجسدُ عبارةٌ عن صخرٍ سمِّي به وهو جسمٌ لا رُوحَ فيه لأنَّه تمثَّل بما لم يكن كذلكَ والخطيئةُ تغافلُه عليه الصلاة والسلام عن حالِ أهلِه لأنَّ اتِّخاذَ التَّماثيلِ لم يكُن محظُوراً حينئذٍ وسجودُ الصُّورةِ بغير علمٍ منه لا يضرُّه
{قَالَ} بدل من أنابَ وتفسير له {رَبّ اغفر لِى} أي ما صدرَ عنِّي من الزَّلَّةِ {وَهَبْ لِى مُلْكاً لَاّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} لا يتسهل له ولا يكونُ ليكونَ معجزةً لي مناسبةً لحالي فإنه عليه الصلاة والسلام لمَّا نشأَ في بيتِ الملكِ والنُّبوة وورثهما معاً استدعى من ربِّه معجزةً جامعة لحكمهما اولا ينبغي لأحدٍ أنْ يسلَبه منِّي بعد هذه السَّلبةِ اولا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظمته كقولك لفلان ماليس لأحدٍ من الفضلِ والمالِ على إرادة وصف الملكِ بالعظمةِ لا أنْ لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان مُلكاً عظيماً فخاف أنْ يُعطى مثلَه أحدٌ فلا يحافظُ على حدودِ الله تعالى وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيد اهتمامِه بأمر الدِّينِ جرياً على سُنن الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصَّالحين وكون ذلك أدخلَ في الإجابةِ وقُرىء ليَ بفتحِ الياءِ {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معاً لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضاً من احكام وصف الوهابية قطعا
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} أي فذللناها لطاعتِه إجابةً لدعوتِه فعاد أمرُه عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليهِ قبل الفتنةِ وقُرىء الرِّياح {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} بيانٌ لتسخيرِها له {رُخَاء} أي لينةً من الرَّخاوةِ طيبة لا تزعزعُ وقيل طيعةً لا تمتنع عليه كالمأمورِ المنقادِ {حَيْثُ أصاب} أي حيث قصدو اراد حَكَى الأصمعيُّ عن العربِ أصابَ الصَّوابَ فأخطأَ الجوابَ
{وآخرين مُقَرَّنِينَ فِى الاصفاد} عطفٌ على كلَّ بنَّاءٍ داخلٌ في حُكمِ البدلِ كأنَّه عليه الصلاة والسلام فصَّل الشَّياطينَ إلى عَمَلةٍ استعملهم في الأعمالِ الشَّاقةِ من البناء والغَوص ونحو ذلك وإلى مَرَدةٍ قُرن بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ لكفِّهم عن الشرِّ والفسادِ ولعلَّ أجسامهم شفَّافةٌ فلا تُرى صلبةً فيمكن تقييدُها ويقدرون على
ص 39 41 الأعمال الصَّعبة وقد جُوِّز أن يكون الإقرانُ في الأصفادِ عبارة عن كفِّهم عن الشُّرورِ بطريق التَّمثيلِ والصَّفدُ القَيدُ وسُمِّي به العطاءُ لأنَّه يرتبط بالمنعمِ عليه وفرَّقوا بين فعليهما فقالُوا صفَده قيَّده وأصفدَهُ أعطاهُ على عكسِ وَعَد وأوعده وقوله تعالى
{هذا} الخ إمَّا حكايةٌ لما خوطب به سليمان عليه السلام مبيِّنةٌ لعظمِ شأنِ ما أُوتي من الملكِ وأنَّه مفوَّضٌ إليه تفويضاً كلِّياً وإما مقولٌ مقدر هو معطوف على سخَّرنا أو حالٌ من فاعلهِ كما مرَّ في خاتمةِ قصَّةِ داودَ عليه السلام أي وقُلنا له أو قائلين له هذا الأمرُ الذي أعطيناكَه من المُلكِ العظيمِ والبسطةِ والتَّسلطِ على ما لَم يُسلَّطُ عليه غيرُك {عَطَاؤُنَا} الخاصُّ بك {فامنن أَوْ أَمْسِكْ} فأعطِ مَن شئتَ وامنْع مَن شئتَ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من المستكن في الأمرِ أي غير محاسب على شئ منِّه وإمساكهِ لتفويضِ التَّصرف فيه إليك على الإطلاقِ أو منْ العطاءِ أي هذا عطاؤنا مُلتبساً بغير حسابٍ لغاية كثرتِه أو صلةٌ له وما بينهما اعتراضٌ على التَّقديرينِ وقيل الإشارةُ إلى تسخير الشَّياطينِ والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ الإطلاقُ والتَّقييدُ
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} في الآخرةِ مع ما له من المُلك العظيمِ في الدنيا {وحسن مآب} هو الجنَّةُ قيل فُتن سليمانُ عليه السلام بعد ما ملكَ عشرين سنةً وملك بعد الفتنةِ عشرينَ سنة وذكر الفقيهُ أبوُ حنيفةَ أحمدُ بنُ داودَ الدِّيْنَوَريُّ في تاريخه أنَّ سليمانَ عليه السلام ورثَ ملكَ أبيهِ في عصرِ كيخسرو بن سياوش وسارَ من الشَّامِ إلى العراقِ فبلغ خبره كيخسر فهربَ إلى خُراسانَ فلم يلبثْ حتَّى هلكَ ثمَّ سارَ سُليمانُ عليه السلام إلى مروٍ ثمَّ إلى بلادِ التُّركِ فوغل فيها ثم جازَ بلادَ الصِّين ثم عطفَ إلى أنْ وافى بلادَ فارسٍ فنزلها أيّاماً ثم عاد إلى الشَّامِ ثمَّ أمرَ ببناءِ بيتِ المقدسِ فلَّما فرغَ منه سار إلى تهامةَ ثم إلى صنعاءَ وكان من حديثِه مع صاحبتِها ما ذكر الله تعالى وغَزا بلادَ المغربِ الأندلسِ وطنجةَ وغيرَهما والله تعالى أعلمُ
{واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ} عطفٌ على اذكُر عبدنا داودَ وعدمُ تصديرِ قصَّةِ سليمانَ بهذا العُنوان لكمالِ الاتِّصالِ بينه وبينَ داودَ عليهما السلام وأيُّوبُ هو ابنُ عِيصَ بنِ إسحاقَ عليه السلام {إِذْ نادى رَبَّهُ} بدلُ اشتمالٍ من عبدَنا وأيُّوبَ عطفُ بيانٍ له {إِنّى} بأني {مَسَّنِىَ الشيطان} بفتح ياء مسنى وقرئ بإسكانِها وإسقاطِها {بِنُصْبٍ} أي تعب وقرئ بفتحِ النُّونِ وبفتحتينِ وبضمَّتينِ للتثقيلِ {وَعَذَابٍ} أي ألمٍ ووصبٍ يريدُ مرضَه وما كان يُقاسيه من فنونِ الشَّدائدِ وهو المرادُ بالضُّرِّ في قوله إنيِّ مسنى الضُّرُّ وهو حكايةٌ لكلامِه الذي ناداهُ به بعبارتِه وإلَاّ لقيلَ أنَّه مسَّه الخ والإسنادُ إلى الشَّيطان إمَّا لأنَّه تعالَى مسَّه بذلك لما فعل بوسوستِه كما قيل إنَّه أُعجب بكثرةِ مالِه أو استغاثه مظلومٌ فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزُه أو لامتحان صبره فيكون اعترافاً بالذَّنبِ أو
ص 42 44 مراعاةً للأدبِ أو لأنَّه وسوس إلى أتباعِه حتَّى رفضُوه وأخرجُوه من ديارِهم أو لأنَّ المرادَ بالنَّصَبِ ما كان يُوسوس به إليه في مرضِه من تعظيم ما نزل به من البلاءِ والقُنوطِ من الرَّحمةِ ويغريه على الكراهةِ والجَزَعِ فالتجأَ إلى الله تعالَى في أنْ يكفيه ذلك بكشفِ البلاءِ أو بالتوفيقِ لدفعِه وردِّه بالصَّبرِ الجميلِ وليس هذا تمامَ دعائِهِ عليه الصلاة والسلام بل من جُملتِه قولُه وانت ارحم الراحمين فاكتفى ههنا عن ذكرِه بما في سُورةِ الأنبياءِ كما تركَ هناك ذكرَ الشَّيطانِ ثقةً بما ذكرههنا وقوله تعالى
{اركض بِرِجْلِكَ} الخ إمَّا حكايةٌ لما قيل له أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضربْ بها الأرضَ وكذا قوله تعالى {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فإنَّه أيضاً إمَّا حكايةٌ لما قيل له بعدَ امتثالِه بالامر ونبوع الماءِ أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل فضربَها فنبعتْ عينٌ فقلنا له هذا مغتسلٌ تغتسلُ به وتشربُ منه فيبرأُ ظاهرُك وباطُنك وقيل نبعتْ عينانِ حارَّةٌ للاغتسالِ وباردةٌ للشُّربِ ويأباهُ ظاهرُ النظمِ الكريمُ وقوله تعالى
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} معطوفٌ على مقدَّرَ مترتبٍ على مقدَّرٍ آخرَ يقتضيه القولُ المقدَّرُ آنفاً كأنَّه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلكَ مابه من ضركما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهلَه إمَّا بإحيائِهم بعد هلاكِهم وهو المرويُّ عن الحسنِ أو بجمعِهم بعد تفرُّقِهم كما قيل {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} عطفٌ على أهلَه فكان له من الأولادِ ضِعفُ ما كان له قبل {رَحْمَةً مّنَّا} أي لرحمةٍ عظيمةٍ عليه من قبلنا {وذكرى لأُوْلِى الالباب} ولتذكيرهم بذلك ليصبروا عل الشَّدائدِ كما صبرَ ويلجأوا إلى الله عز وجل فيما يحيقُ بهم كما لجأ ليفعلَ بهم ما فعلَ به من حُسن العاقبةِ
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} معطوفٌ على اركُض أو على وهبنَا بتقديرِ قُلنا أي وقُلنا خذْ بيدِك الخ والأوَّلُ أقربُ لفظاً وهذا أنسبُ معنى فإنَّ الحاجةَ إلى هذا الأمرِ لا تمسُّ إلا بعد الصَّحةِ فإنَّ امرأتَه رحمةَ بنتَ افرايمَ بنِ يوسفَ وقيل ليَا بنتُ يعقوبَ وقيل ماصرُ بنتُ ميْشا بن يُوسفَ عليه السلام ذهبتْ لحاجةٍ فأبطأتُ فحلفَ إنْ برئ ليضربنَّها مائةً ضربة فأمرَه الله تعالى بأخذِ الضِّغثِ والضِّغثُ الحزمةُ الصَّغيرةُ من الحشيشِ ونحوِه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبضةٌ من الشَّجرِ وقال {فاضرب بّهِ} أي بذلك الضِّغثِ {وَلَا تَحْنَثْ} في يمينك فإنَّ البرَّ يتحققُ به ولقد شرعَ الله سبحانه هذه الرُّخصةَ رحمةً عليه وعليها الحسن خدمتِها إيَّاهُ ورضاهُ عنها وهي باقيةٌ ويجب أنْ يصيبَ المضروبَ كلُّ واحدٍ من المائةِ إما بأطرافِها قائمة أوبأعراضها مبسوطةً على هيئةِ الضَّربِ {إِنَّا وجدناه صَابِراً} فيما أصابَه في النَّفسِ والأهلِ والمالِ وليسَ في شكواهُ إلى الله تعالى إخلالٌ بذلك فإنَّه لا يُسمَّى جزَعاً كتمنِّي العافيةِ وطلب الشِّفاءِ على أنَّه قال ذلك خيفةَ الفتنةِ في الدِّينِ حيث كانُ الشَّيطانُ يوسوس الى قومه
ص 45 48 بأنَّه لو كانَ نبيَّاً لما ابُتلي بمثلِ ما ابُتلي به وإرادة القوَّة على الطَّاعةِ فقد بلغ أمرُه إلى أنْ لم يبقَ منه إلَاّ القلبُ واللِّسانُ ويُروى أنَّه عليه السلام قال في مناجاتِه إلهي قد علمتَ أنَّه لم يُخالفْ لساني قلبيَ ولم يتبع قلبي بصريَ ولم يهبني ما ملكتْ يميني ولم آكلْ إلا ومعي يتيم ولم أبتْ شبعانَ ولا كاسياً ومعي جائعٌ أو عريانُ فكشفَ الله تعالى عنه {نِعْمَ العبد} أي أيُّوبُ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليلٌ لمدحِه أيْ رجّاع إلى الله تعالى
{واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} عطفُ بيانٍ لعبادَنا وقرئ عبدَنا إمَّا على أنَّ إبراهيمَ وحدَهُ لمزيد شرفهِ عطفُ بيانٍ وقيل بدلٌ وقيل نُصبَ بإضمارِ أَعْنِي والباقيانِ عطفٌ على عَبدنا وإمَّا على أنَّ عبدَنا اسمُ جنسٍ وضعَ موضعَ الجمع {أُوْلِى الايدى والابصار} أُولي القوَّةِ في الطَّاعةِ والبصيرةِ في الدِّينِ أو أولي الأعمالِ الجليلةِ والعلومِ الشَّريفةِ فعبَّر بالأيدِي عن الأعمالِ لأنَّ أكثرَها تُباشر بها وبالأبصارِ عن المعارفِ لأنَّها أقوى مباديها وفيه تعريضٌ بالجَهَلةِ البطَّالينَ أنَّهم كالزمنى والعُماةِ وتوبيخٌ على تركِهم المجاهدةِ والتَّأمُّلِ مع تمكنهم منهما وقرئ أُولي الأيدِ بطرحِ الياءِ والاكتفاء بالكسر وقرئ أُولي الأيادِي على جمعِ الجمعِ
{إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ} تعليلٌ لما وُصفوا به من شرفِ العُبودَّيةِ وعلوِّ الرُّتبةِ في العلم والعمل أي جعلناهم خالصينَ لنا بخصلةٍ خالصةٍ عظيمةَ الشَّأنِ كما ينبئ عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ وقولُه تعالى {ذِكْرَى الدار} بيانٌ للخالصةِ بعد إبهامِها للتَّفخيم أي تذكرٍ للدَّارِ الآخرةِ دائماً فإنَّ خُلوصَهم في الطَّاعةِ بسببِ تذكُّرِهم لها وذلكَ لأنَّ مطمحَ أنظارِهم ومطرح أفكارِهم في كلِّ ما يأتونَ وما يذرون جوارُ الله عز وجل والفوزُ بلقائهِ ولا يتسنَّى ذلك إلَاّ في الآخرةِ وقيل أخلصناهُم بتوفيقِهم لها واللُّطفِ بهم في اختيارِها ويعضد الأولَ قراءةُ من قرأ بخالصتِهم وإطلاق الدَّارِ للإشعارِ بأنَّها الدَّارُ في الحقيقةِ وإنَّما الدُّنيا مَعْبرٌ وقرئ بإضافةِ خالصةٍ إلى ذِكرى أي بما خلُص من ذِكرى الدَّارِ عَلى مَعْنى أنهُم لا يشوبون ذكراهابهم آخرَ أصلاً أو تذكيرهم الآخرةَ وترغيبُهم فيها وتزهيدُهم في الدُّنيا كما هو شأنُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ ذِكرى الدَّارِ الثَّناءُ الجميلُ في الدُّنيا ولسانُ الصِّدقِ الذي ليس لغيرِهم
{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار} لمن المُختارين من أمثالِهم المصطَفَين عليهم في الخيرِ والأخيار جمعُ خَيْرٍ كشرَ وأشرارٍ وقيل جمعُ خَيِّرٍ أو خَيْرٍ مُخفَّفٍ منْهُ كأمواتٍ في جمعِ مَيِّتٍ ومَيْتٍ
{واذكر إسماعيل} فُصلَ ذكرُه عن ذكر أبيه وأخيه للإشعارِ بعراقتِه في الصَّبرِ الذي هُو المقصودُ بالتَّذكيرِ {واليسع} هو ابن خطوب بنِ العجوزِ استخلفَه الياسُ على بني إسرائيلَ ثم استنبئ واللامُ فيه حرفُ تعريفٍ دخلَ على يسع كما في قول من
ص 49 53 قال رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيد مباركا وقرئ واليسع كأنه أصله لَيْسع فَيْعل من اللَّسعِ دخلَ عليه حرفُ التَّعريفِ وقيل هو على القراءتينِ عَلَم أعجميٌّ دخل عليه اللامُ وقيل هو يُوشع {وَذَا الكفل} هو ابنُ عمِّ يسع أو بشر بن أيوب واختُلف في نبوَّتِه ولقبهِ فقيل فرَّ إليه مائةُ نبيَ من بني إسرائيلَ من القتل فآواهُم وكَفَلهم وقيل كُفل بعملِ رجلٍ صالحٍ كان يُصلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاة {وَكُلٌّ} أي وكلهم {من الأخيار} المشهور بن بالخبرية
{هَذَا} إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الآياتِ النَّاطقةِ بمحاسِنهم {ذُكرٌ} أي شَرفٌ لهم وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً أو نوعٌ من الذِّكرِ الذي هو القرآنُ وبابٌ منه مشتملٌ على أنباءِ الأنبياءِ عليهم السلام وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما هذا ذكرُ مَن مضى من الأنبياءِ وقولُه تعالى {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} شروع في بيان أجرِهم الجزيل في الآجلِ بعد بيان ذكرِهم الجميلِ في العاجلِ وهو بابٌ آخرُ من أبواب التَّنزيلِ والمرادُ بالمتَّقينَ إمَّا الجنسُ وهم داخلونَ في الحكم دُخولاً أوليَّاً وإما نفسُ المذكورين عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم بالتَّقوى التي هي الغايةُ القاصيةُ من الكمالِ
{جنات عَدْنٍ} عطفُ بيانٍ لحسنَ مآبٍ عندَ من يجوز تخالفهما تعريفها وتنكيراً فإنَّ عَدْناً مَعْرِفةٌ لقولِه تعالى جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ أو بدلٌ منه أو نصب على المدحِ وقولُه تعالى {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} حالٌ من جنَّاتِ عَدْنٍ والعاملُ فيها ما في للمتَّقين من معنى الفعلِ والأبوابُ مرتفعةٌ باسمِ المفعولِ والرَّابطُ بين الحالِ وصاحبِها إمَّا ضميرٌ مقدَّرٌ كما هو رأيُ البصريِّينَ أي الأبوابُ منها أو الألفُ واللَاّمُ القائمةُ مقامَه كما هو رأيُ الكوفيِّينَ إذِ الأصلُ أبوابُها وقُرئتا مرفوعتينِ على الابتداء والخبر أو على أنَّهما خبرانِ لمحذوفٍ أي هي جنَّاتُ عدنٍ هي مفتّحةٌ
{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا} حالٌ من ضميرِ لَهمُ والعاملُ فيها مفتَّحة وقولُه تعالى {يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} استئناف لبيان حالهم فيها وقيل هو أيضاً حالٌ مَّما ذُكر أو من ضمير متَّكئين والاقتصارُ على دعاءِ الفاكهةِ للإيذانِ بأنَّ مطاعَمهم لمحضِ التَّفكهِ والتَّلذذِ دُون التَّغذِّي فإنَّه لتحصيل بدلِ المتحلِّلِ ولا تحلَّلِ ثَمة
{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} أي على أزواجهنَّ لا ينظُرن إلى غيرِهم {أَتْرَابٌ} لداتٌ لهم فإنَّ التَّحابَّ بين الأقرانِ أرسخُ أو بعضهن لبعضٍ لا عجوزَ فيهنَّ ولا صبيَّةَ واشتقاقُه من التُّراب فإنَّه يمسُّهم في وقتٍ واحدٍ
{هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} أي لأجلِه فإنَّ الحسابَ علَّةٌ للوصولِ إلى الجزاء وقرئ بالياءِ ليوافقَ ما قبلَه
ص 54 59 والالتفاتُ أليقُ بمقامِ الامتنانِ والتَّكريمِ
{إِنَّ هَذَا} أي ما ذكر من ألوان النِّعم والكَرَاماتِ {لَرِزْقُنَا} أعطيناكموه {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} انقطاعٍ أبداً
{هذا} أي الأمرُ هذا أو هذا كما ذُكر أو هذا ذِكر وقوله تعالى {وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَآبٍ} شروع في بيان أضَّدادِ الفريق السَّابقِ
{جَهَنَّمَ} إعرابُه كما سلف {يَصْلَوْنَهَا} أي يدخلُونها حالٌ من جهنَّمَ {فَبِئْسَ المهاد} وهو المهدُ والمفرشُ مستعار من فراشِ النَّائمِ والمخصوص بالذمِّ محذوف وهو جهنَّم لقوله تعالى لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ
{هذا فَلْيَذُوقُوهُ} أي ليذوقُوا هذا فليذوقُوه كقوله تعالى وإياى فارهبون أو العذابُ هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأٌ خبرُه {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وما بينهما اعتراضٌ وهو على الأولين خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هو حميم والغسَّاقُ ما يغسِق من صديدِ أهلِ النَّارِ من غسَقتِ العينُ إذا سال دمعُها وقيل الحميمُ يحرقُ بحرِّه والغسَّاقُ يحرقُ ببردِه وقيل لو قَطرت منه قطرةٌ في المشرقِ لنتَّنتْ أهلَ المغربِ ولو قَطرت قطرةٌ في المغرب لنتنت أهلَ المشرقِ وقيل الغسَّاقُ عذابٌ لا يعلمه إلَاّ الله تعالى وقُرىء بتخفيفِ السين
{وآخر مِن شَكْلِهِ} أي ومذوقٌ آخرُ أو عذابٌ آخرُ من مثل هذا المذوقِ أو العذابِ في الشِّدَّةِ والفظاعةِ وقُرىء وأُخَرُ أي ومذوقاتٌ أخَرُ أو أنواع عذابٍ أُخر وتوحيدُ ضميرِ شكله بتأويلِ ما ذُكر أو الشَّرابُ الشَّاملُ للحميمِ والغسَّاقِ أو هو راجعٌ إلى الغسَّاقِ {أزواج} أي أجناس وهو خبر لآخر لانه يجوز أن يكون ضروباً أو صفةٌ له أو للثلاثة أو مرتفعٌ بالجار والخبرُ محذوفٌ مثلُ لهم
{هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} حكاية ما يقال من جهة الخَزَنةِ لرُؤساء الطَّاغينَ إذا دخلوا النَّارَ واقتحمها معهم فوجٌ كانوا يتبعونهم في الكُفرِ والضَّلالةِ والاقتحامُ الدُّخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ قال الرَّاغبُ الاقتحامُ توسُّطُ شدَّةٍ مخيفةٍ وقولُه تعالى {لَا مَرْحَباً بِهِمْ} من اتمام كلام الخزنة بطريق الدُّعاءِ على الفوجِ أو صفةٌ للفوجِ أو حالٌ منه أي مقولٌ أو مقولاً في حقِّهم لا مرحباً بهم أي لا اتوا مرحبا اولا رحُبتْ بهم الدَّار مرحباً {إنهم صالوا النار} تعليل من جهةِ الخَزَنةِ لاستحقاقهم الدُّعاءِ عليهم أو وصفهم بما ذُكر وقيل لا مرحباً بهم إلى هنا كلامُ الرُّؤساءِ في حقَ أتباعِهم عند خطاب الخَزَنة لهم باقتحام الفوجِ معهم تضجُّراً من مقارنتهم
ص 60 63 وتنفُّرا من مصاحبتِهم وقيل كلُّ ذلك كلامْ الرُّؤساءِ بعضهم مع بعض في حقِّ الأتباعِ
{قَالُواْ} أي الأتباعُ عند سماعِهم ما قيل في حقِّهم ووجه خطابهم للرُّؤساءِ في قولهم {بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ} الخ على الوجهينِ الأخيرينِ ظاهرٌ وأمَّا على الوجهِ الأولِ فلعلَّهم إنَّما خاطبُوهم مع أنَّ الظَّاهرَ أنْ يقولُوا بطريقِ الاعتذارِ إلى الخَزَنةِ بل هُم لا مرحباً بهم الخ قَصْداً منهم إلى إظهارِ صدقِهم بالمُخاطبةِ مع الرُّؤساءِ والتَّحاكمِ إلى الخَزَنةِ طمعاً في قضائِهم بتخفيفِ عذابِهم أو تضعيفِ عذابِ خُصَمائهم أي بل أنتم أحقُّ بما قيلَ لنا أو قلتُم وقولُه تعالى {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليلٌ لأحقِّيتهم بذلك أي أنتمُ قدَّمتم العذابَ أو الصِّلِيَّ لنا وأوقعتُمونا فيه بتقديمِ ما يُؤدِّي إليه من العقائد الزائفة والأعمالِ السَّيئةِ وتزيينها في أَعُيننا وإغرائِنا عليها لا انا باشرنَاها من تلقاءِ أنفسنا {فَبِئْسَ القرار} أي فبئسَ المقرُّ جهنَّم قصدُوا بذمِّها تغليظَ جنايةِ الرُّؤساءِ عليهم
{وقالوا} أي الأتباعُ أيضاً وتوسيطُه بين كلاميهم لما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ ذاتاً وخِطِاباً أي قالُوا مُعرضين عن خصومتِهم متضرِّعين إلى الله تعالى {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار} كقولِهم رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فآتهم عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار أي عذاباً مُضاعفاً أي ذا ضعفٍ وذلك بأنْ يزيدَ عليه مثلَه ويكون ضعفين كقوله ربنا آتهم ضعفين من العذاب او قيل المرادُ بالضِّعفِ الحيَّاتُ والأَفَاعي
{وَقَالُواْ} أي الطَّاغُون {مَا لَنَا لَا نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار} يعنون فقراءَ المُسلمينَ الذين كانُوا يسترذلونَهم ويسخرُون منهم
{أتخذناهم سِخْرِيّاً} بهمزةِ استفهامٍ سقطت لاجعلها همزةُ الوصل والجملةُ استئنافٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ قالُوه إنكاراً على أنفسِهم وتأنيباً لها في الاستسخارِ منهم {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار} متَّصلٌ باتَّخذناهم على أنَّ أم متَّصلة والمعنى أيَّ الأمرينِ فعلنَا بهم الاستسخارُ منهم أم الازدراءُ بهم وتحقيرُهم وإنَّ أبصارَنا كانت تزيغُ عنهم وتقتحمُهم على معنى إنكارِ كلِّ واحدٍ من الفعلينِ على أنفسهم توبيخاً لها أو على أنَّها منقطعةٌ والمعنى أتخذناهم سخرياً بل أزاغتْ عنهم أبصارُنا كقولك أزيدٌ عندك أم عندَك عمروٌ على معنى توبيخِ أنفسِهم على الاستسخارِ ثمَّ الإضرابُ والانتقالُ منه إلى التَّوبيخِ على الازدراءِ والتَّحقيرِ وقُرىء اتَّخذناهم بغير همزةٍ على أنه صفةٌ أخرى لرجالاً فقوله تعالى أمْ زاغت متصل بقوله مالنا لانرى والمعنى مالنا لانراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم أم زاغتْ عنهم أبصارُنا وهم فيها وقد جُوِّز أن تكون الهمزةُ مقدَّرةٌ على هذه القراءةِ وقُرىء سُخريا بضمِّ السين
ص
70 -
71 {إِنَّ ذلك} أي الذي حكى من احوالهم {الحق} لا بد من وقوعه البتةَ وقوله تعالى {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لذلك وفي الإبهامِ أوَّلاً والتَّبيينِ ثانياً مزيدُ تقريرٍ له وقيل بدلٌ من محلِّ ذلك وقيل بدلٌ من حقٌّ أو عطفُ بيانٍ له وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من ذلكَ وما قيل من أنَّه صفةٌ له فقد قيل عليه إنَّ اسمَ الإشارةِ لا يُوصف إلا بالمعرَّفِ باللامِ يقال بهذا الرَّجلَ ولا يقال بهذا غلامِ الرَّجلِ
{قُلْ} أمرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ للمشركينَ {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} من جهتهِ تعالى أنذرُكم عذابَه {وَمَا مِنْ إله} في الوجودِ {إِلَاّ الله الواحد} الذي لا يقبل الشِّركِةَ والكثرةَ أصلاً {القهار} لكلِّ شيءٍ سواه
{رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منْ المخلوقاتِ فكيف يُتوهّم أن يكونَ له شريكٌ منها {العزيز} الذي لا يُغلب في أمرٍ من أمورِه {الغفار} المبالغ في المغفرة يغفرُ ما يشاء لمَن يشاء وفي هذه النُّعوت من تقرير التَّوحيدِ والوعد للموحِّدين والوعيد للمشركين مالا يخفى وتثنيةُ ما يُشعر بالوعيد من وصفَيْ القهرِ والعزَّةِ وتقديمهما على وصفِ المغفرةِ لتوفية مقامَ الإنذارِ حقَّه
{قُلْ} تكريرُ الأمر للإيذانِ بأنَّ المقولَ أمرٌ جليلٌ له شأن خطير لابد من الاعتناء به أمراً وائتماراً {هُوَ} أي ما أنبأتُكم به من أنِّي منذر من جهته تعالى وانه تعالى واحد لاشريك له وأنه متَّصفٌ بما ذكر من الصفات الجليلة والأظهرُ أنَّه القرآنُ وما ذُكر داخلٌ فيه دُخولاً أوليّاً كما يشهد به آخر السُّورةِ الكريمة وهو قولُ ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ {نَبَأٌ عَظِيمٌ} واردٌ من جهتِه تعالى وقوله تعالى
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} استئنافٌ ناعٍ عليهم سوءَ صنيعهم به ببيان أنَّهم لا يقدِّرون قدرَه الجليلَ حيث يُعرضون عنه مع عظمته وكونه موجبا للافبال الكلي عليه وتلقِّيه بحسن القَبول وقيل صفةٌ أُخرى لنبأٌ وقولُه تعالى
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى} الخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ أنَّه نبأ عظيم واردٌ من جهته تعالى بذكر نبأٍ من أنبائهِ على التَّفصيل من غير سابقةِ معرفةٍ به ولا مباشرةِ سببٍ من أسبابِها المعتادةِ فإنَّ ذلك حجَّةٌ بينةٌ دالَّةٌ على أن ذلك بطريق الوحيِ من عند الله تعالى وان سائر انبائه أيضاً كذلك والملأُ الأعلى هم الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ عليه اللَّعنةُ وقوله تعالى {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} متعلِّق بمحذوفٍ يقتضيه المقام إذِ المراد نفيُ علمِه عليه الصلاة والسلام بحالهم
ص 70 71 لا بذوانهم والتَّقديرُ ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحالِ الملأ الأعلى وقتَ اختصامِهم وتقديرُ الكلامِ كما اختاره الجمهورُ تحجيرٌ للواسعِ فإنَّ علمه عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوالِ فقط بل عامٌّ لها وللأفعال أيضاً من سجودِ الملائكة واستكبارِ إبليسَ وكفره حسبما ينطلق به الوحيُ فلا بُدَّ من اعتبارِ العمومِ في نفيِه أيضاً لا محالةَ وقولُه تعالَى
{إِن يوحى إِلَىَّ إِلَاّ أنما أنا نذير مبين} اعتراض وسط بين إجمال اختصامِهم وتفصِيله تقريراً لثُبوتِ علمه عليه الصلاة والسلام وتعييناً لسببه إلَاّ أنَّ بيانَ انتفائِه فيما سبق لمَّا كانَ منبئاً عن ثبوتِه الآن ومن البيِّن عدمُ ملابستِه عليه الصلاة والسلام بشئ من مباديه المعهودةِ تعين أنَّه ليس إلا بطريقِ الوحي حتما فجعل ذلك أمراً مسلَّم الثُّبوتِ غنيّاً عن الإخبارِ به قَصْداً وجعل مصبَّ الفائدةِ والمقصودَ إخبارَ ما هو داعٍ إلى الوحيِ ومصحِّحٌ له تحقيقَا لقوله تعالى إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ في ضمن تحقيقِ علمهِ عليه الصلاة والسلام بقصَّة الملأ الأعلى فالقائمُ مقامَ الفاعلِ ليُوحى إمَّا ضميرٌ عائدٌ إلى الحال المقدر أو ما يعمُّه وغيرَه فالمعنى ما يُوحى إلى حالِ الملأ الأعلى أو ما يوحى إلي ما يُوحى من الأمورِ الغيبيَّةِ التي من جُملِتها حالُهم إلَاّ لأنما أنا نذيرٌ مبين من جهته تعالى فإنَّ كونَه عليه الصلاة والسلام كذلك من دَوَاعي الوحي إليه ومن موجباتِه حتماً وأمَّا أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ أو هو أنما أنا نذير مبين بلا تقدير الجارِّ وأنَّ المعنى ما يُوحَى إليَّ إلَاّ للإنذارِ أو ما يوحى إلي إلا أنْ أنذر وأبلغَ ولا أفرِّط في ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرارِ إلى التَّكلُّفِ في توجيه قصرِ الوحي على كونِه للإنذارِ في الأوَّلِ وقصره على الأنذارِ في الثَّاني فلا يساعدُه سِباقُ النظم الكريم وسياقه كيف لا والاعتراضُ حينئذٍ يكون أجنبيّاً ممَّا توسَّط بينهما من إجمالِ الاختصامِ وتفصيلِه فتأمَّلُ والله المرشدُ وقرئ إِنَّما بالكسرِ على الحكايةِ وقولُه تعالَى
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاولِ وحيث كان تكليمُه تعالى إيَّاهم بواسطةِ المَلكِ صحَّ إسنادُ الاختصامِ إلى الملائكةِ وإذْ بدلٌ مِن إذِ الأولى وليس من ضرورة البدليَّةِ دخولُها على نفس الاختصامِ بل يكفي اشتمالُ ما في حيِّزها عليه فإنَّ القصَّة ناطقةٌ بذلك تفصيلاً والتَّعرُّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وحيَ هذا النبأ إليه تربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصلاة والسلام والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ لكونِه أدلَّ على كونِه وحياً منزَّلاً من عنده تعالى كما في قوله تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل ربِّي لأنَّه داخلٍ في حيِّز الأمرِ {إِنّى خالق} أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ {بَشَرًا} قيل أي جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر وقيل خَلْقاً بادي البشرةِ بلا صوفٍ ولا شعرٍ ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلاً عن تسميتِه به بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ {مِن طِينٍ} لم يتعرض
ص 72 75 لأوصافِه من التَّغيرِ والاسودادِ والمسنونيَّةِ اكتفاءً بما ذُكر في مواقعَ أُخرَ
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طائعه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالحٍ لإمساكِها والامتلاءِ بها وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيل لافاضة مابه الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيا به من الرُّوحِ التي هي من أمري {فَقَعُواْ لَهُ} أمرٌ من وقعَ وفيه دليلٌ على أنَّ المأمور به ليس مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له {سَاجِدِينَ} تحَّيةً له وتكريماً
{فسجد الملائكة} أي فخلفه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد له الملائكةُ {كُلُّهُمْ} بحيث لم يبقَ منهم أحدٌ إلَاّ سجدَ {أَجْمَعُونَ} أي بطريقِ المعيةِ بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيد التَّأكيدُ أيضاً وقيل أُكِّد بتأكيدين مبالغة في التعمم هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التعلبقي كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الحجرِ فإنَّ ظاهرَهُما يستدعِي ترتُّبه عليه من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شيءٌ غير ما يفصحُ عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتسويةِ ونفخِ الرُّوحِ أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يقتضيه ما في سُورة البقرةِ وما في سُورةِ الأعرافِ وما في سُورة بني إسرائيلَ وما في سُورةِ الكهفِ وما في سُورة طه من الآياتِ الكريمةِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله عز وجل في سُورةِ البقرةِ وسُورة الأعرافِ
{إِلَاّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكةِ موصُوفاً بصفاتِهم فغلبُوا عليه ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ الملائكةِ جنساً يتوالدُون وهو منُهم أو منقطعٌ وقولُه تعالى {استكبر} على الأوَّلِ استئنافٌ مبينٌ لكيفيَّةِ تركِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإنَّ تركَه يحتملُ أن يكونَ للتَّامُّل والتروِّي وبه يتحقق أنَّه للإباءِ والاستكبارِ وعلى الثَّاني يجوزُ اتِّصالُه بما قبله أي لكنْ إبليسُ استكبرَ {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي وصارَ منهم بمخالفتِه للأمرِ واستكبارِه عن الطَّاعةِ أو كان منهم في علمِ الله تعالى عزَّ وجلَّ
{قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصلاة والسلام المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْداً إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ {أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الإنكارِ وطرحِ همزةِ الوصلِ أي أتكبَّرتَ من غيرِ استحقاقٍ {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} المستحقِّين للتَّفوقِ وقيل أستكبرتَ الآنَ أم لم تزلْ منذ كنتَ من المستكبرينَ وقُرىء بحذفِ همزةِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ أمْ عليها
ص 76 80 وقولُه تعالى
{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وقولُه تعالَى {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه الصلاة والسلام ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجودِه عليهم السلام حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} الفاءُ لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام بعد هذا الطَّردِ وقد بُيِّن كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرةِ وقيل اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَناً وأظلمَ بعد ما كان نورانياً وقوله تعالى {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ فإنَّ مَن يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} أي إبعادي عن الرَّحمةِ وتقييدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضاً من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ {إلى يَوْمِ الدين} أي يومَ الجزاء والعقوبةِ وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتِها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرّاً إلى ذلك اليومِ لكنْ لَا على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يُرى إلى قوله تعالي فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين وقوله تعالى وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضاً
{قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلنِي وأخِّرني والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي اذا جعلتني رَجيماً فأمهلني ولا تُمِتْني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يشعر
ص 81 85 بكونِ السائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظارٍ خاصَ به قد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسئول فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قول من قال فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ فإنَّه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربطِ ماله تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاءُ في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكون له مقامٌ بقتضيه مغايرٌ لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلَاّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهُو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلاً عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى فبما أغويتني وقوله رب بما أغويتى فإنَّ إغواءَه تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ذريةَ آدمَ بتزيينِ المَعَاصي لهم
{إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغواية وقرئ المخلِصين على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى
{قَالَ} أي الله عز وجل {فالحق والحق أَقُولُ} برفع الأوَّلِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أو خبرٌ محذوفُ المبتدأِ ونصبِ الثَّاني على أنَّه مفعولٌ لما بعدَهُ قُدِّم عليه للقصرِ أي لا أقولُ إلَاّ الحقَّ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي فالحقُّ قَسَمي
{لأَمْلَانَّ جَهَنَّمَ} على أنَّ الحقَّ إمَّا اسمُه تعالى
ص 86 88 أو نقيضُ الباطلِ عظّمه الله تعالى بإقسامِه به أو فأنا الحقُّ أو فقولِي الحقُّ وقوله تعالى لأَمْلَانَّ جَهَنَّمَ الخ حينئذٍ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي والله لأملأنَّ الخ وقوله تعالى والحق أَقُولُ على كلِّ تقديرٍ اعتراضٌ مقرِّرٌ على الوجهينِ الأوَّلينِ لمضمونِ الجملةِ القَسَميَّةِ وعلى الوجِه الثَّالثِ لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ أعني فقولي الحقُّ وقُرئا منصوبينِ على أنَّ الأوَّلَ مقسمٌ به كقولِك الله لأفعلنَّ وجوابُه لأملأنَّ وما بينهما اعتراضٌ وقُرئا مجرورينِ على أن الأول مقسم به قد أُضمرَ حرفُ قسمِه كقولِك الله لأفعلنَّ والحقَّ أقولَ على حكايةِ لفظِ المقسمِ به على تقديرِ كونِه نقيضَ الباطلِ ومعناه التاكيد والتشديد وقرئ بجرِّ الأَولِ على إضمارِ حرفِ القسمِ ونصبِ الثَّانِي عل المفعوليَّةِ {مِنكَ} أي من جنسِك من الشَّياطينِ {وَمِمَّن تبعك} في الغواية والإضلال {منهم} ومن ذريةِ آدمَ {أَجْمَعِينَ} تأكيدٌ للكافِ وما عُطف عليه أي لأملأنَّها من المتبوعينَ والأتباعِ أجمعينَ كقولِه تعالى لمن اتبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا القولُ هو المرادُ بقوله تعالى ولكن حَقَّ القول مِنْى لَامْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وحيثُ كان مناطُ الحكمِ ههُنا اتِّباعُ الشَّيطانِ اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ في قولِه تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا اتباعُ الكَفَرةِ للشَّيطانِ بُسوءِ اختيارِهم لا تحقُّقُ القولِ فليس في ذلك شائبةُ الجبرِ فتدبَّر
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على القُرآنِ أو على تبليغِ ما يُوحى إليَّ {مِنْ أَجْرٍ} دنيويَ {وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} أي المتصنعين مما ليسُوا من أهلِه حتَّى أنتحلَ النبوة وأتقوَّلَ القُرآنَ
{إِنْ هُوَ} أي مَا هُو {إِلَاّ ذِكْرٌ} من الله عز وجل {للعالمين} أي للثَّقلينِ كافَّةً
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي ما أنبأ بهِ من الوعدِ والوعيدِ وغيرِهما أو صحَّةَ خبرهِ وأنَّه الحقُّ والصِّدقُ {بَعْدَ حِينِ} بعد الموتِ أو يوم القيامة أوعند ظهور الإسلام وفسوه وقيل من بقى علمَ ذلك أذا ظهرَ أمرُه وعلَا ومَن ماتَ علمَهُ بعدَ الموتِ وفيه من التهديد ما لا يَخْفى عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ ص كانَ له بوزنِ كلِّ جبلٍ سخَّره الله لداودَ عشرَ حسناتٍ وعُصم أنْ يُصرَّ على ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ وقال أبُو أمامةَ عصمَه الله تُعالى مِنْ كلِّ ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ والله أعلمُ
سورة الزمر 1 3
سورة الزمر مكية إلا قوله قل يا عبادي الآية وآياتها خمس وسبعون آية
{تَنزِيلُ الكتاب} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو اسمُ إشارةٍ أُشير به إلى السُّورةِ تنزيلاً لها منزلةَ الحاضر المُشارِ إليه لكونها على شرف الذِّكرِ والحضورِ كما مرَّ مراراً وقد قيل هو ضميرٌ عائد إلى الذكرُ في قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ للعالمين وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز الحكيم} صلة للتَّنزيلِ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من التَّنزيلِ عاملُها معنى الإشارة أو من الكتابِ الذي هو مفعولٌ معنى عاملُها المضاف وقيل هو خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ والوجهُ الأَوَّلُ أو في بمقتضى المقامِ الذي هو بيانُ أنَّ السُّورةَ أو القُرآنَ تنزيلُ الكتابِ مِنَ الله تعالى لا بيانُ أنَّ تنزيلَ الكتابِ منه تعالى لا من غيرِه كما يفيده الوجهُ الأخير وقرئ تنزيلَ الكتابِ بالنَّصبِ على إضمار فعلِ نحو اقرأْ أو الزم والتعرض لو صفى العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتاب بحريان أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ وقولُه تعالى
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} شروعٌ في بيانِ شأنِ المنزَّلِ إليه وما يجبُ عليه إثرَ بيانِ شأن المنَّزلِ وكونِه من عند الله تعالى والمرادُ بالكتاب هو القُرآنُ وإظهاره على تقدير كونِه هو المرادَ بالأَوَّلِ أيضاً لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنِه والباء إمَّا متعلِّقةٌ بالإنزال أي بسبب الحقِّ وإثباته وإظهارِه أو بداعية الحقِّ واقتضائه للإنزالِ وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من نون العظمةِ أو من الكتاب أي أنزلناهُ إليك محقِّين في ذلك أو أنزلناه مُلتبِساً بالحقِّ والصواب أي كلُّ ما فيه حقٌّ لا ريبَ فيه موجبٌ للعمل به حَتْماً والفاءُ في قوله تعالى {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُيِّن في تضاعيفِ ما أنزل إليك وقرئ برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللَاّمِ والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ وقوله تعالى
الزمر 4 استئناف مقرر لما قبله من الأمرِ بإخلاص الدِّينِ له تعالى ووجوبِ الامتثالِ به وعلى القراءةِ الأخيرةِ مؤكِّدٌ لاختصاصِ الدِّينِ به تعالى أي أَلَا هو الذي يجبُ أنْ يُخصَّ بإخلاصِ الطَّاعةِ له لأنَّه المُتفرِّدُ بصفاتِ الأُلوهيَّةِ التي من جملها الاطِّلاعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ وقولُه تعالى {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} تحقيقٌ لحقِّيةِ ما ذُكر من إخلاص الدِّينِ الذي هو عبارةٌ عن التَّوحيدِ ببيان بُطلان الشِّركِ الذي هو عبارةٌ عن ترك إخلاصِه والموصولُ عبارةٌ عن المُشركين ومحله الرفع على الابتداء خبره مما سيأتي من الجُملةِ المُصدَّرةِ بأنْ والأولياءُ عن الملائكةِ وعيسى عليهم السلام والأصنامِ وقولُه تعالى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زُلْفَى} حالٌ بتقدير القَول من واو اتخذوا مبينة لكيفيَّةِ إشراكِهم وعدمِ خُلوصِ دينهم والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل وزُلْفى مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير لفظِ المصدرِ ملاقٍ له في المعنى أي والذينَ لم يُخلصوا العبادةَ لله تعالى بل شابُوها بعبادةِ غيره قائلين ما نعبدهم لشئ من الأشياءِ إِلَاّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله تعالى تقريباً {إن الله يحكم بينهم} أي وبين خصمائِهم الذين هم المُخلِصون للدِّين وقد حُذفَ لدلالةِ الحالِ عليهِ كما في قولِهِ تعالى لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ على أحدِ الوجهينِ أي بين أحدٍ منهم وبين غيرِه وعليه قول النَّابغةِ
…
فمَا كانَ بين لخير لو جاءَ سالما
…
أبُو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ
…
أي بين الخيرِ وبينِي وقيل ضمير بينَهم للفريقينِ جميعاً {فِيمَا هم فيه يختلفون} من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هَذَا هُو الذي يستدعيه مساقُ النَّظمِ الكريم وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلاً على دلالة المساقِ عليهم ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافاً مُحوِجاً إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة وقرئ قالُوا ما نعبدُهم فهو بدل من الصلة لا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبار بذلك مزيد مزية وقرئ ما نعبدكم إلَاّ لتُقرِّبونا حكايةً لما خاطبُوا به آلهتهم وقرئ نعبدُهم إتباعاً للباء {إِنَّ الله لَا يَهْدِى} أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ {مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغييرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى
{لو أراد الله أن يَتَّخِذَ وَلَداً} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتحقيقِ الحقِّ وإبطالِ القولِ بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله عيسى ابنُه تعالى عن ذلكَ عُلَّواً كبيراً ببيانِ استحالةِ اتخاذ الولد في حقه تعالى على الإطلاقِ ليندرجَ فيه استحالة
الزمر 5 ما قبل اندراجا أوليا أي لو أراد الله أنْ يتَّخذَ وَلَداً {لاصطفى} أي لاتَّخذَ {مِمَّا يَخْلُقُ} أي من جملة ما يخلقُه أو من جنس ما يخلقه {مَا يَشَاء} أنْ يتَّخذَه إذْ لا موجودَ سواهُ إلَاّ وهو مخلوقٌ له تعالى لامتناعِ تعدُّدِ الواجبِ ووجوبِ استنادِ جميعِ ما عداهُ إليه ومن البيِّنِ أنَّ اتِّخاذَ الولد منوطٌ بالمماثلة بين المتَّخِذِ والمتَّخَذِ وأنَّ المخلوقَ لا يُماثل خالقَه حتَّى يمكن اتِّخاذُه ولداً فما فرضناه اتِّخاذَ ولدٍ لم يكُن اتِّخاذَ ولدٍ بل اصطفاءُ عبدٍ وإليه أُشير حيث وُضع الاصطفاءُ موضع الاتِّخاذِ الذي تقتضيهِ الشَّرطَّيةُ تنبيهاً على استحالةِ مُقدمها لاستلزم فرض وقوعِه بل فرضِ إراد وقوعِه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أنْ يتَّخذَ ولداً لفعل شيئاً ليس هو من اتِّخاذِ الولد في شئ أصلاً بل إنَّما هو اصطفاءُ عبدٍ ولا ريب في أنَّ ما يستلزم فرضُ وقوَعه انتفاءَه فهو ممتنعٌ قطعاً فكأنَّه قيل لو أراد الله أن يتَّخذَ ولداً لامتنع ولم يصح لكن لاعلى أنَّ الامتناعَ منوطٌ بتحقُّقِ الإرادة بل على أنَّه مُتحقِّقٌ عند عدمِها بطريقِ الأَولوَّيةِ على منوال لو لم يخَفِ الله لم يعصِه وقوله تعالى {سبحانه} تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به على أن السبحان مصدر من سبَح إذا بعُد أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه وقولُه تعالى {هُوَ الله الواحد القهار} استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً وكذا وصف القهَّاريَّةِ لما أنَّ اتخاذَ الولدِ شأنُ مَن يكون تحتَ ملكوتِ الغيرِ عُرضةً للفناءِ ليقومَ ولدُه مقامَه عند فنائِه ومَن هو مستحيلُ الفناءِ قهَّارٌ لكلِّ الكائناتِ كيفَ يُتصوُرُ أنْ يتَّخذَ من الأشياءِ الفانيةِ ما يقومُ مقامَه وقولُه تعالى
{خلق السماوات والارض بالحق} تفصيلٌ لبعض أفعاله تعالى الدالة على تفرُّدِه بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلة أي خلقهما وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجودات ملتبِسة بالحقِّ والصَّوابِ مشتملة عل الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى {يكور الليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار على الليل} بيانٌ لكيفيَّةِ تصرُّفةِ تعالى فيهما بعد بيان خلقِهما فإنَّ حدوثَ اللَّيلِ والنَّهارِ في الأرض منوطٌ بتحريك السَّمواتِ أي يغشى كلُّ واحدٍ منُهما الآخَرَ كأنَّه يلفه عليه لفَّ اللباسِ على اللَاّبسِ أو يُغيبه به كما يُغيَّبُ الملفوفُ باللفامة أو يجعله كارَّاً عليه كُروراً متتابعاً تتابع أكوارِ العمامةِ وصيغةُ المضارع للدِّلالةِ على التَّجدُّدِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جعلهما منقادينِ لأمرِه تعالى وقولُه تعالى {كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى} بيانٌ لكيفيَّةِ تسخيرِهما أي كلٌّ منهما يجري لمُنتهى دورتِه أو منقطعِ حركتِه وقد مرَّ تفصيلُه غيرَ مرَّةٍ {إِلَاّ هُوَ العزيز} الغالبُ القادر على كل شئ من الأشياء التي من جُملتها عقابُ العُصاةِ {الغفار} المبالغُ في المغفرةِ ولذلك لا يُعاجل بالعقوبةِ وسلب ما في هذه الصَّنائعِ البديعة من آثارِ الرَّحمةِ وتصدير
الزمر 6 الجملة بحرفِ التَّنبيهِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها
{خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر وتركُ عطفِه على خلقِ السَّمواتِ للإيذانِ باستقلالِه في الدِّلالةِ ولتعلُّقِه بالعالم السفلى والبداءة بخلق الإنسانِ لعراقتِه في الدِّلالةِ لما فيه من تعاجيبِ آثارِ القُدرةِ وأسرارِ الحكمةِ وأصالتِه في المعرفةِ فإنَّ الإنسانَ بحالِ نفسِه أعرفُ والمرادُ بالنَّفسِ نفسُ آدمَ عليه السلام وقولُه {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطفٌ على محذوفٍ هو صفةٌ لنفس أي منْ نفسٍ خلقَها ثمَّ جعل منها زَوْجَها أو على معنى واحدةٍ أي من نفسٍ وحدت ثم جعل منها زوجها فشَفَعها أو على خلقكم لتفاوتِ ما بينهما في الدِّلالةِ فإنَّهما وإن كانتا آيتينِ دالتَّينِ على ما ذُكر لكن الأُولى لاستمرارِها صارتْ معتادةً وأما الثَّانيةُ فحيثُ لم تكن معتادةً خارجةً عن قياسِ الأولى كما يُشعر به التعبيرُ عنها بالجعلِ دون الخلقِ كانت أدخلُ في كونِها آيةً وأجلبَ للتَّعجُّبِ من السَّامعِ فعطفت على الأولى بثمَّ دلالةً على مباينتِها لها فضلاً ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادةِ كونِها آيةً فهو من التَّراخي في الحالِ والمنزلةِ وقيل أخرج ذريَّةَ آدمَ من ظهرهِ كالذَّرِّ ثم خلقَ منه حواء ففيهِ ثلاثُ آياتٍ مترتِّبة خلقُ آدم عليه السلام بلا أبٍ وأمَ وخلقُ حوَّاءَ من قُصيراه ثم تشعيبُ الخلقِ الفائتِ للحصرِ منهما وقوله تعالى {وَأَنزَلَ لَكُمْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر أي قضى أو قسَم لكم فإنَّ قضاياهُ وقسمه تُوصف بالنُّزولِ من السَّماءِ حيثُ تُكتب في اللوحِ المحفوظِ أو أحدثَ لكم بأسبابٍ نازلةٍ من السَّماءِ كالأمطارِ وأشعَّةِ الكواكبِ {مّنَ الانعام ثمانية أزواج} ذكراً وأُنثى هي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعَزِ وقيل خلقَها في الجنَّةِ ثمَّ أنزلها وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر فإنَّ كونِ الإنزالِ لمنافعِهم وكونَه من الجهةِ العاليةِ من الأمورِ المهمة المشوفة إلى ما أُنزل لا محالةَ وقولُه تعالَى {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ خلقِهم وأطواره المختلفةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ وصيغة المضارعِ الدلالة على التَّدرجِ والتَّجدُّدِ وقولُه تعالى {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} مصدرٌ مؤكد أي يخلقكُم فيها خلقاً كائناً من بعدِ خلقٍ أي خلقاً مدرجاً حيواناً سَوياً من بعد عظام مكسوَّةٍ لحماً من بعد عظامٍ عارية من بعد مضع مخلَّقةٍ من بعد مضغ غير مخلَّقةٍ من بعد علقةٍ من بعد نُطفةٍ {فِى ظلمات ثلاث} متعلِّق بيخلقُكم وهي ظُلمة البطن وظُلمة الرَّحمِ وظُلمة المشيمةِ أو ظُلمة الصُّلبِ والبطنِ والرَّحِمِ {ذلكم} إشارة إليه تعالى باعتبارِ أفعالِه المذكورةِ وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ ببُعد منزلتِه تعالى في العظمةِ والكبرياءِ ومحله الرفع على الابتداء أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي عددت أفعاله {الله} وقوله تعالى {رَبُّكُمْ} خبرا آخر أي مرببكم فيما ذُكر من الأطوارِ وفيما بعدَها ومالككم المستحقُّ لتخصيصِ العبادةِ به {لَهُ الملك} على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ
الزمر 7 8 من الوجوهِ والجملةُ خبرٌ آخرُ وكذا قولُه تعالى {لَا إله إِلَاّ هو} والفاء في قوله تعالى {فأنى تُصْرَفُونَ} لترتيبِ ما بعدَها على ما ذُكر من شئونه تعالى أي فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه تعالى مع وفورِ موجباتِها ودواعيها وانتفاءِ الصَّارفِ عنها بالكُلِّيةِ إلى عبادةِ غيرِه من غير داعٍ إليها مع كثرة الصَّوارفِ عنها
{إِن تَكْفُرُواْ} به تعالى بعد مشاهدةِ ما ذُكر من فنونِ نعمائِه ومعرفةِ شئونه العظيمةِ الموجبةِ للإيمانِ والشُّكرِ {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي فاعلمُوا أنَّه تعالى غنيٌّ عن إيمانِكم وشكركم غيرُ متأثِّرٍ من انتفائهما {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي عدمُ رضاه بكفر عباده لأجل منفعتِهم ودفعِ مضرَّتِهم رحمةً عليهم لا لتضرُّرهِ تعالى به {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشُّكرَ لأجلكم ومنفعتكم لأنَّه سببٌ لفوزكم بسعادة الدَّارينِ لا لانتفاعه تعالى به وإنَّما قيل لعباده لا لكُم لتعميم الحكمِ وتعليله بكونهم عبادَه تعالى وقرئ بإسكانِ الهاءِ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} بيانٌ لعدم سرايةِ كفر الكافر إلى غيرِه أصلاً أي لا تحملُ نفسٌ حاملة للوزر حملَ نفسٍ أخرى {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} بالبعث بعد الموت {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ذلك {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنتُم تعملونَه في الدُّنيا من أعمال الكفر والإيمانِ أي يُجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بمضمرات القلوبِ فكيف بالأعمال الظاهرة وهو تعليل للتنبئة
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} من مرضٍ وغيره {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إليه ممَّا كان يدعُوه في حالة الرخاء لعلمه بأنَّه بمعزلٍ من القُدرة على كشف ضُرِّه وهذا وصف للجنس بحالِ بعضِ أفرادِه كقوله تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي أعطاهُ نعمةً عظيمةً من جنابه تعالى من التَّخولِ وهو التَّعهدُ أي جعله خائلَ مالٍ من قولهم فلانٌ خائلُ مال إذا كان مُتعهِّداً له حسنَ القيامِ به أو من الخَولِ وهو الافتخارُ أي جعله يخُولُ أي يختالُ ويفتخرُ {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي نسيَ الضُّرَّ الذي كان يدعُو الله تعالى فيما سبق إلى كشفِه {مِن قَبْلُ} أي من قبل التَّخويلِ أو نسي ربَّه الذي كان يدعُوه ويتضرَّعُ إليه إمَّا بناء على أنَّ ما بمعنى مِنْ كما في قوله تعالى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى وقولُه تعالَى وَلَا أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ وإمَّا إيذاناً بأنَّ نسيانَهُ بلغ إلى حيثُ لا يعرف مدَّعوه ما هو فضلاً عن أنْ يعرفه من هو كما مر في قوله تعالى عَمَّا أَرْضَعَتْ {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} شركاءَ في العبادة {لِيُضِلَّ} النَّاس بذلك {عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التَّوحيدُ وقرئ ليَضلَّ بفتح الياء أي يزدادَ ضلالاً أو يثبتَ عليه وإلا فأصلُ الضَّلالِ غيرُ متأخِّرٍ عن الجعل المذكور واللامُ لامُ العاقبة كما في قوله تعالى
الزمر 9 فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً خلا أنَّ هذا أقربُ إلى الحقيقةِ لأنَّ الجاعلَ ههنا قاصدٌ بجعله المذكورِ حقيقةَ الإضلالِ والضَّلالِ وإنْ لم يعرف لجهله أنَّهما إضلالٌ وضلالٌ وأمَّا آلُ فرعونَ فهم غيرُ قاصدين بالتقاطِهم العداوةَ أصلاً {قُلْ} تهديداً لذلك الضَّالَّ المُضلَّ وبياناً لحالِه ومآلِه {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أي تمتُّعاً قليلاً أو زمَاناً قليلاً {إِنَّكَ من أصحاب النار} أي من ملازميها والمعذَّبين فيها على الدَّوامِ وهو تعليلٌ لقلَّة التَّمتعِ وفيه من الإقناط من النَّجاةِ ما لا يخفى كأنَّه قيل إذ قد أبيتَ قبولَ ما أُمرت به من الإيمان والطَّاعةِ فمن حقَّك أنْ تُؤمرَ بتركه لتذوقَ عقوبتَه
{أم من هو قانت آناء الليل} الخ من تمامِ الكلامِ المأمورِ به وأم إما متصلة قد حذف معاد لها ثقةً بدلالة مساقِ الكلام عليه كأنَّه قيل له تأكيداً للتَّهديد وتهكُّماً به أأنت أحسنُ حالاً ومآلاٍ ام من هو قائمٌ بمواجب الطَّاعاتِ ودائم على أداءَ وظائف العبادات في ساعاتِ اللَّيل حالتَيْ السَّراءِ والضَّراءِ لا عند مساس الضُّرِّ فقط كدأبك حالَ كونِه {ساجدا وَقَائِماً} أي جامعاً بين الوصفينِ المحمودينِ وتقديمُ السُّجودِ على القيام لكونه أدخلَ في معنى العبادة وقرئ كلاهُما بالرَّفعِ على أنه خبرُ بعد خبرٍ {يَحْذَرُ الاخرة} حالٌ أُخرى على التَّرادفِ أو التَّداخلِ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من حكاية حاله من القنوتِ والسُّجود والقيامِ كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيلَ يحذرُ عذاب الاخرة {ويرجو رَّحْمَةِ رَبّهِ} فينجُو بذلك مما يحذرُه ويفوزُ بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِ الرَّاجي لا أنَّه يحذرُ ضرَّ الدُّنيا ويرجُو خيرَها فقط وإما منقطعةٌ وما فيها من الإضرابِ للانتقالِ من التَّهديدِ إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعترافِ بما بينهما من التَّباينِ البيِّن كأنَّه قيل بل ام من هو قانتٌ الخ أفضل ام من هو كافرٌ مثلك كما هو المعنى على قراءة التَّخفيفِ {قُلْ} بياناً للحقِّ وتنبيهاً على شرفِ العلمِ والعمل {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ} حقائقَ الأحوالِ فيعملون بموجبِ علمهم كالقانتِ المذكورِ {والذين لَا يَعْلَمُونَ} أي ما ذُكر أو شيئاً فيعملون بمقتضى جهلِهم وضلالِهم كدأبك والاستفهامُ للتَّنبيه على أنَّ كون الأَوَّلينَ في أعلى معارج الخيرِ وكون الآخرينَ في أقصى مدارج الشَّرِّ منَ الظُّهورِ بحيثُ لا يكاد يخفى على أحدٍ من منصفِ ومكابرٍ وقيل هو واردٌ على سبيل التشيه أي كما لا يستوي العالمونَ والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون وقوله تعالى {إنما يتذكر أولوا الالباب} كلامٌ مستقلٌّ غيرُ داخلٍ في الكلامِ المأمور به واردٌ من جهته تعالى بعد الأمر بما ذُكر من القوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفر والمعاصِي لبيانِ عدمِ تأثيرِها في قلوبِ الكفرةِ لاختلال عقولهم كما في قول من قال
…
عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار
…
ماذا تحيون من نوى وَأَحْجَارِ
…
أي إنما يتَّعظُ بهذه البيانات الواضحة أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائب الخللِ وهؤلاءِ بمعزلٍ من ذلك وقرئ إنما يذكر بالإدغام