الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع.
وبعدئذ ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأن الشعراء يهيمون فى كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الصدق، فأنّى له أن يكون شاعرا؟.
الإيضاح
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا فى الدين، عظيم الجدوى فى الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن- على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع؟.
وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شىء أتاه به رئىّ من الجن، فنزّه الله رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين.
ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين:
(1)
(تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هى تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة.
(2)
(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون فى أقوالهم، بل هم فى أكثرها كاذبون.
والخلاصة- إن هناك فارقا بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة، فمحمد
لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف عنه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف عنهم الصدق فى أخبارهم.
وبعد أن ذكر الفارق بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة- أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال:
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون.
وقد سبق أن قلنا: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال:«ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شىء؟ قلت نعم، قال هيه فأنشدته بيتا، فقال هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مائة بيت» .
وفى هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما، ألا ترى
قوله عليه الصلاة والسلام «كاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» .
ثم بين تلك الغواية بأمرين:
(1)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحرّى الصدق، لكنّ محمدا جبلّته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب فى الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
(2)
(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون فى الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه، ويقدحون فى الأعراض لأدنى الأسباب،
ولا يأتون إلا الفواحش، ومحمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه:(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء.
ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (1) : الإيمان (2) والعمل الصالح (3) وكثرة قول الشعر فى توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (4) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: «اهجهم، فو الذي نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل»
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك» ،
وفى رواية «اهجهم وجبريل معك» .
وإلى هذا أشار بقوله:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) .
وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق «أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، قالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي صلى الله عليه وسلم:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) قال: أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال: أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
انتصروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والأمهات» ، فقال حسان لأبى سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله فى ذاك الجزاء وإن أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لسانى صارم لا عيب فيه وبحرى لا تكدّره الدّلاء وقال كعب: يا رسول الله. إن الله قد أنزل فى الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسى بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» وقال كعب:
جاءت سخينة كى تغالب ربها وليغلبنّ مغالب الغلّاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد مدحك الله يا كعب فى قولك هذا:
وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء- ختم السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال:
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا- أىّ مرجع يرجعون إلى الله بعد الموت، وأىّ معاد يعودون إليه؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها.
اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.