المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الروم - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٧

[أبو السعود]

الفصل: الروم

الروم

ص: 66

‌54

- 57 {الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} إذا أخذَ منكم السنُّ وقُرىء بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قرأتها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ {يَخْلُقُ مَا يشاء} من الأشياء التي من جُمْلتها ما ذكِرَ منَ الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ {وَهُوَ العليم القدير} المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ

ص: 66

{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقوم في آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغتة وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي في القبُورِ أو في الدُّنيا والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم وفي الحديثِ ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ

ص: 66

{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان} في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله} في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللوح أو القرآن وهو قوله تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ {إلى يَوْمِ البعث} ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا {ولكنكم كُنتمْ لَا تَعْلَمُونَ} أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول من قالَ

قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يرادبنا

ثمَّ القُفولُ فقد جِئنا خُراساناً

ص: 66

{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي عذرُهم وقُرىء تنفعُ بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط

ص: 66

الروم 58 60 بينهما فاصلٌ {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته

ص: 67

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ} أي وبالله لقد بينَّا لهم كل حال ووصفنالهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم {وَلَئِن جئتهم بآية} من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ مُبْطِلُونَ} أي مزوِّرون

ص: 67

{كذلك} مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لَاّ يَعْلَمُونَ} لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ

ص: 67

{فاصبر} على ما نشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والافعال السيئة {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولا بُدَّ من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ {الذين لَا يُوقِنُونَ} بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك وقُرىء بالنُّون المخففةِ وقُرىء ولا يستحقنَّك من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوك وبكونوا أحقَّ بك من المؤمنينَ وأياً ما كان فظاهرُ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه صلى الله عليه وسلم واستحقاقه لكنه في الحقيقة نهيٌ له صلى الله عليه وسلم عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتتان بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ

ص: 67

سورة لقمان 1 6

مكية وقيل إلا الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وهى اربع وثلاثون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

ص: 68

{الم تلك آيات الكتاب} سلفَ بيانُه في نظائرِه {الحكيم} أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزله او قائلُه فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامه فانقلب مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ

ص: 68

{هُدًى وَرَحْمَةً} بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ وقُرئا بالرفع على أنهما خبران آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف {لّلْمُحْسِنِينَ} أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى

ص: 68

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون} بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظن كأن قدر رَأَى وقَدْ سَمِعا وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكر من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجهَ لَهُ

ص: 68

{أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ ما فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرة بما لا مزيدة عليهِ

ص: 68

{وَمِنَ الناس} محلُّه الرفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه

ص: 68

لقمان 7 8 أو بتقديرِ الموصوفِ ومِنْ في قولِه تعالَى {من يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث} موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ مالا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ والإضافةُ بمعنى من التبيينة إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النضر بن الحرث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ ان كان محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ {وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها {هُزُواً} مَهزُواً بهِ وقُرىء ويتخذُها بالرَّفعِ عطفاً على يشترِي وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إلى من والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه

ص: 69

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ} أي على المشتري افراد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها {آياتنا} التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين {وَلَّى} أعرض عنها غيرَ معتدبها {مُسْتَكْبِراً} مبالغاً في التَّكَبُّر {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لِما فيها منَ الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقة قول من قال كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مشبها حاله حال من في اذنيه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين وقُرىء في أُذْنيهِ بسكونِ الذَّالِ {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ

ص: 69

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها {لَهُمْ} بمقابلة ما ذكر من ايمانهم واعمالهم {جنات النعيم} أي

ص: 69

لقمان 9 11 نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ وقولُه تعالَى

ص: 70

{خالدين فِيهَا} حالٌ من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ {وَعْدَ الله حَقّا} مصدرانِ مؤكِّدانِ الاول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالَى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد واما حقا فدال على معنى الثبات اكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنَّاتِ النَّعيمِ {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلبه شيء ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه {الحكيم} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ

ص: 70

{خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ} الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ وقولُه تعالى {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غير معهودة بمُشاهدتِهم لها كذلك أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ {وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ} بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرار السموات أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ ما فيه من الكلام في سُورة الرَّعدِ {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} من كلِّ نوعٍ من أنواعِها {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء} هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا فِيهَا} بسببٍ ذلك الماءِ {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها

ص: 70

{هذا} أي ما ذكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ {خَلَقَ الله} أي مخلوقُه {فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} ممَّا اتخذ تموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ وماذا نُصب بخَلْقُ أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه وأرُوني متعلقٌ به وقولُه تعالى {بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ} إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على انهم بإشراكهم

ص: 70

لقمان 12 14 واضعون للشيء في غير موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالِدِ

ص: 71

{ولقد آتينا لُقْمَانَ الحكمة} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمان بن باعوارء من اولاد آزر ابن أختِ أيُّوبَ عليه السلام أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السلام وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل كان قاضياً في بني إسرائيلَ والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباس العلوم النظرية واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه فقال له داودُ عليه السلام بحقَ ما سُمِّيت حكيما وان داود عليه السلام قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ هما أطيب شئ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إذا خُبثا ومعنى {أَنِ اشكر للهِ} أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى {وَمَن يَشْكُرْ} الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ} عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ {حَمِيدٌ} حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه كما قال صلى الله عليه وسلم الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً

ص: 71

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثان {وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق وقرئ يا بنيْ بإسكانِ الياءِ وبكسرِها {لَا تُشْرِكْ بالله} قيل كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً {إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ} تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ

ص: 71

{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} الخ كلامُ مستأنفٌ اعترض بهِ على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ وقولُه تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر وقولُه تعالى {وَهْناً} حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً

ص: 71

لقمان 15 17 وقولُه تعالى {على وَهْنٍ} صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها وقرئ وَهَنا على وَهَن بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً وقد بُيِّن وجهُه في موضعه وقرئ وفَصْلُه {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن قالَ له مَن أبرُّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ {إِلَىَّ المصير} تعليلٌ لوجوبِ الامنثال أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ

ص: 72

{وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ {عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك {وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً} أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ {فَأُنَبِئُكُم} عند رجوعِكم {بِمَا كنتم تعملون} بأن أجازي كُلاًّ منكم بما صدَر عنْهُ منَ الخيرِ والشرِّ وقولُه تعالى

ص: 72

{يَا بَنِى} الخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردل وقرئ برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الحسنةُ أو السيِّئةُ {فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض} أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ {يَأْتِ بِهَا الله} أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصلُ علمُه إلى كلِّ خفى {خَبِيرٌ} بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له

ص: 72

{يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة} تكميلاً لنفسِك {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} تكميلاً لغيرِك {واصبر على مَا أَصَابَكَ} من الشَّدائدِ والمحنِ لا سيَّما فيما أُمرت به {إِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى

ص: 72

لقمان 18 20 كلِّ ما ذُكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل {مِنْ عَزْمِ الامور} أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها مصدرٌ أُطلق على المفعولِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى فَإِذَا عَزَمَ الامر أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه

ص: 73

{وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ وقُرىء ولا تُصاعرْ وقُرىء ولا تصعر من الاغعال والكل بمعنى مثل وعلاه وعالاه {وَلَا تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا} أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا لرعاية الفواصل

ص: 73

{واقصد فِى مَشْيِكَ} بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والاسراع وعنه صلى الله عليه وسلم سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ وقولُ عائشةَ في عمرَ رضي الله عنهما كانَ إذا مشَى أسرعَ فالمرادُ به ما فوقَ دبيب المنماوت وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ {واغضض مِن صَوْتِكَ} وانقُص منه واقصُر {إِنَّ أَنكَرَ الاصوات} أي أوحشَها {لَصَوْتُ الحمير} تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ وتمثيل اصواتهم بالهاق وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلَّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ وقولُه تعالَى

ص: 73

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سخر لكم ما فى السماوات وَمَا فِي الارض} رجوعٌ الى سنن ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارُهم على ما هم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمُّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكون كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غير أن يكون له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً ومعادا وما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم

ص: 73

لقمان 21 24 لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السمواتِ والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ وقرىء اصيغ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله} في توحيدِه وصفاتِه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفادة من دليلٍ {وَلَا هُدًى} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَلَا كتاب مُّنِيرٍ} أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ

ص: 74

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادلُ والجمعُ باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءنا} يُريدون به عبادةَ الأصنامِ {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك {إلى عَذَابِ السعير} فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ من سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ

ص: 74

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ وقُرىء بالتَّشديدِ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه {وإلى الله} لا إلى أحدٍ غيرِه {عاقبة الامور} فيجازيه أحسنَ الجزاء

ص: 74

{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنَّه لا يضُّرك في الدنيا ولا في الآخرةِ وقُرىء فلا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} لا إلى غيرِنا {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عملوا} في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ

ص: 74

{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد امد

ص: 74

لقمان 25 29 طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق

ص: 75

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله} لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل لَا يَعْلَمُونَ أنَّ ذلك يلزمُهم

ص: 75

{لله ما في السماوات والارض} فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن العالمينَ {الحميد} المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو المحمود بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحال

ص: 75

{ولو أنما فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أقلام} أي لوان الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ نفاده {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمده الا بحر السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله {مَا نَفِدَتْ كلمات الله} ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تنفذ كلمات رَبّى وقُرىء يُمدُّه من الإمدادِ بالياء والتاءِ وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيءٌ {حَكِيمٌ} لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفد كلماتُه المؤسسةُ عليهما

ص: 75

{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولة التأتي إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى انما امرنا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ كلَّ مسموعٍ {بَصِيرٌ} يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ

ص: 75

{أَلَمْ تَرَ} قيل الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ وهو الا وفق لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علما

ص: 75

لقمان 30 قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ {أن الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل} أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ في كلِّ حينٍ وأما تسخير النيرين فأمر لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركته الخاصة وحركته القسرية على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً {إلى أَجَلٍ مسمى} قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمة الله فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطريق الاستطرادِ وعلى تقديرِ اختصاصِه به صلى الله عليه وسلم يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيز رؤيته صلى الله عليه وسلم هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحد الملوين في الآخر وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها الى رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمت الراس فلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي وقولُه تعالى {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطفٌ على أنَّ الله يُولج الخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عز وجل محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها

ص: 76

{ذلك} إشارة إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الفضل وهو مبتدأ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي ولا جل بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونها شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها وقُرىء بالتَّاءِ والتصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ هذا وقيل ذلك أي ما ذكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائب الصنع واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه وانت

ص: 76

لقمان 31 33 خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها

ص: 77

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله} بإحسانِه في تهيئةِ أسبابِه وهو استشهادٌ آخرُ على باهرِ قُدرتِه وغايةِ حكمتِه وشمولِ إنعامِه والباءُ إمَّا متعلقةٌ بتجرِي أو بمقدَّرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي ملتبسةٌ بنعمتِه تعالى وقُرىء الفُلُك بضمِّ اللامِ وبنعماتِ الله وعينُ فَعَلات يجوزُ فيه الكسرُ والفتحُ والسكونُ {لِيُرِيَكُمْ مّنْ آياته} أي بعضَ دلائلِ وحدتِه وعلمهِ وقدُرتِه وقولُه تعالى {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ فيما ذُكر لآياتٍ عظيمةً في ذاتِها كثيرةً في عددِها لكلِّ مَن يُبالغ في الصَّبرِ على المشاقِّ فيتعبُ نفسَه في التفكرِ في الأنفسِ والآفاقِ ويبالغُ في الشُّكرِ على نعمائِه وهما صِفتا المُؤمنِ فكأنَّه قيلَ لكلَّ مؤمنٍ

ص: 77

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} أي علاهُم وأحاطَ بهم {مَّوْجٌ كالظلل} كما يظل من جبلٍ أو سحابٍ أو غيرِهما وقُرىء كالظِّلالِ جمْعِ ظُّلةٍ كقُلَّةٍ وقِلالٍ {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكفر لانزجاره في الجملة {وما يجحد بآياتنا إِلَاّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدَّارٍ فإنه نقض للعهدِ الفطريَّ أو رفضٌ لما كان في البحرِ والخترُ أشدُّ الغدرِ وأقبحُه {كَفُورٍ} مبالغٌ في كفرانُ نعمِ الله تعالى

ص: 77

{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لَاّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أي لا يقضي عنه وقُرىء لا يُجزى من أجزأَ إذا أغنَى والعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أي لا يجزى فيهِ {وَلَا مَوْلُودٌ} عطفٌ على والدٌ أو هُو مبتدأٌ خبرُه {هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} وتغييرُ النَّظمِ للدِّلالةِ على أنَّ المولودَ أولى بأن لا يجزي وقطع مِنَ توقَّع من المؤمنينَ أنْ ينفع أباهُ الكافرَ في الأخرة {إِنَّ وَعْدَ الله} بالثَّوابِ والعقابِ {حَقّ} لا يمكن إخلافُه أصلاً {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} أي الشَّيطانُ المبالغُ في الغرورِ بأنْ يحملَكم على المعاصي

ص: 77

لقمان 34 بتزيينها لكمُ ويرجِّيكُم التوبةَ والمغفرةَ

ص: 78

{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} علمُ وقتِ قيامِها لما روى ان الحرث بنَ عمروٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال مَتَى السَّاعةُ وإنيِّ قد ألقيتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى السماءُ تُمطر وحَمْلُ امرأتِي ذكرٌ أَمْ أُنثى وما أعملُ غداً وأينَ أموتُ فنزلتْ وعنه صلى الله عليه وسلم مفاتحُ الغيبِ خمسٌ وتلا هذه الآية {وَيُنَزّلُ الغيث} في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه وقُرىء يُنْزِل من الإنزالِ {وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام} من ذَكَرٍ أَوْ أنثى تامَ أو ناقصٍ {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ} من النُّفوسِ {مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خيرٍ أو شرَ وربما تعزمُ على شيءٍ منهما فتفعلُ خلافَه {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدرِي في أيِّ وقتٍ تموتُ رُوي أنَّ ملكَ الموتِ مرَّ على سُليمانَ عليهما السلام فجعلَ ينظرُ إلى رجلٍ من جلسائِه يُديمُ النَّظرَ إليهِ فقال الرَّجُل مَن هذا قالَ مَلَكُ الموتِ فقال كأنه يُريدني فمرِ الرَّيحَ أن تحملَني وتلقيني ببلادِ الهندِ ففعلَ ثم قال المَلَكُ لسليمانَ عليهما السلام كان دوامُ نظري إليه تعجُّباً منه حيثُ كنت أُمرتُ بأنْ أقبضَ روحَهُ بالهندِ وهو عندَك ونسبةُ العلمِ إلى الله تعالى والدراية إلى العبدِ للإيذانِ بأنَّه إنْ أعملَ حِيلَه وبذلَ في التَّعرفِ وسعَه لم يعرفْ ما هُو لاحقٌ به من كسبهِ وعاقبتِه فكيف بغيرِه مما لم ينُصبْ له دليلٌ عليه وقُرىء بأيَّةِ أرضٍ وشبَّه سيبويهِ تأنيثَها بتأنيثِ كلَ في كلتهنَّ {إِنَّ الله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ فلا يعزُب عنْ علمِه شيءٌ من الأشياء التي من جُملتِها ما ذُكر {خَبِيرٌ} يعلم واطنها كما يعلمُ ظواهرَها عنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم منَ قرأَ سورةَ لقمانَ كان له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطَي من الحسناتِ عشراً بعددِ من عملَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر

ص: 78

سورة السجدة 1 3

مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

ص: 79

{الم} إمَّا اسمٌ للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى ب الم والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرِها قد عرفتَ سرَّها وإمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى

ص: 79

{تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ خبرا الم أي المُسمَّى به تنزيلُ الكتابِ وقد مرَّ مراراً أنَّ ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها وقوله تعالَى {لَا رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثالثٌ على الوجهِ الأولِ وثانٍ على الأخيرينِ وقيل خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ فقولُه تعالى {من رب العالمين} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من الضمير المجرور أي كائناً منه تعالى لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبرِ والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ ولا ريبَ فيهِ حالٌ من الكتابِ أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيهِ راجعٌ إلى مضمونِ الجملةِ كأنَّه قيل لا ريبَ فِى ذَلِكَ أي في كونِه منزَّلاً من ربِّ العالمين ويُؤيده قولُه تعالى

ص: 79

{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلا بد أن يكون موردُه حكماً مقصودَ الإفادةِ لا قيداً للحكم بنفيِ الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جِيء بأم المنقطعةِ إنكاراً له وتعجيباً منه لغاية ظهورٍ بُطلانِه واستحالةِ كونِه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيانِ حقِّيةِ ما أنكروه حيثُ قيل {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لا سيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاسِ وأحوجَهم إلى الهدايةِ بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث اليهم

ص: 79

السجدة 4 6 من رسول قبله صلى الله عليه وسلم أيْ ما أتَاهُم مِن نذير من قبل إنذارِك أو من قبل زمانِك والتَّرجِّي معتبرٌ من جهته صلى الله عليه وسلم أي لتنذرهم راجياً لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييدِ إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتابِ مبتدأً وأما على سائرِ الوجوهِ فلا تأييدَ أصلاً لأنَّ قولَه تعالى مِن رَّبّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجهِ الأولِ وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرينِ واياما كان فكونُه من ربِّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادةِ لاقيد لحكمٍ آخرَ فتدبَّر

ص: 80

{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} مرِّ بيانُه فيما سلفَ {مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلَا شَفِيعٍ} أي ما لكُم إذا جاوزتُم رضاه تعالى أحدٌ ينصُركم ويشفعُ لكم ويجيركم من بأسهِ أي ما لكُم سواه وليٌّ ولا شفيعٌ بل هو الذي يتولَّى مصالحَكم وينصُركم في مواطنِ النَّصرِ على أنَّ الشَّفيعَ عبارةٌ عن النَّاصرِ مجازاً فإذا خذلكم لم يبقَ لكُم وليٌّ ولا نصير {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أي ألا تسمعُون هذه المواعظَ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكارُ على الأول متوجه إلى عدمِ السَّماعِ وعدم التَّذكر معاً وعلى الثاني على عدمِ التذكر مع تحقُّق ما يُوجبه من السَّماعِ

ص: 80

{يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الارض} قيل يدبِّرُ أمر الدُّنيا بأسبابٍ سماويةٍ من الملائكةِ وغيرها نازلةٍ آثارُها وأحكامُها إلى الأرضِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يثبت في علمِه موجوداً بالفعل {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} أي في بُرهةٍ من الزَّمان متطاولةٍ والمرادُ بيانُ طول امتدادِ ما بين تدبيرِ الحوادث وحدوثِها من الزَّمان وقيل يدبر أمرَ الحوادثِ اليوميَّةِ بإثباتها في اللَّوحِ المحفوظِ فينزِلَ بها الملائكةُ ثم تعرجُ إليه في زمانٍ هو كألف سنة مما تعدون فإنَّ ما بين السَّماء والأرض مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ وقيل يقضي قضاءَ ألفِ سنةٍ فينزل به المَلَكُ ثم يعرج بعد الألفِ لألفٍ أُخرَ وقيل يدبر أمرَ الدُّنيا جميعاً إلى قيامِ السَّاعةِ ثم يعرج إليه الأمرُ كلُّه عند قيامها وقيل يدبِّرُ المأمور به من الطَّاعاتِ منزلاً من السماء إلى الارض بالوحي ثم لا يعرجُ إليه خالصاً إلا في مدة متطاولة المخلصين والأعمال الخلَّص وأنت خبيرٌ بأنَّ قلَّةَ الأعمال الخالصةِ لا تقتضي بطءَ عروجِها إلى السَّماءِ بل قِلَّتَه وقُرىء يعدُّون بالياء

ص: 80

{ذلك} إشارةٌ إلى الله عز وجل باعتبارِ اتصافِه بما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرشِ وانحصارِ الولايةِ والنُّصرةِ فيه وتدبيرِ أمرِ الكائناتِ على ما ذكر من الوجهِ البديعِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذلك العظيمُ الشَّأنِ {عالم الغيب والشهادة} فيدبِّر أمرَهما حسبما تقتضيه الحكمةُ {العزيز} الغالب على امره

ص: 80

السجدة 7 9 {الرحيم} على عبادِه وهُما خبرانِ آخرانِ وفيه إيماءٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ في جميعِ ما ذُكر فاعلٌ بالإحسانِ

ص: 81

{الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} خبرٌ آخرُ أو نُصب على المدحِ أي حسّن كلَّ مخلوقٍ خلقَه إذ ما من مخلوق خلقَه إلا وهو مرتبٌ على ما تقتضيه الحكمة واوجبته المصلحة فجميع المخلوقاتِ حسنةٌ وإن تفاوتت إلى حسنٍ وأحسنَ كما قال تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقيل علم كيفَ يخلقُه من قوله قيمةُ المرءِ ما يُحسِن أي يُحسن معرفَته أي يعرفِه معرفةً حسنةً بتحقيقٍ وإيقانٍ وقُرىء خلْقَه على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من كلِّ شيءٍ والضَّميرُ للمبدَل منه أي حسّن خلقَ كلِّ شيءٍ وقيل بدلَ الكلِّ على أن الضَّميرَ للَّهِ تعالى والخلقُ بمعنى المخلوقِ أي حسّن كلَّ مخلوقاتِه وقيل هو مفعولٌ ثانٍ لأحسنَ على تضمينه معنى أعطَى أي أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه اللائقَ به بطريقِ الإحسانِ والتَّفضل وقيل هو مفعولُه الأولُ وكلّ شيءٍ مفعولُه الثاني والخلقُ بمعنى المخلوقِ وضميرُه لله سبحانَه على تضمينِ الإحسانِ معنى الإلهام والتَّعريفِ والمَعنى ألهم خلقَه كلَّ شيءٍ ممَّا يحتاجون إليهِ وقال أبو البقاءِ عرَّفَ مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجُون إليهِ فيؤول إلى مَعنى قوله تعالى {الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من بينِ جميعِ المخلوقاتِ {مِن طِينٍ} على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السلام على فطرةٍ عجيبة منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لخروج كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما ينبىء عنه قوله تعالى

ص: 81

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} إلخ أي ذُريَّتَه سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه {مِن سُلَالَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ} هو المنيُّ المُمتهنُ

ص: 81

{ثُمَّ سَوَّاهُ} أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة} الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريمِ أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتهما وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى

ص: 81

السجدة 10 12 النَّفيِ كما يُنبىء عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زمانا قليلا تشكرون وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبىءِ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ مالا غايةَ وراءَهُ

ص: 82

{وَقَالُواْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ مَا ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثة {أئذا ضَلَلْنَا فِى الارض} أي صِرنا ترُاباً مخلوطاً بترابِها بحيثُ لا نتميَّز منه أو غبنا فيها بالدَّفنِ وقُرىء ضلِلنا بكسرِ اللامِ من بابِ عَلِمَ وصلِلنا بالصاد المهملة من صلَّ اللحمُ إذا أنتنَ وقيل من الصِّلةِ وهي الأرضُ أي صرنا من جنسِ الصِّلَّةِ قيل القائل ابي بن خَلَفٍ ولرضاهم بقولِه أُسند القولُ إلى الكلِّ والعاملُ فِي إذَا ما يدلُّ عليه قوله تعالى {أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعثُ أو يُجدد خلقَنا والهمزةُ لتذكيرِ الإنكارِ السَّابقِ وتأكيدِه وقُرىء إنَّا على الخبرِ وأيّاً ما كان فالمَعنى على تأكيدِ الإنكارِ لا إنكارٍ التَّأكيد كما هو المتبادَرُ من تقدمِ الهمزةِ على إنَّ فإنها مؤخَّرةٌ عنها في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها عليها لاقتضائِها الصَّدارةَ {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً

ص: 82

{قُلْ} بياناً للحقِّ وردَّا على زعمِهم الباطلِ {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحكم بحيث لايدع فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشد مايكون من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم {الذى وكل بكم} أي بقبض أرواحِكم وإحصاءِ آجالِكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} بالبعث للحسابِ والجزاءِ

ص: 82

{وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون} وهم القائلون أئذا ضللنا في الارض الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جملتهم {ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبّهِمْ} من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا {رَبَّنَا} أي يقولون رَبَّنَا {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً {فارجعنا} إلى الدُّنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صالحا} حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى {إِنَّا مُوقِنُونَ} إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقل شيئا أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألوه

ص: 82

السجدة 13 من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولِها وفظاعتِها هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يمتنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر

ص: 83

{وَلَوْ شِئْنَا لَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدِّر قبل قولِه تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الخ أي ونقولُ لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقاً فعلياً بأنْ نُعطي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمانِ والعملِ الصالحِ لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسبِ وما أخَّرناه إلى دارِ الجزاءِ {ولكن حَقَّ القول مِنْى} أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله لَاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى {لَامْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} كما يلوحُ به تقديمُ الجِنَّة على النَّاسِ فبموجبِ ذلكَ القولِ لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العمومِ بل منعناه من أتباعِ إبليسَ الذين أنتُم من جُملتِهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيِّ بإغوائِه ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارِهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوسِ البرَّةِ وهم المعنيّون بما سيأتي من قولِه تعالى إِنَّمَا يؤمن بآياتنا الآيةَ فيكونُ مناطُ عدمِ مشيئة إعطاءَ الهُدى في الحقيقةِ سوءَ اختيارِهم لا تحققَ القولِ وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مر من التعليق الفعليِّ بأفعالِ العبادِ عند حدوثِها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالِهم إجمالاً متقدِّمةٌ على تحققِ كلمةِ العذابِ فلا يكونُ عدمُها منوطاً بتحققِها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلاً بصرفِ

ص: 83

السجدة 14 16 اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشئون والفاء في قوله تعالى

ص: 84

{فذوقوا} لترتيب الأمر بالذوق على ما يُعرب عنهُ ما قبلَهُ من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم كأنَّه قيل لا رجعَ لكم الى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ {إِنَّا نسيناكم} أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا وعدمُ نظمَ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئناف المنبئ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدلالة على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يخفى وقوله تعالى

ص: 84

{إنما يؤمن بآياتنا} استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنَّما يُؤمن بها {الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا} أي وُعِظوا {خَرُّواْ سُجَّداً} آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ

ص: 84

{تتجافى جُنُوبُهُمْ} أي تنبُو وتتنحى {عَنِ المضاجع} أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ قال أنسٌ رضي الله عنه نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلي

ص: 84

السجدة 17 19 العشاء مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن انس ايضا رضي الله عنه أنَّه قال نزلتْ في أناسٍ من اصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال عطاءهم الذين لا ينامُون حتَّى يصلو العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والاوزاعي وجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تفسيرِها قيامُ العبدِ من الليل وعنه صلى الله عليه وسلم إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ وقولُه تعالى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ {خَوْفًا} من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه {وَطَمَعًا} في رحمتِه {وَمِمَّا رزقناهم} من المالِ {يُنفِقُونَ} في وجوهِ البرِّ والحسناتِ

ص: 85

{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس لاملك مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم {مَّا أُخْفِىَ لَهُم} أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ {مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ الله عز وجل أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ بَلْهَ ما أطلعتم عليه اقرءوا إنْ شئتُم فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة اعين وقرئ ما أُخفي لهم وما نُخفي لهم وما أَخفيتُ لَهُم على صيغةِ المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه وقرئ قُرَّاتِ أعينٍ لاختلافِ أنواعِها والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جُزوا جزاء أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ قيل هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم

ص: 85

{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لَاّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى

ص: 85

{أما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ وأياً ما كانَ فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم

ص: 85

السجدة 20 23 التي هي مأواهم في الدُّنيا {نُزُلاً} أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعد النازل من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أو بأعمالِهم

ص: 86

{وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجُوا عن الطَّاعةِ {فَمَأْوَاهُمُ} أي ملجؤهم ومنزلُهم {النار} مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فيها} اسئناف لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ {وَقِيلَ لَهُمْ} تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ} أي بعذابِ النَّارِ {تُكَذّبُونَ} على الاستمرارِ في الدُّنيا

ص: 86

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ {دُونَ العذاب الأكبر} الذي هُو عذابُ الآخرةِ {لَعَلَّهُمْ} لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ {يَرْجِعُونَ} يتوبُون عن الكفرِ رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضي الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ

ص: 86

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيانٌ إجماليٌّ لحالِ مَنْ قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ وَلَا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلَاّ ابْنُ حُرَّة يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً {إِنَّا مِنَ المجرمين} أي من كلُّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه {مُنتَقِمُونَ} فكيفَ ممَّن هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالم وأشر جُرماً من كلِّ مجرم

ص: 86

{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفرقان والتنبيه أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإبنائها لمُوسى عليه السلام {فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى الله عليه وسلم رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً وجعدا كأنه من رجال شنوأة {وجعلناه} أي

ص: 86

السجدة 24 27 الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {هدى لبني إسرائيل} قيل لم يُتعبدْ بما في التوراة ولد إسمعيل

ص: 87

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه {بِأَمْرِنَا} إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له {لَمَّا صَبَرُواْ} هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطاعات ومقاسات الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا وقرئ لِمَا صبرُوا أي لصبرِهم {وكانوا بآياتنا} التي في تضاعيفِ الكتابِ {يُوقِنُونَ} لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ

ص: 87

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} أي يقضِي {بَيْنَهُمْ} قيل بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل بين المؤمنينَ والمشركينَ {يَوْمُ القيامة} فيميِّزُ بين المُحقِّ والمباطل {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمورِ الدِّينِ

ص: 87

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الهمزةُ فلإنكار والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة إهلاكنا {مَنْ قبلهم مّنَ القرون} مثلُ عادٍ وثمود وقوم لوط وقرئ نهدِ لهم بنونِ العظمةِ وقد جوز أن يكون الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم والجملةُ حالٌ من ضمير لهم وقرئ يمشُون للتَّكثيرِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم {لآيَاتٍ} عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ

ص: 87

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز} أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل هو اسمُ موضعٍ باليمنِ {فَنُخْرِجُ بِهِ} من تلك الأرضِ {زَرْعاً تَأْكُلُ} أي من ذلك الزَّرعِ {أنعامهم} كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها وقرئ يأكلُ بالياءِ {وَأَنفُسِهِمْ} كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ {أفلا يبصرون}

ص: 87

السجدة 28 30 أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وفضله

ص: 88

{وَيَقُولُونَ} كان المسلمونَ يقولون الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم وكان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً {متى هذا الفتح} أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم

ص: 88

{قُلْ} تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ {يَوْمَ الفتح لَا يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} يومُ الفتح يومُ القيامةِ وهو يومُ الفصلِ بين المؤمنين وأعدائِهم ويومُ نصرِهم عليهم وقيل هو يومُ بدرٍ وعن مجاهدٍ والحسنِ يومُ فتحِ مكَّةَ والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم للتَّنبيهِ على أنَّه ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا وهذا على الوجهِ الأولِ ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرينِ فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يؤمئذ لا عن كافَّة الكَفَرةِ كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتحِ وناساً أمنُوا يومَ بدرٍ

ص: 88

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تُبالِ بتكذيبِهم {وانتظر} النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} قيل أيِ الغلبةَ عليكم كقولِه تعالى فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ والأظهرُ أنْ يقالَ إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} الآيةَ ويقرُب منه ما قيلَ {وانتظرْ} عذابَنا {إنهم منتظرون} فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هم عليه منَ الكُفر والمَعاصي فِي حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالة وقرئ على صيغةِ المفعولِ على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ ألم تنزيلُ وتباركَ الذي بيدِه الملكُ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما أحيا ليلة القدر وعنه صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ ألم تنزيلُ في بيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ

ص: 88

ص: 89

{يا أيها النبى اتق الله} في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ {وَلَا تُطِعِ الكافرين} أي المجاهرينَ بالكُفر {والمنافقين} المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ صلى الله عليه وسلم في الموادعةِ التي كانتْ بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أرفضْ ذكرَ آلهتِنا وقل إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقلتهم فنزلتْ أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} حَكِيماً مبالِغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يَحكُم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما

ص: 89

{واتبع} أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ {مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} منَ الآياتِ التي منْ جملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قيل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ وقيلَ للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوز أن يكون للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ وأيا ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه أمَّا على الوجهينِ الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قبل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيه صلاحٌ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعمل بمقتضاه حتما

ص: 89

الاحزاب 3 5

ص: 90

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض جميع أمورك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ

ص: 90

{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أمر صلى الله عليه وسلم باتباعه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وما جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها اما وكون الدعى ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن سيد الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى بين حقيقة الدعوة والنبوة كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدعوة وأحكام النبوة على الإطلاقِ بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجية وأحكام الأمومة ونفي الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ واحكام النبوة لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ احكام النبوة على الدَّعيِّ ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو التغليظ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها الى السماء وقرئ اللاء وقرئ تظاهرونَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء {ذلكم} إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم {والله يَقُولُ الحق} المطابقَ للواقعِ {وَهُوَ يَهْدِى السبيل} أي سبيلِ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ

ص: 90

{ادعوهم لآبَائِهِمْ} أي أنسبُوهم

ص: 90

الأحزاب 76 إليهم وخُصُّوهم بهم وقولُه تعالى {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وأقسطُ أفعلُ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} فتنسبُوهم إليهم {فَإِخوَانُكُمْ} فهم إخوانُكم {فِى الدين ومواليكم} وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالاخوة الدينية والمولوبة {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثمٌ {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لعفوهِ عن المخطئ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً للفائل العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلَاّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ

ص: 91

{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاق فيجب عليه ان يكون صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها روى انه صلى الله عليه وسلم أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخروج فقال ناس نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ وقرئ وهو أبٌ لهم أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ ولذلك قالتْ عائشةَ رضي الله عنها لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ {وَأُوْلُو الأرحام} أي ذو القراباتِ {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلام من التوارث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ {فِى كتاب الله} في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أي أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ {إِلَاّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} استثناء من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع {كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا} أي كانَ مَا ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ وقيل في التوارة

ص: 91

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} وتخصيصُهم بالذكر مع

ص: 91

الاحزاب 8 9 اندارجهم في النبيين اندارجا بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزم من الرسال وتقديم نبينا عليهم عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايُرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ اثر قولِه تعالى فلمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وقولُه تعالى

ص: 92

{لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الانبياء الذين صدقوا عهدهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل من أن المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً} عطف ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المؤمنين تعسف ظاهر أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دل عليه قوله تعالى ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرين الآية

ص: 92

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم وقيل منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبوا

ص: 92

الأحزاب 10 خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضي الله عنه يا عمر واني أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال لا حاجةَ لي اليه فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال يا ابنَ أخي والله لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولَا وتجاولَا فضربه علي رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلين منبه بن عثمان ابن عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكةُ عليهم السلام وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من حفرِ الخندقِ وترتيب مبادي الحربِ وقيل من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه وقُرىء بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي {بَصِيراً} ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله

ص: 93

{إذ جاؤوكم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعهم من اهل نجد قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنضِير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلَاّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قولِه تعالَى {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم هذا مَا وَعَدَنَا

ص: 93

الأحزاب 11 13 الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرار وقرىء الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي

ص: 94

{هُنَالِكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزلِ {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} من الهَولِ والفزعِ وقُرىء بفتحِ الزَّاي

ص: 94

{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِلالة على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ {إِلَاّ غُرُوراً} أي وعدَ غرورٍ وقيل قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ

ص: 94

{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بن أبي واشياعه {يا أهل يَثْرِبَ} هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال هي طَيبةُ أو طَابةُ كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له صلى الله عليه وسلم ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها {لَا مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ وقُرىء بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ اولا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل المعنى لاقيام لكم في دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعوا عما يعتموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه اولا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمة استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم وقولُه تعالى {يَقُولُونَ} بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عورة من عورة الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ

ص: 94

الاحزاب 14 17

{إِن يُرِيدُونَ} ما يُريدون بالاستئذانِ {إِلَاّ فِرَاراً} من القتالِ

ص: 95

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أُسند لدخول إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ وهم فيها الا فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ {مّنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ {ثُمَّ سُئِلُواْ} من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ {الفتنة} أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ {لأَتَوْهَا} لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ وقُرىء لأتَوَها بالقصرِ أي لفعلوها وجاءوها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا} بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها {إِلَاّ يَسِيراً} ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ اخرى مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ

ص: 95

{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الادبار} فإنَّ بني حارثةَ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل مسئولا عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ

ص: 95

{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} فإنَّه لا بدَّ لكلِّ شخصٍ من حتف انف او قتل سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلم {وإذا لَاّ تُمَتَّعُونَ إِلَاّ قَلِيلاً} أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلَاّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً

ص: 95

أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً} ينفعُهم {وَلَا نَصِيراً} يدفعُ عنهم الضَّررَ

ص: 96

{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُم المنافقونَ {والقائلين لإخوانهم} من منافِقي المدينةِ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو صوتٌ سُمي به فعل متعد نحوا احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ {وَلَا يَأْتُونَ البأس} أي الحرابَ والقتالَ {إِلَاّ قَلِيلاً} أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم انهم معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى مَّا قَاتَلُواْ إِلَاّ قَلِيلاً وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً

ص: 96

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحالية من فاعل يأنون او من المعوقينَ أو على الذمِّ {فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} في أحداقِهم {كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعلِه أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموت حذرا وخورا ولو اذا بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف} وحِيزت الغنائمُ {سَلَقُوكُم} ضربُوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ وقُرىء صَلَقوُكم {أَشِحَّةً عَلَى الخير} نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ {أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفاتِ السُّوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاصِ {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعا لمنفعة دنيويةٍ أصلاً {وَكَانَ ذلك} الإحباطُ {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ

ص: 96

الأحزاب 21 22 لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ {وَإِن يَأْتِ الاحزاب} كرَّةً ثانيةً {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب} تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الاعراب وقرئ بُدَّى جمع بادٍ كغازٍ وغزى {يسألون} كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينة وقرئ يُساءلون أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثال المذكورة ونظائرِه {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عمَّا جَرَى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلَاّ قَلِيلاً} رياءً وخوفاً من التَّعييرِ

ص: 97

{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} خصلة حسنة حقها يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق النأسي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدر من الحديد وقرئ بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه {وَذَكَرَ الله} أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله {كَثِيراً} أي ذِكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الائتساء برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم

ص: 97

{وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشئون واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم {قَالُواْ هذا} مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو من غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلاً عنْ تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مر في قوله تعالَى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر نَعم يجوزُ التذكير باعتبار الخبر بالذي هُو {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء إلى قوله تعالى إلا أن نَصْرَ الله قَرِيبٌ وقولِه وقوله صلى الله عليه وسلم سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم وقوله صلى الله عليه وسلم إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشر وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم {وَمَا زَادَهُمْ} أي ما رَأَوه {إِلَاّ إِيمَانًا} بالله تعالى وبمواعيدهِ

ص: 97

الاحزاب 23

{وَتَسْلِيماً} لأوامرِه ومقاديرِه

ص: 98

{مِنَ المؤمنين} أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} من الثَّباتِ مع الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجال منَ الصحابةِ رضي الله عنهم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعب ابن عمير وأنس بن النضر وغيرُهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كَما في قولِهم صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما يجعل المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي وقالوا له سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} تفصيلٌ لحال الصادقين وتقسيم الى قسمين والحب النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى {وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله} الآيةَ أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعب بن عمير وأنس بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ ابن مالكٍ وغيرِهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي {وَمِنْهُمُ} أي وبعضهم أو وبعضٌ منهم {مَّن يَنتَظِرُ} أي قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إما بتنزيل أسبابِه التي هي أفعالٌ اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتتزيل نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقام المدح وأياما كان في وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ {وَمَا بَدَّلُواْ} عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه {تَبْدِيلاً} أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكون أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحكم

ص: 98

الاحزاب 24 25 ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أن طلحة رضى الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يده فقال صلى الله عليه وسلم أوجبَ طلحةُ الجنَّة وفي رواية أوجبَ طلحةُ وعنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابرٌ رضي الله عنه من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وفي رواية عائشةَ رضي الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً

ص: 99

{لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريقِ الفذلكةِ لبيانِ ما هُو داعٍ إلى وقوعِ ما حُكي من الأحوالِ والأقوالِ على التَّفصيلِ وغاية له كما مرَّ في قوله تعالى ليسأل الصادقين عَن صِدْقِهِمْ كأنَّه قيلَ وقعَ جميعُ ما وقعَ ليجزيَ الله الصَّادقين بما صدرَ عنهُم منَ الصِّدقِ والوفاءِ قولاً وفعلاً {وَيُعَذّبَ المنافقين} بما صدرَ عنهُم منَ الأعمالِ والأقوالِ المحكيَّةِ {إِن شَاء} تعذيبَهم {أَوْ يتوبَ عَلَيْهِمْ} إنْ تابُوا وقيل متعلقٌ بما قبلَه من نفيِ التَّبديلِ المنطوقِ وإثباته المعرضَ به كأنَّ المُنافقين قصدُوا بالتَّبديلِ عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ المُخلصون بالثباتِ والوفاءِ العاقبةَ الحُسنى وقيلَ تعليلٌ لصدقُوا وقيل لما يُفهم من قولِه تعالَى وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً وقيل لما يُستفاد من قولِه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب كأنَّه قيل ابتلاهُم الله تعالى برؤية ذلك الخطيب ليجزيَ الآيةَ فتأمَّل وبالله التَّوفيق {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي لمن تابَ وهُو اعتراضٌ فيه بعثٌ إلى التَّوبةِ وقولُه تعالى

ص: 99

{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} رجوعٌ إلى حكايةِ بقيةِ القصَّةِ وتفصيلُ تتمةِ النِّعمةِ المشارِ إليها إجمالاً بقولِه تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا معطوفٌ إمَّا على المضمرِ المقدرُ قبل قولِه تعالى لّيَجْزِىَ الله كأنَّه قيل إثرَ حكايةِ الأمورِ المذكورةِ وقعَ ما وقعَ من الحوادثِ وردَّ الله الخ وإمَّا على أرسلنَا وقد وسِّط بينهما بيانُ كونِ ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّتِ الأقدامُ وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكفرِ والنفاقِ من الأحوالِ والأقوالِ لإظهار عظم النعمة إبانه خطرِها الجليلِ ببيانِ وصولِها إليهم عند غايةِ احتياجِهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفرُوا والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقولُه تعالى {بِغَيْظِهِمْ} حالٌ من الموصولِ أي مُلتبسين بهِ وكذا قولُه تعالى {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بما ذُكر من إرسالِ الرِّيحِ والجُنودِ {وَكَانَ الله قَوِيّاً} على إحداثِ كلِّ ما يريد {عزيزا}

ص: 99

الاحزاب 26 28 غالبا على كل شئ

ص: 100

{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ {مّنْ أَهْلِ الكتاب} وهُم بنُو قريظةَ {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم جميع صِيصِيَة وهي ما يُتحصَّن به ولذلكَ يقالُ لقرنِ الثَّورِ والظَّبيِ وشوكةِ الدِّيكِ {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتلِ وأهليهم وأولادَهم للأسرِ حسبَما ينطِق به قولُه تعالى {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} من غيرِ أن يكون من جهتِهم حَراكٌ فضلاً عن المُخالفةِ والاستعصاءِ رُوي أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى رسول صلى الله عليه وسلم صبيحةَ اللَّيلةِ التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينةِ ووضعُوا السِّلاحَ فقال أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السِّلاحَ إنَّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم فأذَّن في النَّاسِ أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمساً وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم تنزلُون على حُكمي فأبَوا فقالَ عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ فرضُوا به فحكم سعد بقتل وسبيِ ذرارِيهم ونسائِهم فكبَّر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالَ لقد حكمتَ بحُكم الله من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ وقُرىء تأسُرونَ بضمِّ السِّينِ كما قُرىء الرُّعبُ بضمِّ العينِ ولعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لتفصيلِه وتقسيمِه كما في قولِه تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وقوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاةِ الفواصلِ

ص: 100

{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم} أي حصونهم {وأموالهم} ونقودهم وأثاثَهم ومواشيهم رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصارِ فقالتِ الأنصارُ في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إنَّكم في منازلِكم فقال عمرُ رضي الله عنه أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم لا إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاسِ قالُوا رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه {وَأَرْضاً لَّمْ تطؤوها} أي أورثَكم في علمِه وتقديرِه أرضاً لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّومِ وقيل كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يومِ القيامةِ وقيلَ خيبرُ {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ قَدِيراً} فقد شاهدتُم بعض مقدوراته من إيراثِ الأراضِي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها

ص: 100

{يا أيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} أي السَّعةَ والتَّنعمَ فيها {وزينتها} وزخافها {فَتَعَالَيْنَ} أي أقبلنَ بإرادتِكن واختيارِكن لإحدى الخصلتينِ كما يُقال أقبل يُخاصمني وذهبَ يُكلِّمني وقامَ يُهددني {أُمَتّعْكُنَّ} بالجزمِ جواباً للأمرِ وكذا {وأسرحكن} أي أعطكن المتعة وأطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طلاقاً من غير ضرار وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ رُوي أنهن سألنه صلى الله عليه وسلم ثيابَ الزِّينةِ وزيادةَ النَّفقةِ فنزلت فبدأ بعائشة

ص: 100

الاحزاب 29 30 فخيَّرها فاختارتْ الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ ثمَّ اختارتِ الباقياتُ اختيارَها فشكرَ لهنَّ الله ذلكَ فنزلَ لَاّ يحل لك النساء من بَعْدُ واختُلف في أنَّ هذا التخييرَ هل كان تفويض الطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى يقعَ الطَّلاقُ بنفسِ الاختيارِ أولا فذهبَ الحسنُ وقَتَادةُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّه لم يكُن تفويضَ الطَّلاقِ وإنَّما كانَ تخييراً لهنَّ بينَ الإرادتينِ على أنهنَّ إنْ أردنَ الدُّنيا فارقهنَّ صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه قولُه تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ وذهبَ آخرون إلى أنَّه كانَ تفويضاً للطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى لو أنهنَّ اخترنَ أنفسهنَّ كان ذلك طلاقاً وكذا اختُلف في حكمِ التَّخييرِ فقال ابنُ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم إذَا خيَّر رجلٌ امرأتَه فاختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً ولو اختارتْ نفسَها وقعتْ طلقةً بائنةً عندنا ورجعيَّةً عند الشَّافعيِّ وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ ورُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها إنِ اختارتْ زوجَها يقعُ طلقةً واحدةً وإنِ اختارتْ نفسَها يقعُ ثلاثَ طَلَقاتٍ وهو قولُ الحسنِ وروايةٌ عن مالكٍ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارتْ نفسَها فواحدةٌ بائنةٌ ورُوي عنه أيضاً أنها إنِ اختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً وعليه إجماعُ فقهاءِ الأمصارِ وقد رُوي عَنْ عائشةَ رضي الله عنها خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنَاهُ ولم يعدَّه طلاقاً وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ والمتعةُ في المطلقةِ التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها صَداقٌ عند العقدِ واجبةٌ عندَنا وفيما عداهنَّ مستحبَّةٌ وهي دِرعٌ وخمارٌ وملحفةٌ بحسبِ السَّعةِ والإقتارِ إلا أنْ يكونَ نصفُ مهرِها أقلَّ من ذلكَ فحينئذٍ يجبُ لها الأقلُّ منهُما ولا يُنقص عن خمسةِ دراهمٍ

ص: 101

{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي تردنَ رسولَه وذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله صلى الله عليه وسلم عندَه تعالى {والدار الاخرة} أي نعيمَها الذي لا قدرَ عندَه للدُّنيا وما فيها جميعاً {فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} بمقابلةِ إحسانِهن {أَجْراً عَظِيماً} لا يقادر قدره ولا يبلغ غايتُه ومِن للتَّبيينِ لأنَّ كلَّهن محسناتٌ وتجريدُ الشَّرطيةِ الأُولى عن الوعيدِ للمبالغةِ في تحقيقِ معنى التَّخييرِ والاحترازِ عن شائبةِ الإكراهِ وهو السرُّ فيما ذُكر من تقديمِ التَّمتيعِ على التَّسريحِ وفي وصفِ السَّراح بالجميل

ص: 101

{يا نساء النبى} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالاضافة اليه صلى الله عليه وسلم لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة} بكبيرةٍ {مُّبَيّنَةٍ} ظاهرةِ القُبحِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن وقرئ بفتحِ الياءِ والمرادُ بها كلُّ ما اقترفنَ من الكبائرِ وقيل هي عصيانُهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنَّ وطلبهنَّ منه ما يشقُّ عليه أو ما يضيق به ذرعُه ويغتمُّ لأجله وقرئ تأتِ بالفوقانيَّةِ {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} أي يعذبنَّ ضعفي عذابِ غيرهنَّ أي مثليهِ لأنَّ الذنبَ منهنَّ أقبحُ فإنَّ زيادةَ قُبحه تابعةٌ لزيادةِ فضلِ المذنبِ والنعمة عليه

ص: 101

الاحزاب 31 33 ولذلك جُعل حدُّ الحرِّ ضعفَ حدِّ الرَّقيقِ وعُوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يُعاتب به الامم وقرئ يُضعَّف على البناءِ للمفعولِ ويُضاعف ونُضعِّف بنونِ العظمةِ على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ العذابِ {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يمنعُه عن التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ

ص: 102

{ومن يقنت منكن} وقرئ بالتَّاءِ أي ومن يدُم على الطَّاعةِ {للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} مرةً على الطَّاعةِ والتَّقوى وأُخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة وقرئ يَعملْ بالياءِ حملاً على لفظِ مَنْ ويُؤتها على أنَّ فيهِ ضميرَ اسمِ الله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها المضاعفِ {رِزْقاً كَرِيماً} مرضيا

ص: 102

{يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} أصلُ أحدٍ وَحَد بمعنى الواحدِ ثم وُضع في النَّفيِ مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والكثيرُ والمعنى لستنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعاتِ النِّساءِ في الفضلِ والشَّرفِ {إِنِ اتقيتن} مخالفةَ حكمِ الله تعالى ورضا رسولِه أو إنِ اتصفتنَّ بالتَّقوى كما هُو اللائقُ بحالِكنَّ {فَلَا تَخْضَعْنَ بالقول} عند مخاطبةِ النَّاسِ أي لا تُجبْن بقولِكن خاضعاً ليِّناً على سَننِ قولِ المريبات والمُومساتِ {فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فجور وريبة وقرئ بالجزمِ عطفاً على محلِّ فعل النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريضِ القلبِ عن الطمعِ عقيب نهيهنَّ عن الإطماعِ بالقولِ الخاضعِ كأنَّه قيل فلا تخضعْنَ بالقولِ فلا يطمعَ مريضُ القلبِ {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} بعيداً عن الريبة والاطماع بحد وخشُونةٍ من غيرِ تخنيثٍ أو قولاً حسناً مع كونِه خَشِناً

ص: 102

{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} أمرٌ من قريقر من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها عَلى ما قبلَها كَما في قولِك ظلْن أو من قارَّ يقار إذا اجتمع وقرئ بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعِدن من وَعد أو من قريقر حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول ظلن {وَلَا تَبَرَّجْنَ} أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ {تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى} أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ وهي ما بينَ أدمَ ونوحٍ وقيلَ ما بين إدريس ونوحٍ عليهما السلام وقيل الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السلام كانت المرأة تلبس درعها من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل زمنُ داودُ وسليمانُ عليهما السلام والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الجاهلية الاولى جاهلية

ص: 102

الاحزاب 34 35 الكفرُ والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الاسلام ويؤيد قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدَّرداءِ إنَّ فيكَ جاهلية قال جاهليةَ كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ قال بل جاهليةُ كفرٍ {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرهما وكونهما اصلى الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه {إنما يريد الله ليذهب عَنكُمُ الرجس} أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمم الحكم بتعمميم الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ {أَهْلَ البيت} مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة {وَيُطَهّرَكُمْ} من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي {تَطْهِيراً} بليغاً واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصهم أهل البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم وأمَّا ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مرط مرجل من شَعَرٍ أسودَ وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ثمَّ قال إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لاعلى أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ

ص: 103

{واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ} أي اذكُرن للنَّاس بطريقِ العظةِ والتَّذكيرِ ما يُتلى في بيوتكنَّ {مِنْ آيات الله والحكمة} من الكتابِ الجامعِ بين كونِه آياتِ الله البينةِ الدَّالَّةِ على صدقِ النُّبوةِ بنظمِه المُعجزِ وكونِه حكمةً منطويةً على فُنونِ العلومِ والشَّرائعِ وهو تذكيرٌ بما أنعم عليهنَّ حيثُ جعلهنَّ أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومهبِطِ الوحيِ وما شاهدْن من بُرَحاءِ الوحيِ ممَّا يُوجب قوةَ الإيمانِ والحرصَ على الطَّاعةِ حثًّا على الانتهاءِ والائتمارِ فيما كُلّفنه والتعرضُ للتِّلاوةِ في البيوت دون النزول فيها مع أنَّه الأنسبُ لكونِها مهبطَ الوحيِ لعمومِها لجميعِ الآياتِ ووقوعِها في كلِّ البيوتِ وتكرُّرِها الموجبِ لتمكنهنَّ من الذِّكرِ والتَّذكيرِ بخلافِ النزولِ وعدمُ تعيينِ التَّالي لتعمَّ تلاوةَ جبريلَ وتلاوةَ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وتلاوتهنَّ وتلاوةَ غيرهنَّ تعليماً وتعلُّماً {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يعلمُ ويدبِّرُ ما يصلحُ في الدِّينِ ولذلك فعلَ ما فعلَ من الأمرِ والنَّهيِ أو يعلمُ مَن يصلُح للنُّبوةِ ومن يستأهلُ أنْ يكونَ من أهلِ بيتِه

ص: 103

{إِنَّ المسلمين والمسلمات} أي الدَّاخلينَ في السِّلمِ المُنقادينَ لحكمِ الله تعالى من الذُّكورِ والإناثِ {والمؤمنين والمؤمنات} المصدِّقينَ بما يجبُ أنْ يصدق

ص: 103

الاحزاب 36 37 بهِ من الفريقينِ {والقانتين والقانتات} المداومين على الطاعة القائمينَ بها {والصادقين والصادقات} في القولِ والعملِ {والصابرين والصابرات} على الطَّاعاتِ وعَنِ المَعَاصي {والخاشعين والخاشعات} المتواضعينَ لله بقلوبِهم وجوارحِهم {والمتصدقين والمتصدقات} بما وجبَ في مالِهم {والصائمين والصائمات} الصَّومَ المفروضَ {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} عن الحرام {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} بقلوبِهم وألسنتِهم {أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ما عمِلوا من الحسناتِ المذكورةِ {مغفرة} اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ {وَأَجْراً عَظِيماً} على ما صدرَ عنهُم من الطاعات والايات وعدلهن ولأمثالِهنَّ على الطَّاعةِ والتَّدرعِ بهذهِ الخصالِ الحميدةِ رُوي أن أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهنَّ قلنَ يا رسولَ الله ذَكَر الله الرِّجالَ في القرآنِ بخيرٍ فما فينا خيرٌ نذكرُ به إنَّا نخافُ أنْ لا تقبل منَّا طاعةٌ فنزلتْ وقيلَ السَّائلةُ أمُّ سلمةَ ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ في نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما نزلَ قالَ نساءُ المؤمنينَ فما نزلَ فينا شئ فنزلتْ وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ لاختلافِ الجنسينِ وهو ضروريٌّ وأمَّا عطفُ الزَّوجينِ على الزَّوجينِ فلتغايرِ الوصفينِ فلا يكونُ ضرورياً ولذلكَ تُرك في قولِه تعالى مسلمات مؤمنات وفائدتُه الدِّلالةُ على أنَّ مدارَ إعدادِ ما أُعدَّ لهُم جمعُهم بين هذهِ النُّعوتِ الجميلةِ

ص: 104

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ لرجلٍ ولا امرأةٍ من المؤمنينَ والمؤمناتِ {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} أيْ إذا قضَى رسولُ الله وذكرُ الله تعالى لتعظيم امره صلى الله عليه وسلم أو للإشعارِ بأنَّ قضاءَهُ صلى الله عليه وسلم قضاءُ الله عز وجل لأنَّه نزلَ في زينبَ بنتِ جحشٍ بنتِ عمَّتِه أميمةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدِ بنِ حارثةَ فأبتْ هيَ وأخُوها عبدُ اللَّه وقيلَ في أمِّ كُلثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي معيطٍ وهبتْ نفسَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فزوَّجها من زيدٍ فسخطتْ هي وأخُوها وقالا إنَّما أردنا الله ورسول الله فزوَّجنا عبدَه {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أنْ يختارُوا من أمرِهم ما شاءوا بل يجبُ عليهم أنْ يجعلُوا رايهم تبعا لرأيه صلى الله عليه وسلم واختيارهم تلو الاختيار وجمعُ الضَّميرينِ لعمومِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ لوقوعِهما في سياقِ النَّفيِ وقيل الضَّميرُ الثَّانِي الرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم وقرئ تكونَ بالتَّاءِ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في أمرٍ من الأمورِ ويعملْ فيهِ برأيِه {فَقَدْ ضَلَّ} طريقَ الحق {ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن الانحرافِ عن سَنَنِ الصَّوابِ

ص: 104

{وَإِذْ تَقُولُ} أي واذكُر وقتَ قولِك {لِلَّذِى أَنعَمَ الله عليه} بتوفيقه

ص: 104

الاحزاب 38 للإسلامِ وتوفيقِك لحسنِ تربيتِه ومراعاتِه {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعملِ بما وفَّقك الله له من فنونِ الإحسانِ التي من جُملتها تحريرُه وهو زيد بنُ حارثةَ وإيرادُه بالعنوانِ المذكورِ لبيانِ منافاةِ حالِه لما صدرَ عنه صلى الله عليه وسلم من إظهارِ خلافِ ما في ضميرِه إذ هُو إنَّما يقعُ عند الاستحياءِ أو الاحتشامِ وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقِّ زيدٍ {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي زينبَ وذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم أبصرَها بعد ما أنكحَها إيَّاه فوقعتْ في نفسِه حالةٌ جبلِّيةٌ لا يكادُ يسلمُ منها البشرُ فقالَ سبحانَ الله مقلبِ القلوبِ وسمعتْ زينبُ بالتَّسبيحةِ فذكرتْها لزيدٍ ففطِن لذلكَ ووقعَ في نفسِه كراهةُ صُحبتِها فاتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتي فقال مالك أرابك منها شئ قال لا والله ما رأيتُ منها إلا خيراً ولكنَّها لشرفِها تتعظمُ عليَّ فقال له أمسكْ عليكَ زوجَك {واتق الله} في أمرِها فلا تُطلقها إضراراً وتعللاً بتكبّرها {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وهو نكاحُها إنْ طلَّقها أو إرادةُ طلاقِها {وَتَخْشَى الناس} تعييرَهم إيَّاك به {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} إنْ كانَ فيه ما يُخشى والواوُ للحالِ وليستْ المعاتبةُ على الإخفاءِ وحدَه بل على الإخفاءِ مخافةَ قالةِ النَّاسِ وإظهارِ ما ينافى إضمار فإنَّ الأَولى في أمثالِ ذلك أنْ يصمتَ أو يُفوِّضَ الأمرَ إلى ربِّه {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} بحيثُ لم يبقَ له فيها حاجةٌ وطلَّقها وانقضتِ عدَّتُها وقيل قضاءُ الوَطَرِ كنايةٌ عن الطَّلاقِ مثلُ لا حاجةَ لي فيك {زوجناكها} وقرئ زوَّجتكها والمرادُ الأمرُ بتزويجِها منه صلى الله عليه وسلم وقيل جعَلَها زوجتَه بلا واسطةِ عقدٍ ويُؤيده أنَّها كانتْ تقولُ لسائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ الله تعالى تولَّى نكاحي وأنتنَّ زوجكنَّ أولياؤكنَّ وقيل كان زيدٌ السَّفيرَ في خطبتِها وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ وشاهدُ عدلٍ بقوَّةِ إيمانه {لكي لا يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} ضيقٌ ومشقَّةٌ {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي في حقِّ تزوجهن {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} فإنَّ لهم فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حسنة وفيه دلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمَ الأمَّة سواءٌ إلا ما خصَّه الدَّليلُ {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما يرتد تكوينَه من الأمورِ أو مأموره الخاص بكُنْ {مَفْعُولاً} مكوناً لا محالةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَه

ص: 105

{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسمَ له وقدَّر من قولِهم فرَضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم {سُنَّةَ الله} اسمٌ موضوعٌ موضع المصدر كقولهم ترابا وجنَدْلَا مؤكدٌ لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً {فِى الذين خَلَوْاْ} مضَوا {مِن قَبْلُ} من الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السلام مائة امرأة وثلثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة وقولُه تعالَى {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتاً اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقه

ص: 105

الاحزاب 39 42

ص: 106

{الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله} صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم بالنَّصبِ أو بالرفع وقرئ رسالةَ الله {وَيَخْشَوْنَهُ} في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لا سيِّما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفاً ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَاّ الله} في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه صلى الله عليه وسلم من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه {وكفى بالله حَسِيباً} كافياً للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه أو محاسباً على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى

ص: 106

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} أي على الحقيقة حتى يثبتُ بينَهُ وبينَهُ ما يثبت بين الولد وولدِه من حُرمةِ المُصاهرة وغيرِها ولا ينتقضُ عمومُه بكونه صلى الله عليه وسلم ابا الطاهر والقاسمِ وإبراهيمَ لأنهم لم يبلغوا الحُلُمَ ولو بلغُوا لكانوا رجالا له صلى الله عليه وسلم لا لَهمُ {ولكن رَّسُولَ الله} أي كانَ رسولاً لله وكلُّ رسولٍ أبُو أمَّتهِ لكنْ لا حقيقةً بل بمعنى أنَّه شفيقٌ ناصحٌ لهم وسببٌ لحياتِهم الابدية وما زيدٌ إلا واحدٌ من رجالِكم الذين لا ولادة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فحكمه حكمُهم وليس للتبنِّي والادِّعاءِ حكمٌ سوى التَّقريبِ والاختصاصِ {وَخَاتَمَ النبيين} أي كان آخرهم الذي خُتموا به وقُرىء بكسر التَّاءِ أي كان خاتمِهم ويؤيده قراءةُ ابنِ مسعود ولكنْ نبياً ختَم النبيِّينَ وأيّاً ما كانَ فلو كانَ له ابنٌ بالغٌ لكان نبيّاً ولم يكنُ هو صلى الله عليه وسلم خاتمَ النبيِّينَ كما يُروى أنَّه قالَ في إبراهيمَ حينَ تُوفِّي لو عاشَ لكانَ نبيّاً ولا يقدحُ فيه نزولُ عيسىَ بعدَهُ عليهما السلام لانَّ معنى كونِه خاتمَ النبيِّينَ أنَّه لا ينبأ احد بعده وعيسى ممَّن نُبِّىء قبلَه وحينَ ينزلُ إنَّما ينزلُ عملا على شريعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُصلِّياً إلى قبلتِه كأنَّه بعضُ أمَّتهِ {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} ومن جُملتهِ هذهِ الأحكامُ والحِكمُ التي بيَّنها لكُم وكنتمُ منها في شكَ مريبٍ

ص: 106

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا الله} بما هُو أهلُه من التَّهليلِ والتحميد والتَّمجيدِ والتقديس {ذِكْراً كَثِيراً} يعمُّ الأوقاتِ والأحوالَ

ص: 106

{وَسَبّحُوهُ} ونزِّهوه عمَّا لا يليقُ به {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أوَّلَ النَّهارِ وآخرَه على أنَّ تخصيصَهُما بالذِّكرِ ليسَ لقصرِ التَّسبيحِ عليهما دُونَ سائرِ الأوقاتِ بل لإبانةِ فضلِهما على سائرِ الأوقاتِ لكونِهما مشهُودينِ كأفرادِ التَّسبيحِ من بينِ الأذكارِ مع اندراجهِ فيها لكونِه العُمدةَ فيها وقيل كِلا الفعلينِ متوجهٌ إليهما كقولِك صُمْ وصَلِّ يومَ الجمعةِ وقيلَ المرادُ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ

ص: 106

الاحزاب 43 45

ص: 107

{هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من الأمرينِ فإنَّ صلاتَهُ تعالى عليهم مع عدمِ استحقاقِهم لها وغناهُ عن العالمينَ ممَّا يُوجبُ عليهم المُداومةَ علَى ما يستوجبُه تعالى عليهم من ذكرِه تعالى وتسبيحِه وقوله تعالى {وملائكته} عطفٌ على المستكنِّ في يصلِّي لمكانِ الفصلِ المغنيِّ عن التَّأكيدِ بالمنفصلِ لكنْ لا على أنْ يُرادَ بالصَّلاةِ الرَّحمةُ أوَّلاً والاستغفارُ ثانياً فإنَّ استعمالَ اللَّفظِ الواحدِ في معنيينِ مُتغايرينِ ممَّا لا مساغَ له بل عَلى أنْ يُرادَ بهما معنى مجازيٌّ عامٌّ يكون كلا المعنيينِ فرداً حقيقياً له وهو الاعتناءُ بما فيهِ خيرُهم وصلاحُ أمرِهم فإنَّ كُلاًّ منَ الرَّحمةِ والاستغفارِ فردٌ حقيقيٌّ له أو التَّرحُّمُ والانعطافُ المعنويُّ المأخوذُ من الصَّلاةِ المُشتملةِ على الانعطافِ الصُّوري الذي هو الرُّكوعُ والسُّجودُ ولا ريبَ في أنَّ استغفارَ الملائكةِ ودعاءَهم للمؤمنينَ تَرحُّمٌ عليهم وأمَّا أنَّ ذلك سببٌ للرَّحمةِ لكونِهم مُجابي الدَّعوةِ كما قيلَ فاعتبارُه ينزعُ إلى الجمعِ بينَ المعنيينِ المُتغايرينِ فتدبَّرْ {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} متعلق بيصلِّي أي يعتني بأمورِكم هو وملائكتُه ليخرجَكم بذلك من ظلماتِ المعصيةِ إلى نُور الطَّاعةِ وقولُه تعالى {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي كانَ بكافَّة المُؤمنينَ الذين انتم من زمرتم رحيماً ولذلك يَفعل بكم ما يفعلُ من الاعتناءِ بإصلاحِكم بالذَّاتِ وبالواسطةِ ويهديكم إلى الإيمانِ والطَّاعةِ أو كانَ بكُم رحيماً على أنَّ المُؤمنين مُظهرٌ وُضعَ موضع المضمر مدحا لهم وإشعاراً بعلَّة الرَّحمةِ وقولُه تعالى

ص: 107

{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} بيانٌ للأحكامِ الآجلةِ لرحمةِ الله تعالى بهم بعدَ بيانِ آثارها العاجلةِ التي هي الاعتناءُ بأمرِهم وهدايتُهم إلى الطَّاعةِ أي ما يُحيَّون به على أنَّه مصدرٌ أُضيفَ إلى مفعولِه يومَ لقائِه عند الموتِ أو عندَ البعثِ منَ القُبورِ أو عندَ دخولٍ الجنَّةِ تسليم عليهم منَ الله عز وجل تعظيماٍ لهُم أو منَ الملائكةِ بشارةً لهم بالجنَّةِ أو تكرمة لهُم كما في قولِه تعالى والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ أو إخبارٌ بالسَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} بيانٌ لأثارِ رحمتِه الفائضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عقيبَ بيانِ آثارِ رحمتِه الواصلةِ إليهم قبلَ ذلكَ ولعلَّ إيثارَ الجملةِ الفعليةِ على الإسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلاً وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببيانِ أنَّ الأجرَ الذي هُو المقصِدُ الأقصى مِنْ بينِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل

ص: 107

{يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدرَ عنهُم منَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبولا

ص: 107

الاحزاب 46 49 فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ {وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ

ص: 108

{وَدَاعِياً إِلَى الله} أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ من صفاتِه وأفعالِه {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيرِه أُطلق عليه مجازاً لمَا أنَّه من أسبابِه وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذاناً بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} يُستضاءُ به في ظلمات الجهل والغواية ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ

ص: 108

{وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم {بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ

ص: 108

{وَلَا تُطِعِ الكافرين والمنافقين} نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغة في الزجر والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه بنظمه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها ومن حمل النهي على التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ {وَدَعْ أذاهم} أي لاتبال بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كلِّ ما تأتِي وما تذرُ من الشئون التي من جملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم {وكفى بالله وَكِيلاً} موكُولاً إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييل ولما وصف صلى الله عليه وسلم بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلَا أنَّه لم يُذكر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحاً وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفاً وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنه بالامر بالتوكل عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهاناً نيِّراً يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ

ص: 108

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهنَّ وقُرىء تُماسُّوهن بضمِّ التَّاءِ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} بأيامٍ يتربصنَّ فيها بأنفسهنَّ {تَعْتَدُّونَهَا} تستوفونَ عددَها من عددتُ الدَّراهمَ فاعتدَّها وحقيقتُه عدُّها لنفسِه وكذلك كِلتُه فاكتَالَهُ والإسنادُ إلى الرَّجالِ للدَّلالةِ على أنَّ العِدَّةَ حق

ص: 108

الاحزاب 50 الأزواجِ كما أشعرَ به قولُه تعالى فما لَكُم وقُرىء تَعْتَدُونها على إبدالِ إحدى الدَّالينِ بالتَّاءِ أو على أنَّه من الاعتداءِ بمعنى تعتدُون فيها والخلوةُ الصَّحيحةُ في حكمِ المسِّ وتخصيصُ المؤمناتِ مع عمومِ الحكم للكتابيات للتنبيه على أنَّ المؤمنَ من شأنِه أنْ يتخَّيرَ لنطفتةِ ولا ينكحُ إلَاّ مؤمنةً وفائدةُ ثمَّ إزاحةُ ما عسى يُتوهَّم أنَّ تراخِيَ الطَّلاقِ ريثما تمكنُ الإصابةُ يؤثر في العِدَّةِ كما يُؤثر في النَّسبِ {فَمَتّعُوهُنَّ} أي إنْ لم يكُن مفروضاً لها في العقدِ فإن الواجبَ للمفروضِ لها نصفُ المفروض دُونَ المُتعةِ فإنها مستحبَّةٌ عندنَا في روايةٍ وفي أُخرى غيرُ مستحبَّةٍ {وَسَرّحُوهُنَّ} أخرجُوهنَّ من منازلِكم إذْ ليسَ لكُم عليهنَّ عَّدةٌ {سَرَاحاً جَمِيلاً} من غيرِ ضرارٍ ولا منعِ حقَ ولا مساغَ لتفسيرِه بالطَّلاقِ السُّنيِّ لأنَّه إنَّما يتسنَّى في المدخُولِ بهنَّ

ص: 109

{يا أيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتي آتيت أُجُورَهُنّ} أي مهورهِنَّ فإنَّها أجورُ الأبضاعِ وإيتاؤها إمَّا إعطاؤُها معجَّلةً أو تسميتُها في العقدِ وأيّاً ما كانَ فتقييدُ الإحلالِ له صلى الله عليه وسلم به ليسَ لتوقفِ الحلِّ عليه ضرورةَ أنَّه يصحُّ العقدُ بلا تسميةٍ ويجبُ مهرُ المثلِ أو المتعةُ على تقديرَيْ الدُّخولِ وعدمِه بل لإيثارِ الأفضلِ والأولى له صلى الله عليه وسلم كتقييدِ إحلالِ المملوكةِ بكونِها مسْبيةً في قولِه تعالى {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} فإنَّ المُشتراةَ لا يتحققُ بدءُ أمرِها وما جَرى عليها وكتقييد القرائبِ بكونهنَّ مهاجراتٍ معه في قولِه تعالى {وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ} ويحتملُ تقييدَ الحلِّ بذلكَ في حقه صلى الله عليه وسلم خاصَّة ويعضدُه قولُ أمِّ هانئ بنتِ أبي طالبٍ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إليه فعذرَني ثم أنزلَ الله هذه الآيةَ فلم أحِلَّ له لأنِّي لم أُهاجر معه كنتُ من الطُّلقاءِ {وامرأة مُّؤْمِنَةً} بالنَّصبِ عطفاً على مفعولِ أحللنَا إذْ ليسَ معناهُ إنشاءَ الإحلالِ النَّاجزِ بل إعلامَ مطلقِ الاحلالِ المنتظمِ لما سبق ولحق وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي أحللناهَا لكَ أيضاً {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ} أي مَّلكتْه بُضعَها بأيِّ عبارةٍ كانتْ بلا مهٍر إنْ اتفقَ ذلك كما ينبئ عنه تنكيرُها لكنْ لا مطلقاً بل عندَ إرادتِه صلى الله عليه وسلم استنكاحَها كما نطقَ به قوله عز وجل {أن أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي أنْ يتملَّكَ بُضعَها كذلكَ أي بلا مهرٍ فإنَّ ذلكَ جارٍ منه صلى الله عليه وسلم مَجرى القبولِ وحيثُ لم يكنُ هذا نصَّاً في كونِ تمليِكها بلفظِ الهبةِ لَم يصلُحْ أنّ يكونَ مَنَاطاً للخلافِ في انعقادِ النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلباً واختُلف في اتفاقِ هذا العقدِ فعنِ ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم أحدٌ منهنَّ بالهبةِ وقيل الموهوبات أربعٌ ميمونةُ بنتُ الحرث وزينب بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّة وأمُّ شريكِ بنتُ جابر وخولة بنت حكيم وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين

ص: 109

الاحزاب 51 بعُنوان النُّبوةِ بطريقِ الالتفاتِ للتكرمةِ والإيذانِ بأنَّها المناطُ لثبوتِ الحُكمِ فيختصُّ به صلى الله عليه وسلم حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى {خَالِصَةً لَّكَ} أي خلصَ لك إحلالُها خالصةً أي خُلوصاً فإنَّ الفاعلةَ في المصادرِ غيرُ عزيزٍ كالعافيةِ والكاذبةِ أو خلصَ لك إحلالُ ما أحللنَا لكَ من المذكُوراتِ على القُيودِ المذكورةِ خالصةً ومَعنى قولِه تعالى {مِن دُونِ المؤمنين} على الأولِ أنَّ الإحلالَ المذكورَ في المادَّةِ المعهُودةِ غير متحقق في حقهم وإنَّما المتحقِّقُ هناك الإحلالُ بمهر المثل وعلى الثاني أنَّ إحلالَ الجميعِ على القُيودِ المذكورةِ غير متحقِّقٍ في حقِّهم بل المتحقِّقُ فيه إحلالُ البعضِ المعدودِ على الوجه المعهود وقرئ خالصةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ خلوصٌ لك وخصوصٌ أو هيَ أيْ تلك المرأةُ أو الهبةُ خالصةٌ لك لا تتجاوزُ المؤمنينَ حيث لا تحل لهم بغيرِ مهرٍ ولا تصحُّ الهبةُ بل يجبُ مهر المثلِ وقولُه تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {فِى أزواجهم} أي في حقِّهنَّ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَه من خلوصِ الإحلالِ المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزِه للمؤمنينَ ببيانِ أنَّه قد فُرض عليهم منْ شرائطِ العقدِ وحقوقِه ما لم يُفرضْ عليه صلى الله عليه وسلم تكرمةً له وتوسعةً عليهِ أي قد علمنَا ما ينبغِي أنْ يُفرض عليهم في حقِّ أزواجِهم {وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} وعلى أيِّ حدَ وأيِّ صفةٍ يحقُّ أن يُفرضَ عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعضِ الخصائصِ {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي ضيقٌ واللامُ متعلقةٌ بخالصةٍ باعتبار ما فيها من معَنى ثبوتِ الإحلالِ وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبارِ اختصاصه به صلى الله عليه وسلم لأنَّ مدارَ انتفاءِ الحرجِ هو الأوَّلُ لا الثَّانِي الذي هو عبارة عن عدمُ ثبوتِه لغيرِه {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما يعسرُ التَّحرزُ عنه {رَّحِيماً} ولذلكَ وسَّع الأمرَ في مواقعِ الحَرَجِ

ص: 110

{تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} أيْ تُؤخِّرها وتتركُ مضاجعتَها {وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء} وتضمُّ إليكَ مَن تشاءُ منهنَّ وتُضاجعها أو تطلِّق مَن تشاءُ منهنّ وتُمسك من تشاء وقرئ ترجئ بالهمزةِ والمعنى واحدٌ {وَمَنِ ابتغيت} أي طلبتَ {مِمَّنْ عزلت} طلقت بالرجعية {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} في شئ مَّما ذُكر وهذه قسمةٌ جامعةٌ لما هو الغرضُ لأنَّه إمَّا أنْ يطلِّقَ أو يمسكَ فإذا أمسكَ ضاجعَ أو تركَ وقسمَ أو لم يقسم وإذا طلِّق فإمَّا أنْ يخلِّيَ المعزولةَ أو يبتغيَها ورُوي أنَّه أَرْجى منهنَّ سَوْدةَ وجُويريةَ وصفيَّةَ وميمُونةَ وأمَّ حبيبةٍ فكانَ يقسمُ لهنَّ ما شاءَ كما شاءَ وكانتْ ممَّا آوى إليهِ عائشةُ وحفصةُ وأمُّ سلمةٍ وزينبُ وأرجَى خمْساً وآوى أربعاً ورُوي أنَّه كان يُسوِّي بينهنَّ مع ما أُطلق له وخُيِّر إلا سودَة فإنَّها وهبتْ ليلتَها لعائشة رضى الله عنهن وقالتْ لا تُطلِّقْني حَتَّى أُحشرَ في زُمرةِ نسائكِ {ذلك} أي ما ذكر من تفويضِ الأمرِ إلى مشيئتِك {أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتيتهن كُلُّهُنَّ} أي أقربُ إلى قُرَّةِ عُيونهنَّ ورضاهنَّ جميعاً لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيهِ سواءٌ ثمَّ إنْ سَوَّيتَ بينهنَّ وجدنَ ذلكَ تفضُّلاً منكَ وإنْ رجَّحت بعضهنَّ علمن

ص: 110

الاحزاب 52 أنَّه بحكمِ الله فتطمئنَّ به نفوسهن وقرئ تُقِرَّ بضمِّ التَّاءِ ونصب أعينهنَّ وتُقَرُّ على البناءِ للمفعول وكلهنَّ تأكيدٌ لنونِ يرضينَ وقرى بالنَّصبِ على أنَّه تأكيدٌ لهنَّ {والله يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من الضَّمائرِ والخواطرِ فاجتهدُوا في إحسانِها {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ فيعلمُ كلَّ ما تُبدونَهُ وتُخفونَهُ {حَلِيماً} لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا تغترُّوا بتأخيرِها فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ

ص: 111

{لا يحل لك النساء} بالياءِ لأنَّ تأنيثَ الجمعِ غيرُ حقيقيَ ولوجودِ الفصلِ وقرئ بالتاء {مِن بَعْدُ} أي من بعدِ التِّسعِ وهو في حقِّه كالأربعِ في حقِّنا وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ من بعدِ هؤلاء التَّسعِ اللاتِي خيرتهنَّ فاخترنَك وقيلَ من بعد اختيارِهنَّ الله ورسولَه ورضاهنَّ بما تؤتيهنَّ من الوصلِ والهُجرانِ {وَلَا أَن تَبَدَّلَ} أي تتبدلَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ {بِهِنَّ} أي بهؤلاءِ التِّسعِ {مِنْ أَزْوَاجٍ} بأنْ تُطلقَ واحدةً منهنَّ وتنكحَ مكانَها أُخرى ومنْ مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ أرادَ الله تعالى لهنَّ كرامةً وجزاءً على ما اخترنَ ورضينَ فقصرَ رسولَه عليهنَّ وهنَّ التِّسعُ اللاتي توفى صلى الله عليه وسلم عنهنَّ وهُنَّ عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحفصةُ بنتُ عمرَ وأمُّ حبيبةٍ بنتُ ابي سفيان وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَه وأمُّ سلمةَ بنتُ أبي أُميَّة وصفية بنت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الاسدية وجويرية بنت الحرث المصطلِقيةُ وقالَ عكرمةُ المعنى لا يحل لك النساء من بعدِ الاجناسِ الأربعةِ اللاتِي أحللناهنَّ لكَ بالصِّفةِ التي تقدَّم ذكرُها من الأعرابياتِ والغرائبِ أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ بالنِّكاحِ ويأباهُ قولُه تعالى وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ فإنَّ معنَى إحلالِ الأجناسِ المذكورةِ إحلالُ نكاحهنَّ فلا بدَّ أنْ يكونَ معنى التبدلِ بهنَّ إحلالَ نكاحِ غيرِهنَّ بدلَ إحلالِ نكاحهنَّ وذلكَ إنَّما يُتصوَّرُ بالنَّسخِ الذي ليسَ من الوظائفِ البشريَّةِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي حسنُ الأزواجِ المستبدلةِ وهو حالٌ من فاعلِ تبدلَ لا من مفعولِه وهو من أزواج لنوغله في التنكيرِ قيل تقديرُه مفروضاً إعجابُك بهنَّ وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل هي أسماءُ بنتُ عُميسٍ الخَثعميَّةُ امرأةُ جعفرَ بنِ أبي طالبٍ أي هي ممن أعجبه صلى الله عليه وسلم حسنُهنَّ واختُلف في أنَّ الآيةَ محكمةٌ أو منسوخةٌ قيل بقولِه تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وقيل بقولِه تعالى إنَّا أحللنَا لكَ وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيبِ المُصحفِ وقيل بالسنة وعنْ عائشةَ رضي الله عنها مامات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحلَّ له النِّساءُ وقال أنسٌ رضي الله عنه مات صلى الله عليه وسلم على التَّحريم {إِلَاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ من النِّساءِ لأنَّه يتناولُ الأزواجَ والإماء وقيل منقطعٌ {وَكَانَ الله على كُلّ شىء رَّقِيباً} حافظاً مُهيمناً فاحذرُوا مجاوزةَ حدودِه وتخطِّي حلالِه الى حرامه

ص: 111

الاحزاب 53

ص: 112

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى} شروعٌ في بيان ما يجبُ مراعاتُه على النَّاسِ من حُقوقِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ ما يجبُ مراعاته عليه صلى الله عليه وسلم منَ الحقوقِ المُتعلقةِ بهنَّ وقوله الى {إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تدخلُوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ لا تدخلُوها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يُؤذنَ لكُم وردَّ عليهِ بأنَّ النحاة نصوا على أنَّ الوقوعَ موقعَ الظَّرفِ مختصٌّ بالمصدرِ الصَّريحِ دُونَ المؤولِ لا يُقال آتيكَ أنْ يصيحَ الدِّيكُ وإنَّما يقالُ آتيكَ صياحَ الدِّيكِ وقولُه تعالى {إلى طَعَامٍ} متعلَّقٌ بيؤذنُ بتضمينِ معنى الدُّعاءِ للإشعارِ بأنَّه لا ينبغِي أنْ يدخلُوا على الطَّعامِ بغيرِ دعوةٍ وإنْ تحققَ الإذنُ كما يُشعر به قوله تعالى {غَيْرَ ناظرين إناه} أي غيرَ منتظرينَ وقتَهُ أو إدراكَه وهو حالٌ من فاعلِ لا تدخلوُا على أنَّ الاستثناءَ واقعٌ على الوقتِ والحالِ معاً عندَ مَنْ يُجوزه أو من المجرور في لكم وقرئ بالجرِّ صفةً لطعامٍ فيكون جارياً على غيرِ مَن هُو له بلا إبرازِ الضِّميرِ ولا مساغٍ له عند البصريين وقرئ بالإمالةِ لأنَّه مصدرٌ أنَى الطعامَ أي أدركَ {وَلَكِنْ إذا دعيتم فادخلوا} استداراك من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغيرِ إذنٍ وفيهِ دلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليهِ {فَإِذَا طَعِمْتُم فانتشروا} فتفرقُوا ولا تلبثُوا لانه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيدخُلون ويقعدُون منتظرين لإدراكِه مخصوصةً بهم وبأمثالِهم وإلَاّ لما جازلا حد ان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنٍ لغيرِ الطَّعامِ ولا اللبث بعد الطعام لأمرمهم {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي لحديثِ بعضِكم بَعضاً أو لحديثِ أهلِ البيتِ بالتَّسمعِ له عطفٌ على ناظرينَ أو مقدَّرٌ بفعلٍ أي ولا تدخلوا أو لا تمكثُوا مستأنسين الخ {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي الاستئناسُ الذي كنتُم تفعلونَهُ من قبل {كَانَ يُؤْذِى النبى} لتضييقِ المنزَّلِ عليهِ وعلى أهلِه وإيجابِه للاشتغالِ بما لا يعينه وصدِّه عن الاشتغالِ بما يعنيه {فيستحيي مّنكُمْ} أي من إخراجِكم لقولِه تعالى {والله لَا يستحيي مِنَ الحق} فإنَّه يستدعِي أنْ يكونَ المستحى منه أمراً حقَّاً متعلِّقاً بهم لا انفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغي أنْ لا يُترك حياءً ولذلك لم يتركْه تعالى وأمرَكم بالخروجِ والتَّعبيرُ عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة كله وقرئ لا يستحِي بحذفِ الياءِ الأُولى وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} الضمير لسناء النبيِّ المدلولِ عليهنَّ بذكرِ بيوته صلى الله عليه وسلم {متاعا} أي شيئاً يُتمتّع بهِ من الماعونِ وغيرِه {فاسألوهن} أي المتاعَ {مِن وَرَاء حجاب} أي ستر ورُوي أن عمر رضي اله عنه قالَ يا رسولَ الله يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فنزلتْ وقيلَ إنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَطعمُ ومعه بعضُ أصحابِه فأصابتْ يدُ رجلٍ منهم يد

ص: 112

الاحزاب 54 56 عائشةَ رضي الله عنها فكرِه النبيُّ ذلكَ فنزلتْ {ذلكم} أي ما ذُكر من عدمِ الدُّخولِ بغير إذن وعدم الاستئاس للحديثِ عند الدُّخولِ وسؤالِ المتاع من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي أكثرُ تطهيراً من الخواطرِ الشَّيطانيَّةِ {وَمَا كَانَ لَكُمْ} أي وما صحَّ وما استقامَ لكُم {أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} أي أنْ تفعلُوا في حياتِه فعلاً يكرهه ويتأذَّى به {وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بعده أبدا} أي من بعدَ وفاتِه أو فراقِه {إِنَّ ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكر منْ إيذائِه صلى الله عليه وسلم ونكاحِ أزواجهِ من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرِّ والفسادِ {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي أمراً عظيماً وخطباً هائلاً لا يُقادر قدرُه وفيهِ من تعظيمِه تعالى لشأنِ رسوله صلى الله عليه وسلم وإيجابِ حُرمتِه حيَّاً وميِّتاً مالا يخفى ولذلكَ بالغَ تعالى في الوعيدِ حيثُ قال

ص: 113

{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم {أَوْ تُخْفُوهْ} في صدورِكم {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ

ص: 113

{لَاّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى آبائهن وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إخوانهن وَلَا أَبْنَاء إخوانهن وَلَا أَبْنَاء أخواتهن} استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزات آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل واسحق أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات وقيل لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لا بنائهما {وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي نساءِ المُؤمناتِ {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من العبيدِ والإماءِ وقيلَ من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ {واتقين الله} في كل ما تأتن وما تذرن لاسيما فيما أمرتن به ونهيتن عنْهُ {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً} لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ

ص: 113

{إِنَّ الله وملائكته} وقُرىء وملائكتُه بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِ ان اسمها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ {يُصَلُّونَ عَلَى النبى} قيل الصَّلاةُ من الله الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ وقالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون وقالَ أبوُ العاليةِ صلاةُ الله

ص: 113

الاحزاب 57 58 تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى يجازي عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقا له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ {وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ وقيلَ المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه وقيل يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه صلى الله عليه وسلم رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصل علي وقوله صلى الله عليه وسلم مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله ويُروى أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلَاّ قالَ ذانِك الملكانِ غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلَاّ قال دانك ملكان لا غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ومنهم من قال بجب في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وان تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ والذي يقتضيهِ الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه صلى الله عليه وسلم أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمه الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ وأمَّا الشَّافعيُّ رحمه الله فقد جعلَها شرطاً وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عز وجل مع كونِه عزيزاً جليلاً

ص: 114

{إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى وقيلَ في إيذائِه تعالى هو قول اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي ايذاء الرسول صلى الله عليه وسلم هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتَه وشجُّ وجهَه الكريمَ يومَ أُحد وقيلَ طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ والحقُّ هو العمومُ فيهما واما ايذاؤه صلى الله عليه وسلم خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عز وجل لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وايذاؤه صلى الله عليه وسلم إيذاءٌ له سبحانَه {لَّعَنَهُمُ الله} طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه {فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها {وَأَعَدَّ لَهُمْ} معَ ذلكَ {عَذَاباً مُّهِيناً} يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة

ص: 114

{والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعل وتقييده

ص: 114

الاحزاب 59 61 بقول تعالى {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه {فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} أي ظَاهراً بيّناً قيل إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون عليا رضي الله عنه ويسمعونه مالا خيرَ فيه وقيلَ في أهلِ الإفكِ وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاء حوائجهن كانوا لا يتعرَّضُون إلَاّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهما التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المرجفين

ص: 115

{يا أيها النبي} بعدما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ امر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ {قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرداء تلوبه المراة على راسها وتقي منه ما لرسله على صدرِها وقيل هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي ومِنْ للتبغيض لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها وعن السُّدِّيِّ تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ {ذلك} أي ما ذكر من التَّغطِّي {أدنى} أقربُ {أَن يُعْرَفْنَ} ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم {فَلَا يُؤْذَيْنَ} من جهة اهل الريبة بالتعرضِ لهنَّ {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ {رَّحِيماً} بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ

ص: 115

{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} عمَّا هُم عليهِ من النزلزل وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ {والمرجفون فِى المدينة} من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الا راجيف الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ} عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ الدلالة على ان الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى الله عليه وسلم أعظمُ ما يُصيبهم {فِيهَا} أي في المدينةِ {إِلَاّ قَلِيلاً} زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه

ص: 115

{مَّلْعُونِينَ} نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوِّزه كما مر في قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً}

ص: 115

الاحزاب 62 67 لأنَّ ما بعد كلمةِ الشرط لا يعمل فيها قبلَها

ص: 116

{سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله ذلكَ في الأممِ الماضيةِ سُنَّةً وهي ان يقتل الذين نافقُوا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وسعَوا في توهينِ أمرِهم بالإرجافِ ونحوهِ أَينما ثُقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبديلا} اصلا لا بتنائها على أساسِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ فلكُ التَّشريع

ص: 116

{يسألك الناس عَنِ الساعة} أي عن وقتِ قيامِها كانَ المشركون يسألونه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ استعجالاً بطريقِ الاستهزاءِ واليهودُ امتحاناً لما أنَّ الله تعالى عَمَّى وقتَها في التَّوراةِ وسائرِ الكتبِ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} لا يُطلعُ عليهِ ملكاً مقرَّباً ولا نبَّياً مُرسلاً وقولُه تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ} خطابٌ مستقلٌّ له صلى الله عليه وسلم غيرُ داخلٍ تحت الأمر مسوقٌ لبيانِ أنَّها معَ كونِها غيرَ معلومةٍ للخلقِ مرجوَّة المجيءِ عن قريبٍ أيْ أيُّ شيءٍ يُعلمك بوقتِ قيامِها أي لا يُعلمك به شيءٌ أَصْلاً {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي شَيْئاً قَريباً أو تكونُ السَّاعةُ في وقتٍ قريبٍ وانتصابُه على الظَّرفيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ باعتبارِ أنَّ السَّاعةَ في مَعنْى اليَّوم أو الوقتِ وفيهِ تهديدٌ للمُستعجلينَ وتبكيتٌ للمتعنتينَ والإظهارُ في حيِّزِ الاضمار للتهويل وزيادةِ التَّقريرِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملة كما أُشير إليهِ

ص: 116

{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين} على الإطلاقِ أي طردَهُم وأبعدَهُم من رحمتِه العاجلةِ والآجلةِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلكَ {سَعِيراً} ناراً شديدةَ الاتقادِ يقاسُونها في الآخرةِ

ص: 116

{خالدين فِيهَا أَبَداً لَاّ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحفظُهم {وَلَا نصيرا} بخلصهم منها

ص: 116

{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار} ظرفٌ لعدمِ الوجدانِ وقيل لخالدينَ وقيل لنصيراً وقيل مفعول لا ذكر أي يومَ تُصرَّفُ وجوهُهم فيها من جهةٍ إلى جهةٍ كلحمٍ يُشوى في النَّارِ أو يُطبخُ في القِدرِ فيدورُ به الغليانُ من جهةٍ إلى جهةٍ أو من حالٍ إلى حالٍ أو يُطرحُون فيها مقلوبينَ منكوسين وقُرىء تقلَّب بحذف إحدى التاءين من تنقلب ونُقلِّب بإسنادِ الفعلِ إلى نونِ العظمةِ ونصْبِ وجوهِهم وتقلب بإساده إلى السَّعيرِ وتخصيصُ الوجوهِ بالذكرِ لِما أنَّها أكرمُ الأعضاءِ ففيهِ مزيدُ تفظيعٍ للأمرِ وتهويلٌ للخطبِ ويجوزُ أنْ تكونَ عبارةً عن كلِّ الجسدِ فقولُه تعالى {يَقُولُونَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالِهم الفظيعةِ كأنَّه قيل فماذا يصنعُون عندَ ذلكَ فقيلَ يقولُون مُتحسِّرين على ما فاتهم {يا ليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} فلا نُبتلى بهذا العذابِ أو حالٌ من ضميرِ وجوهُهم أو من نفسها أو هو العاملُ في يوم

ص: 116

{وقالوا}

ص: 116

الاحزاب 68 71 عطفٌ على يقولُون والعدولُ إلى صيغةِ المَاضي للإشعارِ بأنَّ قولَهم هذا ليس مستمرَّاً كقولِهم السَّابقِ بل هو ضربُ اعتذارِ أرادُوا به ضرباً من التَّشفي بمضاعفةِ عذابِ الذين ألقَوهم في تلك الورطةِ وإنَّ علمُوا عدَم قبولِه في حقِّ خلاصِهم منها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} يعنُون قادتَهم الذين لقَّنوهم الكفرَ وقُرىء ساداتِنا للدِّلالةِ على الكثرة والتَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ السِّيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلَاّ فهم في مقام التحقير والإهانة {فَأَضَلُّونَا السبيلا} بما زيَّنوا لنا من الاباطيل والألفُ للإطلاق كما في واطعنا الرسولا

ص: 117

{ربنا آتهم ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي مِثْلَي العذاب الذي آتيتناهُ لأنَّهم ضلُّوا وأضلُّوا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} أي شديداً عظيماً وقُرىء كثيراً وتصديرُ الدُّعاءِ بالنِّداءِ مكرَّراً للمبالغةِ في الجؤارِ واستدعاءِ الإجابةِ

ص: 117

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تكونوا كالذين آذوا موسى} قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالوا} أي فأظهر براته صلى الله عليه وسلم ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصلاة والسلام بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالاً عظيماً فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليه الصلاة والسلام عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ وقيل أتَّهمه ناس بقتل هرون عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ وقُرىء وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيها

ص: 117

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} أي في كل ما تأتون وما تذرُون لا سيَّما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلاً عما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم {وَقُولُواْ} في كلِّ شأنٍ من الشئون {قَوْلاً سَدِيداً} قاصِداً إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَداداً يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ

ص: 117

{يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الاوامر والنهي التي من جُمْلتِها هذهِ التكليفاتُ {فَقَدْ فَازَ} في الدَّارينِ {فَوْزاً عَظِيماً} لا يُقادرُ قدره ولا يبلغ غايته

ص: 117

الاحزاب 72 73

ص: 118

{إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السماوات والارض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لمَّا بيَّن عِظَم شأنِ طاعةِ الله ورسولِه ببيانِ مآلِ الخارجين عنْها من العذابِ الأليمِ ومنال المُراعين لها من الفوزِ العظيمِ عقَّب ذلكَ ببيانِ عظمِ شأنِ ما يُوجبها من التَّكاليفِ الشَّرعيةِ وصعوبة أمرِها بطريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدرَ عنهُم من الطَّاعةِ وتركِها صدرَ عنُهم بعد القَبُولِ والالتزامِ وعبر عنها بالأمانةِ تنبيهاً على أنَّها حقوقٌ مرعيةٌ أودعَها الله تعالى المكلَّفين وائتمنَهم عليها وأوجبَ عليهم تلقِّيَها بحسنِ الطَّاعةِ والانقيادِ وأمرَهُم بمراعاتِها والمحافظةِ عليها وأدائِها من غير إخلالٍ بشيء من حقوقِها وعبرَّ عن اعتبارِها بالنسبةِ إلى استعدادِ ما ذُكر من السَّمواتِ وغيرها بالعرض عليها لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها والرَّغبةِ في قبولهنَّ لها وعن عدمِ استعدادهنَّ لقبولِها بالإباءِ والإشفاقِ منها لتهويلِ أمرِها وتربيةِ فخامتِها وعن قبولِها بالحملِ لتحقيقِ معنى الصُّعوبة المُعتبرةِ فيها بجعلِها من قبيلٍ الأجسامِ الثَّقيلةِ التي يستعمل فيها القُوى الجسمانَّيةٌ التي أشدُّها وأعظمُها ما فيهنَّ من القُوَّةِ والشدَّةِ والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وادراك لا بين قبولَها وأشفقنَ منها ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي عند عرضِها عليه إمَّا باعتبارِها بالإضافةِ إلى استعدادِه أو بتكليفةِ إيَّاها يومَ الميثاقِ أي تكلّفها والتزمَها مع ما فيهِ من ضعفِ البنيةِ ورخاوةِ القُوَّةِ وهُو إمَّا عبارةٌ عن قبولِه لها بموجبِ استعدادِه الفطريِّ أو عن اعترافِه بقولِه بَلَى وقولُه تعالَى {إِنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولاً} اعتراضٌ وسط بين الحملِ وغايتِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعدمِ وفائِه بما عهدَهُ وتحملّه أي إنَّه كانَ مفرِطاً في الظُّلمِ مبالِغاً في الجهلِ أي بحسبِ غالبِ أفرادِه الذينَ لم يعملُوا بموجبِ فطرتِهم السَّليمةِ أو اعترافهم السَّابقِ دُونَ مَنْ عداهُم منْ الذينَ لم يبدلُوا فطرةَ الله تبديلاً وإلى الفريقِ الأولِ أُشير بقوله تعالى

ص: 118

{لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي حملَها الإنسانُ ليعذبَ الله بعضَ أفرادِه الذينَ لم يُراعوها ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ على أنَّ اللَام للعاقبةِ فإنَّ التَّعذيبَ وإنْ لم يكُن غرضَاً له من الحملِ لكن لما ترتَّبَ عليهِ بالنسبةِ إلى بعضِ أفرادِه ترتُّبَ الأغراضِ على الأفعالِ المُعلَّلةِ بها أبرز في معرضِ الغرضِ أي كان عاقبةُ حملِ الإنسانِ لها أنْ يعذبَ الله تعالى هؤلاءِ من أفرادِه لخيانتِهم الأمانةَ وخروجِهم عن الطَّاعةِ بالكُلِّية وإلى الفريقِ الثَّاني أُشير بقولِه تعالى {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} أي كان عاقبةُ حملِه أنْ يتوبَ الله تعالى على هؤلاءِ من أفراده أي يقبلُ توبتَهم لعدمِ خلعِهم رِبقةَ الطَّاعةِ عن رقابِهم بالمرَّةِ وتلافيهم لما

ص: 118

فَرَطَ منهم من فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها الإنسانُ بحكمِ جبلّتهِ وتداركهم لها بالتَّوبةِ والإنابةِ والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ أوَّلاً لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ثانياً لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِ المُؤمنينَ توفيةً لكُلَ مِنْ مَقَامَي الوعيدِ والوعدِ حقَّه والله تعالى أعلمُ وجعلُ الامانة التي شأنِها أنْ تكونَ من جهتِه تعالى عبارةً عن الطَّاعةِ التي هي من أفعالِ المكلَّفين التابعةِ للتَّكليفِ بمعزلٍ من التَّقريبِ وحملُ الكلامِ على تقريرِ الوعدِ الكريمِ الذي يُنبىء عنْهُ قولُه تعالى وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً يجعلُ تعظيمَ شأنِ الطَّاعةِ ذريعةً إلى ذلكَ بأنَّ مَن قامَ بحقوقِ مثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الشَّأنِ وراعَاها فهو جديرٌ بأنْ يفوزَ بخيرِ الدَّارينِ يأباه وصفه بالظَّلمِ والجهلِ أولاً وتعليلُ الحملِ بتعذيبِ فريقٍ والتَّوبةِ على فريقٍ ثانياً وقيل المرادُ بالأمانةِ مطلقُ الانقيادِ الشَّاملِ للطبيعي والاختياريِّ وبعرضِها استدعاؤُها الذي يعمُّ طلبَ الفعلِ من المختارِ وإرادةَ صدورِه من غيرِه وبحملِها الخيانةُ فيها والامتناعُ عن ادائِها فيكونُ الإباءُ امتناعاً عن الخيانةِ وإتياناً بالمرادِ فالمَعنى أنَّ هذهِ الأجرامَ مع عِظَمِها وقُوَّتِها أبينَ الخيانةَ لأمانتِها واتين بما امرهن به كقولِه تعالى أتينا طائعين وخانَها الإنسانُ حيثُ لم يأتِ بما أمرنَاهُ به إنَّه كان ظلُوماً جهُولاً وقيل إنَّه تعالى لمَّا خلقَ هذه الأجرامَ خلقَ فيها فهماً وقال لها إني فرضتُ فريضةً وخلقتُ جنَّةً لمن أطاعنِي فيها وناراً لمنْ عَصَاني فقلنَ نحنُ مسخرَّاتٌ لِما خلقتنا لا نحتملُ فريضةً ولا نبغي ثواباً ولا عقاباً ولمَّا خلقُ آدمُ عليه السلام عُرض عليه مثلُ ذلك فحملَه وكانَ ظلُوماً لنفسِه بتحمُّلهِ ما يشقُّ عليها جَهُولاً بوخامةِ عافيته وقيلَ المرادُ بالأمانةِ العقلُ أو التَّكليفُ وبعرضِها عليهنَّ اعتبارُها بالإضافةِ إلى استعدادهنَّ وبإبائهنَّ الإباءُ الطبيعيُّ الذي هو عدمُ اللياقةِ والاستعدادِ لها وبحمل الإنسانِ قابليَّتُه واستعدادُه لها وكونِه ظلوماً جَهولاً لما غلبَ عليه من القُوَّةِ الغضبيا والشهويَّةِ هذا قريبٌ من التَّحقيقِ فتأمَّل والله الموفقُ وقُرىء ويتوبُ الله على الاستئنافِ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ حيثُ تابَ عليهم وغفرَ لهمُ فرَطاتِهم وأثابَ بالفوزِ على طاعاتِهم قالَ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ الأحزابِ وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينُه أُعطَي الأمانَ من عذابِ القبرِ والله أعلمُ

ص: 119

سورة سبإ 1 2

سورة سبأ مكية وقيل إلا ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم الآية وهى أربع وخمسون آية

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

ص: 120

{الحمد للَّهِ الذى لَهُ ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى خلقا وملكا وتصرُّفاً بالإيجادِ والإعدامِ والإحياءِ والامانة جميعُ ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما فكأنَّه قيل له جميعُ المخلوقاتِ كما مرَّ في آيةِ الكُرسيِّ ووصفُه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة بالاسم الجليلِ من اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى على ما بُيِّنَ في فاتحة الكتاب ببيان تفرُّدِه تعالى واستقلاله بما يُوجب ذلك وكونِ كلِّ ما سواه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوتِه تعالى ليس لها في حدِّ ذاتها استحقاق الوجود فضلاً عمَّا عداه من صفاتها بل كلُّ ذلك نعمٌ فائضة عليها من جهته عز وجل فما هذا شأنُه فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الحمد الذي مداره الجميل الصَّادرُ عن القادر بالاختيار فظهر اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى وقولُه تعالى {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} بيانٌ لاختصاص الحمد الأخرون به تعالى إثرَ بيانِ اختصاص الدُّنيويِّ به على أنَّ الجارَّ متعلقٌ إمَّا بنفس الحمد أو بَما تعلَّق به الخبرُ من الاستقرارِ وإطلاقُه عن ذكرِ ما يُشعر بالمحمودِ عليه ليس للاكتفاءِ بذكر كونه في الآخرةِ عن التعيين كما اكتفي فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدُّنيا عن ذكر كونِ الحمد أيضاً فيها بل ليعمَّ النِّعمَ الأُخرويَّةَ كما في قوله تعالى الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة وقوله تعالى الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ الآيةَ وما يكون ذريعةً إلى نيلِها من النِّعمِ الدُّنيويَّةِ كما في قوله تعالى الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا أي لِما جزاؤُه هذا من الإيمان والعملِ الصالحِ والفرق بين الحمدينِ مع كون نعمتَيْ الدُّنيا والآخرةِ بطريق التَّفضلِ أنَّ الأوَّلَ على نهج العبادة والثَّانِي على وجه التَّلذذِ والاغتباطِ وقد ورد في الخبرِ أنَّهم يُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمون النَّفسَ {وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمةُ {الخبير} ببواطن الأشياءِ ومكنوناتِها وقوله تعالى

ص: 120

الخ تفصيلٌ لبعض ما يحيط به علمُه من الأمور التي نِيطتْ بها مصالحهم الدُّنيويةُ والدِّينيةُ أي يعلم ما يدخل فيها من الغيثِ والكُنوزِ والدَّفائنِ والأموات ونحوها {وَمَا يَخْرُجُ منها} كالحيوان والنبات وما العيون ونحوها {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} كالملائكةِ والكتبِ والمقادير ونحوها وقرئ وما نزل بالتَّشديدِ ونونِ العظمةِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالملائكةِ وأعمالِ العبادِ والأبخرةِ والأَدْخنةِ {وَهُوَ الرحيم} للحامدينَ على ما ذُكر من نِعَمِه {الغفور} للمفرطين في ذلك وكرمِه

ص: 121

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَا تَأْتِينَا الساعة} أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لاعدم حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ وقيل هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم متى هذا الوعدُ {قُلْ بلى} ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلَاّ إتيانَها وقولُه تعالى {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تأكيدٌ له على أتم الوجوه وأكملها وقرئ ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى {عالم الغيب} الخ إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بحلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحته لما أن لك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجل وأعلا كانت الشهادة أكدو أقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خص بالذكر من البعوت ماله تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يقى المعاندين عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يصدقوه مكابرة وقرئ علَاّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يعد وقرئ بكسرِ الزَّايِ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدارُ أصغرِ نملةٍ {فِي السماوات وَلَا فِى الارض} أي كائة فيهما {وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلك} أي من مثقالِ ذرَّةٍ {وَلا أَكْبَرَ} أي منه ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى {إِلَاّ فِى كتاب مُّبِينٍ} هو اللَّوحُ المحفوظُ والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفى العزوب وقرئ ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بانه فتح في حيز الجر لا متاع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعل الضميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطوراً في اللَّوحِ

ص: 121

{ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات} علَّةٌ لقوله تعالى لتأنينكم وبيان لما

ص: 121

سبإ 5 7 يقتصى إتيانها {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ {لَهُمْ} بسبب ذلك {مَغْفِرَةٌ} لما فَرَط منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه

ص: 122

{والذين سعوا في آياتنا} بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها {معاجزين} أي مسابقين كي يفوتونَا وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} الكلامُ فيه كالذي مرَّ آنِفاً ومِنْ في قولِه تعالَى {من رّجْزٍ} للبيانِ قال قَتَادةُ رضى الله عنه الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى {أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفةُ عذابٌ أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ وقرئ أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ

ص: 122

{ويرى الذين أوتوا العلم} أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومن يشايعهم من عُلماءِ الأمَّةِ أو مَنْ آمنَ مِنْ علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلَام وكعبٍ وأضرابِهما رضى الله عنهم {الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي القرآنَ {هُوَ الحق} بالنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ ليَرى والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ الثَّانِي وهو ضمير الفصل وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى وقولُه تعالى وَيَرَى الخ مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ وقيل منصوبٌ عطفاً على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجئ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهاناً ويحتجُّوا به على المكذِّبين وقد جُوِّز أن يراد بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا {وَيَهْدِى} عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى صافات ويقبض أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهادياً {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بلباس التَّقوى وقيل مستأنف وقيل حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله من قال نجوت وأرهنهم مالكاً

ص: 122

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطباً بعضهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} يعنون به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى {يُنَبّئُكُمْ} أي يُحدِّثكم بعجبٍ عجاب وقرئ ينبئكم من الإنباءِ {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُراباً ورُفاتاً {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو

ص: 122

سبإ 8 9 تخلقون خلقاً جديداً للإشباعِ في الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها ويد فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع

ص: 123

{أفترى عَلَى الله كَذِباً} فيما قاله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ {بَلِ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالأخرة فِى العذاب والضلال البعيد} جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالها وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه صلى الله عليه وسلم كأنه قيل ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرهم للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ العقاب ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى

ص: 123

{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض} استئنافٌ مسوق لتهويل ما اجترُءوا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقه صلى الله عليه وسلم وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير والفاءُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى {إِن نَّشَأْ} الخ بيان لما ينبئ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئة به أي افعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبِهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الارض} كما خسفناها بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} أي قِطعاً {مّنَ السماء} كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم وقيل هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعمُوا فلمْ ينظرُوا إِلَى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البينات فتأمل وكن الحق المبين وقرئ يخسف

ص: 123

سبإ 10 11 ويَسقط بالياء لقوله تعالى افترى عَلَى الله وكِسْفاً بسكون السِّينِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي منَ الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر {لآيَةً} واضحةً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى

ص: 124

{ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً} أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا اخر تقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلُ تمكّنٍ {يا جبال أَوّبِى مَعَهُ} من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصلاة والسلام يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصلاة والسلام وقيل كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا والطير بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصلاة والسلام تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية وقيل عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفى وقُرىء بالرَّفعِ عطفا على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعولٌ معه والأول هو الوجهُ وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه مالا يخفى على أولي الألباب {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ

ص: 124

(أَنِ اعمل) أمرناه أنِ اعمل على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى سابغات واسعاتٍ وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصلاة والسلام أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا كان عليه الصلاة والسلام حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ متنكر فيسألُ النَّاسَ ما تقولون في داودَ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له ملكا في

ص: 124

سبإ 12 13 صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل كان يبيع الدروع بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء {وَقَدّرْ فِى السرد} السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها وقيل قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها رقاقا ولا غِلاظاً ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصلاة والسلام لم تكُن مسمَّرة كما ينبئ عنه إلانةُ الحديدِ وقيل معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {واعملوا صالحا} عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصلاة والسلام ولأهلِه {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثالِ به

ص: 125

{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح وقرئ برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ الرِّياحَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ وقرئ غُدوتُها ورَوحتُها وعنِ الحسنِ رحمه الله كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ بروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل كان يتغدى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السلام نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السلام فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وقوله تعالى {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إمَّا جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمرِه تعالى كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعة سليمان وقرئ يزغ على البناء المفعول من أزاغَه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ رُوي عن السدى رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ

ص: 125

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى {مِن محاريب} الخ بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل هي المساجدُ {وتماثيل} وصور الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدان ذراعيهما

ص: 125

سبإ 14 وإذا قعد أظله النَّسرانِ بأجنحتِهما {وَجِفَانٍ} جمع جفنة وهي الصفحة {كالجواب} كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصفات الغالبة كالدابة وقرئ بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجل {وقدور راسيات} ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها {اعملوا آل داود شكرا} حكايةً لما قيلَ لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ ورُوي أنه عليه الصلاة والسلام جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي

ص: 126

{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمانَ عليه السلام {مَا دَلَّهُمْ} أي الجنَّ أو آلَه {على مَوْتِهِ إِلَاّ دَابَّةُ الاْرْضِ} أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها وقرئ بفتحِ الرَّاءِ وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضاً فأرضتْ أرضْاً مثل أكلتِ القوارح أسنانَه أَكْلاً فأكلتْ أَكلَا {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يطرد وقرئ مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقف ومنساءته عل مفعالةٍ كميضاءَةٍ في ميضأَةٍ ومن ساته أي من طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علماً بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين} أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصلاة والسلام حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناءِ للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى ومن الجن مَن يَعْمَلُ وفي قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب رُوي أنَّ داودَ عليه السلام أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السلام فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحاً من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئاً على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتاً وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه

ص: 126

سبإ 15 16 اينما صلى صلى الله عليه وسلم فلم يكن ينظر إليه الشيطان في صلاتِه إلَاّ احترقَ فمرَّ به يوماً شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السلام قد خرَّ ميتاً ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد اكلها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقداراً فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناءَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه

ص: 127

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} بيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بن يعرب بن قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبيلةِ وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بينَ بينَ {فِى مَسْكَنِهِمْ} وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال آية دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللَاّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاء من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودُ وسليمانُ عليهما السلام {جَنَّتَانِ} بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين {عَن يَمِينٍ وشمال} جماعة يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلِّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ} حكايةً لما قيلَ لهم على لسان نبيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطقَ به لسانُ الحالِ أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} استئنافٌ مبيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربكم الذي رزقكم مافيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل كان أطيبَ البلاد هواء واحصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء

ص: 127

{فَأَعْرِضُواْ} عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذي يحبس الماء وقيل هو اسمُ للبناء الذي يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجونَ إليه في

ص: 127

سبإ 17 18 سقيهم وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم وقيل العَرِمُ اسم الوادي وقرئ العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ {وبدلناهم بجنتيهم} أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل هو الحامضُ والمرُّ من كل شئ وقيل هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها وقيل هو الاراك وكل شجرٍ ذي شوكٍ والتَّقديرُ أكل أكل خمط فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه وقرئ أكل خمط بالاضافة وبتخفيف أكل {وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرئ وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين قيل وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً وقال قَتادةُ كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ

ص: 128

{ذلك} إشارة إلى مصدر قوله تعالى {جزيناهم} أو إلى ما ذُكرَ من التَّبديلِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد رُتبتهِ في الفظاعة ومحلُّه على الأوَّلِ النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور وعلى الثَّاني النَّصبُ على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك الجزاءَ الفظيع جزيناهم لاجزاء آخرَ أو ذلك التَّبديلَ جزيناهم لا غيرَه {بِمَا كَفَرُواْ} بسبب كفرانهم النِّعمة حيثُ نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدَّها أو بسبب كفرهم بالرُّسلِ {وَهَلْ نُجَازِى إِلَاّ الكفور} أي وما نجزى هذا الجزاءَ إلا المُبالغَ في الكُفرانِ أو الكفر وقرئ يُجازِي على البناءِ للفاعلِ وهو الله عز وجل وهل يُجازَى على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الكفورَ وهل يجزى على البناء للمفعول أيضاً وهذا بيانُ ما أُوتوا من النَّعم الحاضرة في مساكنهم وما فعَلُوا بها من الكُفرانِ وما فُعل بهم من الجزاء وقوله تعالى

ص: 128

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا} حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبياناً لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معاً لما في التَّثنيةِ والتكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كل لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التى باركنا فيها للعالمين {قُرًى ظاهرة} متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلناها في نسبة بعضها

ص: 128

سبإ 19 إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ كلُّ ذلك كان تكميلاً لما أُوتوا من أنواع النَّعماءِ وتوفيراً لها في الحضر والسَّفرِ {سِيرُواْ فِيهَا} على إرادةِ القولِ أيْ وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى {لَيَالِىَ وَأَيَّاماً} أي متى شئتُم من الليالي والأيَّامِ {آمنين} من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ واياما كثية أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك

ص: 129

{فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أسفارنا} وقرئ يا ربَّنا بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنى جناننا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيب وقرئ بعد وربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارنا وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها {فجعلناهم أحاديث} أي جعلناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ على أنه اسم مكان وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرفه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين وعن أبي زيد الأنصاريِّ أن عمرا راى جرزا يفر السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ وقيل إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلدٍ إلى بلدٍ حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسمعيل عليه السلام وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو ابن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا

ص: 129

سبإ 20 21 يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بن عمرو بن عامر وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم اولاد إسمعيل عليه السلام فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفى سأل النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال صلى الله عليه وسلم هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهود بنو فينقاع وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ وعدنانيَّةُ والقحطانيَّةُ شعبان سبأ وحضر موت والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها بعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذكرَ من قصَّتهم {لآيَاتٍ} عظيمةً {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها

ص: 130

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً وقرئ بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوعٌ من القولِ وقرئ بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيل له إغراءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السلام قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم {فاتبعوه} أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ {إِلَاّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون

ص: 130

سبإ 22 23 واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقولُه تعالى {إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ} استثناء مفرغ من أعلم العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمن قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ} أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ

ص: 131

{قُلْ} أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم {ادعوا الذين زعمتم} أي زعمتموهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى {مِن دُونِ الله} مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال {لَا يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وشرَ ونفع وضرَ {فِي السماوات وَلَا فِى الارض} أي في أمرٍ ما من الأمور وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الاسباب القريبة للخير سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم {وَمَا لَهُمْ} أي لآلهتِهم {فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً {وَمَا لَهُ} أيْ لله تعالى {مِنْهُمْ} من آلهتِهم {مّن ظَهِيرٍ} يُعينه في تدبير أمرِهما

ص: 131

{وَلَا تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} أي لا توُجد رأساً كما في قوله ولَا ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ لقوله تعالى {مَّن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى {إِلَاّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لاتقع الشَّفاعةُ في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقولِه تعالى {لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أولا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهُم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرِهم فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث

ص: 131

سبإ 24 حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن حرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى وقرئ أُذِنَ له مبنيّاً للمفعولِ {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ وحتى غاية لما ينبئ عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللتا والتي وظهرت لهم تباشيرا الإجابةِ قَالُواْ أي المشفوعُ لهم اذهم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ أي في شأنِ الإذنِ قَالُواْ أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عز وجل بالشَّفاعةِ الحق أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقُرىء الحقُّ مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ {وَهُوَ العلى الكبير} من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عز وجل وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المنفرد بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه وقُرىء فُزع مخفَّفاً بمعنى فزع وقرىء فَزِع على البناءِ للفاعلِ وهو الله وحدَه وقرىء فزع بالراء المهملة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الرجل عنها أي انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ وقُرىء ارتفعَ عن قلوبِهم بمعنى انكشفَ عنها {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماوات والأرض} امر صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى

ص: 132

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر} فَسَيَقُولُونَ الله وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الالزام قيل له صلى الله عليه وسلم قُلِ الله إذ لا جواب سواء عندهم أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ وقُرىء وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع

ص: 132

سبإ 25 30 عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها

ص: 133

{قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم ومطلقُ العمل إلى المخاطَبين مع أن أعمالهم أكبرُ الكبائرِ

ص: 133

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا) يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الفتاح الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة العليم بما ينبغي أنْ يُقضى به

ص: 133

{قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ} أي ألحقتمُوهم {بِهِ شُرَكَاء} أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه صلى الله عليه وسلم إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي اروينها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم كَلَاّ ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ {بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم} أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الاشياء اذ لها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ والضمير اما الله عز وعلا أو للشَّأنِ كما في قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ

ص: 133

{وَمَا أرسلناك إِلَاّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} أي إلا إرسالةً عامة لهم فإنهم إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الابلاغ فهي حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ {بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ} ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هم عليه من الغيِّ والضَّلالِ

ص: 133

{وَيَقُولُونَ} من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم متى هذا الوعد بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى بجمع بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا {إِن كُنتُمْ صادقين} مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به

ص: 133

{قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي وعدُ يومٍ أو زمان وعدو الاضافة للتبيِّينِ وقُرىء ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإ 4 ضمار اعنى للتعظيم {لا تستأخرون عَنْهُ} عند مفاجأتِه {سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد مالا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالة كالا ستقدام الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكون نفي الاستئجار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقة

ص: 133

سبإ 31 33 وتقريرِه

ص: 134

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نؤمن بهذا القرآن وَلَا بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل الذي بين يديه القيامة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} المنكرون للبعث {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي في موقفِ المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ يَقُولُ الذين استضعفوا بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ {لَوْلَا أَنتُمْ} أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ {لَكُنَّا مؤمنين} باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم

ص: 134

{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام

ص: 134

{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} اضرابا عن إضرابِهم وإبطالاً له {بَلْ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ} أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أن التنوين عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكرا دائما وقوله تعالى {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء

ص: 134

سبإ 34 37 وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٍ من الله تعالَى وأيُّ نعمةٍ وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم {وَجَعَلْنَا الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقِهم والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم {هَلْ يُجزون إِلَاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يُجزون إِلَاّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلَاّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ

ص: 135

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} من القُرى {مّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم أى الفريقين خير مقاما وأحسنُ نَديَّاً بأنَّه لم يرسل قط أهل قريةٍ من نذيرٍ إلَاّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكة في حقه صلى الله عليه وسلم وكادُوا به نحوَ ما كادوا به صلى الله عليه وسلم وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم

ص: 135

{وَقَالُواْ نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها

ص: 135

(قُلْ) رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} ان يبسط له {وَيَقْدِرُ} على مَن يَشَاء أنْ يقدرَه عليه من غير أن يكون لاحد من الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ {ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ} ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ

ص: 135

كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي {إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلَاّ أموالَ من الخ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقرىء جزاء الضعف على فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ {بِمَا عَمِلُواْ} من الصَّالحاتِ {وَهُمْ فِى الغرفات} أي غرفات الجنة {آمنون} من جميع المكارِه وقُرىء بفتح الرَّاءِ وسكونِها وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ

ص: 136

{والذين يسعون في آياتنا} بالردِّ والطَّعنِ فيها {معاجزين} سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا {أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ} لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً

ص: 136

{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي يُوسعه عليهَ تارةً {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلا {وهو خير الرازقين} فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه

ص: 136

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دون الله ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ الخ افناطا لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم وتخصيص الملائكة

ص: 136

سبإ 41 43 لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ

ص: 137

{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا يقول الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على التَّحقُّقِ أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ

ص: 137

{فاليوم لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً} من جملة ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رءوس الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعَدَها منَ الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ وقولُه عز وجل {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسول صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الاهوال والاحوال مالا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى

ص: 137

بيانٌ لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتُنا الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشِّركِ {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} فيستتبعكم بما يستدعيِه من غير أن يكون هناك دينٌ إلهيٌّ وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآنَ الكريمَ {إِلَاّ إِفْكٌ} أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسنادِه إلى الله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ والثاني نظمَه المعجزَ {لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه {إِنْ هذا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ ومَا في لمَّا مِنْ المسارعة الى البيت بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه

ص: 138

{وما آتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ وقولِه تعالى {أم آتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى

ص: 138

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} من الأمم التقدمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتيناهم} أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالَى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} الخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك

ص: 138

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ {مثنى وفرادى} أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدخام يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}

ص: 138

في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى {ما بصاحبكم من جنة} استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدى لا دعائه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ أو مؤيدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه صلى الله عليه وسلم أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكروا أي شئ به من آثارِ الجنونِ {إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد} هو عذاب الآخرة فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ

ص: 139

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أجر} أي أي شئ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَاّ مَن شَاء أَن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله تعالى لَا أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلَاّ المودة فِى القربى واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقرباه صلى الله عليه وسلم قرباهم {إِنْ أَجْرِىَ إِلَاّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ} مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقرئ إن أجري بسكون الياء

ص: 139

{قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ {علام الغيوب} صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقرئ بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدرا بأعنى وقرئ بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب

ص: 139

{قُلْ جَاء الحق} أي الإسلامُ والتوحيد {وما يبدئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد فليسَ يُبدي وَلَا يُعيدُ وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يُعيد أو لا يبدئ خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها

ص: 139

{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطَّريقِ الحقِّ {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذهى الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه وقرئ ربِّيَ بفتح الياء {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}

ص: 139

يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما

ص: 140

{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} عند الموتِ أو البعثِ أو يومِ بدرٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً {فَلَا فَوْتَ} فلا يفوتُون الله عز وجل يهرب أو تحصُّنٍ {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لافوت على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرئ وأُخذ بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذ

ص: 140

{وقالوا آمنا به} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم {وأنى لَهُمُ التناوش} التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أن يتناول الشئ من غَلْوةٍ تناوله من ذراع في الاستحالة وقرئ بالهمزة على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشت الشئ إذا طلبتُه وعن أبي عمرو التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي وقد حدثتْ بعدَ الامور أمورُ

ص: 140

{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} من جهةٍ بعيدةٍ من حاله صلى الله عليه وسلم حيث ينسبونه صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وإن ابعد شئ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسحر وأبعد شئ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقه وقرئ ويُقذفون على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكايةِ الحالِ الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا

ص: 140

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يشتهون} من نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النار وقرئ بإشمامِ الضَّمِّ للحاء {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُرِيبٍ} أي مُوقعٌ في الرِّيبةِ أو ذي ريبة والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رَّسُولٍ وَلَا نَبِىّ إِلَاّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً

ص: 140