المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الصافات - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٧

[أبو السعود]

الفصل: الصافات

الصافات

ص: 202

‌110

- 116 {كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} ذلك إشارةٌ إلى إبقاءِ ذكره الجميل فيما بين الأممِ لا إلى ما أُشير إليه فيما سبق فلا تكرارَ وعدم تصديرِ الجملةِ بإنا للاكتفاءِ بما مرَّ آنِفاً

ص: 202

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} الراسخين في الإيمان على وجهة الإيقان والاطمئنان

ص: 202

{وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} أي مقضيًّا بنبُّوتهِ مقدَّراً كونه من الصَّالحينَ وبهذا الاعتبار وقَعا حالينِ ولا حاجةَ إلى وجود المبشَّر به وقت البشارةِ فإنَّ وجود ذي الحالِ ليس بشرطٍ وإنَّما الشَّرطُ مقارنةُ تعلُّق الفعل به لاعتبارِ معنى الحالِ فلا حاجةٍ إلى تقديرِ مضافٍ يجعل عاملاً فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاقَ نبيًّا من الصَّالحين ومع ذلكَ لا يصيرُ نظيرَ قوله تعالى فادخلوها خالدين فإنَّ الدَّاخلين كانوا مقدِّرين خلودهم وقت الدُّخولِ وإسحاقُ عليه السلام لم يكُنْ مقدِّراً نبُّوة نفسه وصلاحَها حين ما يُوجد ومن فسَّر الغلامَ بإسحاقَ جعل المقصودَ من البشارةِ نبوتِه عليه الصلاة والسلام وفي ذكر الصَّلاحِ بعد تعظيمٍ لشأنهِ وإيماءً إلى أنَّه الغايةُ لها لتضمُّنِها معنى الكمالِ والتَّكميلِ بالفعلِ على الإطلاقِ

ص: 202

{وباركنا عَلَيْهِ} على إبراهيمَ في أولادِه {وعلى إسحاق} بأنْ أخرجنا من صلبهِ أنبياءَ بني إسرائيلَ وغيرَهم كأيُّوبَ وشُعيبَ عليهم السلام أو أفضْنا عليهما بركاتِ الدين والدنيا وقرئ وبرَّكنا {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عملهِ أو لنفسِه بالإيمانِ والطَّاعةِ {وظالم لّنَفْسِهِ} بالكفر والمَعَاصي {مُّبِينٌ} ظاهرٌ ظلمُه وفيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسبَ لا تأثيرَ له في الهدايةِ والضَّلالِ وأنَّ الظُّلمَ في أعقابهما لا يعود عليهما بتقيصه ولاعيب

ص: 202

{وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون} أي أنعمنا عليهما بالنبوَّة وغيرِها من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ

ص: 202

{ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا} وهم بنُو إسرائيلَ {مِنَ الكرب العظيم} هو مَلَكةُ آل فرعونَ وتسلطهم عليهم بألوان الغَشَمِ والعذاب كما في قوله تعالى وَإِذْ أنجيناكم مّنْ آل فِرْعَونَ وقيل هو الغَرَقُ وهو بعيد لأنَّه لم يكن عليهم كَرباً ومشقةً

ص: 202

{ونصرناهم} أي إيَّاهما وقومَهما على عدوِّهم {فَكَانُواْ} بسبب ذلك {هُمُ الغالبين} عليهم غلبةً لا غايةَ وراءها بعد أنْ كان قومُهما في أسرِهم وقَسْرِهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومُونهم

ص: 202

الصافات 117 125 سوء العذاب وهذه التَّنجيةُ وإن كانتْ بحسب الوجودِ مقارنةً لما ذُكر من النَّصرِ والغَلَبة لكنَّها لما كانتْ بحسب المفهومِ عبارة عن التَّخليصِ من المكروهِ بدئ بها ثمَّ بالنَّصر الذي يتحقَّقُ مدلُوله بمحضِ تنجيةِ المنصورِ من عدوِّه من غير تغليبهِ عليه ثم بالغلبةِ لتوفيةِ مقام الامتنانِ حقَّه بإظهار أنَّ كلَّ مرتبةٍ من هذه المراتبِ الثَّلاثِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا

ص: 203

{وآتيناهما} بعد ذلك {الكتاب المستبين} أي البليغَ في البيان والتَّفصيلِ وهو التَّوراةُ

ص: 203

{وهديناهما} بذلك {الصراط المستقيمَ} الموصِلَ إلى الحقِّ والصَّوابِ بما فيه من تفاصيلِ الشَّرائعِ وتفاريعِ الأحكامِ

ص: 203

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الأخرين} {سلام على موسى وهارون} أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ

ص: 203

{إِنَّا كَذَلِكَ} الجزاءِ الكاملِ {نَجْزِى المحسنين} الذين هُما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه

ص: 203

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} هو إلياسُ بنُ ياسينَ من سبط هرون أخي مُوسى عليهم السلام بُعث بعده وقيل إدريسُ لأنه قرئ مكانه إدريس وإدراس وقرئ إيليس وقرئ إلياسَ بحذفِ الهمزة

ص: 203

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أتعبدونَه وتطلبون الخيرَ منه وهو اسمُ صنمٍ كان لأهل بكَّ من الشَّأمِ وهو البلد المعروفُ اليوم ببَعْلَبَكَّ قيل كان من ذهبٍ طوله عشرون ذراعاً وله أربعةُ أوجهٍ فتُنوا به وعظَّموه حتى أخدمُوه أربعمائة سادنٍ وجعلوهم أنبياءَ فكان الشَّيطانُ يدخل جوفَه ويتكلَّم بشريعة الضَّلالةِ والسَّدنةُ يحفظونَها ويُعلِّمونها النَّاسَ وقيل البَعْلُ الرَّبُّ بلغة اليمنِ أي أتعبدون بعضَ البُعولِ {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}

ص: 203

أي وتتركون عبادته وقد أُشير إلى المقتضى للإنكارِ المعنيِّ بالهمزة ثم صرَّح به بقوله تعالى

ص: 204

{الله ربكم ورب آبائكم الاولين} بالنَّصبِ على البدليةِ من أحسن الخالقين وقرئ بالرَّفعِ على الابتداءِ والتَّعرُّضُ لذكرِ ربوبيَّتهِ تعالى لآبائهم لتأكيدِ إنكارِ تركهِم عبادته تعالى والإشعارِ ببُطلان آراءِ آبائهم أيضاً

ص: 204

{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ} بسبب تكذيبهم ذلك {لَمُحْضَرُونَ} أي العذابَ والإطلاقُ للاكتفاء بالقرائنِ على أنَّ الإحضارَ المطلقَ مخصوص بالشَّرِّ عُرفاً

ص: 204

{إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من ضمير مُحضرون

ص: 204

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إِل يَاسِين} هو لغة في الياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالين وقرئ بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس

ص: 204

{وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه} أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عَجُوزاً فِى الغابرين} أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين} فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جملة المرسلين

ص: 204

الصافات 137 145

ص: 205

{وَإِنَّكُمْ} يا أهلَ مكَّة {لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} على منازلهم في متاجرِكم إلى الشَّأمِ وتشاهدون آثارَ هلاكهم فإنَّ سدومَ في طريق الشَّأمِ {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصَّباحِ

ص: 205

و {بالليل} أي ومساء أونهارا أو ليلا ولعلَّها وقعت بقرب منزلٍ يمرُّ بها المرتحلُ عنه صباحاً والقاصدُ له مساءً {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتَّى تعتبرُوا به وتخافوا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم

ص: 205

{إِذْ أَبَقَ} أي هربَ وأصله الهربُ من السَّيدِ لكن لمَّا كان هربُه من قومه بغير إذن ربِّه حسُن إطلاقُه عليه {إِلَى الفلك المشحون} أي المملوءِ

ص: 205

{فساهم} فقارعَ أهلَه {فَكَانَ مِنَ المدحضين} فصار من المغلوبينَ بالقُرعةِ وأصله المزلق عن مقام الظفر رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لمَّا وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهم قبل أنْ يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينةَ فوقفتْ فقالوا فيها عبدٌ آبقٌ فاقترعُوا فخرجت القُرعةُ عليه فقال أنا الآبقُ ورَمَى بنفسه في الماءِ

ص: 205

{فالتقمه الحوت} فابتعله من اللُّقمةِ {وَهُوَ مُلِيمٌ} داخلٌ في المَلامةِ أو آتٍ بما يُلام عليه أو مليم نفسه وقرئ مَليم بالفتح مبنيًّا من لِيم كمَشيب في مشُوب

ص: 205

{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} الذَّاكرينَ الله كثيراً بالتَّسبيحِ مدَّة عمره أو في بطنِ الحوتِ وَهُوَ قوله لَا إله إِلَاّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين وقيل من المصلِّين فإنَّه عليه الصلاة والسلام كان كثيرَ الصَّلاةِ في الرَّخاءِ

ص: 205

{لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حيًّا وقيل ميِّتاً وفيه حثٌّ على إكثارِ الذِّكرِ وتعظيمٌ لشأنهِ ومن أقبل عليه في السَّراءِ أُخذ بيدِه عند الضَّرَّاء

ص: 205

{فنبذناه بالعراء} بأن حملنا الحوتَ على لفظه بالمكان الخالي عمَّا يُغطِّيه من شجرٍ أو نبتٍ رُوي

ص: 205

الصافات 146 149 أنَّ الحوتَ سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفسُّ فيه يونسُ عليه السلام ويسبِّحُ ولم يفارقْهم حتى انتهو إلى البرِّ فلفظَه سالماً لم يتغير منه شئ فأسلمُوا ورُوي أنَّ الحوتَ قذفَه بساحل قريةٍ من المَوصلِ واختُلف في مقدارِ لبثه فقيل أربعون يوماً وقيل عشرون وقيل سبعةٌ وقيل ثلاثةٌ وقيل لم يلبثْ إلا قليلاً ثم أُخرج من بطنهِ بعيد الوقتِ الذي التُقمَ فيه رَوى عطاءٌ أنَّه حين ابتعله أوحى اللَّهُ تعالى إلى الحوتِ إنِّي جعلتُ بطنك له سجناً ولم أجعله لك طعاماً {وَهُوَ سَقِيمٌ} ممَّا ناله قيل صار بدنُه كبدنِ الطِّفلِ حين يُولد

ص: 206

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي فوقه مظلَّة عليه {شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ} وهو كل ما ينبسطُ على الأرضِ ولا يقوم على ساقٍ كشجر البطِّيخ والقِثَّاءِ والحنظلِ وهو يَفْعيلٌ من قَطَن بالمكانِ إذا أقام به والأكثرون على أنَّه الدُّبَّاءُ غطَّته بأوراقِها عن الذُّبابِ فإنَّه لا يقعُ عليه ويدلُّ عليه أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنَّك تحبُّ القرعَ قال أجلْ هي شجرةُ أخي يونس وقيل هي التِّينُ وقيل المَوزُ تغطَّى بورقهِ واستظلَّ بأغصانهِ وأفطر على ثماره وقيل كان يستظلُّ بالشَّجرةِ وكانت وعلةٌ تختلفُ إليه فيشربُ من لبنها

ص: 206

{وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ} هم قومُه الذين هرب منهم وهم أهل نَيْنَوى والمرادُ به إرسالُه السَّابقُ أَخبر أولاً بأنَّه من المرسلين على الاطلاقِ ثم أخبرَ بأنَّه قد أُرسل إلى أمةٍ جمَّةٍ وكأنَّ توسيطَ تذكير وقت هربِه إلى الفُلكِ وما بعده بينهما لتذكير سببهِ وهو ما جَرَى بينَهُ عليه الصلاة والسلام وبين قومِه من إنذاره إيَّاهم عذابَ الله تعالى وتعيينِه لوقت حلوله وتعلُّلِهم وتعليقِهم لإيمانِهم بظهور أماراتِه كما مرَّ تفصيلُه في سُورة يونسَ ليعلم أنَّ إيمانَهم الذي سيحكى بعد لم يكُن عقيبَ الإرسالِ كما هو المتبادَرُ من ترتيبِ الإيمانِ عليه بالفاء بل بعد اللَّتيا والَّتي وقيل هو إرسالٌ آخرُ إليهم وقيل إلى غيرِهم وليس بظاهرٍ {أَوْ يَزِيدُونَ} أي في مَرأى النَّاظرِ فإنَّه إذا نظر إليهم قال إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ والمراد هو الوصف بالكثرة وقرئ بالواو

ص: 206

{فآمنوا} أي بعد ما شاهدُوا علائمَ حلول العذابِ إيماناً خالصا {فمتعناهم} أي بالحياة الدُّنيا {إلى حِينٍ} قدَّره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدمَ ختمِ هذه القصَّةِ وقصَّةِ لوطٍ بما خُتم به سائرُ القصصِ للتَّفرقةِ بينهما وبين أربابِ الشَّرائعِ وأُولي العزمِ من الرُّسلِ أو اكتفاء بالتسليم بالشامل لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخرِ السُّورةِ

ص: 206

{فاستفتهم} أمرِ الله عز وجل في صدرِ السُّورة الكريمةِ رسوله صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ قُريشٍ وإبطالِ مذهبِهم في إنكارِ البعثِ بطريقِ الاستفتاءِ وساقَ البراهينَ القاطعةَ النَّاطقة بتحقُّقةِ لا محالة وبيَّن وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ واستثنى منهم عبادَه المُخلَصين وفصَّل ما لهم من النَّعيمِ المقيمِ ثم ذكر أنَّه قد ضلَّ من قبلهم أكثرُ الأوَّلينَ

ص: 206

الصافات 150 153 وأنَّه تعالى أرسلَ إليهم منذرين عل وجهِ الإجمالِ ثم أوردَ قصص كلِّ واحدٍ منهم على وجهِ التَّفصيلِ مبيِّناً في كل قصَّةِ منها أنَّهم من عبادِه تعالى واصفاً لهم تارةً بالإخلاصِ وأُخرى بالإيمانِ ثم أمره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتِهم بطريقِ الاستفتاءِ عن وجهِ أمرٍ منكرٍ خارج عن العقول بالكلِّيةِ وهي القسمةُ الباطلةُ اللازمةُ لما كانُوا عليه من الاعتقاد الزَّائغِ حيثُ كانُوا يقولون كبعض أجناس العربِ جُهينةَ وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ الملائكةُ بناتُ الله والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما سبق من كون أولئك الرُّسلِ الذين هم أعلامُ الخَلْقِ عليهم الصلاة والسلام عبادَه تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يؤكِّدُ التَّبكيتَ ويُظهر بُطلانَ مذهبهم الفاسد ثم تبكيتُهم بما يتضمَّنُه كفرهم المذكورُ من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثاً ثم أبطل أصلَ كفرهم المنطوي على هذينِ الكفرينِ وهو نسبةُ الولدِ إليه سبحانه وتعالى عن ذلكَ علوَّاً كبيراً ولم ينظمه في سلكِ التَّبكيتِ لمشاركتهم النَّصارى في ذلك أي فاستخبرْهم {أَلِرَبّكَ البنات} اللاتي هن أوضعُ الجنسينِ {وَلَهُمُ البنون} الذين هم أرفعُهما فإنَّ ذلك ممَّا لا يقولُ به من له أدنى شئ من العقلِ وقوله تعالى

ص: 207

{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بالاستفتاءِ السَّابقِ إلى التَّبكيتِ بهذا كما أُشير إليه أي بل أخلقنا الملائكةَ الذين هم من أشرفِ الخلائقِ وأبعدِهم من صفات الأجسامِ ورذائل الطَّبائعِ إناثاً والأُنوثةُ من أخسِّ صفاتِ الحيوانِ وقوله تعالى {وَهُمْ شاهدون} استهزاء بهم وتجهيل لهم كقولِه تعالى أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وقوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض والا خلق أَنفُسِهِمْ فإنَّ أمثالَ هذه الامور لا تعلم بالمشاهدةِ إذ لا سبيلَ إلى معرفتِها بطريقِ العقلِ وانتفاء النَّقلِ ممَّا لا ريَب فيه فلا بُدَّ أنْ يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقِهم والجملةُ إما حالٌ من فاعل خلقنا أي بل أخلقناهُم إناثاً والحالُ أنهم حاضرون حينئذٍ أو عطفٌ على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى

ص: 207

{أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ليقولون ولد الله} استثناف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسبوق لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلَاّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه وقرئ ولدُ الله على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلكَ عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ

ص: 207

{أَصْطَفَى البنات على البنين} إثباتٌ لإفكِهم وتقريرٌ لكذبِهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بيِّن الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على النبين والاصطفاء أخذ صفوة الشئ لنفسه وقرئ بكسرِ الهمزةِ على حذفِ حرف الاستفهام

ص: 207

الصافات 154 158 ثقةً بدلالةِ القَرَائنِ عليهِ وجعله بدلاً من ولدَ الله ضعيفٌ وتقديرُ القولِ أي لكاذبونَ في قولِهم اصطفَى الخ تعسُّفٌ بعيدٌ

ص: 208

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بهذا الحكم الذي يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ

ص: 208

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التاءين من تتذكرون وقرئ تذكُرون من ذَكَر والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبيَ

ص: 208

{أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ} إضرابٌ وانتقالٌ من توبيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخُل تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ

ص: 208

{فَأْتُواْ بكتابكم} النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم {إِن كُنتُمْ صادقين} فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى مَنْ تأمَّل فيها وقولُه تعالَى

ص: 208

{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خبث من الجن ومردوكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بينها وبينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريم وإبليس هوالشرير اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نَسَباً قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوس القائلين بيزدان واهر من ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ

ص: 208

الصافات 159 164 الملائكةُ بناتُ الله فقال ابو بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل معنى جعلُوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجن في استحقاق العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبينَ له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله

ص: 209

{سبحان الله عما يصفون} حكايةٌ لتنزيهِ الملائكةِ إيَّاهُ تعالى عمَّا وَصَفه المشركونَ به بعد تكذيبِهم لهم في ذلكَ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على علمتْ وقولُه تعالى

ص: 209

{إِلَاّ عِبَادَ الله المخلصين} شهادةٌ منهم ببراءةِ المخلصينَ مِن أنْ يَصفُوه تعالَى بذلكَ متضمِّنة لتبرئِهم مِنْهُ بحكمِ اندراجِهم في زُمرة المُخلصين على أبلغِ وجهٍ وآكدِه على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ من واوِ يصفُون كأنه قيل ولقد علمنت الملائكةُ أنَّ المشركينَ لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عمَّا يصفونَه به لكنْ عبادُ الله الذين من جملتهم برءاء من ذلكَ الوصفِ وقوله تعالى

ص: 209

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين} تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين اغووهم وفي إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم

ص: 209

{إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} منهم أي داخلُها لعلمه تعالى بأنَّه يصيرُ على الكفر بسوء اختيارِه ويصيرُ من أهل النَّارِ لا محالةَ وأما المخلصونَ منهم فأنتُم بمعزلٍ من إفسادِهم وإضلالِهم فهم لا جرم برءاء مُن أنْ يُفتتنوا بكم ويسلكُوا مسلككم في وصفِه تعالى بما وصفتُموه به وقرئ صالُ بضمِّ الَّلامِ على أنَّه جمعٌ محمول على معَنْى من قد سقط واوه لالتقاءِ السَّاكنينِ وقولُه تعالى

ص: 209

{وَمَا مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تبيينٌ لجلية أمرِهم وتَعيينٌ لحيِّزهم في موقفِ العُبودية بعد ما ذُكر من تكذيبِ الكَفَرةِ فيما قالُوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك

ص: 209

الصافات 165 172 وتبرئةُ المخلصين عنه وإظهارٌ لقصور شأنهم وقمائتهم أي ومامنا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في العبادةِ والانتهاء إلى إمرِ الله تعَالى مقصورٌ عليه لا يتجاوزُه ولا يستطيع ان يزيل عنه خُضوعاً لعظمتِه وخُشوعاً لهيبتِه وتواضُعاً لجلالِه كما رُوي فمنهم راكعٌ لا يقيُم صُلبَه وساجدٌ لا يرفعُ رأسَه قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في السَّمواتِ موضعُ شبرٍ إلَاّ وعليه ملكٌ يصلِّي أو يسبِّح ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لها أنْ تئطَّ والذي نفسي بيدِه ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلَاّ وفيه مَلَكٌ واضعٌ جبهَته ساجدٌ لله تعالى وقال السُّدِّيَّ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في القُربةِ والمشاهدِة

ص: 210

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} في مواقفِ الطَّاعةِ ومواطن الخِدمة

ص: 210

{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} المقدِّسون لله سبحانه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وتحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ لإبراز أن صدورَه عنهم بكمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ هذا هو الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وقد ذُكر في تفسير الآياتِ الكريمةِ وإعرابِها وجوهٌ أُخرُ فتأمَّلْ والله المُوفِّق

ص: 210

{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} أنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلة وضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ أي إنَّ الشَّأنَ كانتْ قُريشٌ تقولُ

ص: 210

{لو أن عندنا ذكرا مّنَ الاولين} أي كتاباً من كُتب الأوَّلينَ من التَّوارةِ والإنجيلِ

ص: 210

{لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي لأخلصنا العبادةَ لله تعالى ولَما خالفنا كما خالفُوا وهذا كقولِهم لئنْ جاءنا نذير لنكونَّن أهدى من إِحدى الأممِ والفاءُ في قولِه تعالى

ص: 210

{فَكَفَرُواْ بِهِ} فصيحةٌ كما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فجاءَهُم ذكرٌ وأيُّ ذكرٍ سيِّدُ الأذكارِ وكتابٌ مُهيمنٌ على سائرِ الكُتبِ والأسفارِ فكفرُوا به {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبةَ كُفرِهم وغائلتَه

ص: 210

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} استئنافٌ مقَّررٌ للوعيدِ وتصديرُه بالقسمِ لغايةِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي وبالله لقد سبقَ وعدُنا لهم بالنصرة والغلبا هو قولُه تعالى

ص: 210

وهم أتباعُ المُرسلين {لَهُمُ الغالبون} على أعدائِهم في الدُّنيا والآخرةِ ولا يقدحُ في ذلك انهزامُهم في بعضِ المشاهدِ فإنَّ قاعدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفرُ والنُّصرةُ وإنْ وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ شَوبٌ من الابتلاءِ والمحنةِ والحكمُ للغالبِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن لم ينصروا في الدُّنيا نُصرِوا في الآخرة وقرئ على عبدنا بتضمين سبقت معنى حقت وتسميتُها كلمةً مع أنَّها كلماتٌ لانتظامِها في معنى واحد وقرئ كلماتُنا

ص: 211

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأَعرضْ عنهم واصبرْ {حتى حِينٍ} إلى مُدَّةٍ يسيرةٍ وهي مُدَّةُ الكفِّ عن القتالِ وقيل يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ الفتح

ص: 211

{وأبصرهم} عل أسوأِ حالٍ وأفظعِ نكالٍ حلَّ بهم من القتلِ والأسرِ والمرادُ بالأمرِ بأبصارِهم الإيذانُ بغايةِ قُربِه كأنَّه بين يديِه {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يقع حينئد من الأمورِ وسوفَ للوعيدِ دُون التَّبعيدِ

ص: 211

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} رُوي أنَّه لمَّا نزلَ فسوف يُبصرون قالُوا متَى هذا فنزلَ

ص: 211

{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي فإذا نزلَ العذابُ الموعودُ بفنائِهم كأنَّه جيشٌ قد هجمَهم فأناخَ بفنائِهم بغتةً فشنَّ عليهم الغارةَ وقطعَ دابرَهم بالمرَّةِ وقيل المرادُ نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وقرئ نزلَ بساحتهم على إسنادِه الى الجار والمجرور وقرئ نُزّل مبنَّياً للمفعولِ من التَّنزيلِ أي نُزّلَ العذابُ {فَسَاء صَبَاحُ المنذرين} فبئسَ صباحُ المنذَرين صباحُهم واللَاّمُ للجنسِ والصَّباحُ مستعارٌ من صباحِ الجيشِ المبيِّتِ لوقت نزول العذابِ ولمَّا كثُرتْ منهم الغارة في الصَّباح سمَّوها صباحاً وإن وقعت ليلاً رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أتى خيبرَ وكانُوا خارجينَ إلى مزارعِهم ومعهم المَسَاحي قالُوا محمدٌ والخميسُ ورجعهم الى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبرُ خربتْ خيبرُ إنا إذَا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرينِ

ص: 211

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليةٍ وتأكيدٍ لوقوعِ الميعادِ غبَّ تأكيدِ مع ما في إطلاقِ الفعلينِ عن المفعول من الإيذانِ بأنَّ ما يبصره صلى الله عليه وسلم حينئذٍ من فنونِ المسارِ وما يُبصرونه من أنواعِ المضارِّ لا يحيطُ به الوصفُ والبيانُ وقيلَ أُريد بالأوَّلِ عذابُ الدُّنيا وبالثَّاني عذاب الآخرة

ص: 211

الصافات 180 182

ص: 212

{سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيهٌ لله سبحانه عن كل ما يصفُه المشركونَ به ممَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وجبروتِه ممَّا ذُكر في السورة الكريمة ومالم يُذكر من الأمورِ التي من جُملتِها تركُ إنجازِ الموعودِ على موجبِ كلمتِه السَّابقةِ لا سيَّما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربويية المُعربةِ عن التَّربيةِ والتَّكميلِ والمالكيةِ الكُلِّيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم أوَّلاً وإلى العزَّةِ ثانياً كأنَّه قيلَ سبحانَ من هو مر بيك ومكمِّلكَ ومالكُ العزَّةِ والغَلَبةِ على الإطلاقِ عمَّا يصفُه المشركونَ به من الإشياءِ التي منها تركُ نصرتِكَ عليهم كما يدلُّ عليه استعجالُهم بالعذابِ وقولُه تعالى

ص: 212

{وسلام على المرسلين} تشريفٌ لهم عليهم السلام بعد تنزيهِه تعالى عمَّا ذُكر وتنويهٌ بشأنِهم وإيذانٌ بأنَّهم سالمون عن كلِّ المكارِه فائزونَ بجميعِ المآربِ وقولُه تعالى

ص: 212

{والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} إشارةٌ إلى وصفِه عز وجل بصفاتِه الكريمةِ الثُّبوتيةِ بعد التَّنبيهِ على اتِّصافِه تعالى بجميعِ صفاته السَّلبيةِ وإيذانٌ باستتباعِها للأفعالِ الجميلةِ التي من جُملتها إفاضتُه عليهم من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ والكمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ وإسباغه عليهم وعلى مَن تبعِهم صُنوف النَّعماءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ المُوجبةِ لحمده تعالى وإشعارٌ بأن ما وعده صلى الله عليه وسلم من النُّصرةِ والغَلَبة قد تحقَّقتْ والمرادُ تنبيه المؤمنينَ على كيفيَّةِ تسبيحِه تعالى وتحميدِه والتَّسليم على رُسلِه الذين هم وسايط بينهم وبينَهُ عزَّ وعَلَا في فيضانِ الكَمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ عليهم ولعلَّ توسيطَ التَّسليمِ على المُرسلينَ بين تسبيحهِ تعالى وتحميدِه لختمِ السُّورةِ الكريمةِ بحمدِه تعالى مع ما فيه من الإشعارِ بأنَّ توفيقَهُ تعالى للتَّسليمُ عليهم من جُملةِ المُوجبةِ للحمدِ عن عليَ رضي الله عنه من أحبَّ أنْ يُكتالَ بالمكيالِ الأَوْفى من الأجرِ يومَ القيامةِ فليكُن آخرُ كلامِه إذا قامَ من مجلسهِ سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عمَّا يصفُون وسلامٌ على المُرسلينَ والحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ الصآفات أُعطِيَ من الأجر عشرَ حَسَناتٍ بعددِ كلِّ جنيَ وشيطان وتباعدت منه مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشِّركِ وشَهد له حافظاهُ يومَ القيامةِ أنَّه كانَ مُؤمناً بالمُرسلين

ص: 212