الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فافتح: أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفلك: يستعمل واحدا وجمعا، المشحون: أي المملوء
المعنى الجملي
بعد أن قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات- أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد:«وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة.
وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله فى سورتى الأعراف وهود، وسيأتى بسطه أتم البسط فى سورة نوح.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون الله فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله؟.
وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف فهى فى كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع.
وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله: ألا تتقون؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا، والمقلد إذا خوّف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.
وقد وصف نوح نفسه بأمرين:
(1)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إنى رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها، ولا أنقص منها.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب الله وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد، وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن التقوى هى ملاك الأمر كله فى هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة فى جميع الأعمال، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.
(2)
(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم، بل أطلب ثواب ذلك من عند الله.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني الله به وائتمنى عليه، وسبب التكرير ما علمته من قبل، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده:
ألا تتقى الله فى عقوقى وقدر بيتك صغيرا؟ ألا تتقى الله فى عقوقى وقد علمتك كبيرا؟.
وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هى أوهى من بيت العنكبوت.
(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا وهذه شبهة لا ينبغى لعاقل أن يركن إليها، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا بارق بين غنى وفقير، وصعلوك وأمير، ولا بين ذوى البيوتات والحسب، وذوى الوضاعة والخسة فى النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم:
(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) أي وأىّ شىء يعلمنى ما كان يعمل أتباعى؟
إنما لى منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا، ومن أظهر
السوء ظنت به ذلك، ولم أكلّف العلم بأعمالهم، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة.
ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال:
(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوى الشعور والعقل.
ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال:
(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعنى وصدق بما جئت به من عند الله.
ثم بين وظيفة الرسول فقال:
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطعنى كان منى وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا، جليلا كان أو حقيرا.
ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد.
(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له: لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن فى آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها.
ولما طال مقامه بين ظهرانيهم، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا فى عتوّهم واستكبارهم- استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به.
(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومى كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك، فاحكم بينى وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.