الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشاً دهشةً تُورِث إعجاباً، وإعجاباً يُورث يقيناً بحكمة الخالق. من هذه الآيات العجيبة الباهرة {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
…
} [الروم:
21]
يعني: من جنسكم ونوعكم.
فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلاً بين الإنسان وبقرة، لا إنما إنسان مع إنسان، يختلف معه فقط في النوع، هذا ذكر وهذه أنثى، والاختلاف في النوع اختلاف تكامل، لا اختلاف تعاند وتصادم، فالمرأة للرقة والليونة والحنان، والرجل للقوة والخشونة، فهي تفرح بقوته ورجولته، وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها، فيحدث التكامل الذي أراده الله وقصده للتكاثر في بني الإنسان.
وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض الأنوثة، ويثيرون بينهما الخلاف المفتعل الذي لا معنى له، فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار. . أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الأداء القرآني حينما جمع بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى، وتدبّر هذا المعنى الدقيق:{والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1 - 4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.
فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.
فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] .
وعجيب أن نسمع من يقول - من الرجال - ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل، وأنْ تؤدي ما يؤديه، ونقول: لا نستطيع أن تُحمِّل المرأة مهمة الرجل إلا إذا حمَّلْتَ الرجل مهمة المرأة، فيحمل كما تحمل، ويلد كما تلد، ويُرضِع كما تُرضِع، فدعونا من شعارات (البلطجية) الذين يهرفون بما لا يعرفون.
ومثل هذا قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
…
} [التوبة: 128] أي: من جنسكم وبشريتكم، فهو نفس لها كل طاقات البشر، ليكون لكم أسوة، ولو جاء الرسول مَلَكاً لما تحققتْ فيه الأسوة، ولَقُلْتم هذا ملَك، ونحن لا نقدر على ما يقدر هو عليه. أو {مِّنْ أَنفُسِكُمْ
…
} [التوبة: 128] يعني: من العرب ومن قريش.
والبعض يرى أن {مِّنْ أَنفُسِكُمْ
…
} [التوبة: 128] يعني: خَلْق حواء من ضلع آدم، فهي من أنفسنا يعني: قطعة منا، لكن الكلام هنا
{مِّنْ أَنفُسِكُمْ
…
} [التوبة: 128] مخاطب به الذكر والأنثى معاً، كما أن الأزواج تُطلق عليهما أيضاً، على الرجل وعلى المرأة، والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين، لكن الزوج مفرد معه مثله؛ لذلك يقول تعالى: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين
…
} [الرعد: 3] .
وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة، لكن القرآن يقول غير ذلك:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [القيامة: 37] فماء المرأة لا دخلَ له في نوع الجنين، ذكراً كان أم أنثى، الذكورة والأنوثة يحددها ماء الرجل.
وهذا ما أثبته العلم الحديث، وعلى هذا نقول {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
…
} [الروم: 21] يعني: من ذكور الأزواج، خلق منك ميكروباً هو (الإكس أو الإكس واي) كما اصطلح عليه العلم الحديث، وهو يعني الذكورة والأنوثة.
وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لأنها لا تنجب البنين، وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية، وقَوْلُها دليل على علم العرب قديماً بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخراً، قالت:
مَا لأبي حَمْزةَ لا يأْتينَا
…
غَضْبان أَلَاّ نَلدَ البَنينَا
تَالله مَا ذَلكَ في أَيْدينَا
…
ونحن كالأرْضِ لِزَارِعينا
نُعطي لَهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا
…
والحق سبحانه بهذا يريد أن يقول: إنني أريد خليفة متكاثراً ليعمر هذه الأرض الواسعة، فإذا رأيتَ مكاناً قد ضاق بأهله فاعلم أن هناك مكاناً آخر خالياً، فالمسألة سوء توزيع لخَلْق الله على أرض الله.
لذلك يقولون: إن سبب الأزمات أن يوجد رجال بلا أرض، وأرض بلا رجال، وضربنا مثلاً لذلك بأرض السودان الخصبة التي لا تجد مَنْ يزرعها، ولو زُرِعَتْ لكفَت العالم العربي كله، في حين نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا، فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الأماكن الخالية واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها، وما أنزل الله بها من سلطان.
لذلك لما أُتيح لنا الحديث في الأمم المتحدة قلت لهم: آية واحدة في كتاب الله لو عملتم بها لَحَلَّتْ لكم المشاكل الاقتصادية في العالم كله، يقول تعالى:{والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام، كل الأنام على الإطلاق.
واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا
…
} [النساء: 97] إذن: لا تعارض منهج الله وقدره في أحكامه، ثم تشكو الفساد والضيق والأزمات، إنك لو استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فساداً أبداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان على غير القانون والمنهج الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه، أما ما لا تتناوله يد الإنسان فتراه منضبطاً لا يختل ولا يتخلف.
إذن: المشاكل والأزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون الله على غير هدى الله وبغير منهجه؛ لذلك تسمع مَنْ يقول: العيشة ضَنْك، فلا يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إلا مشكلة الفقر، لكن الضنك أوسع من ذلك بكثير، فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش، وترى الناس مع ذلك في ضنك شديد.
فانظر مثلاً إلى السويد، وهي من أغنى دول العالم، ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد النفسية، ويكثر بها الانتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه، مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل الفرد.
فالمسألة - إذن - ليست حالة اقتصادية، إنما مسألة منهج لله تعالى غير مُطلَّق وغير معمول به، وصدق الله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] .
لذلك لو عِشْنا بمنهج الله لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.
وقوله تعالى: {لتسكنوا إِلَيْهَا
…
} [الروم: 21] هذه هي العلة الأصيلة في الزواج، أي: يسكن الزوجان أحدهما للآخر، والسكن لا يكون إلا عن حركة، كذلك فالرجل طوال يومه في حركة العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب، فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه، فلا يجد غير زوجته عندها السَّكَن والحنان والعطف والرقة، وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد نشاطه للعمل في غد.
لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعباً فلم يجد هذا السكن، بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده تعباً، وتكدِّر عليه صَفْوه. إذن: ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى السَّكَن هنا، وأن تؤدي مهمتها لتستقيم أمور الحياة.
ثم إن الأمر لا يقتصر على السَّكَن إنما {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
…
} [الروم: 21] المودة هي الحب المتبادل في (مشوار) الحياة وشراكتها، فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش، وهي تكدح لتدبر أمور البيت وتربية الأولاد؛ لأن الله يقول {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] هذا في إطار من الحب والحنان المتبادل.
أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات: سكن ومودة ورحمة، ذلك لأن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض
…
إلخ.
لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر. . إلخ.
وكثير من كبار السن من الذين يتقون الله ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا المبدأ مبدأ الرحمة، لذلك حينما يًلمِّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول:(أنا آكله لحم وأرميه عظم؟)
هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول الله في اختيار الزوجة: «تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها - وهذه كلها أغيار - ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» فأنت وهي أبناء أغيار، لا يثبت أحد منكما على حاله، فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج محايد لا هوى له، يميل به إلى أحدكما، منهج أنتما فيه سواء، ولن تجدوا ذلك إلا في دين الله.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم َ: «إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكُنْ فتنة في الأرض وفساد كبير» .
وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تملأ نظري، أو كذا وكذا، لأن الزوجة ما جعلها الله إلا سكناً لك وأنثى ووعاءً، فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:«إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته - أي: تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع - فليأْتِ أهله، فإنْ البُضْع واحد» .
وكلما طبَّق الزوجان المقاييس الدينية، وتحلَّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الآخر ما يعجبه، فإنْ ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها، سيبقى في المرأة جمال الطبع والسلوك، وكلما تذكرتَ إخلاصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة بيتك كلّما تمسكْت بها، وازددتَ حباً لها.
وكذلك الحال بالنسبة للزوجة، فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوِّضنا ما فات.
ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علامات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل أنْ يراعي هذه المسألة، فلما سأل أحدهم الحسن: لقد تقدم رجل يخطب ابنتي وصِفَته كيت وكيت، قال: لا تنكِحها إلا رجلاً مؤمناً، إنْ أحبها أكرمها، وإنْ كرهها لم يظلمها.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] يتفكرون في هذه المسائل وفي هذه المراحل التي تمرُّ بالحياة الزوجية، وكيف أن الله تعالى جعل لنا الأزواج من أنفسنا، وليستْ من جنس آخر، وكيف بنى هذه العلاقة على السَّكَن والحب والمودة، ثم في مرحلة الكِبَر على الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات
…
} .
في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
…
} [لقمان: 10] .
فالسماء التي تروْنها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة، ولكم أنْ تسيروا في الأرض، وأنْ تبحثوا عن هذه العُمد فلن تروْا شيئاً. أو {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
…
} [لقمان: 10] يعني: هي موجودة لكن لا ترونها.
والمنطق يقتضي أن الشيء العالي لا بُدَّ له إما من عُمُد تحمله من أسفل، أو قوة تمسكه من أعلى؛ لذلك ينبغي أنْ نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا
…
} [فاطر: 41] .
إذن: ليست للسماء أعمدة، إنما يمسكها خالقها عز وجل من أعلى، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ولا تتعجب من هذه المسألة، فقد أعطانا الله تعالى مثالاً مُشاهداً في قوله سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ الله
…
} [النحل: 79] .
فإنْ قُلْت: يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء، فترتفع به، وتمسك نفسها في الجو، نقول:
وتُمسك أيضاً في جو السماء بدون حركة الجناحين، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ
…
} [الملك: 19] .
فترى الطير في السماء مادّاً جناحيه ثابتاً بدون حركة، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يُمسكه في جَوِّ السماء إذن إلا قدرة الله.
إذن: خُذْ مما تشاهد دليلاً على صدْق ما لا تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس
…
} [غافر: 57] مع أنها خُلِقت لخدمة الإنسان.
فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله، وفيك انطوى العالم الأكبر، إلا أن عمرك محدود لا يُعَدُّ شيئاً إذا قِيسَ بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر. . الخ.
ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
…
} [الروم: 22] اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] وقال: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] .
ويًُطلَق أيضاً على هذه الجارحة المعروفة، وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق، مع أن اللسان يُمثِّل جزءاً بسيطاً في عملية النطق، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية. . إلخ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية. إذن: فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات.
وسبق أنْ قُلْنا: إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، وحين نسلسلها لا بُدَّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلام، وقلنا: إن الله تعالى هو الذي علَّمه اللغة حين علَّمه
الأسماء كلها، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها، وليضيفوا إليها أسماء جديدة.
لذلك نرى أولادنا مثلاً حينما نريد أنْ نُعلِّمهم ونُرقِّيهم نُعلِّمهم أولاً أسماء الأشياء قبل أنْ يتعلموا الأفعال؛ لأن الاسم أظهر، أَلَا ترى أن الفِعْل والحدث يدل عليه باسم، فكلمة (فِعْل) هي ذاتها اسم.
لكن، كيف ينشأ اختلاف اللغات؟ لو تأملنا مثلاً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً، لكن بيئاتها متعددة: هذا مصري، وهذا سوداني، وهذا سوري، مغربي، عراقي. . الخ نشترك جميعاً في لغة واحدة، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تُفهَم في البيئة الأخرى، أما إذا تحدَّثنا جميعاً باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها.
أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة، فمثلاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية و. . إلخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية، فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها.
أو {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ
…
} [الروم: 22] يعني: اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد.
ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يُصدر لها صوتاً تفتح له.
ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة
منها: الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها: الحيوان، نقول: نقيق الضفادع وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثُغَاء الشاة، ورُغَاء الإبل. . الخ لكن بالله أسألك: لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان؟ لا، لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء.
أما في الإنسان، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلائه أو استفاله، أو في رقته أو في تضخيمه. . الخ. فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات؟
قالوا: لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدَّد كما للإنسان، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئاً من أوصافه؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.
وقال سبحانه بعدها {وَأَلْوَانِكُمْ
…
} [الروم: 22] فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميُّز بين الناس، ولأن الإنسان هو المسئول خلق الله فيه اختلافَ الألسنة والألوان؛ لنستدل عليه بشكله: بطوله أو قِصَره أو ملابسة
…
إلخ.
وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويُقوِّمه حين يعلم أنه لن يفلت بفِعْلته، ولا بُدَّ أنْ يدل عليه شيء من هذه المميزات.
لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول، لماذا؟ لأنهم يريدون أنْ يُضيِّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ لا تنطبق عليه مواصفاتهم، وما يزالون يُضيِّقون الدائرة حتى يصلوا للجاني.
والحق تبارك وتعالى يقول: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا
…
.} [الحجرات: 13] .
فالتميُّز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة، ألَا ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسماً يُميِّزه، فإن عشق اسم محمد مثلاً، وأحب أن يسمى كل أولاده محمداً لا بد أن يميزه، فهذا محمد الكبير، وهذا محمد الصغير، وهذا الأوسط. . إلخ.
إذن: لا بُدَّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات.
ثم يقول سبحانه: {لِّلْعَالَمِينَ
…
} [الروم: 22] أي: الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.
لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية، كالذي اخترع عصر
البخار، والذي اخترع العجلة، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين. . الخ، إذن: نمر على آيات الله في الكون بيقظة، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة.
والعَالمون: جمع عالم، وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلال والحرام، لكن هي أوسع من ذلك، فالعالم: كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية، ويُسمَّى هذا «عالم بالكونيات» وهذا عالم بالشرع، وإنْ شئتَ فاقرأ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
…
} [فاطر: 27 - 28] .
فذكر سبحانه النبات، ثم الجماد، ثم الناس، ثم الحيوان.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء
…
} [فاطر: 28] على إطلاقها فلم يُحدِّد أي علماء: علماء النبات، أو الحيوان، أو الجمادات، أو علماء الشرع، إذن: العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شرعية من عند الله.
لكن، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا: لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛ لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألَاّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات، وألَاّ يُدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.
والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلاً علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس، فيقوم من علماء الدين مَنْ يقول: هذا مخالف للدين - هكذا عن غير دراسة، سبحان الله، لماذا تُقحِم نفسك فيما لا تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون