الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو صدهم عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وإنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم فى دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شىء ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل.
ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم.
(وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه- كذب مختلق من عنده، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة، واجتلابا لقلوب الكافة.
ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون
لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد- ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهى بين أيدينا.
والخلاصة- إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد.
فرد الله سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله:
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتى بوحي من عند الله وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون، وحجة على صحة ما يعتقدون؟.
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم:
ونحو الآية قوله: «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» وقوله: «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» .
وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال:
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلى حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، فى غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى:«وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ»
فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.
والخلاصة- إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم- لعبرة لهم لو كانوا يعقلون.
ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال:
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم: إنى أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا، إما واحدا فواحدا، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذا.
وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا، لأن فى الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا.
ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح
(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبى مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا، وأصدق الناس قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك.
وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته.
وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى، اتضح أنه صادق كما قال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه، لكفركم به وعصيانكم أمره.
وإنما جعل إنذاره بين يدى العذاب، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاء
فى الحديث «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقنى» .
وروى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال:
أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى؟ قالوا بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب:
تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .
ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة- ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال:
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم: إنى لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم، ونصحى لكم وأمرى بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله، وهو العليم بجميع الأشياء، فيعلم صدقى وخلوص نيّتى.
وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له وقد صدع به «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» وبهذا ثبت أنه نبىّ.
ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا- علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحى إليه، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد: أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إن ربى يلقى الوحى وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه:«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وقال: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» .
وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس: إن ربى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق.
ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره فى الكون، ونحوه «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» .
ثم أكد ما سلف بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال:
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.