الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ «1» ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ). فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ غَيْرَ قُرْبَةٍ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَرِيعَتِهِ، وَصَحَّحَ مَا كَانَ قُرْبَةً مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ.
[سورة البقرة (2): آية 190]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقاتِلُوا" هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"«2» [فصلت: 34] وقوله:" فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ"«3» [المائدة: 13] وقوله:" وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا"«4» [المزمل: 10] وقوله:" لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ"«5» [الغاشية: 22] وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فَنَزَلَ:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ" قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ:" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا"«6» [الحج: 39]. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ إِنَّمَا نَزَلَتْ في القتال عامة لمن فاتل وَلِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ بِقُرْبِ مَكَّةَ- وَالْحُدَيْبِيَةُ اسْمُ بِئْرٍ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِاسْمِ تِلْكَ الْبِئْرِ- فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ شَهْرًا، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ، عَلَى أَنْ تُخْلَى لَهُ مَكَّةُ فِي الْعَامِ الْمُسْتَقْبِلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ غَدْرَ الْكُفَّارِ وَكَرِهُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ يَحِلُّ لَكُمُ الْقِتَالُ إِنْ قَاتَلَكُمُ الْكُفَّارُ. فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَإِتْيَانِ البيوت
(1). أبو إسرائيل هذا: رجل من الأنصار مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه. راجع الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة في" باب الكنى".
(2)
. راجع ج 12 ص 147.
(3)
. راجع ج 6 ص 116.
(4)
. راجع ج 19 ص 44.
(5)
. راجع ج 20 ص 37.
(6)
. راجع ج 12 ص 67.
مِنْ ظُهُورِهَا، فَكَانَ عليه السلام يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" «1» [التوبة: 5] فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالرَّبِيعُ: نَسَخَهَا" وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً"«2» [التوبة: 36] فَأُمِرَ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، أَيْ قَاتِلُوا الَّذِينَ هُمْ بِحَالَةِ مَنْ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا فِي قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَشَبَهِهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ، فَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّ" فَاعَلَ" لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ، كَالْمُقَاتَلَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَالْقِتَالِ لَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ وَلَا فِي الصِّبْيَانِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، كَالرُّهْبَانِ وَالزَّمْنَى وَالشُّيُوخِ وَالْأُجَرَاءِ فَلَا يُقْتَلُونَ. وَبِهَذَا أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الشَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لهؤلاء أذائه، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ صُوَرٌ سِتٌّ: الْأُولَى- النِّسَاءُ إِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ، قَالَ سَحْنُونٌ: فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ"،" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" [البقرة: 191]. وَلِلْمَرْأَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ، مِنْهَا الْإِمْدَادُ بالأموال، ومنها التحريص عَلَى الْقِتَالِ، وَقَدْ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورِهِنَّ نَادِبَاتٍ مُثِيرَاتٍ مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ وَذَلِكَ يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ، غَيْرَ أَنَّهُنَّ إِذَا حَصَلْنَ فِي الْأَسْرِ فَالِاسْتِرْقَاقُ أَنْفَعُ لِسُرْعَةِ إِسْلَامِهِنَّ وَرُجُوعِهِنَّ عَنْ أَدْيَانِهِنَّ، وَتَعَذُّرِ فِرَارِهِنَّ إِلَى أَوْطَانِهِنَّ بِخِلَافِ الرِّجَالِ. الثَّانِيَةُ- الصِّبْيَانُ فَلَا يُقْتَلُونَ لِلنَّهْيِ الثَّابِتِ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قَاتَلَ [الصَّبِيُّ] قُتِلَ. الثَّالِثَةُ- الرُّهْبَانُ لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ، بَلْ يُتْرَكُ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا إِذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِيَزِيدَ «3»:" وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حبسوا
(1). راجع ج 8 ص 72 وص 132.
(2)
. راجع ج 8 ص 72 وص 132.
(3)
. هو يزيد بن أبى سفيان بن حرب، أسلم يوم فتح مكة، وعقد له أبو بكر رضى الله عنه سنة 13 هـ مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إليها، وشيعه أبو بكر راجلا، وقال له:"
…
وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تغبن". راجع موطأ مالك باب الجهاد، وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري،.
أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ" فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْكَنَائِسِ قُتِلُوا. وَلَوْ تَرَهَّبَتِ الْمَرْأَةُ فَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهَا لَا تُهَاجِ «1». وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُغَيِّرُ التَّرَهُّبُ حُكْمَهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَالصَّحِيحُ عِنْدِي رِوَايَةُ أَشْهَبَ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:" فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ". الرَّابِعَةُ- الزَّمْنَى. قَالَ سَحْنُونٌ: يُقْتَلُونَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُقْتَلُونَ. وَالصَّحِيحُ أَنْ تُعْتَبَرَ أَحْوَالُهُمْ، فإن كانت فيهم أذائه قُتِلُوا، وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ مِنَ الزَّمَانَةِ وَصَارُوا «2» مَالًا عَلَى حَالِهِمْ وَحَشْوَةٍ. الْخَامِسَةُ- الشُّيُوخُ. قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُقْتَلُونَ. وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا هَرِمًا لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي رَأْيٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَالثَّانِي- يُقْتَلُ هُوَ وَالرَّاهِبُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِيَزِيدَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ الْعَدُوَّ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ كَالْمَرْأَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ تُخْشَى مَضَرَّتُهُ بِالْحَرْبِ أَوِ الرَّأْيِ أَوِ الْمَالِ فَهَذَا إِذَا أُسِرَ يَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْلُ أَوِ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ عَقْدُ الذِّمَّةِ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ. السَّادِسَةُ- الْعُسَفَاءُ، وَهُمُ الْأُجَرَاءُ وَالْفَلَّاحُونَ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُقْتَلُونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ الْفَلَّاحُونَ وَالْأُجَرَاءُ وَالشُّيُوخُ الْكِبَارُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ رَبَاحِ «3» بْنِ الرَّبِيعِ (الْحَقْ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَلَا يَقْتُلْنَ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا). وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي الذُّرِّيَّةِ وَالْفَلَّاحِينَ الَّذِي لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَقْتُلُ حراثا، ذكره ابن المنذر.
(1). لا تهاج: أي لا تزعج ولا تنفر.
(2)
. هكذا في الأصول.
(3)
. رباح، بباء موحدة. وقيل: بالياء المثناة من تحت. راجع تهذيب التهذيب في حرف الراء. [ ..... ]