الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والعشرون في بيان ما جاء من الحجة، في الردّ على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة، والنقصان
واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة، ولا بين الأئمّة أهل السنة أنّ القرآن اسم لكلام الله تعالى، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، معجزة له على ما سيأتي، وأنّه محفوظ في الصّدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحدّ، ولا في حصره بعدّ، فمن ادعى زيادة عليه، أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع وبهت الناس، وردّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزّل عليه، وردّ قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} وأبطل آية رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل، ولمّا قدر عليه لم يكن حجة، ولا آية، وخرج أن يكون معجزا.
فالقائل: بأن القرآن فيه زيادة، ونقصان ردّ لكتاب الله، ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع شهر
رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا ردّ هذا بالإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد.
قال الإمام أبو بكر، محمد بن القاسم، بن بشار، بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل، والعقل يعرفون من شرف القرآن، وعلوّ منزلته، ما يوجبه الحقّ، والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين، وتمويه الملحدين، وتحريف الزائفين، حتى نبع في زماننا هذا، زائغ زاغ عن الملّة، وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسّها، وينمي فرعها، ويحرسها من معايب أولي الحيف، والجور، ومكايد أهل العداوة، والكفر، فزعم: أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تصويبه فيما فعل، لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت بعضها، وسأقرأ بقيتها.
فمنها: (والعصر ونوائب الدّهر) فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين، (ونوائب الدهر).
ومنها: (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها) فادّعى هذا الإنسان، أنّه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها وذكر مما يدّعي حروفا كثيرة.
وادعى: أن عثمان، والصحابة رضي الله عنهم زادوا في
القرآن ما ليس فيه، فقرأ في صلاة الفرض، والناس يسمعون:
الله الواحد الصمد فأسقط من القرآن: {قُلْ هُوَ} ، وغير لفظ أحد، وادعى أنّ هذا هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل، والمحال. وقرأ في صلاة الفرض (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وطعن على قراءة المسلمين. وادّعى: أنّ المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيّرة.
منها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} فادّعى: أنّ الحكمة، والعزّة لا يشاكلان المغفرة، وأن الصواب (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم) وترامى به الغيّ في هذا، وأشكاله، حتى ادّعى: أنّ المسلمين يصحّفون {وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} والصواب الذي لم يغيّر عنده: (وكان عبد الله وجيها) وحتى قرأ في صلاة مفترضة، على ما أخبرنا جماعة سمعوه، وشهدوه:(لا تحرّك به لسانك إنّ علينا جمعه - وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به). وحكى لنا آخرون عن آخرين: أنهم سمعوه يقرأ: (ولقد نصركم ببدر بسيف عليّ وأنتم أذلّة) وروى هؤلاء أيضا لنا عنه، قال:{هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} وأخبرونا أنّه: أدخل في آية من القرآن، ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في لسان قومه، الذين قال الله عز وجل فيهم:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ} فقرأ: (أليس قلت للناس) في موضع {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} وهذا لا يعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويّين؛ لأنّ
العرب لم تقل: ليس قمت، فأمّا: ألست قمت؟ بالتاء، فشاذّ، قبيح، خبيث، رديء، لأنّ ليس لا تجحد الماضي، ولم يوجد مثل هذا إلّا في قولهم: أليس قد خلق الله مثلهم؟ وهو لغة شاذّة، لا يحمل كتاب الله عليها.
وادّعى: أنّ عثمان رضي الله عنه: لمّا أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب؛ لأنّ عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، كانا أولى بذلك من زيد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اقرأ أمتي أبيّ بن كعب» . ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أمّ عبد» . وقال هذا القائل: لي أن أخالف مصحف عثمان، كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ (إنّ هذين)(فَأَصَّدَّقَ وَأَكُون)(بَشِّرْ عِبادِيَ الذين) بفتح الياء (فَما آتانِيَ اللَّهُ) بفتح الياء، والذي في المصحف:{إِنْ هذانِ} بالألف {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بغير واو {فَبَشِّرْ عِبادِ} {فَما آتان اللَّهُ} بغير ياءين في الموضعين، وكما خالف ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائيّ مصحف عثمان فقرؤوا:(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم، ويسكّنها بعضهم، وفي المصحف نون واحدة، وكما خالف حمزة المصحف، فقرأ:{أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} بنون واحدة، ووقف على الياء، وفي المصحف نونان، ولا ياء بعدهما، وكما خالف حمزة أيضا المصحف، فقرأ:(أَلا إِنَّ ثَمُودًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) بغير تنوين، وإثبات الألف يوجب التنوين، وكلّ هذا الذي شنّع به على القرّاء ما يلزمهم به خلاف المصحف. قال أبو
بكر: وذكر هذا الإنسان: أنّ أبيّ بن كعب هو الذي قرأ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) وذلك باطل؛ لأنّ عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد، ومجاهد قرأ على ابن عباس، وابن عباس قرأ القرآن على أبيّ بن كعب {حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} في رواية، وقرأ أبيّ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد متّصل بالرسول صلى الله عليه وسلم، نقله أهل العدالة، والصيانة، وإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، لم يؤخذ بحديث يخالفه. وقال يحيى بن المبارك: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها، (وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) فمن جحد أنّ هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، فليس بكافر، ولا آثم. ومثل هذه الزيادة: ما رووا عن ابن عباس أنّه قرأ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج). وما حكوه عن عمر بن الخطاب أنّه قرأ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وغير الضالين) فهذه الزيادات، ونظائرها، لو جحدها جاحد، أنّها من القرآن لم يكن كافرا. والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له، لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتدّ له؛ بأنه من مناقبه العظام. وقد طعن عليه فيه
بعض أهل الزيغ، فانكشف عواره، ووضحت فضائحه. وقال أبو عبيد: وقد حدثت عن يزيد بن زريع، عن عمران بن جرير، عن أبي مجلز قال: طعن قوم على عثمان رضي الله عنه بحمقهم جمع القرآن، ثم قرؤوا ما نسخ. قال أبو عبيد: يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم، كما أثبت الذي أثبت بعلم. قال أبو بكر: وفي قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)} دلالة على: كفر هذا الإنسان؛ لأن الله عز وجل، قد حفظ القرآن من التغيير، والتبديل، والزيادة، والنقصان، فإذا قرأ قارىء (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وقد تب ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ ومُرَيَّتُه حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ ليفٍ) فقد كذب على الله جلّ وعلا، وقوّله ما لم يقل، وبدّل كتابه، وحرّفه، وحاول ما قد حفظه منه، ومنع عن اختلاطه به، وفي هذا الذي أتاه؛ توطئة الطريق لأهل الإلحاد؛ ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرى الإسلام، وينسبونه إلى قوم، كهؤلاء القوم، الذين أحال هذا الإنسان بالأباطيل عليهم، وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام، وبثباته تقام الصلوات، وتؤدّى الزكوات، وتتحرّى المتعبدات. وفي قول الله تعالى:{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} دلالة على: بدعة هذا الإنسان، وخروجه إلى الكفر، لأن معنى أحكمت آياته: منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضو بمثلها. وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها:(وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قويا عزيزا) فقال في القرآن: هجرا. وذكر عليّا في مكان، لو سمعه
يذكره فيه، لأمضى عليه الحدّ، وحكم عليه بالقتل، وأسقط من كلام الله {قُلْ هُوَ} وغيّر أحد، فقرأ:(الله الواحد الصمد) وإسقاط ما أسقطه نفي، وكفر به، ومن كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به، إلى آخر ما أطال به القرطبيّ رحمه الله تعالى.
والله أعلم
* * *