الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع في ذكر ما ينبغي لصاحب القرآن أن يلزم نفسه به، ولا يغفل عنه
فأوّل ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل، كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن، في ليله، ونهاره، في الصلاة، أو في غير الصلاة؛ لئلّا ينساه.
روى مسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنّما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار؛ ذكره، وإن لم يقم به؛ نسيه» .
وينبغي له: أن يكون لله حامدا، ولنعمه شاكرا، وله ذاكرا، وعليه متوكّلا، وبه مستعينا، وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت ذاكرا، وله مستعدّا.
وينبغي له: أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربّه، ويكون الخوف في صحّته أغلب عليه، إذ لا يعلم بم يختم له، ويكون الرّجاء عند حضور أجله، أقوى في نفسه؛ لحسن الظنّ بالله تعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو محسّن بالله الظنّ» أي: أنّه يرحمه، ويغفر له.
وينبغي له: أن يكون عالما بأهل زمانه، متحفّظا من سلطانه، ساعيا في خلاص نفسه، ونجاة مهجته، مقدّما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه، مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع.
وينبغي له: أن يكون أهمّ أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوى الله، ومراقبته فيما أمره به، ونهاه عنه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(ينبغي لقارىء القرآن: أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقظون، وببكائه إذا النّاس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون).
وقال عبد الله بن عمرو: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو، ويصفح لحقّ القرآن؛ لأنّ في جوفه كلام الله تعالى).
وينبغي له: أن يأخذ نفسه بالتّصاون من طرق الشّبهات، ويقلّل الضحك، والكلام في مجالس القرآن، وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له: أن يتواضع للفقراء، ويتجنّب التّكبّر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب.
وينبغي له: أن يكون ممّن يؤمن شرّه، ويرجى خيره، ويسلم من ضرّه، وأن لا يسمع ممّن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدلّه على الصدق، ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.
وينبغي له: أن يتعلّم أحكام القرآن، فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلوه، فما أقبح لحامل القرآن، أن يتلو فرائضه، وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم ما يتلوه! فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه، ولا يدريه! فما مثل من هذه حالته، إلّا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وينبغي له: أن يعرف المكّيّ من المدني؛ ليفرّق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أوّل الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أوّل الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ: هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكيّ المدني؛ لأنّ المنسوخ هو المتقدّم في النزول قبل الناسخ له.
ومن كماله: أن يعرف الإعراب والغريب، فذلك ممّا يسهّل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشكّ فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبريّ: سمعت الجرميّ يقول: أنا منذ ثلاثين سنة، أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال محمد بن يزيد: وذلك أنّ أبا عمر الجرميّ، كان صاحب حديث، فلمّا علم كتاب سيبويه، تفقّه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلّم منه النّظر، والتفسير، ثمّ ينظر
في السّنن المأثورة، الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وقد قال الضحاك في قوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ} قال: (حقٌّ على من تعلّم القرآن، أن يكون فقيها، وذكر ابن أبي الحواريّ قال: أتينا فضيل بن عياض، سنة خمس وثمانين ومائة، ونحن جماعة، فوقفنا على الباب، فلم يأذن لنا بالدّخول، فقال بعض القوم: إن كان خارجا لشيء، فسيخرج لتلاوة القرآن، فأمرنا قارئا فقرأ، فاطّلع علينا من كوّة فقلنا: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام، فقلنا: كيف أنت يا أبا عليّ؟ كيف حالك؟ فقال: أنا من الله في عافية، ومنكم في أذى، وإنّ ما أنتم فيه حدث في الإسلام، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما هكذا كنّا نطلب العلم، ولكنّا كنّا نأتي المشيخة، فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السّمع، فإذا مرّ الحديث سألناهم إعادته وقيّدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهل، وقد ضيّعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، قال: قلنا قد تعلّمنا القرآن، قال: إنّ في تعلّمكم القرآن، شغلا لأعماركم، وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا عليّ؟ قال: لن تعلموا القرآن، حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل، وابن عيينة، ثمّ قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}.
قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقارىء القرآن، كان ماهرا
بالقرآن، وعالما بالفرقان، وهو قريب على من قرّبه الله عليه، ولا ينتفع بشيء ممّا ذكرنا؛ حتى يخلص النيّة فيه لله عز وجل عند طلبه، أو بعد طلبه، كما تقدّم. فقد يبتدىء الطالب للعلم، يريد به المباهاة، والشرف في الدنيا، فلا يزال به فهم العلم، حتى يتبيّن له أنّه على خطأ في اعتقاده، فيتوب من ذلك، ويخلص النيّة لله تعالى، فينتفع بذلك ويحسّن حاله.
قال الحسن: كنّا نطلب العلم للدنيا، فجرّنا إلى الآخرة.
قاله سفيان الثوري. وقال حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه النية، ثمّ جاءت النيّة بعد.
والله أعلم
* * *