المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - المقدمة

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التفسيرالمسماة«نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان»

- ‌ترجمة وتقديم

- ‌مولده:

- ‌نشأته:

- ‌رحلته:

- ‌ومؤلفاته كثيرة

- ‌المطبوع المنتشر منها

- ‌[من النحو]

- ‌ ومن الصرف:

- ‌ ومن المصطلح:

- ‌ ومن كتب الأسماء والصفات:

- ‌وغير المطبوع

- ‌ من التفسير:

- ‌ ومن النحو:

- ‌ ومن البلاغة:

- ‌ ومن المنطق:

- ‌ ومن العروض:

- ‌ ومن الحديث:

- ‌ ومن الأصول:

- ‌ ومن الفقه:

- ‌ ومن الأمداح النبوية والسيرة المرضية:

- ‌ ومنها في المصطلح:

- ‌الفصل الأول في فضل القرآن الكريم وتلاوته، وتعلّمه، وتعليمه

- ‌الفصل الثاني في كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها، وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك

- ‌الفصل الثالث في تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء، وغيره

- ‌الفصل الرابع في ذكر ما ينبغي لصاحب القرآن أن يلزم نفسه به، ولا يغفل عنه

- ‌الفصل الخامس في ما جاء في إعراب القرآن، وتعليمه، والحثّ عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا

- ‌الفصل السادس فيما جاء في فضل تفسير القرآن، وأهله

- ‌الفصل السابع في بيان مبدأ التفسير، ووضعه

- ‌الفصل الثامن فيما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرّأي، والجرأة على ذلك، وبيان مراتب المفسّرين

- ‌الفصل التاسع في بيان ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه

- ‌الفصل العاشر في بيان ما يلزم قارىء القرآن، وحامله من تعظيم القرآن وحرمته

- ‌الفصل الحادي عشر في بيان الكتاب بالسّنّة

- ‌الفصل الثاني عشر في بيان كيفية التعلّم، والفقه لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما جاء أنّه يسهل على من تقدّم العمل به، دون حفظه

- ‌الفصل الثالث عشر في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه»

- ‌الفصل الرابع عشر في ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف، وإحراقه ما سواه، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الخامس عشر في ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته

- ‌الفصل السادس عشر في عدد آي القرآن، وكلماته، وحروفه

- ‌الفصل السابع عشر في أجزائه، وأحزابه، وأرباعه، وأنصافه، وأثلاثه، وأسباعه

- ‌الفصل الثامن عشر في تعشيره وتخميسه، والكتابة في فواتح السّور، أو خواتمها، ووضع النقط في منتهى الآية، وغير ذلك

- ‌الفصل التاسع عشر في بيان أوّل من وضع النّقط، والشّكل، والشّدّة، والمدّة، والهمزة، وعلامة الغنّة في المصاحف، وأوّل من وضع النّحو، وجعل الإعراب فيها

- ‌الفصل العشرون في تفصيل حروف القرآن، كم فيه من الحروف الفلانية

- ‌الفصل الحادي والعشرون في بيان معنى القرآن، ومعنى السّورة، والكلمة، والحرف

- ‌الفصل الثاني والعشرون في بيان معنى النّسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي، وأقسامه، وشرائطه، والرّدّ على من أنكره، وبيان معنى الناسخ، والمنسوخ، وغير ذلك

- ‌الفصل الثالث والعشرون في تقسيم السور باعتبار الناسخ، والمنسوخ

- ‌الفصل الرابع والعشرون في ذكر جملة الإعراض عن المشركين المنسوخ بآية السيف

- ‌الفصل الخامس والعشرون في بيان قواعد أصوليّة لأسباب النزول

- ‌الفصل السادس والعشرون في التنبيه على أحاديث وضعت في فضائل سور القرآن، وغيره، لا التفات لما وضعه الواضعون، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة، والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن، وغير ذلك من فضائل الأعمال، وقد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم، ومقاصدهم في ارتكابها

- ‌الفصل السابع والعشرون في بيان ما جاء من الحجة، في الردّ على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة، والنقصان

- ‌الفصل الثامن والعشرون في بيان هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب، أم لا

- ‌الفصل التاسع والعشرون في بيان بعض نكات في إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة، وحقيقتها

- ‌الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات

الفصل: ‌الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات

‌الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات

إذا ثبت هذا، فاعلم: أنّ المعجزات على ضربين:

الأول: ما اشتهر نقله، وانقرض عصره بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والثاني: ما تواترت الأخبار بصحّته، وحصوله، واستفاضت بثبوته، ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة.

ومن شرطه: أن يكون الناقلون خلقا كثيرا، وجمّا غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريّا، وأن يستوي في النقل، أوّلهم، وآخرهم، ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأمّة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلّة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام، وجبريل عن ربّه جلّ وعزّ، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة، والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه، ويسمعونه؛ لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم، فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على

ص: 150

يديه وتحدّيه به، ونظير ذلك من علم الدنيا، علم الإنسان ما نقل إليه من وجود البلدان، كالبصرة والشام، والعراق، وخراسان، والمدينة، ومكة، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة، الظاهرة، المتواترة. فالقرآن: معجزة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كلّ نبيّ انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل، والتغيير، كالتوارة، والإنجيل.

ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة:

منها: النّظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب، وفي غيرها؛ لأنّ نظمه ليس من نظم الشيء في شيء، وكذلك قال ربّ العزّة الذي تولّى نظمه:{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} . وفي «صحيح مسلم» : أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذرّ: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله تعالى أرسله، قلت: فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أفراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله، إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون، وكذلك أقرّ عتبة بن ربيعة، أنّه ليس بسحر، ولا شعر، لمّا قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(حم فُصِّلت) على ما يأتي بيانه هناك، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة، والبلاغة، بأنّه ما سمع مثل هذا القرآن قطّ، كان في هذا القول مقرًّا له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس

ص: 151

القول، وأنواعه.

ومنها: الأسلوب المخالف أساليب العرب.

ومنها: الجزالة التي لا تصحّ من مخلوق بحال، وتأمّل ذلك في سورة:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} إلى آخرها، وقوله سبحانه:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} إلى آخر السورة، وكذلك قوله:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار فمن علم أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحقّ، علم أنّ مثل هذه الجزالة لا تصحّ في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، ولا أن يقول:{وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ} .

قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميّز مسموع كلّ آية، وكلّ سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدّي، والتعجيز، ومع هذا، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين.

أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمه، وسعته، وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أنّ المصدّقين به أكثر من أتباع سائر الرسل.

والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول

ص: 152

الآية ذا مال، وولد على ما يقتضيه قوله الحقّ:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} ثمّ أهلك الله سبحانه ماله، وولده، وانقطع نسله.

ومنها: التصرّف في لسان العرب على وجه لا يستقلّ به عربيّ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.

ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدّوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميّ من أمّة أميّة ليس لها بذلك علم بما عرفوا، من الكتب السالفة صحّته، فتحقّقوا صدقه. قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أنّ هذا ممّا لا سبيل إليه إلّا عن تعلّم، وإذا كان معروفا أنّه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا متردّدا إلى المعلّم منهم، ولا كان ممّن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنّه لا يصل إلى علم ذلك، إلّا بتأييد من جهة الوحي.

ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيّد،

ص: 153

بشرط قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك.

ومنها: الإخبار عن المغيّبات في المستقبل التي لا يطّلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: ما وعد الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أنّه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية، ففعل ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله تعالى في إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا، وغربا، برّا، وبحرا. قال الله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} وقال: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} فهذه كلّها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلّا ربّ العالمين، أو من أوقفه عليها ربّ العالمين، فدلّ على أنّ الله تعالى قد أوقف عليها رسوله؛ لتكون دلالة على صدقه.

ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.

ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في

ص: 154

كثرتها، وشرفها من آدميّ.

ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا، وباطنا من غير اختلاف. قال الله تعالى:{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} .

قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا - رحمهم الله تعالى -، وزاد النظام، وبعض القدرية حادي عشرها، وهو: أنّ وجه الإعجاز: هو المنع من معارضته، والصّرفة عند التحدّي بمثله، وأنّ المنع، والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أنّ الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنّ إجماع الأمة قبل حدوث المخالف، على أنّ القرآن هو المعجز. فلو قلنا: إن المنع، والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك، علم أنّ نفس القرآن هو المعجز؛ لأن فصاحته، وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قطّ كلام على هذا الوجه، فلمّا لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ على أنّ المنع، والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين:

أحدهما: أنّهم صرفوا عن القدرة، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه.

الثاني: أنّهم صرفوا عن التعرّض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال: ابن عطيّة: وجه

ص: 155

التحدّي في القرآن، إنّما هو بنظمه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه. ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كلّه علما، فعلم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبيّن المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أوّل القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول. ومعلوم ضرورة: أنّ بشرا لم يكن محيطا قطّ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: أن العرب كان في قدرتها، أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، فلمّا جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه.

والصحيح: أنّ الإتيان بمثل القرآن، لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبة، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده، فيأخذها بقريحة جامّة، فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر، والبدل. وكتاب الله تعالى، لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب، أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ومن فصاحة القرآن: أنّ الله جلّ ذكره، وثناؤه، ذكر في آية واحدة: أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين، وهو قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عامّا، ثم استنثى استثناء بعد استثناء ثمّ أخبر عن حكمته، وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله سبحانه وتعالى. وأنبأ سبحانه: عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة، وثوابها، وعقابها، وفوز

ص: 156

الفائزين، وتردّي المجرمين، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ووصفها بالقلّة، بالإضافة إلى دار البقاء، بقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} الآية، وأنبأ أيضا:

عن قصص الأوّلين، والآخرين، ومآل المفترين، وعواقب المهلكين في شطر آية، وذلك في قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} وأنبأ جلّ وعزّ: عن أمر السفينة، وإجرائها، وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة، واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض، والسماء بقوله عز وجل:{وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} إلى قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك، فلمّا عجزت قريش عن الإتيان بمثله، وقالت: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله، أنزل الله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك، فقال:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} فلما عجزوا، حطّهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جلّ ذكره:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب، وتقطّعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب، والعناد، وآثروا سبي الحريم، والأولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة، وأشدّ تأثيرا، هذا مع كونهم أرباب البلاغة، واللّحن، وعنهم تؤخذ الفصاحة، واللّسن، فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز، والبيان، بل تجاوزت حدّ الإحسان،

ص: 157

والإجادة إلى حيز الإرباء، والزيادة. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختصّ به من غرائب الحكم، إذا تأملت قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنان، وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطّا عن رتبة القرآن، وذلك في قوله عليه السلام:«فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فأين ذلك من قوله عز وجل: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} وقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأقلّ حروفا، على أنه لا يعتبر إلّا في مقدار سورة، أو أطول آية؛ لأنّ الكلام كلّما طال اتسع فيه مجال المتصرّف، وضاق المقال على القاصر المتكلّف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإنّ الله سبحانه؛ إنّما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير، أبرع ما يكون في زمان النبيّ، الذي أراد إظهاره، فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطبّ في زمان عيسى عليه السلام، والفصاحة في زمان محمد صلى الله عليه وسلم.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، ومنه نرتجي قبول المتاب، عن كل ما وقع في السّطور، والكتاب، والحمد لله على ما حبانا، والشكر له على ما أولانا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويردّ عنه جدل منكره، وجاحده،

ص: 158

ويطمس عنه عين كائده، وحاسده، والمرجو ممّن اطّلع عليه، وصرف وجهه إليه، بعين القبول، والرغبة لديه، أن يصلح خطأه، وسقطته، ويزيل زلله، وهفوته، بعد التأمّل، والإمعان، لا بمجرّد النظر، والعيان؛ لأنّ الإنسان مركز الجهل، والنسيان، لا سيما حليف البلاهة والتوان؛ ليكون ممن يدفع السيئة بالحسنة، لا ممنّ يجازي الحسنة بالسيّئة، علّمنا الله وإيّاكم علوم السالفين، وجنّبنا وإيّاكم بدع الخالفين، وأدّبنا وإيّاكم بآداب الأخيار، وأذاقنا وإيّاكم كؤوس المعارف والأسرار.

اللهمّ ربّنا! يا ربّنا! تقبّل منّا أعمالنا، وأصلح أقوالنا وأفعالنا إنّك أنت السميع العليم! وتب علينا يا مولانا إنّك أنت التوّاب الرحيم! وجد علينا ببحار فيضك إنّك أنت الجواد الكريم! وصلى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين (1).

(1) قال مؤلّفه: لاح بدر تمامه، وفاح مِسْك ختامه، أوائل الساعة العاشرة، وقت السحر، من ليلة السبت المبارك، ليلة عيد الفطر الليلة الأولى، من شهر شوال من شهور سنة: ألف، وأربع مائة، وسبع عشرة من الهجرة النبويّة، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة، آمين آمين، وسلام على المرسلين وجميع الأنبياء، والملائكة المقرّبين، والحمد لله ربّ العالمين.

تمّ تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه قبيل العشاء من الليلة الخامسة من شهر ربيع الآخر في تاريخ 5/ 4/ 1420 هـ.

ص: 159

شعرٌ

وما من كاتبٍ إلّا سيفنى

ويبقى الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفّك غير شيء

يسرّك في القيامة أن تراه

آخر

أجلّ ما كسبت يد الفتى قلم

وخير ما جمعت يداه الكتب

إلى هنا جفّت الأقلام، وكلّت اللّجام بيد الفقير إلى رحمة ربه القدير، سُمّي محمد الأمين، الهرري، نزيل مكة المكرّمة، جوار الحرم الشريف، أدام الله سبحانه شرفها، وشرّف من شرّفها، من جميع الخدم، والزائرين، آمين يا ربّ العالمين.

* * *

ص: 160