الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِيَةُ- رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ" أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ «1» أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أُمِرَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ إِذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ. أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" بِقَوْلِهِ:" قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ"«2» [التوبة: 123] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتِ الْبُدَاءَةٌ بِهِمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةً كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَذَلِكَ بَاقٍ مُتَمَادٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مُمْتَدٌّ إِلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُهُ عليه السلام:(الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ). وقيل: غايته نزول عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. الثَّالِثَةُ- قوله تعالى:" وَلا تَعْتَدُوا" قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ. فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلَيْسَ إِلَّا الْقَتْلُ أَوِ التَّوْبَةُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ لَيْسَ إِلَّا السَّيْفُ أَوِ التَّوْبَةُ. وَمَنْ أَسَرَّ الِاعْتِقَادَ بِالْبَاطِلِ «3» ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ فَيَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فِي الْقِتَالِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ، كَالْحَمِيَّةِ وَكَسْبِ الذِّكْرِ، بَلْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، يَعْنِي دِينًا وَإِظْهَارًا لِلْكَلِمَةِ. وَقِيلَ:" لَا تَعْتَدُوا" أَيْ لَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (2): الآيات 191 الى 192]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
(1). في أ، ب، ز:" أهل المدينة".
(2)
. راجع ج 8 ص 297.
(3)
. في بعض نسخ الأصل:"
…
بالباطل
…
" بالنون.
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثَقِفْتُمُوهُمْ" يُقَالُ: ثَقِفَ يَثْقُفُ ثَقْفًا وَثَقَفًا، وَرَجُلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ: إِذَا كَانَ مُحْكِمًا لِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي" الْأَنْفَالِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ" أَيْ مَكَّةَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَالضَّمِيرُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ. الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" أَيِ الْفِتْنَةُ الَّتِي حَمَلُوكُمْ عَلَيْهَا وَرَامُوا رُجُوعُكُمْ بِهَا إِلَى الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ، فَالْقَتْلُ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَكُفْرِهِمْ بِهِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي عَيَّرُوكُمْ بِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، حَسَبَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2» ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ- قوله تعالى:" وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ" الْآيَةَ. لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَالثَّانِي- أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُ أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا بَعْدَ أن يقاتل، وبه أقال طَاوُسٌ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَصُّ الْآيَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"«3» [التوبة: 5]. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" ثُمَّ نَسَخَ هَذَا قَوْلُهُ:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ". فَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ.
(1). راجع ج 8 ص 30.
(2)
. راجع ج 3 ص 49.
(3)
. راجع ج 8 ص 72.
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ أَنَّ" بَرَاءَةٌ" نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" بِسَنَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ «1» ، فَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ:(اقْتُلُوهُ). وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:" وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ تقرر بأن عدلوا لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ وَقَالَ: لَأُقَاتِلُكُمْ، وَأَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَجِّ وَلَا أَبْرَحُ مِنْ مَكَّةَ لَوَجَبَ قِتَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْقِتَالِ، فَمَكَّةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ سَوَاءٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ فِيهَا: هِيَ حَرَامٌ تَعْظِيمًا لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَقَالَ:(احْصُدْهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَلْقَانِي عَلَى الصَّفَا) حَتَّى جَاءَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ، فَلَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي تَعْظِيمِهَا:(وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ) وَاللُّقَطَةُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا سَوَاءٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ:" وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ"[البقرة: 193]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" حَضَرْتُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ- طَهَّرَهُ اللَّهُ- بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُقْبَةَ الْحَنَفِيِّ، وَالْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعَ «2» الرِّعَاءِ، فَقَالَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ: مَنِ السَّيِّدُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ «3» أَمْسِ، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمُ الْمُقَدَّسُ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ. فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا: سَلُوهُ- عَلَى الْعَادَةِ فِي إِكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ- وَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إِذَا الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ هَلْ يُقْتَلُ أَمْ لَا؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. فَسُئِلَ عَنِ الدَّلِيلِ، فَقَالَ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ" قُرِئَ" وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَلَا تُقاتِلُوهُمْ" فَإِنْ قُرِئَ" وَلَا تَقْتُلُوهُمْ" فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ، وَإِنْ قُرِئَ" وَلا تُقاتِلُوهُمْ" فَهُوَ تَنْبِيهٌ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا، عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
(1). المغفر ومثله والغفارة (كلها بالكسر): زرد ينسخ من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
(2)
. المدرع والدراعة: ضرب من الثياب التي تلبس. وقيل: جبة مشقوقة المقدم.
(3)
. الشطار: جمع شاطر، وهو الذي أعيا أهله ومؤدبه خبثا.