الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال فى أول السورة «وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله» وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعىّ إلى من تبناه، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ فى الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا.
وما رسخ فى النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها، ولا تجعل لها حكما فى الأعمال إذا كانت المصلحة فى خلاف ذلك، ومن ثم ألهم الله رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول فى أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهى جديد.
ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء فى تنفيذ حكم الله ويقول لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، إلى أن غلب حكم الله وسمح لزيد بطلاقها، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال:«لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ثم أكد هذا بقوله: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»
الإيضاح
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله ورسوله وقضاءهما ويعصياهما
والخلاصة- لا ينبغى لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) أي ومن يعص الله ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية.
ونحو الآية قوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
ثمّ ذكّر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق، وليدفع عنه ما حاك فى صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفّقه للاسلام، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله فى أمرها، ولا تطلقها ضرارا، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها، فإن الطلاق يشينها، وربما لا يجد بعدها خيرا منها.
وفى التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما فى نفسه، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام، وكلاهما مما لا ينبغى أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتى بعدك، وإنما غلبك فى فى ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه، فأنت تخفى فى نفسك ما الله به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس والله
الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن تمضى فى الأمر قدما، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه.
ثم زاد الأمر بيانا بقوله:
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا فى أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي وكان ما قضى الله من قضاء كائنا لا محالة أي إن قضاء الله فى زينب أن يتزوجها رسول الله كائن ماض لا بد منه.
روى البخاري والترمذي «أن زينب رضى الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى الله تعالى من فوق سبع سموات» وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: «كانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم إنى لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدى وجدك واحد، وإنى أنكحك الله إياى من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام» .
ثم أكد ما سلف بقوله:
(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.
ثم بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا فى الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن.
وفى هذا ردّ على اليهود الذين عابوه صلى الله عليه وسلم (وحاشاه) بكثرة الأزواج.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله فى تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه.
والخلاصة- كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخش أحدا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى.
(وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى الله ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها.
ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله:
(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك، فإنك لست أبا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله فى تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد فى الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته.
وخلاصة ذلك- ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم فى المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة.