المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (26، 27) - تفسير العثيمين: الزخرف

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ:

- ‌الآية (4)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (5)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (8)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (9)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ:

- ‌الفَائِدَةُ الحَادِيَة عَشْرَةَ:

- ‌الآية (12)

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الفائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ:

- ‌الآية (15)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (16)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الآية (17)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الآية (18)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (19)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الآية (20)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الآية (21)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (22)

- ‌الآية (23)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (24)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (25)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الآيتان (26، 27)

- ‌الآية (28)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الآية (29)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الآية (30)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثانِيَةُ:

- ‌الآية (31)

- ‌الآية (32)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ:

- ‌الآية (33)

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآيات (36 - 38)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

- ‌الآية (39)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الآية (40)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الآية (41)

- ‌الآية (42)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌الآية (45)

- ‌الْفَائِدَةُ الأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الفائِدَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

الفصل: ‌الآيتان (26، 27)

‌الآيتان (26، 27)

قَال اللهُ عز وجل: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27].

{وَإِذْ} مَفعُولٌ لفِعْلٍ محذُوفٍ، التَّقدِيرُ: واذْكُرْ إِذْ قَال إبْرَاهِيمُ، وإنَّمَا ذَكَرَ إبْرَاهِيمَ لأَنَّ إبْراهِيمَ تَنتمِي إِلَيهِ جَمِيعُ الأُمَمِ، اليَهودُ قَالُوا: إنَّهُ يَهودِيٌّ. والنَّصارَى قَالُوا: إنَّه نَصرَانيٌّ. والعَرَبُ قَالُوا: إنَّهُم مُتِّبِعُون مِلَّتَه. فأَرَادَ اللهُ أَنْ يُبيِّن أن إبْرَاهيمَ عليه السلام كَانَ بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ وأهْلِهِ.

{وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ} التَّقدِيرُ: واذْكُرْ إِذْ قَال إبْرَاهِيمُ، إبرَاهِيمُ الخَلِيلُ عليه السلام هُوَ إمَامُ الحُنَفَاءِ الَّذِي قَال اللهُ تعَالى فِيهِ لنَبِيِّهِ محُمَّدٍ:{ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

وكَانَ إبراهِيمُ عليه السلام كغَيرِهِ مِنَ الأنبِيَاءِ بُعِثَ إِلَى قَومِهِ خَاصَّةً، كَمَا قَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلي مِنْهَا: وَكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"

(1)

.

وقولُه: {لِأَبِيهِ} وهُوَ آزَرُ {وَقَوْمِهِ} الَّذِين أُرسِلَ إلَيهِمْ.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التيمم، رقم (335)، أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم (521)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 112

وقَدْ ذَكَرَ اللهُ محُاجَّةَ إبرَاهِيمَ لأَبِيهِ فِي سُورَةِ مَرْيمَ عَلَى وَجْهٍ مَبسُوطٍ، وفِي غَيرِهَا عَلْى وَجْهٍ مُختَصَرٍ أحيانًا، ومُتوسِّطٍ أحيانًا، فجَرَتْ محُاورَةٌ بينَهُ وبَينَ أَبِيهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فقَال عز وجل:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَال لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا} إِنْ دَعوتَهُ لَمْ يَسمَعْكَ، وإِنْ وَافَقْتَهُ لَمْ يَرَكَ، وإِنِ استَعَنْتَ بِهِ لَمْ يَنفَعْكَ، ولَا يُغنِي عنْكَ شَيئًا {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 41 - 43].

والخِطَابُ الْآنَ مَبنيٌّ عَلَى التَّرقِيق، والتَّلطِيفِ، والتَّنزُّل أمَامَ الأَبِ؛ قال:{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولَمْ يَقُلْ: يَا أَبتَي إنَّك جَاهِلٌ وأنَا عَالِم، بَلْ قَال:{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} وهَذَا مِنْ أَدَبِهِ عليه السلام، فقَد جَاءَهُ مِنَ العِلْمِ الوَحْيُ وأبُوهُ لَيسَ كذَلِكَ، جَاءَهُ مِنَ العِلْمِ التَّوحيدُ وأَبُوه لَيسَ كذَلِكَ.

فقَال: {فَاتَّبِعْنِي} الولَدُ يَقُوُل لأَبيهِ: (اتَّبِعْنِي)، لأَنَّ الابْنَ معَهُ حَقٌّ، والأَبُ لَيسَ كذَلِكَ {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَويًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 43 - 44] {لَا تَعْبُدِ الشَّيطَانَ} يَعْنِي: عِبَادَةَ الطَّاعَةِ، وكُلُّ مَنْ أَطَاعَ شَيئًا فقَدْ عبَدَهُ عَلَى حَسَبِ الحالِ {إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} أَي: عَاصِيًا {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]، أَي: يُصيبَكَ {فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45]، فجعَلَ وَلايتَهُ للشَّيطَانِ مِنَ العذَابِ، لأَنَّ إعْراضَ الإنسَانِ عَنِ الحَقِّ مُصيبَةٌ ببعْضِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَال عز وجل:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49].

نحْنُ نظُنُّ أن العُقوبَاتِ هِيَ البَلاءُ يَنْزِل بالإنسَانِ مِنْ مرَضٍ وفَقْرٍ، ومَا أَشْبَهَ

ص: 113

ذَلِكَ، وهَذَا -حَقًّا- عُقُوبةٌ، ولكِنْ هُناكَ عُقوبةٌ أشَدُّ وهِيَ الإعْرَاضُ عَنِ الحَقِّ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} هَذَا أعظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ البَلَاءِ الحِسِّيِّ الجَسَدِيِّ؛ ولهَذَا قَال:{يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] كَانَ جَوَابُ الأَبِ جَوابًا قَاسِيًا: {قَال أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46]، أَنكَرَ علَيهِ الرَّغبَةَ.

ولهَذَا قَال أهْلُ البلَاغَةِ: الَّذِي يَلي همْزَةَ الاستِفْهَامِ هُوَ المُنكَر، يَعْنِي: لَمْ يقُلْ: يَا إبراهِيمُ أَرَاغِبٌ. بَلْ بَدَأَ بالإنكَارِ عَلَى الطَّريقَةِ، قَال:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} وهَذَا استِفهَامُ إنكَارٍ وتَوبيخٍ.

ثم قال: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} يَعْنِي: عَنْ دعوَتِك إيَّايَ عَنِ التَّوحيدِ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وعيدٌ يَقُولُه الأَبُ لابْنِهِ، وابْنُه يَتَرقَّقُ لَهُ، ويَتحنَّن إلَيهِ بقَولِهِ:{يَاأَبَتِ} {يَاأَبَتِ} {يَاأَبَتِ} وهَذَا جَوابُ الأَبِ.

وهَذَا القَولُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} قَالهُ أيضًا غيرُهُ مِنَ المُكذِّبينَ للرُّسُلِ؛ فِرعَونُ قَال لمُوسَى عليه السلام: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29].

ثُم قال: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، يَعْنِي: اتْرُكْنِي {مَلِيًّا} أَي: زَمَنًا طَويلًا، يَعْنِي: يَقُولُ: دَعْنِي عَلَى مَا أنَا علَيهِ ولَا تُكلِّمْني، قَال:{قَال سَلَامٌ عَلَيكَ} [مريم: 47] هذِهِ النِّهايَةُ مِنْ إبراهِيمَ، فَمَا أَحلَمَهُ عَلَيهِ ألصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! ولهَذَا قَال اللهُ سبحانه وتعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، قَال:{سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، فاستَغْفَرَ لَهُ حتَّى نَهَاهُ اللهُ عز وجل.

الشَّاهِدُ مِنْ هَذَا: أَنَّ أبَا إبراهِيمَ كَانَ مُشرِكًا اسْمُه آزرُ، كَمَا قَال عز وجل:{وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74]، العجَبُ أن بعْضَ النَّاسِ

ص: 114

-نَسْأَلُ اللهَ العافيَةَ- حَرَّف كلَامَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا أَرَادَ اللهُ، بِنَاءً عَلَى هَوَاهُ، فقَال: أَبُو إبراهِيمَ لَيسَ مُشرِكًا، بَلْ هُوَ عَلَى التَّوحِيدِ، ولَا يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو النَّبيِّ مُشرِكًا وآزرُ هُوَ عمُّه ولَيسَ أَبَاهُ، فانْظُرْ كَيفَ الهَوَى! ومَنْ قَال فِي القُرآنِ برَأْيهِ فلْيَتبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فكَيفَ نَقُولُ: لَيسَ أباهُ، وهُوَ عمُّهُ، واللهُ يَقُولُ:{وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} كيفَ نَقُولُ: إنَّهُ عَمُّه. وهُوَ يقُولَ: يَا أَبَتِي؟ !

أمَّا يَستَحِي قَائِلُ هَذَا القَوْلِ! أمَّا يَتَّقِي اللهَ سبحانه وتعالى بتَحرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَواضِعِه، بِنَاءً عَلَى عقِيدَةٍ فاسِدَةٍ أن أبَا الرَّسُولِ لَا يُمكِن أَنْ يَكُون كَافرًا!

ونَقُوُل: سبْحَانَ اللهِ! تَأمَّلُوا كَوْنَ أَبِي الرَّسُولِ كَافِرًا وابْنُه نَبيٌّ- أعظَمُ دَلِيلٍ عَلَى قُدرَةِ اللهِ عز وجل، وأنَّه يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميَت، وأنَّ النَّسبَ لَا يَنْفَعُ أصحَابَهُ.

واللهِ لَو قُلْنَا هَذَا لِعَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ المُسلمِينَ: إنَّ آزرَ عَمُّ إبراهِيمَ ولَيسَ أبَاهُ. لانْتُقِدْنا، بَلَ نَقُوُل: أبُو إبراهِيمَ كَافِرٌ، وأبُو محُمَّدٍ كَافرٌ، ومَاذَا يَضُرُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ أبُوهُ كافرًا؟ لا يَضُرُّه شَيئًا، بَلْ هَذَا أكبَرُ دَليلٍ عَلَى كَمال قُدرَةِ الله عز وجل، وأنَّه يُخرِجُ الأنبيَاءَ مِنْ أصْلَاب هؤُلَاءِ الكُفَّارِ، لكِنْ -الحُمِدُ للهِ- لَمْ يَخْرُجْ نبيٌّ أبَدًا مِنْ سِفَاحٍ.

أمَّا مَسأَلةُ الكُفْر والإيمَانِ فهَذَا لَا يُعَدُّ انتِهَاكًا لأعْرَاضِ الأنبِيَاءِ.

الشَّاهِدُ مِنْ هَذَا أن إبراهِيمَ عليه السلام قَال لأَبِيهِ صَرَاحَةً وقَال لقَوْمِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} والجُملَةُ هذهُ مُؤكَّدةٌ كَمَا هُوَ مَعْلُوم بـ (إِنَّ)، قال المُفسِّر رحمه الله:[{بَرَاءٌ} بَرِيءٌ] وهَذَا نَقْصٌ مِنَ المُفسِّر، لأنَّ (برَاءٌ) صِفَةٌ مُشبَّهة، وبَرِيءٌ اسْمُ فَاعِلٍ، والصِّفَةُ المُشبَّهة أَعظَمُ؛ لأنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوامِ والثَّباتِ والاستِمْرَار، فـ (بَرَاءٌ) أعظَمُ مِنْ (بَرِيءٍ)، و (برَاءٌ) يَعْنِي: صِفَةُ البَرَاءَةِ، الصِّفةُ الدَّائِمَةُ الثَّابِتَةُ المُستمِرَّةُ، البَرَاءُ ممَّا أَنْتُمْ عَلَيهِ.

ص: 115

وقَولُه: {مِمَّا تَعْبُدُونَ} أَي: مِنَ الَّذِي تَعبُدُونَهُ.

وقولُه: {إلا الَّذِي فَطَرَنِي} والمُرَادُ بالَّذِي يَعبُدُونَه: الأصنَامُ الَّتِي يَنحِتُونَها هُمْ بأيدِيهِمْ، ثُمَّ يَعبُدُونَها؛ ولهَذَا قَال لهُمْ إبراهِيمُ عليه السلام فِي جُملَةِ مُنَاظَرَاتِهِ:{قَال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]، فكَيفَ تَعبُدُونَها وهِيَ مخلُوقَةٌ؟ ! كَيفَ تَعبُدُونَها وأنْتُمُ الَّذِين تَنحِتُونَها؟ !

وقَولُهُ: {إلا الَّذِي فَطَرَنِي} : {إلا} أدَاةُ استِثْنَاءٍ، لكِنْ هَلْ الاستثْنَاءُ هُنَا مُنقطِعٌ أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ؟

الجَوابُ: إِنْ كَانُوا يَعبُدُونَ اللهَ وغيرَهُ فالاستِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وإنْ كَانُوا لَا يَعبُدونَ اللهَ فالاستِثْنَاءُ مُنقطِعٌ، والاستِثْنَاءُ المُنقَطِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَا بعْدَ (إلَّا) مِنْ غَيرِ جِنْسِ الَّذِي قبلَهَا، ومثّل لَهُ النَّحويُّون بقَولِهمْ:(جَاءَ القَومُ إلَّا حمَارًا). والحمَارُ مِنْ غَيرِ جِنْسِ القَومِ، فيَكُونُ الاستِثْنَاءُ مُنقطِعًا، أمَّا إِذَا قِيلَ:(جَاءَ القَومُ إلَّا زيدًا). فالاستِثْنَاءُ هُنَا مُتَّصِلٌ؛ لأَنَّ زيدًا مِنْ جِنْسِ المُستثنَى مِنْهُ.

ونُطبِّقُ مَا هُنا عَلَى القَاعِدَةِ، فقَولُه:{إلا الَّذِي فَطَرَنِي} إِنْ كَانُوا يَعبُدُونَ اللهَ وغَيرَهُ فالاستِثْنَاءُ هُنَا مُتَّصِلٌ، وإِنْ كَانُوا لَا يَعبُدُونَ اللهَ فالاستِثْنَاءُ مُنقطِعٌ.

وقَولُهُ: {إلا الَّذِي فَطَرَنِي} لَمْ يَقُلْ: إلَّا اللهُ. مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقِيمَ الدَّليلَ عَلَى أنَّهُ لَا يَستحِقُّ العِبَادَةَ إلَّا هُوَ، فالَّذِي فطَرَكَ أوَّلَ مَرَّةٍ وأَوْجَدَك مِنَ العَدَمِ هُوَ الَّذِي يَستَحِقُّ أَنْ يُعبَدَ؛ لأنَّهُ الَّذِي خَلَقَكَ، يَعْنِي: لَوْ قَال قَائِلٌ: لمَاذَا لَمْ يَقُلْ: إلَّا اللهُ؟

فالجَوابُ: ليُقِيمَ الحُجَّة عَلَى أنَّه لَا يَنبَغِي أَنْ يُعبَدَ إلَّا اللهُ عز وجل، وهَذَا كقَولِهِ تعَالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]، ومَعلُوم أن الرَّبَّ خَالِقٌ،

ص: 116

لكِنَّهُ أَتَى بقَولِهِ: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وهُوَ معْلُومٌ، ليُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَى أنَّه المُستحِقُّ للعِبَادَةِ وَحْدَهُ.

قَال المفسِّر رحمه الله: {إلا الَّذِي فَطَرَنِي} خلَقَنِي {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} سَيُرشِدُني لدِينِهِ] والهِدَايَةُ نَوعَانِ كَمَا سيَأتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي بَيَانِ الفَوائِدِ.

ص: 117