المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي حديث آخر:» يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل - تفسير الشعراوي - جـ ١٨

[الشعراوي]

الفصل: وفي حديث آخر:» يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل

وفي حديث آخر:» يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما لبسْتَ فأبليتَ، أو أكلتَ فأفنيتَ، أو تصدَّقْتَ فأبقيت «.

والإمام علي رضي الله عنه يسأله أحدهم: أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام: الجواب عندك أنت، فقال: كيف؟ قال: هَبْ أنه دخل عليك شخص بهدية، وآخر يطلب منك صدقة فلأيِّهما تبشُّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة فأنت من أهل الآخرة.

ذلك لأن الإنسان يحب ما يعمر له محبوبه، فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له، وإنْ كان من أهل الآخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته.

ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لأنفسهم: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ

} .

ص: 11494

وذكر هنا الإيمان فقال {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ

} [الروم:‌

‌ 45]

ثم {وَعَمِلُواْ الصالحات

} [الروم: 45] حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يُغني عن الإيمان. وهذه مسألة شغلتْ كثيراً من الفلاسفة، يقولون: كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات لا يُجازى عليها؟

نقول له: أُجر ويُجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا؛ لأنه لم يعمل لله، بل عمل للشهرة وللصيت، وقد أخذ منها تكريماً

ص: 11494

وشهوة وتخليداً لِذكْراه وأقيمت لهم التماثيل. . إلخ، أما جزاء الآخرة فلمَنْ عمل العمل لوجه الله خالصاً.

والقرآن يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يقول: إياكم أنْ تُغَشُّوا بمن يعمل الأعمال للدنيا: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .

وجاء في الحديث: «فعلتَ ليُقال وقد قيل» نعم بنيت مسجداً، لكن كتبت عليه: بناه فلان، وشرَّف الافتتاح فلان. . الخ فماذا تنتظر بعد ذلك، إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى، كما جاء في الحديث «ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه» .

فقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ

} [الروم: 45] يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحاً بحقٍّ يفيد صاحبه في الدنيا، لكن لا يفيده في الآخرة إلا أن يكون صادراً عن إيمان بالله، ثم يربط الإيمان بالعمل الصالح حيث لا يغني أحدهما عن الآخر.

وقوله تعالى: {مِن فَضْلِهِ

} [الروم: 45] أي: تفضُّلاً من الله،

ص: 11495

حتى لا ينخدع أحد بعمله، ويظن أنه نجا به، وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون: مرة يقول القرآن {مِن فَضْلِهِ

} [الروم: 45] ومرة يقول: {ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] أي: أنها حق لكم بما قدَّمتم من عمل، فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من الله؟

ونقول: العمل الذي يطلبه الله تكليفاً من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على الإنسان، ولا يستفيد الله منه بشيء؛ لأن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق.

لذلك قال في الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كُنْ فيكون» .

ويقول سبحانه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ

}

[النحل: 96] .

إذن: فالأعمال التكليفية لخير الإنسان نفسه، وإنْ كانت في الظاهر تقييداً لحريته، فهو مثلاً يريد أنْ يسرق ليزيد ماله، فنأخذ

ص: 11496

على يديه، ونمنعه ونقول له: تنبَّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد، ومنعنا الناس جميعاً أنْ يسرقوا منك، فأنت إذن المستفيد من منهج الله، فلا تنظر إلى ما أخذه منك التكليف، ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.

وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت، فإنْ أثابك الله عليه بعد ذلك فهو فضل من الله عليك، كما تقول لولدك مثلاً؛ إنْ تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق، فتكون الجائزة بعد ذلك فضلاً.

كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أنْ يتقن عمله، وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع أننا المستفيدون منه.

ويقول سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق

} [النور: 25] فجعله حقاً عليه سبحانه، كما قال:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47] .

ولو بحثنا كلمة «حق» فلسفياً لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقاً لك إلا إذا كان واجباً على غيرك، فحقُّك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي مُوجباً فمَنْ أوجب على الله؟ لا أحد؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه.

إذن: فالحق الذي جعله لك تفضُّلاً منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقاً، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقاً واجباً، له أن يطالب الورثة به شرعاً؛ لأن المورِّث تفضَّل وجعله حقاً له.

ثم يقول سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الكافرين} [الروم: 45] نلحظ في

ص: 11497

الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذِكْر الكافرين هنا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، كأنه يقول له: تعال إلى الإيمان لتنال هذا الجزاء.

ومثال ذلك - ولله المثَل الأعلى - رجل عنده ثلاثة أولاد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته، فجاء آخر العام ونجح اثنان، وأخذ كل منهما هديته، وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان مثل أخويْه.

وكذلك الحق سبحانه لا يحب الكافرين؛ لأنه يحب أن يكون الخَلْق جميعاً مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهم خِلْقته وصَنْعته، وهل رأيتم صانعاً حطم صنعته وكسرها، إذن: فالله تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.

وجاء في الحديث القدسي: «قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم، فقط طَعِم خيرك ومنع شكرك. فماذا قال الرب الخالق للجميع؟ قال:» دعوني ومن خلقتُ، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم «.

ص: 11498

لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض، ويضرب لنا سيدنا رسول الله مثلاً لتوضيح هذه المسألة فيقول:«لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة» .

فالله لا يحب الكافرين لأنهم لم يكونوا أهلاً لتناول هذا الفضل، وما ذاك إلا لأنه سبحانه مُحِبٌّ لهم حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح

} .

ص: 11499

هذه نِعَم خمس من نِعَم الله على عباده.

فإرسال الرياح وحدها نعمة، وتبشيرها بالمطر نعمة، وإجراء الفُلْك نعمة، والابتغاء من فضل الله نعمة، ثم الشُّكْر على هذا كله نعمة أخرى.

والآيات: جمع آية، وهي كما قلنا: الشيء العجيب الذي يجب أنْ يلفت الأنظار، وألَاّ يغفل الإنسان عنه طرفة عَيْن، ومن ذلك قولنا:

ص: 11499

فلان آية في الفصاحة، أو آية في الجمال. . إلخ.

وتُطلق الآيات ويراد بها معَان ثلاثة: آيات كونية تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتثبت قدرة الخالق. {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر

} [فصلت: 37] .

وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.

وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.

وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ

} [الروم: 46] كلمة الرياح جمع ريح، والرياح هنا بالمعنى العام: الهواء، وهو أنواع: هواء ساكن {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح

} [الشورى: 33] .

والهواء الساكن يضايق الإنسان، حيث يُصعِّب عليه عملية التنفس، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة. لماذا؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس، والهواء يأتي مرة ساخناً يلفح الوجوه، ومرة نسيماً مُنعِشاً عليلاً، ويأتي عاصفاً مدمراً. . الخ.

والحق سبحانه - كما سبق أنْ بينَّا - رتَّب مقومات حياة الخليقة في الأرض على: الهواء، ثم الماء، ثم الطعام على هذا الترتيب، وحَسْب أهمية هذه المقومات. فالهواء هو أهم مُقوِّم في حياة الكائن الحي، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات. ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام. ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر.

ص: 11500

لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألَاّ يُملِّك الهواء لأحد، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك، أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس، أما الطعام فكثيراً ما يملك؛ لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تُمكِّنه أن يكتسبه، ويحتال عليه، أو لعل مالكَ الطعام يرقُّ قلبه ويعطيك.

لذلك نسمع من عبارات التهديد: والله لأكتم أنفاسه، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فِعْله؛ لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت، لكن إنْ منعتَ عنهَ الهواء فهي نهايته، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلّها أثراً، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء. إذن: الهواء مُقوِّم هام حياة وإماتة.

وقلنا: إذا حُبِس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان؛ لأن أنفاسه تكتم، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج: افتحوا النوافذ، لماذا؟ ليتجدد الهواء.

إذن: إرسال الرياح في ذاتها نعمة، فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشِّرك بالمطر؛ لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدِّر مسافة السحابة التي ستمطره، إذن: فالتبشير بالمطر نعمة أخرى.

وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر، لا دخلَ للإنسان فيهما {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ

} [الروم: 46] أي: بالمطر أما في آية الفلك {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ

} [الروم: 46] فنسب الجريان إلى الفُلْك لأن للإنسان يداً فيها وعملاً، فهو صانعها ومُسيِّرها بأمر الله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46] أي: تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق، أو حتى للنزهة والسياحة.

إذن: الآية التي لا دخلَ للإنسان فيها تُنسَب إلى الله وحده، وإنْ كان

ص: 11501

للإنسان فيها عمل نسبها إليه، كما في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 58 - 61] .

فأعطانا نعمة الحياة، ثم ذكر ما ينقضها، حتى لا نستقبل الحياة بغرور، ولما كانت آية الحياة وآية الموت لا دخلَ للإنسان فيها اكتفى بهذا الاستفهام {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 59] ولا أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ.

أما في آية الحَرْث، فنسب الحرث إلى الإنسان؛ لأن عمله كثير في هذه الآية، حيث يحرث ويبذر ويروي. . إلخ لذلك قال في نَقْض هذه النعمة {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً

} [الواقعة: 65] وأكدَ الفعل باللام حتى لا تغترّ بعملك في الزرع.

أما في الماء، فلم يذكر هذا التوكيد؛ لأن الماء نعمة لا يدَ للإنسان فيها؛ لذلك قال في نقضها {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً

} [الواقعة: 70] بدون توكيد.

النعمة الخامسة: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46] وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها، فإنْ شكرتَ لله نعمة عليك زادك منها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ

} [إبراهيم: 7] .

وبعد ذلك يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم َ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ

} .

ص: 11502