الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَّا اللَّهُ (. فَدَلَّتِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْقِتَالِ هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّهُ قَالَ:" حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ" أَيْ كُفْرٌ، فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمُ: الْفِتْنَةُ هُنَاكَ الشِّرْكُ وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ فَتَنْتُ الْفِضَّةَ إِذَا أَدْخَلْتُهَا فِي النَّارِ لِتَمَيُّزِ رَدِيئِهَا مِنْ جَيِّدِهَا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَحَامِلِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنِ انْتَهَوْا" أَيْ عَنِ الْكُفْرِ، إِمَّا بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" بَرَاءَةٌ"«1» وإلا قوتلوا وهم الظالمون عُدْوَانَ إِلَّا عَلَيْهِمْ. وَسُمِّيَ مَا يُصْنَعُ بِالظَّالِمِينَ عُدْوَانًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَزَاءٌ عُدْوَانٌ، إِذِ الظُّلْمُ يَتَضَمَّنُ الْعُدْوَانَ، فَسُمِّيَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ عُدْوَانًا، كقوله:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها"«2» . [الشورى: 40]. وَالظَّالِمُونَ هُمْ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ: مَنْ بَدَأَ بِقِتَالٍ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ: مَنْ بَقِيَ عَلَى كفر وفتنة.
[سورة البقرة (2): آية 194]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الشَّهْرُ الْحَرامُ" قَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الشَّهْرِ «3» . وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَمِقْسَمٍ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَعَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، [وَذَلِكَ «4» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا حَتَّى بَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ [فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الْبَيْتِ فَانْصَرَفَ، وَوَعَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَدْخُلُهُ، فَدَخَلَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَقَضَى نُسُكَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (نَعَمْ). فَأَرَادُوا قِتَالَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الْمَعْنَى: إِنِ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ، فَأَبَاحَ اللَّهُ بِالْآيَةِ مُدَافَعَتَهُمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
(1). راجع ج 8 ص 109.
(2)
. راجع ج 16 ص 40. [ ..... ]
(3)
. راجع ص 290 من هذا الجزء.
(4)
. ما بين المربعين ساقط من ب.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ" الْحُرُمَاتُ جَمْعُ حُرْمَةٍ، كَالظُّلُمَاتِ جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَالْحُجُرَاتُ جَمْعُ حُجْرَةٍ. وَإِنَّمَا جُمِعَتِ الْحُرُمَاتُ لِأَنَّهُ أَرَادَ] حُرْمَةَ [الشَّهْرِ الْحَرَامِ] وَحُرْمَةَ [الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَحُرْمَةَ الْإِحْرَامِ. وَالْحُرْمَةُ: ما منعت من أنتها كه. وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ، أَيِ اقْتَصَصْتُ لَكُمْ مِنْهُمْ إِذْ صَدُّوكُمْ سَنَةَ سِتٍّ فَقَضَيْتُمُ الْعُمْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ. ف" الْحُرُماتُ قِصاصٌ" عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَقْطُوعٌ مِنْهُ. وَهُوَ ابْتِدَاءُ أَمْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: إِنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَكَ نِلْتَ مِنْهُ مِثْلَ مَا اعْتَدَى عَلَيْكَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا تَنَاوَلَتِ الْآيَةُ مِنَ التَّعَدِّي بَيْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْجِنَايَاتُ وَنَحْوُهَا لَمْ يُنْسَخْ، وَجَازَ لِمَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ أَوْ جُرْحٍ أَنْ يَتَعَدَّى بِمِثْلِ مَا تُعُدِّيَ بِهِ عَلَيْهِ إِذَا خَفِيَ «1» لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شي، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَأُمُورُ الْقِصَاصِ وَقْفٌ عَلَى الْحُكَّامِ. وَالْأَمْوَالُ يَتَنَاوَلُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ). خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. فَمَنِ ائْتَمَنَهُ مَنْ خَانَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخُونَهُ وَيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ مِمَّا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَمَسُّكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها" «2» [النساء: 58]. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. قَالَ قُدَامَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ مَيْسَرَةَ الْخُرَاسَانِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: لِي عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، وَقَدْ جَحَدَنِي بِهِ وَقَدْ أَعْيَا عَلَيَّ الْبَيِّنَةَ، أَفَأَقْتَصُّ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَقَعَ بِجَارِيَتِكَ، فَعَلِمْتَ مَا كُنْتَ صَانِعًا. قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ كَيْفَ مَا تَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَعُدْ سَارِقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الدَّاوُدِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خِيَانَةً وَإِنَّمَا هُوَ وُصُولٌ إِلَى حَقٍّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) وَأَخْذُ الْحَقِّ مِنَ الظَّالِمِ نَصْرٌ لَهُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
(1). قوله:" إذ خفى" أي ظهر. وهذا اللفظ من الأضداد، يقال: خفيف الشيء: كتمته. وخفيته: أظهرته. راجع ج 11 ص 182.
(2)
. راجع ج 5 ص 255.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي وَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ). فَأَبَاحَ لَهَا الْأَخْذَ وَأَلَّا تَأْخُذَ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ لَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ في الصحيح، وقوله تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" قَاطِعٌ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا ظَفِرَ لَهُ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِهِ، فَقِيلَ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا الْأَخْذُ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ ظَفِرَ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَأْخُذُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْجِنْسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَحَرَّى قِيمَةَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَخْذِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ الشافعي: لا، بل يأخذ ماله عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ مَا يَحْصُلُ لَهُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي الْفَلَسِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِمَّا بِالْمُبَاشَرَةِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِمَّا بِالْحُكَّامِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُكَافَأَةِ هَلْ تُسَمَّى عُدْوَانًا أَمْ لَا، فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ، قَالَ: الْمُقَابَلَةُ عُدْوَانٌ، وَهُوَ عُدْوَانٌ مُبَاحٌ، كَمَا أَنَّ الْمَجَازَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَذِبٌ مُبَاحٌ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:
فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً
وَكَذَلِكَ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
وَكَذَلِكَ:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْطِقُ. وَحَدُّ الْكَذِبِ: إِخْبَارٌ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ سَمَّى هَذَا عُدْوَانًا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَمُقَابَلَةَ الْكَلَامِ بِمِثْلِهِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا
…
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جهل الجاهلينا
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمُ
…
وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجٌ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ
…
وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّجٌ
يُرِيدُ: أُكَافِئُ الْجَاهِلَ وَالْمُعْوَجَّ، لَا أَنَّهُ امْتَدَحَ بِالْجَهْلِ وَالِاعْوِجَاجِ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ أَوْ أَفْسَدَ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ الْعُرُوضِ الَّتِي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِثْلِ، وَلَا يُعْدَلُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ
" وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ" «1» [النحل: 126]. قَالُوا: وَهَذَا عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَعَضَّدُوا هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ الْقَصْعَةَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا وَدَفَعَ الصَّحِيحَةَ وَقَالَ:(إِنَاءٌ بِإِنَاءٍ وَطَعَامٌ بِطَعَامٍ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمِ قَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، قَالَ: فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَقُولُ:(غَارَتْ أُمُّكُمْ). زَادَ ابْنُ الْمُثَنَّى (كُلُوا) فَأَكَلُوا حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَتَهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى لَفْظِ حَدِيثِ مُسَدِّدٍ وَقَالَ: (كُلُوا) وَحَبَسَ الرَّسُولُ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْتٌ الْعَامِرِيُّ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ- عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ قَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ، صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ، فَأَخَذَنِي أَفْكَلٌ «2» فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ:(إِنَاءٌ مِثْلُ إناء وطعام مثل طعام). قال مالك
(1). راجع ج 10 ص 200.
(2)
. الأفكل (على وزن أفعل): الرعدة. أي ارتعدت من شدة الغيرة.
وَأَصْحَابُهُ: عَلَيْهِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ الْقِيمَةُ لَا الْمِثْلُ، بِدَلِيلِ تَضْمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ قِيمَةَ نِصْفِ شَرِيكِهِ، وَلَمْ يُضَمِّنْهُ مِثْلَ نِصْفِ عَبْدِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَضْمِينِ الْمِثْلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:(طَعَامٌ بِطَعَامٍ). السَّابِعَةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ فِي الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِشَيْءٍ قُتِلَ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مَا لَمْ يَقْتُلْهُ بِفِسْقٍ كَاللُّوطِيَّةِ وَإِسْقَاءِ الْخَمْرِ فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُقْتَلُ بِذَلِكَ، فَيُتَّخَذُ عُودٌ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَيُطْعَنُ بِهِ فِي دُبُرِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَيُسْقَى عَنِ الْخَمْرِ مَاءٌ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّ مَنْ قَتَلَ بِالنَّارِ أَوْ بِالسُّمِّ لَا يُقْتَلُ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ، إِلَّا اللَّهُ). وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِذَلِكَ، لِعُمُومِ الْآيَةِ. الثَّامِنَةُ- وَأَمَّا الْقَوَدُ بِالْعَصَا فَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْقَتْلِ بِالْعَصَا تَطْوِيلٌ وَتَعْذِيبٌ قَتَلَ بِالسَّيْفِ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَفِي الْأُخْرَى: يُقْتَلُ بِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْحَجَرِ وَالْعَصَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِمَا إِذَا كَانَتِ الضَّرْبَةُ مُجْهِزَةً، فَأَمَّا أَنْ يَضْرِبَ ضَرَبَاتٍ فَلَا. وَعَلَيْهِ لَا يُرْمَى بِالنَّبْلِ وَلَا بِالْحِجَارَةِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعْذِيبِ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ، إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إِلَى السَّيْفِ". وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قطع يده ورجله وفقا عينه بقصد التَّعْذِيبِ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتَلَةِ الرِّعَاءِ «1». وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى خِلَافِ هَذَا كُلِّهِ فَقَالُوا: لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ أَبِي حنيفة والثعلبي والنخعي.
(1). هم قوم من عربية قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأسلموا واستوخموا المدينة وسقمت أجسامهم واصفرت ألوانهم وعظمت بطونهم، فبعث بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا فقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث نبى الله في طلبهم فأتى بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. راجع كتب السنة في هذا الحديث.
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ)، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَوْلِهِ:(لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ). وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ! أَفُلَانٌ، أَفُلَانٌ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن تُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ"[النحل: 126]. وَقَوْلِهِ:" فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ". وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، لَا يُرْوَى مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، لَوْ صَحَّ قُلْنَا بِمُوجَبِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَرَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ فَنَقُولُ أَيْضًا بِمُوجِبِهَا إِذَا لَمْ يُمَثِّلْ، فَإِذَا مَثَّلَ مَثَّلْنَا بِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَوْلُهُ:(لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) صَحِيحٌ إِذَا لَمْ يُحْرِقْ، فَإِنْ حَرَقَ حُرِقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْقُرْآنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إن طرحه في النار عمدا طرح فِي النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ، وَذَكَرَهُ الْوَقَارُ «1» فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَخْنُقُ الرَّجُلَ: عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَوْ خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ أَوْ طرحه في بئر فمات، أو ألفاه مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَكَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ- قَدْ خَنَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ- فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمَّا أَقَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ الْجَارِيَةِ بِالْحَجَرِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ. قُلْتُ: وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَقَدْ شَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ فِيمَنْ قَتَلَ بِخَنْقٍ أَوْ بِسُمٍّ أَوْ تَرْدِيَةٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ: إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ ولا يقتص منه، إلا إذا
(1). الوقار (كسحاب): لقب ذكريا بن يحيى بن إبراهيم الفقيه المصري، أخذ عن ابن القاسم وابن وهب.
قَتَلَ بِمُحَدَّدِ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان عَاقِلَتِهِ الدِّيَةَ. وَهَذَا مِنْهُ رَدُّ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأُمَّةِ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى رَفْعِ الْقِصَاصِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلنُّفُوسِ، فَلَيْسَ عَنْهُ مَنَاصٌ. التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَبَسَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُحْبَسُ الْحَابِسُ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ حَبَسَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ قُتِلَا جَمِيعًا، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانِ يُعَاقَبُ الْحَابِسُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قُلْتُ: قَوْلُ عَطَاءٍ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّنْزِيلِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَهُ). رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ مُرْسَلًا. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى " الِاعْتِدَاءَ هُوَ التَّجَاوُزُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ"«1» [البقرة: 229] أَيْ يَتَجَاوَزُهَا، فَمَنْ ظَلَمَكَ فَخُذْ حَقَّكَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِكَ، وَمَنْ شَتَمَكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ، وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَكَ فَخُذْ عِرْضَهَ، لَا تَتَعَدَّى إِلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إِلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَلَوْ قَالَ لَكَ مَثَلًا: يَا كَافِرٌ، جَازَ لَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: أَنْتَ الْكَافِرُ. وَإِنْ قَالَ لَكَ: يَا زَانٍ، فَقِصَاصُكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: يَا كَذَّابُ يَا شَاهِدَ زُورٍ. وَلَوْ قُلْتُ لَهُ يَا زَانٍ، كُنْتَ كَاذِبًا وَأَثِمْتَ فِي الْكَذِبِ. وَإِنْ مَطَلَكَ وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عذر فقل: يَا ظَالِمٌ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(لَيُّ «2» الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ). أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فَالسِّجْنُ يُحْبَسُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَقْوَى الْإِسْلَامُ، فَأَمَرَ مَنْ أُوذِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجَازِيَ بِمِثْلِ مَا أُوذِيَ بِهِ، أَوْ يَصْبِرَ أَوْ يَعْفُوَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً"«3» [التوبة: 36]. وَقِيلَ: نُسِخَ ذَلِكَ بِتَصْيِيرِهِ إِلَى السُّلْطَانِ. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بإذن السلطان.
(1). راجع ج 3 ص 146 وج 18 ص 156.
(2)
. اللي: المطل. والواجد: القادر على قضاء دينه.
(3)
. راجع ج 8 ص 136.