الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزمر
10
- 12 {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ} أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التذكرِ بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به وقولُه تعالى {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ دون التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسانِ وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ وفي قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وقوله تعالى {فِى هذه الدنيا} متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله صلى الله عليه وسلم أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ {حَسَنَةٌ} أي حسنة عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها وهي الجنَّةُ وقيل هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أوْ حالٌ منْ ضميرِها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زيادة حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلَايا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ {أَجْرَهُمْ} بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب ولا يُعرف وفي الحديثِ أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ
{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيداً لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ
الزمر 13 16 في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه والعطفُ لمغايرة الثاني الاول بتقيده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللَاّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلم فالمعنى وأُمرت أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه
{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي} يترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيهِ من الدَّواهي والأهوالِ
{قل الله أعبد} لاغيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} من كل شوب امر صلى الله عليه وسلم أوَّلاً ببيان كونِه مأموراً بعبادة الله تعالى واخلاص الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهاراً لتصلُّبه في الدِّينِ وحسماً لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيداً لتهديدِهم بقوله تعالى
{فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أنْ تعبدُوه {مِن دُونِهِ} تعالى وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم مالا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ {قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه واتلاف مالا بدَّ منه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما {يَوْمُ القيامة} حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها وقيل خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا انفسهم وإن كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهاباً لا إيابَ بعدَهُ وفيه ان المحذور ذهاب مالو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ وقيل خسِروهم لانهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم في اهل الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما نذكر بل بيانَ أنَّهم هم إما نجعل الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً وما في قوله تعالى {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الشَّرِّ وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ عَلى كمالِ هو له وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه مالا يَخفْى وقوله تعالى
الخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويله بطريق الابهام على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل هو حالٌ من ظُللٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضمير في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ {وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضاً {ظُلَلٌ} أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم ايضا عند ترديهم في دركانها {ذلك} العذابُ الفظيعُ هو الذي {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه {يا عباد فاتقون} ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي وهذه عظةٌ من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقُرىء يا عبادِي
{والذين اجتنبوا الطاغوت} أي البالغ اقصى غاية الطُّغيانِ فَعَلوتٌ منه بتقديم اللَاّمِ على العينِ بُني للمبالغةِ في المصدرِ كالرَّحموتِ والعظَمُوتِ ثم وُصف به للمبالغةِ في النَّعتِ والمرادُ به هو الشَّيطانُ {أَن يعبدوها} بدل اشتمال منه فإنَّ عبادةَ غيرِ الله تعالى عبادةٌ للشَّيطانِ إذِ هُو الآمرُ بها والمُزيِّنُ لها {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} وأقبلُوا إليه مُعرضين عما سواه إقبالاً كلِّياً {لَهُمُ البشرى} بالثَّوابِ على ألسنةِ الرُّسلِ أو الملائكةِ عند حضورِ الموتِ وحين يُحشرون وبعد ذلك {فَبَشّرْ عِبَادِ}
{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضِعَ ضميرِهم الظاهِرِ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصِّافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما ذُكِرَ من النَّعوتِ الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي اولئك المنعوتون بالمحاسن الجميلة {الذين هداهم الله} للذين الحق {وأولئك هم أولوا الالباب} أي هم أصحابُ العقول السليمة عن معارضة الوهمِ ومنازعةِ الهَوَى المستحقُّون للهدايةِ لا غيرهم وفيه دلالةٌ على أنَّ الهدايةَ تحصلُ بفعل الله تعالى وقبول النَّفسِ لها
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار} بيان الاحوال أضَّدادِ المذكورينَ على طريقة الإجمالِ وتسجيلٌ عليهم بحرمانِ الهداية وهم عَبَدةُ الطَّاغوتَ ومتَّبعُو خطواتها كما يُلوحُ به التَّعبيرُ عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإنَّ المرادَ بها قولُه تعالى لإبليسَ لَامْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى لمن تبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وأصلُ الكلامِ أمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب فأنتَ تنقذه على أنَّها شرطيةٌ دخل عليها الهمزةُ لإنكارِ مضمونها ثم الفاءُ لعطفها على جملةٍ مستتبعة لها مقدَّرة بعد الهمزةِ ليتعلَّق الإنكارُ والنَّفيُ بمضمونيهما
الزمر 20 21 معاً أي أأنتَ مالكُ أمرِ النَّاسِ فمن حقَّ عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ثم كُررتْ الهمزةُ في الجزاءِ لتأكيدِ الإنكارِ وتذكيرِه لمَّا طال الكلامُ ثم وضِع موضعَ الضَّميرِ مَن في النَّارِ لمزيد تشديدِ الإنكارِ والاستبعاد والتَّنبيه عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ بالعذابِ بمنزلة الواقعِ في النار وان اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى دُعائهم إلى الإيمانِ سعيٌ في إنقاذِهم من النَّارِ ويجوزُ أن يكونَ الجزاءُ محذوفاً وقوله تعالى أفأنتَ الخ جملة مستقلَّةٌ مسوقة لتقريرِ مضمون الجملة السَّابقةِ وتعيين ما حُذف منها وتشديدِ الإنكارِ بتنزيل من استحقَّ العذابَ منزلةَ من دخل النَّارَ وتصوير الاجتهاد في دُعائه إلى الإيمان بصورةِ الإنقاذِ من النَّارِ كأنَّه قيل أوَّلاً أفمن حقَّ عليه العذابُ فأنتَ تخلِّصه منه ثم شُدِّد النَّكيرُ فقيل أفأنتَ تنقذ من فى النار وفيه تلويحٌ بأنَّه تعالى هو الذي يقدر على الانقاذ لا غيرُه وحيثُ كان المرادُ بمن في النَّارِ الذين قيل في حقِّهم لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ من النار ومن تحتهم ظُلَلٌ استدركَ منهم بقوله تعالى
{لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهم الذين خُوطبوا بقوله تعالى ياعباد فاتقون ووُصفوا بما عُدِّد من الصِّفاتِ الفاضلةِ وهم المخاطَبون أيضاً فيما سبق بقوله تعالى يَا عِبَادِى الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ الآيةَ وبينَّ أنَّ لهم درجاتٍ عاليةً في جنَّاتِ النَّعيمِ بمقابلة ما للكفرةِ من دَرَكاتٍ سافلةٍ في الجحيم أي لهم علالي بعضُها فوقَ بعضٍ {مَّبْنِيَّةٌ} بناءَ المنازلِ المبنية المؤسَّسةِ على الأرضِ في الرَّصانةِ والإحكام {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} من تحت تلك الغرفِ {الانهار} من غيرِ تفاوتٍ بين العُلوِّ والسُّفلِ {وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لقولِه تعالى لهم غُرف الخ فإنه وعدٌ وأيُّ وعدٍ {لَا يُخْلِفُ الله الميعاد} لاستحالتِه عليه سبحانه
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل من السماء ماء} استئنافٌ وارد إمَّا لتمثيلِ الحياة الدنيا في سرعة الزَّوالِ وقُرب الاضمحلالِ بما ذُكِرَ من أحوالِ الزَّرعِ ترغيباً عن زخارِفها وزينتها وتحذيراً من الاغترارِ بزَهرتِها كما في نظائرِ قولِه تعالى إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا الآيةَ أو للاستشهاد على تحقُّقِ الموعودِ من الأنهارِ الجاريةِ من تحت الغُرفِ بما يُشاهد من إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وما يترتبُ عليهِ من آثارِ قدرتهِ تعالى وأحكامِ حكمتِه ورحمتِه والمرادُ بالماءِ المطر وقيل كلُّ ماءٍ في الأرضِ فهو من السماء ينزل منها إلى الصَّخرةِ ثم يقسمُه الله تعالى بين البقاعِ {فَسَلَكَهُ} فأدخلَه ونظمه {يَنَابِيعَ فِى الارض} أي عُيوناً ومجاريَ كالعروقِ في الأجسادِ وقيل مياهاً نابعةً فيها فإنَّ الينبوعَ يطلقُ على المنبعِ والنَّابعِ فنصبها على الحالِ وعلى الأوَّلِ بنزعِ الجارِّ أي في ينابيعَ {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أصنافُه من بُرَ وشعيرٍ وغيرهِما أو كيفانه من الألوانِ والطُّعومِ وغيرِهما وكلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ أو الزَّمانِ وصيغةُ المضارع لاستحضار
الزمر 22 الصُّورةِ {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يتمُّ جفافُه ويشرف على أنْ يثورَ من منابتِه {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} من بعد خُضرتِه ونُضرتِه وقُرىء مُصفارَّا {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فُتاتاً مُتكسِّرةً كأن لم يغنَ بالأمسِ ولكون هذه الحالةِ من الآثارِ القوَّيةِ عُلِّقت بجعلِ الله تعالى كالإخراجِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكر تفصيلاً وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه في الغَرابةِ والدِّلالةِ على ما قُصد بيانُه {لِذِكْرِى} لتذكيراً عظيماً {لاِوْلِى الالباب} لأصحابِ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وتنبيهاً لهم على حقيقةِ الحالِ يتذكَّرون بذلك أنَّ حالَ الحياةِ الدنيا في سرعة التقضى والانصرامِ كما يشاهدونَهُ من حال الحُطامِ كلَّ عامٍ فلا يغترُّون ببهجتِها ولا يُفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأن مَن قدَر على إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإجرائِه في ينابيع الأرضِ قادرٌ على إجراءِ الأنهارِ من تحتِ الغُرفِ هذا وأمَّا مَا قيلَ إنَّ في ذلك لتذكيراً وتنبيهاً على أنَّه لا بُدَّ من صانعٍ حكيمٍ وأنه كائنٌ عن تقديرٍ وتدبيرٍ لا عن تعطيلٍ وإهمالٍ فبمعزلٍ من تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ وإنَّما يليقُ ذلك بما لو ذُكرَ ما ذُكر من الآثارِ الجليلة والأفعالِ الجميلةِ من غيرِ إسنادٍ لها إلى مؤثِّرٍ ما فحيثُ ذُكرتْ مسندةً إلى الله عز وجل تعيَّن أنْ يكونَ متعلَّقُ التذكير والتنبيه شئونه تعالى أوشئون آثارِه حسبما بُيِّن لا وجودُه تعالى وقولُه تعالى
{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من تخصيصِ الذِّكرى بأولي الألبابِ وشرحُ الصَّدرِ للإسلامِ عبارةٌ عن تكميلِ الاستعدادِ له فإنه محلٌّ للقلبِ الذي هو منبعٌ للرُّوحِ التي تتعلَّقُ بها النَّفسُ القابلةُ للإسلامِ فانشراحُه مستدعٍ لاتِّساعِ القلبِ واستضاءتِه بنوره فإنه روي انه صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلَ النُّور القلبَ انشرحَ وانفسحَ فقيل فما علامةُ ذلك قال صلى الله عليه وسلم الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والتَّجافي عن دارِ الغُرور والتَّأهُّبُ للموتِ قبل نزولِه والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ كالذي مرَّ في قوله تعالى أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب وخبرُ مَن محذوفٌ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فَمْن شَرحَ الله صدرَهُ أي خلقَهُ متَّسعَ الصَّدرِ مُستعدَّاً للإسلامِ فبقي على الفطرةِ الأصليةِ ولم يتغير بالعوارض المكتسبة الفادحة فيها {فَهُوَ} بموجبِ ذلك مستقرٌّ {على نُورٍ} عظيم {مّن رَّبّهِ} وهو اللُّطفُ الإلهيُّ الفائضُ عليه عند مشاهدةِ الآياتِ التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ والتَّوفيقُ للاهتداءِ بها إلى الحقِّ كمَنْ قسا قلبُه وحَرِجَ صدره بسببِ تبديلِ فطرة الله بسوء اختباره واستولى عليه ظلمات الغي والضِّلالةِ فأعرضَ عن تلك الآياتِ بالكُلِّيةِ حتَّى لا يتذكَّر بها ولا يغتنمُها {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} أي من أجلِ ذكرهِ الذي حقُّه أنْ تنشرحَ له الصُّدورُ وتطمئنَّ به القلوبُ أي إذا ذُكر الله تعالى عندهم أو آياتُه اشمأزُّوا من أجلِه وازدادتْ قلوبُهم قساوةً كقولِه تعالى فزادْتُهم رجساً وقُرىء عَن ذكرِ الله أي عن قبولِه {أولئك} البعداء الموصوفون بما ذُكر من قساوةِ القلوب {فِى ضلال} بُعدٍ عن الحقِّ {مُّبِينٌ} ظاهر كونه ضلالاً لكلِّ أحدٍ قيلَ نزلتِ الآيةُ في حمزةَ وعلي رضي الله عنهما وأبي لهبٍ وولدِه وقيل في عمار بن
الزمر 23 ياسر رضي الله عنه وأبي جهلٍ وذويه
{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} هو القرآنُ الكريمُ رُوي أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ملُّوا ملَّةً فقالُوا له صلى الله عليه وسلم حدثا حَديثاً وعن ابن مسعُودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم قالُوا لو حدَّثتنا فنزلتْ والمَعنى أنَّ فيه مندوحةً عن سائرِ الأحاديثِ وفي إيقاعِ الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ نزَّل عليهِ من تفخيمِ أحسنِ الحديثِ ورفعِ محلَّه والاستشهادِ على حُسنِه وتأكيدِ استنادِه إليه تعالى وأنَّه من عندَه لا يمكنُ صدورُه عن غيرِه والتَّنبيهُ على أنَّه وحيٌ معجز مالا يخفى {كتابا} بدلٌ من أحسنَ الحديثِ أو حالٌ منه سواء اكتسبَ من المضاف اليه تعريفا اولا فإنَّ مساغَ مجيء الحالِ من النكرة المضافة اتفاقيٌّ ووقوعُه حالاً مع كونه اسما لاصفة إمَّا لاتَّصافِه بقولِه تعالى {متشابها} أو لكونِه في قوَّة مكتوباً ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحق والصدق واستتباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ {مَّثَانِيَ} صفةٌ أخرى لكتابا أو حال أُخرى منه وهو جمعُ مثنى بمعنى مردد ومكرَّرٍ لمَا ثُنِّي من قصصهِ وأنبائِه وأحكامِه وأوامرهِ ونواهيهِ ووعدِه ووعيدِه ومواعظِه وقيل لأنَّه يُثنَّى في التَّلاوةِ وقيل هو جمعُ مَثنى مَفْعل من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ كما في قوله تعالى فارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرةً بعدَ كرَّةٍ ووقوعُه صفةً لكتاباً باعتبار تفاصيلهِ كما يُقال القرآن سورٌ وآياتٌ ويجوزُ أنْ ينتصبَ على التَّمييزِ من مُتشابهاً كما يُقال رأيتُ رجلاً حسناً شمائلَ أي شمائلُه والمعنى متشابهةٌ مثانية {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قيل صفةٌ لكتاباً أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصِّفةِ والأظهر أنَّه استئنافٌ مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه ولتقريرِ كونِه أحسنَ الحديثِ والاقشعرارُ التَّقبضُ يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضاً شَديداً وتركيبُه من القَشع وهو الأديمُ اليابسُ قد ضُمَّ إليه الرَّاءُ ليكونَ رُباعيَّا ودَالاًّ على معنى زائد يُقال اقشعرَّ جلدُه وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلكَ قولُه تعالى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أيْ ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ بها إيذاناً بأنَّها أولُ ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى {ذلك} أي الكتابُ الذي شُرحَ أحوالُه {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآء} أن يهديَه بصرف مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفه من شواهدِ الحقِّية ودلائلِ كونِه من عند الله تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلقُ فيه الضَّلالةَ بصرفِ قُدرته إلى مباديها وإعراضِه عمَّا يُرشده إلى الحقَّ بالكُلِّية وعدم تأثُّرِه بوعيدِه ووعده اصلا او
الزمر 24 29 ومن يخذلْ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يُخلِّصه من ورطةِ الضَّلالِ وقيل ذَلِكَ الذي ذُكرَ من الخشيةِ والرَّجاءِ إثر هُداه تعالى يهدي بذلكَ الأثرِ مَن يشاءُ من عبادةِ ومَن يضلل أي من لم يُؤثِّر فيه لطفُه لقسوةِ قلبهِ وإصرارِه على فجوره فماله من هادٍ من مؤثِّرٍ فيه بشيءٍ قَطْ
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبلَه من تباينِ حالَيْ المُهتدي والضَّالَّ والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ وحذفِ الخبرِ كالذي مرَّ في نظيريهِ والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فمَن شأنُه أنَّه بقى نفسَه بوجههِ الذي هو أشرفُ أعضائِه {سُوء العذاب} أي العذابَ السَّيءِ الشَّديدَ {يَوْمُ القيامة} لكون يدهِ التي بها كان يتَّقي المكارَه والمخاوفَ مغلولةً إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتّقاء بوجهٍ من الوجوهِ وقيل نزلتْ في أبي جهلٍ {وَقِيلَ للظالمين} عطف على يتقي ويقالُ لهم من جهةِ خَزَنةِ النَّارِ وصيغةُ الماضِي الدِلالة على التَّحقُّقِ والتقرّرِ وقيلَ هُو حالٌ من ضميرِ يتَّقي بإضمارِ قَدْ ووضع المُظهر في مقام المضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي
{كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أصابَ بعضَ الكفرةِ من العذابِ الدنيويِّ إثرَ بيانِ ما يُصيب الكلَّ من العذابِ الأخرويِّ أي كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم من الأممِ السَّالفةِ {فأتاهم العذاب} المقدَّرُ لكلَّ أمَّةٍ منهم {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} من الجهةِ التي لا يحتسبونَ ولا يخطرُ ببالِهم إتيانُ الشَّرِّ منها
{فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي الذُّلَّ والصَّغارَ {فِى الحياة الدنيا} كالمسخِ والخسفِ والقتلِ والسى والإجلاءِ ونحوِ ذلك من فنون النَّكالِ {وَلَعَذَابُ الأخرة} المعدِّ لهم {أَكْبَرَ} لشدَّتِه وسرمدينه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لو كانَ من شأنِهم أنْ يعلمُوا شيئاً لعلمُوا ذلكَ واعتبرُوا به
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ} يحتاجُ إليه النَّاظرُ في أمورِ دينِه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} كي بتذكروا به ويتعظوا
{قرآنا عَرَبِيّاً} حالٌ مؤكَّدةٌ من هذا على أنَّ مدارَ التَّأكيدِ هو الوصفُ كقولِك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً أو مدحٌ له {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فهُو أبلغُ من المستقيمِ وأخصُّ بالمعانِي وقيل المرادُ بالعوجِ الشَّكُّ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علَّة أُخرى مترتِّبةٌ على الأولى
الزمر 30 31 لمثلٍ من الأمثالِ القُرآنيةِ بعد بيانِ أنَّ الحكمةَ في ضربِها هو التَّذكُّر والاتِّعاظُ بها وتحصيلُ التَّقوى والمرادُ بضربِ المثل هَهُنا تطبيقُ حالةٍ عجيبةٍ بأُخرى مثلِها وجعلِها مثلَها كما مر في سورة يس ومثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ ورجلاً مفعولُه الأوَّلُ أُخِّر عن الثَّانِي للتَّشويقِ إليه وليتَّصلَ به ما هُو من تتمتِه التي هي العُمدةُ في التَّمثيلِ وفيه ليسَ بصلةٍ لشركاءِ كما قيل بل هُو خبرٌ له وبيانُ أنَّه في الأصلِ كذلكَ مَّما لا حاجةَ إليهِ والجملةُ في حيز النصبِ على أنه وصفٌ لرجلاً أو الوصفُ هو الجارُّ والمجرورُ وشركاء مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتمادِه على الموصوفِ فالمعنى جعلَ الله تعالى مثلاً للمشركِ حسبَما يقودُ إليهِ مذهبُه من ادَّعاءِ كلَ معبوديه عبوديتَه عبداً يتشاركُ فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورُونه في مهمَّاتهم المتباينةِ في تحيُّرِه وتوزُّعِ قلبه {وَرَجُلاً} أي وجعل للموحِّد مثلاً رجلا {سلما} أي خالصاً {لِرَجُلٍ} فردٍ ليس لغيره عليه سبيل اصلا وقرىء سلما بفتح السين وكسرِها مع سكون الَّلامِ والكُلُّ مصادرٌ من سَلِم له كذا أي خلص نعت بها مبالغةً أو حُذف منها ذُو وقِرىء سالماً وسالم أي وهناك رجلٌ سالم وتخصيصُ الرَّجُلِ لأنَّه أفطن لما يجري عليه من الضُّرِّ والنَّفعِ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} إنكارٌ واستبعاد لاستوائِهما ونفيٌ له على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وإيذانٌ بأنَّ ذلك من الجلاء والظُّهور بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ أنْ يتفوَّه باستوائِهما أو يتلعثم في الحُكم بتباينهما ضرورةَ أنَّ أحدهما في أعلى عِلِّيِّينَ والآخرُ في أسفلِ سافلينَ وهو السِّرُّ في إبهام الفاضلِ والمفضولِ وانتصاب مثلاً على التَّمييزِ أي هل يستوي حالاهُما وصفتاهُما والاقتصارُ في التَّمييزِ على الواحد لبيان الجنسِ وقُرىء مَثَلين كقوله تعالى اكثر اموالا واولادا باختلاف النَّوعِ أو لأنَّ المرادَ هل يستويانِ في الوصفين على أنَّ الضَّميرَ للمثلينِ لأنَّ التَّقديرَ مَثَلُ رجلٍ فيه الخ ومَثَلُ رجلٍ الخ وقولُه تعالى {الحمد للَّهِ} تقريرٌ لما قبلَهُ من نفيِ الاستواءِ بطريقِ الاعتراضِ وتنبيهٌ للموحِّدين على ان مالهم من المزَّيةِ بتوفيقِ الله تعالى وأنَّها نعمةٌ جليلةٌ موجبة عليهم ان يداموا على حمدِه وعبادتِه أو على أنَّ بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السَّوء صنعٌ جميلٌ ولطفٌ تامٌّ منه عز وجل مستوجبٌ لحمدِه وعبادتِه وقولُه تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ عدمِ الاستواءِ على الوجهِ المذكورِ إلى بيانِ ان اكثر الناس هم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمالِ ظُهورِه فيبقون في ورطةِ الشِّركِ والضَّلالِ وقولُه تعالَى
{إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تمهيدٌ لما يعقُبه من الاختصامِ يوم القيامةِ وقُرىء مائتٌ ومائتونَ وقيل كانُوا يتربصون برسولِ الله صلى الله عليه وسلم موتَه أي إنَّكم جميعاً بصددِ الموتِ
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ} أي مالكِ أمورِكم {تَخْتَصِمُونَ} فتحتجُّ أنتَ عليهم بأنَّك بلَّغتهم مَّا أُرسلتَ بِهِ من الأحكام والمواعظ التي من جُملتها ما في تضاعيف هذه الآياتِ واجتهدتَ في الدَّعوةِ إلى الحقَّ حقَّ الاجتهادِ وهم قد لجُّوا في المُكابرة والعناد وقيل المرادُ به الاختصامُ العامُّ الجاري في الدُّنيا بين الأنامِ والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ بقوله
الزمر 32 35 تعالى
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ علَى الله} فإنَّه إلى آخرهِ مسوقٌ لبيانِ حال كلَ من طرفَيْ الاختصامِ الجاري في شأن الكفرِ والإيمانِ لا غيرُ أي أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ مَنِ افترى على الله سبحانه وتعالى بأنْ أضافَ إليه الشَّريكَ والولد {وَكَذَّبَ بالصدق} أي بالأمرِ الذي هو عينُ الحقِّ ونفسُ الصِّدقِ وهو ما جاءَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم {إِذْ جَاءهُ} أي في أوَّلِ مجيئهِ من غير تدبُّرٍ فيه ولا تأمُّلٍ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي لهؤلاءِ الذين افترَوا على الله سبحانه وسارعُوا إلى التَّكذيبِ بالصَّدقِ من أوَّلِ الأمرِ والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتبار لفظها أو لجنسِ الكَفَرةِ وهم داخلون في الحكم دخولا أوَّليَّاً
{والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصولُ عبارةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعه كما أنَّ المرادَ في قولِه تعالى وَلَقَدْ آتينا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ هو عليه الصلاة والسلام وقومه وقيل عن الجنس المتناول المرسل والمؤمنين بهم ويؤيِّدُه قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه والذين جَاءُوا بالصَّدقِ وصدَّقُوا به وقيل هو صفة لموصوفٍ محذوف هو الفَوجُ او الفريق {أولئك} الموصوفون بما ذكر من المجيء بالصَّدقِ والتصديق به {هُمُ المتقون} المنعوتُون بالتَّقوى التي هي أجلُّ الرَّغائبِ وقُرىء وصدَق به بالتَّخفيفِ أي صدَقَ بهِ النّاسَ فأدَّاه إليهم كما نزل عليه من غيرِ تغيير وقيل وصارَ صادقاً به أي بسببهِ لأنَّ ما جاء به من القرآنُ معجزةٌ دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وقُرىء صُدِّق به على البناء للمفعول
{لهم ما يشاؤون عِندَ رَبّهِمْ} بيانٌ لما لَهُمْ فِى الآخرة من حسنِ المآبِ بعد بيانِ مالهم في الدنيا من محاسنِ الأعمالِ أي لهم كلُّ ما يشاءون من جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ في الآخرةِ لا في الجنَّةِ فقط لِما أن بعضَ ما يشاءونه من تكفير السَّيئاتِ والأمن من الفَزَع الأكبرِ وسائرِ أهوال القيامةِ إنَّما يقع قبل دخولِ الجنَّةِ {ذَلِكَ} الذي ذُكر من حصول كل ما يشاءونه {جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنُوا أعمالَهم وقد مرَّ تفسيرُ الإحسان غيرَ مرَّةٍ وقوله تعالى
{لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ} الخ متعلِّقٌ بقوله تعالى لهم ما يشاءون لكن لا باعتبارِ منطوقِه ضرورةَ أنَّ التَّفكيرَ المذكور لا يُتصوَّرُ كونُه غايةً لثبوت ما يشاءون لهم في الآخرةِ كيف لا وهو بعضُ ما سيثبُتُ لهم فيها بل باعتبارِ فحواه فإنَّه حيثُ لم يكن إخباراً بما ثبت لهم فيما مَضَى بل بما سيثبت لهم فيما سيأتِي كان في معنى الوعدِ به كما مرَّ في قوله تعالى وَعَدَ الله فإنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبلَهُ من قولِه تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ فإنَّه في معنى وَعَدَهم الله غُرفاً فانتصبَ به وعدُ الله كأنه قيل
الزمر 36 37 وَعَدَهم الله جميعَ ما يشاءونه من زوالِ المضارِّ وحصول المسارِّ ليكفِّرَ عنهم بموجب ذلك الوعدِ أسوأَ الذي عملوا دفعاً لمضارِّهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إعطاء لمنافِعهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ وإضافةُ الا الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدهما ليستْ من قبيل إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّل عليه بل من إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه للقصد إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ من غير اعتبارِ تفضيلِه عليه وإنَّما المُعتبر فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ لا على المضاف إليه المعيِّنِ بخصوصه كما في قولهم الناقص والاشج اعد لانني مَرْوانَ خلا أنَّ الزِّيادة المعتبرةَ فيهما ليست بطريقِ الحقيقةِ بل هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يليقُ بحالِهم من استعظامِ سيِّئاتِهم وإن قلَّتْ واستصغارِ حسناتِهم وإنْ جلَّتْ والثَّاني بالنَّظرِ إلى لُطفِ أكرمِ الأكرمينَ من استكثارِ الحسنةِ اليسيرةِ ومقابلتها بالمثُوباتِ الكثيرةِ وحمل الزيادة على الحقيقةِ وإن أمكنَ في الأوَّلِ بناءً على أنَّ تخصيصَ الأسوأِ بالذَّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استلزامِ تكفيرِ الأسوأ لتكفير السَّيِّءِ لكن لمَّا لم يكُن ذلك في الأحسنِ كان الأحسنُ نظمَهما في سلكٍ واحدٍ من الاعتبار والجمعُ بين صيغتَيْ الماضِي والمستقبلِ في صلةِ الموصولِ الثَّاني دون الأوَّلِ للإيذانِ باستمرارهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخلاف السَّيئةِ
{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على أن يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السلام انتظاما أوليا ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ عبادَهُ وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وكذا قراءةُ من قرأ بكافي عبادِه على الاضافة ويكافىء عباده صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ إنْ نقولُ إلا اعتراك بعض آلهتا بسوءٍ وذلك قوله تعالى {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةٌ مِن دُونِهِ تعالى والجملةُ استئنافٌ وقيل حالٌ {وَمَن يُضْلِلِ الله} حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمته له صلى الله عليه وسلم وخوفه بما لاينفع ولايضر أصلاً {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خيرٍ ما
{وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلّ} يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قولُه تعالى {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ {ذِى انتقام} ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلام وتربية المهابة