الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»
وأن العلماء من بنى إسرائيل يجدون ذكره فى كتبهم كما قال:
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا الله ويتبعوا أوامره، وأنّى لهم ذلك؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ؟ «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» .
وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
ثم رد على مشركى قريش الذين قالوا: إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة- بأن الشياطين من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة فى السماء، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال:«وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» .
الإيضاح
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره فى قوله «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ» أنزله الله إليك، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك، لتنذر به قومك بلسان عربىّ بيّن ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة، هاديا إلى الرشاد، مصلحا لأحوال العباد.
وفى قوله: على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه، إلى أن القلب هو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» أخرجاه فى الصحيحين
ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وفى قوله: بلسان عربى مبين، تقريع لمشركى قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد، لا عدم الفهم، لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم فى الإعراض عنه.
(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به فى قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله:«وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟) أي أو ليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بنى إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.
ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه وذكروا نعته.
وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل، ولا تجديهم البراهين فقال:
(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا
هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له:
لا نفقه ما يقول كما قال فى آية أخرى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» .
وفى هذا تسلية من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له.
والخلاصة- إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين: «لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك» فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.
ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال:
(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم، أدخلنا التكذيب به فى قلوب المجرمين كفار قريش.
وفى ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا فى قلوبهم أشد التمكن وصار كالشىء الجبلىّ الذي لا يمكن تغييره.
ثم زاد ذلك توكيدا فقال:
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وإجمال ما تقدم- هكذا مكنا التكذيب وقررناه فى قلوبهم، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده
وإنكاره كما قال: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتى هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم.
ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات.
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه: هل تؤخر إلى حين؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.
ولما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به، ومتى هذا كما قال:
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وقولهم: «ائْتِنا بِما تَعِدُنا» .
وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية؟
ثم أبان أن طول العمر لا يغنى عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم فى النعيم، فأخبرنى إن متعناهم فى الدنيا برغد العيش وصافى الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم؟.
والخلاصة- إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب الله، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال:«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقال:
«يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» وقال «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» .
وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري فى الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال: عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.
ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال:
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا، وما كنا ظالمين فى إهلاكهم، لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.
ونحو الآية قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقوله: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» .
ولما كان المشركون يقولون: إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله:
(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا، وما ينبغى لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.
والخلاصة- إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة:
(1)
إنه ليس من مبتغاهم، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان متين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.
(2)
إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» .