المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٍّ من بَدْء الخليقة، - تفسير الشعراوي - جـ ١٨

[الشعراوي]

الفصل: فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٍّ من بَدْء الخليقة،

فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٍّ من بَدْء الخليقة، وإلى أنْ تقوم الساعة لا يزيد، لكنه يدور في دورة طبيعية.

ثم يقول سبحانه: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19] أيهما: الخَلْق أم الإعادة؟ أما الخلق فقد أقرُّوا به، ولا جدالَ فيه، إذن: فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخَلْق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟

لذلك يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ

} [الروم: 27] مع أن الحق سبحانه لا يُقال في حَقِّه: هذا هيِّن، وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.

ثم يخاطب الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم َ: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا

} .

ص: 11118

السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟ الحقيقة أننا كما قال سبحانه {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض

} [العنكبوت:‌

‌ 20]

أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذن: حين تسير تسير في الأرض فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها.

والعلة في السير {فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق

} [العنكبوت: 20]

ص: 11118

وفي آية أخرى {ثُمَّ انظروا. .} [الأنعام: 11] ؛ لأن السير من أرض لأخرى له دافعان: إما للسياحة والتأمل والاعتبار، وإما للتجارة والاستثمار، إنْ ضاق رزقك في بلادك. فقوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا

} [العنكبوت: 20] أي: نظر اعتبار وتأمل.

أما في {ثُمَّ انظروا. .} [الأنعام: 11] فثم تفيد العطف والتراخي، كأنه سبحانه يقول لنا: سيروا في الأرض للاستثمار، ثم انظروا نظرة التأمل والاعتبار، ولا مانع من الجمع بين الغرضين.

وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة (القصص) : {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ

} [القصص: 85] والمراد بذلك الهجرة، وفي هذه السورة تأتي:{ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] .

والمعنى: إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، أو: إنْ لم تكُنْ الآيات الظاهرة لك كافية لتشبع عندك الرغبة في الاعتبار والتأمل فسِرْ في الأرض، فسوف تجد فيها كثيراً من الآيات والعِبَر في اختلاف الأجناس والبيئات والثمار والأجواء. . إلخ.

لذلك يقول سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا

} [النساء: 97] .

فالأرض كلها لله لا حدودَ فيها، ولا فواصلَ بينها، فلما قسَّمها الناس وجعلوا لها حدوداً تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصَعُبَ على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إنْ ضاق بأحد رزقه.

وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الأراضي الخِصْبة التي إنْ زُرِعت سدَّتْ حاجة العالم العربي كله، أنستطيع

ص: 11119

الذهاب لزراعتها؟ ساعتها سيقولون: جاءوا ليستعمرونا.

لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة الأمم قلت: إنه لا يمكن أنْ تُحلَّ قضايا العالم الراهنة إلا إذا طبَّقنا مبدأ الخالق عز وجل وعُدْنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا، وكيف نضع بيننا هذه الحدود الحديدية والأسلاك الشائكة، وربنا يقول:{والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] .

فالأرض كلُّ الأرض للأنام كل الأنام، ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد، لأنه إنْ ضاقَ بك هنا طلبته هناك؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إمَّا من أرض بلا رجال، أو من رجال بلا أرض، فلماذا لا نُحِدث التكامل الذي أراده الله في كونه؟

إذن: فالسير هنا مترتب عليه الاعتبار {كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة

} [العنكبوت: 20] وما دُمْنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخَلْق أهون، كما قال سبحانه: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول

} [ق: 15] فيشكُّوا في الخَلْق الآخر؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه هذه القدرة بقوله:

{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20] .

ثم يقول الحق سبحانه: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ

} .

ص: 11120

لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب؟ في حين قدَّم المغفرة

ص: 11120

في آية أخرى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ

} [المائدة: 18] .

قالوا: لأن الكلام هنا عن المكذّبين المعرضين وعن الكافرين، فناسب أنْ يبدأ معهم بذكر العذاب {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ

} [العنكبوت: 21] فإنْ قُلْت: فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين بعد أنْ هدَّدهم بالعذاب؟ نقول: لأنه رب يهدد عباده أولاً بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا، ثم يُلوِّح لهم برحمته سبحانه ليُرغِّبهم في طاعته ويلفتهم إلى الإيمان به.

وقد صَحَّ في الحديث القدسي: «رحمتي سبقت غضبي» ففي الوقت الذي يُهدِّد فيه بالعذاب يُلوِّح لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقتْ غضبه.

وقوله سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21] أي: تُرجعون، وجاء بصيغة تقلبون الدالة على الغَصْب والانقياد عُنْوة ليقول لهم: مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم الله، فلا بُدَّ لكم من الرجوع إليه، والمثول بين يديْه، فتذكَّروا هذه المسألة جيداً، حيث لا مهربَ لكم منها؛ لذلك كان مناسباً أنْ يقول بعدها: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض

} .

ص: 11121

(معجزين) : جمع معجز، وهو الذي يُعجز غيره، تقول: أعجزتُ فلاناً يعني: جعلته عاجزاً، والمعنى أنكم لن تفلتوا من الله،

ص: 11121

ولن تتأبَّوْا عليه، حين يريدكم للوقوف بين يديه، بل تأتون صاغرين.

ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قال: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ

} [العنكبوت: 22] ولم يقل مثلاً: لن تعجزوني حين أطلبكم؛ لأن نفيَ الفعل غير نفي الوصف، فحين تقول مثلاً: أنت لا تخيط لي ثوباً، فهذا يعني أنه يستطيع أنْ يخيط لك ثوباً لكنه لا يريد، فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة الفعل، إنما حين تقول: أنت لستَ بخائط فقد نفيتَ عنه أصل المسألة.

لذلك لم ينْفِ عنهم الفعل حتى لا نتوهم إمكانية حدوثه منهم، فالهرب والإفلات من لقاء الله في الآخرة أمر غير وارد على الذِّهْن أصلاً، إنما نفي عنهم بالوصف من أساسه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء

} [العنكبوت: 22] .

ثم يقول سبحانه: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22] حتى لا يقول قائل: إنْ كانوا هم غير معجزين، فقد يكون وراءهم مَنْ يعجز الله، أو وراءهم مَنْ يشفع لهم، أو يدافع عنهم، فنفى هذه أيضاً لأنه سبحانه لا يُعجزه أحد، ولا يُعجزه شيء.

لذلك يخاطبهم بقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أين الفتوات الأقوياء ينصرونكم؟

فنفى عنهم الولي، ونفى عنهم النصير؛ لأن هناك فَرْقاً بينهما: الوليّ هو الذي يقرب منك بمودة وحُبٍّ، وهذا يستطيع أنْ ينصرك لكن بالحُسْنى وبالسياسة، ويشفع لك إن احتجتَ إلى شفاعته، أمّا النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و (الفتونة) .

ص: 11122

وهكذا نفى عنهم القدرة على الإعجاز، ونفى عنهم الولي والنصير، لكن ذكر {مِّن دُونِ الله

} [العنكبوت: 22] يعني: من الممكن أن يكون لهم وليٌّ ونصير من الله تعالى، فإنْ أرادوا الولي الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي، فأنا وليُّهم وأنا نصيرهم.

وكأنه سبحانه يقول لهم: إنْ تُبْتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم، فأنا وليُّكم وأنا نصيركم.

وفي موضع آخر قال: {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] ولم يقل من دون الله؛ لأن الموقف في الآخرة، والآخرة لا توبةَ فيها ولا اعتذار ولا رجوع، فقوله {مِّن دُونِ الله

} [العنكبوت: 22] لا تكون إلا في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ

} .

ص: 11123

فإنْ أصرَّ الكافر على كُفْره وعبادته للأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولم تُجْدِ معه موعظة ولا تذكير فلا ملجأ له ولا منفذ له إلى رحمة الله؛ لأنه عبد أولياء لا ينفعونه بشيء وكفر بي، فليس له مَنْ يحميه مني، ولا مَنْ ينصره من الأصنام التي عبدها، فليس له إلا اليأس.

واليأس: قَطْع الرجاء من الأمر، وقد قطع رجاء الكافرين؛ لأنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر، وكفروا بمَنْ بيده النفع، وبيده الضُّر.

ص: 11123