المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌30 - الأصل في شروط العبادات المنع والحظر إلا بدليل، والأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٢

[وليد السعيدان]

الفصل: ‌30 - الأصل في شروط العبادات المنع والحظر إلا بدليل، والأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل

القاعدة الثلاثون

‌30 - الأصل في شروط العبادات المنع والحظر إلا بدليل، والأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل

قد تقدم لنا أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، وهذا عام في أصل العبادة وشرطها وصفتها، فلا يجوز اختراع عبادةٍ لا أصل لها، ولا اختراع صفةٍ لها، ولا اشتراط شرط فيها إلا بدليل صحيح صريح.

وتقدم أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، وهذا عام في أصلها أو صفتها أو الشروط فيها، وهذا القاعدة التي نحن بصدد شرحها فرع من هاتين القاعدتين.

وبيانها أن يقال: إن الله تعالى قد تعبدنا بالفرائض والواجبات والسنن وأرسل لنا الرسل وأنزل لنا الكتب لتدلنا على هذه العبادات ولم يترك الله تعالى لعقولنا مدخلاً في باب العبادات؛ لأن العقل لا يستقل بإدراك ما يجوز التعبد به مما لا يجوز، فإذا علم هذا فاعلم أن الذي فرض علينا الفرائض والواجبات وسن السنن جعل لها شروطًا لا تصح إلا بها؛ لأنه يعلم أنها لا تكون عبادة إلا بهذه الشروط، فمن هذه الشروط قائم على اشتراطه هو جل وعلا في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلابد من الجمع بين العبادة وشروطها التي دلت عليها الأدلة الصحيحة كالصلاة وشروطها والزكاة وشروطها والحج وشروطه والصوم وشروطه وهكذا، فلا يجوز لأحدٍ من الناس أن يربط صحة هذه العبادة بشرطٍ ما إلا إذا دل الدليل على اشتراطه؛ لأن الشرط في العبادات لا يكون إلا من الشارع فقط؛ لأن مبناه على الغيب والتوقيف، فمن فتح لعقله باب الاشتراط في العبادة فقد جعل نفسه مشرعًا مع الله تعالى، وكذلك لا يجوز ربط العبادة بشرط لم يدل عليه إلا دليل ضعيف فالأدلة الضعيفة لا يحتج بها في باب الأحكام، فمن عرف ذلك انكشف له زيف كثير من الشروط التي يمليها الفقهاء في بعض العبادات مما لا دليل عليه أصلاً أو عليه دليل ضعيف.

ولوضوح ذلك أضرب بعض الأمثلة على هذا الشطر من القاعدة فأقول:

ص: 1

منها: اشتراط الأربعين لصحة الجمعة، فإن المشهور من مذهب الأصحاب اشتراط ذلك، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الشرط وجدناه لا دليل عليه إلا دليلاً ضعيفًا وهو قول جابر:(مضت السنة أن في كل أربعين فصاعدًا جمعة) ولكن هذا الحديث ضعيف جدًا، وكذلك من اشترط دون ذلك كاشتراط اثني عشر رجلاً كمذهب مالك فإنه وإن كان دليله صحيحًا لكن ليس بصريح في المراد، ولذلك أي لعدم الدليل على العدد لصحة الجمعة اختار جمع من العلماء صحة الجمعة باثنين؛ لأنهما جماعة، وبعضهم اختار صحتها بثلاثة اثنان يستمعان وواحد يخطب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح؛ لأن أقل الجمع ثلاثة على القول الصحيح عند الأصوليين، والله أعلم.

ومنها: اشتراط سبع غسلات في غسل النجاسة وهو رواية عن أحمد فقد اشترط الأصحاب لتطهير النجاسات سبع غسلات ويستدلون بحديث ابن عمر: (اغسلوا الأنجاس سبعًا) ولكن هذا الكلام ليس له سند يصح وإنما هو مذكور في كتب الفقهاء بلا إسناد، بل ليس في حد إزالة النجاسة شيء يصح إلا في نجاسة الكلب فسبع إحداها بتراب، وفي الاستجمار من الخارج من السبيلين ثلاث مسحات، أما ما عداهما فلا يصح فيه شيء البتة والأصل في الشروط الشرعية التوقيف على الدليل وإذا لم يثبت بذلك دليل فالأصل أن النجاسة تكاثر بالماء حتى تزول عينها، فاشتراط الأصحاب سبع غسلات أو ثلاث غسلات اشتراط في عبادةٍ لا دليل عليه، والله أعلم.

ومنها: اشتراط الأصحاب وغيرهم لصحة خطبة الجمعة الحمد والوصية بتقوى الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة آية، وهذا اشتراط في عبادة والأصل فيه التوقيف فرجعنا إلى أدلة اشتراط ذلك فوجدناها لا تصلح إلا للاستحباب فقط أما أن تصل إلى أن تكون شروط صحة فلا.

ص: 2

ومنها: اشتراط بعض الفقهاء الماء لإزالة النجاسة فقالوا: ولا تزال النجاسة بغير الماء وهذا اشتراط في عبادة والأصل فيه التوقيف فرجعنا إلى دليل هذا الشرط فوجدناه لا يصلح لذلك وذلك لأن الشارع أمر بإزالة بعض النجاسات بغير الماء، بل بالحجر كما في الاستجمار، وبمرور الشيء المتنجس على شيء طاهر كما في ذيل المرأة، وبالشمس كما في حديث مرور الكلاب وبولها في المسجد وبالاستحالة، فعرفنا بذلك أن مقصود الشارع من الأمر بالماء في بعض الأحاديث إنما هو لأنه أفضل ما تزال به العين النجسة لا لأنه شرط، ونحن نقول بذلك، وذلك لأن الماء فيه خاصية لإزالة عين النجاسة أفضل من غيره من المزيلات، وإلا فالمقصود هو إزالة العين النجسة فبأي مزيل طاهر زالت عاد حكم المحل كما كان، بل ونصوا على أن النجاسة لو زالت بنفسها زال حكمها فتبين بذلك أن هذا الشرط لا دليل عليه فالأصل عدمه، والله أعلم.

ومنها: اشتراط الأصحاب وبعض الفقهاء لسجود التلاوة والشكر ما يشترط للصلاة؛ لأنها صلاة عندهم، وهذا اشتراط في عبادة والأصل فيها التوقيف فرجعنا للأدلة فوجدناها لا تدل على ذلك وذلك لحديث ابن عمر قال:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ علينا القرآن فإذا مَرَّ بالسجدة كبر وسجد وسجدنا خلفه حتى لا يجد أحدنا موضعًا) ولم يكن يأمرهم بالوضوء له وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

وكذلك سجود الشكر فليس في دليلٍ واحدٍ من أدلة مشروعيتهما ما يوجب الوضوء لها أو ستر العورة أو استقبال القبلة فاشتراط ذلك اشتراط لا دليل عليه والأصل عدمه، ولذلك اختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يشترط لصحتهما ما يشترط للصلاة؛ لأنهما ليسا بصلاة ولكن لاشك أن الساجد لهما بشروط الصلاة أكمل وأفضل لأمرين: للخروج من خلاف العلماء؛ ولأنه أكمل في التعبد، والله أعلم.

ص: 3

ومنها: اشتراط الطهارة للطواف وفيها خلاف فقيل يجب وهو المعتمد في المذهب لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه، وعنها:(أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف) .

وفي حديث ابن عباس مرفوعًا: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح الكلام فيه) .

وقيل: لا يجب لعدم الدليل الصريح على ذلك.

فأما حديث عائشة الأول: فإنما منعها من الطواف؛ لأنه يلزم منه دخول المسجد، والحائض لا يجوز لها دخول المسجد وهذا احتمال مقبول والدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال.

وأما حديثها الثاني: فهو حكاية فعل فلا ترتقي إلى الوجوب.

ص: 4

وأما الثالث: فلا يصح مرفوعًا؛ لأنه متناقض وذلك لأنه حكم على الطواف أن له حكم الصلاة واستثنى من ذلك شيئًا واحدًا وهو الكلام فيفهم منه أن الأحكام الباقية ثابتة للطواف وهذا لم يقل به أحد، فالضحك يجوز في الطواف ولا يجوز في الصلاة، والأكل والشرب والالتفات يجوز في الطواف ولا يجوز في الصلاة، وكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتناقض أبدًا،وزيادةً على ذلك فهذا الحديث في سنده مقال عريض، ويقال في حديث:(أحابستنا هي) ما قيل في حديث عائشة: (افعلي ما يفعل الحاج) ؛ ولأن الشروط في العبادة مبناها على التوقف إلا بدليل، والطهارة للطواف إنما دل الدليل على استحبابها دون اشتراطها فالأصل عدم الاشتراط واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول قوي لاسيما وأنه قد اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وحج معه جم غفير وجمع كبير طافوا معه وسعوا وأخذوا عنه مناسكهم ولم ينقل لنا أحد منهم أنه أمر بالوضوء للطواف فلو كان ذلك شرطاً لأمر به، ولو أمر به لتوفرت الهمم على نقله كما نقل غيره، لكن لما لم يثبت شيء من ذلك دل على أن الطهارة لا تشترط وإنما هي من باب الاستحباب، والله أعلم.

وخلاصة الكلام أن يقال: إن الأصل في العبادة هو الإطلاق عن جميع الشروط إلا بدليل فمن ربط صحة عبادة – أي عبادة - بشرطٍ – أي شرط – فقد خالف الأصل فيطالب بالدليل المصحح لذلك فإن جاء به فعلى العين والرأس، وإن لم يكن ثمة دليل فلا ولا كرامة فهذا هو الكلام عن الشق الأول من القاعدة.

ص: 5

وأما الشق الثاني: فهو في المعاملات وهي عكس العبادة، وذلك لأن شرط كل شيء تابع لأصله، فما كان الأصل فيه المنع فالأصل في شرطه المنع، وما كان الأصل فيه الحل فالأصل في شرطه الحل، والفقهاء قرروا – رحمهم الله تعالى – قرروا أن الأصل في المعاملات بيوعًا أو غيرها الحل والإباحة إلا بدليل، فإذا علم أصلها علم حكم شروطها، فالأصل أيضًا في الشروط في المعاملات الحل والإباحة. وقبل التفصيل في ذكر الأدلة على ذلك أنبهك على أمرٍ مهم وهو الفرق بين شروط صحة البيع والشروط في البيع فإذا قال الفقهاء شروط صحة البيع فيعنون بها الشروط السبعة المعروفة وهي الرضا وأن يكون العاقد جائز التصرف

إلخ.

وأما الشروط في البيع فهي التي ينص على اشتراطها أحد المتعاقدين أو كلاهما ولا تعلق لها بصحة البيع، كاشتراط حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب ونحوه وبالجملة.

فالفرق بينهما من وجوه:

الأول: أن شروط صحة البيع تشترط في كل بيع على أي صفةٍ كان وأما الشروط في البيع فلا لأنها تكون في بيعٍ دون بيع.

الثاني: أن شروط صحة البيع لا يصح البيع إلا بها، وأما الشروط في البيع فيصح بدونها.

ثالثًا: أن شروط صحة البيع محصورة لا تتغير ولا تتبدل بين بيعٍ وبيع، بل هي واحدة في كل البيوع، وأما الشروط في البيع فليست بمحصورة ولا ثابتة، بل تتغير من بيعٍ إلى بيع.

رابعًا: أن شروط صحة البيع يلزم توفرها ولو لم ينص عليها العاقدان وأما الشروط في البيع فلا تثبت إلا إذا تكلم بها من يريدها وقبلها الآخر.

خامسًا: أن الأصل في شروط صحة البيع التوقيف بحيث أنه لا يجوز للإنسان أن يربط صحة البيع بشرط إلا وعليه دليل صحيح، وما لا دليل عليه فلا عبرة به.

ص: 6

وأما الشروط في البيع فالأصل فيها الحل والإباحة بحيث أنه لا يجوز أن يمنع الإنسان شرطاً إلا بدليل يدل على المنع منه. فإذا علمت هذا فاعلم أننا نريد بقولنا: (الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة) أننا نريد الشروط في المعاملة لا شرط صحة المعاملة فتنبه لهذا فإذا تقرر لك هذا فقد دل على هذا الأصل عدة أدلة:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا) وهذا نص في المسألة.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) وهذا نص أيضًا.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) متفق عليه، فهو لم ينكر عليهم اشتراطهم، وإنما أنكر عليهم مخالفة الشرط لكتاب الله، مما يدل على أن الأصل جواز الاشتراط إلا إذا خالف الشرط كتاب الله، والمراد بكتاب الله أي حكم الله، ذلك لأن شرع الله الذي حكم به هو أن الولاء لمن أعتق، فاشتراط مواليها أن الولاء لهم مخالف لحكم الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم مخالفتهم لكتاب الله لا أنه أنكر الاشتراط مطلقًا.

ومنها: أن جابرًا اشترط على النبي صلى الله عليه وسلم لما باعه الجمل، اشترط حملانه إلى أهله فأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ذلك.

ومنها: أنه لا يزال المسلمون يتبايعون ويشترطون بلا نكير فهو كالإجماع منهم على أن الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة.

ثم اعلم أن مذهب الأصحاب في هذه الشروط أنهم يقسمونها إلى قسمين: شروط صحيحة، وشروط فاسدة.

ص: 7

والشروط الصحيحة عندنا ثلاثة أنواع: شرط من مقتضى العقد أي يلزم بمجرد العقد كاشتراط تسليم السلعة أو دفع الثمن، فهذا غالب الأصحاب لا يذكره لوضوحه، ولأنه يثبت ولو لم ينص عليه فيكون اشتراطه من باب التأكيد فقط.

والنوع الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط الرهن أو الضامن أو تأجيل الثمن أو اشتراط كون العبد كاتبًا أو خصيًا أو مسلمًا، أو الأمة بكرًا ونحوه فكل هذه الشروط شروط صحيحة لازمة لمن اشترطها، فإن وفَّى المشروط عليه بالشروط وإلا فلصاحبه الفسخ أو أرش فقد الصفة المشروطة.

ص: 8

والثالث: شرط العاقد نفعًا مباحًا معلومًا في المبيع كاشتراط البائع سكنى الدار مدة معلومة، وكاشتراط المشتري على البائع حمل الحطب إلى موضعٍ معين أو تكسيره أو خياطة الثوب ونحو ذلك. وعندنا في المذهب أنه لا يجوز للعاقد أن يشترط أكثر من شرط واحد من النوع الثالث فقط دون الأول والثاني، ويستدلون على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك) رواه الترمذي وقال حسن صحيح فقد نهى عن الجمع بين شرطين في البيع، لكن الصواب هو الجواز فيجوز للعاقد أن يشترط في العقد ما شاء من أي أنواع الشروط المتقدمة بشرط أن لا يخالف الشريعة؛ لأن الأصل في الشروط في المعاملات الحل والإباحة إلا بدليل، واختار هذا القول شيخ الإسلام تقي الدين وتلميذه ابن القيم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:(ولا شرطان في بيع) فقد بينه المحققون من العلماء بأنه كل شرطين أدى اجتماعهما إلى مفسدة، ذلك لأن الشريعة لا تنهى إلا عن الشيء الذي فيه مفسدة، رباً كان أو غرراً أو ظلماً، وهذه الشروط أعني النوع الثالث من أنواع الشروط الصحيحة ليس فيها محذور بوجهٍ من الوجوه، فكيف نهى عنها الشارع وهي لا مفسدة فيها بنفسها، ولا يتذرع بها إلى مفسدة، فإذا قال المشتري للبائع مثلاً: اشتريت منك هذا الحطب بشرط حمله وتكسيره، فهذان شرطان في البيع فما وجه المفسدة في الجمع بينهما؟! ليس هناك أي مفسدة، فدل ذلك أن الشرطين المنهي عنهما إنما هما الشرطان اللذان يؤدي اجتماعهما إلى مفسدة شرعية وذلك كمسألة العينة كأن يبيعه سلعة بمائة مؤجلة ثم يشتريها في الحال بثمانين حالة، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، واختار هذا القول ابن القيم والشيخ ابن سعدي.

ص: 9

فالقول الصحيح الموافق للأدلة هو القول بصحة الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود، وسواءٌ اشترط على البائع فعلاً أم تركًا، ومن حرم شيئًا من هذه الشروط فعليه الدليل؛ لأنه ناقل عن الأصل. وأصول الإمام أحمد وأكثر نصوصه إنما تدل لهذا القول والإمام مالك قريب منه، لكن الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فإنه ليس في الأئمة الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.

وأما الشروط الفاسدة فهي كل شرط خالف مقصود الشارع كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -، وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أحل الله، فإن شرطه حينئذٍ يكون مبطلاً لحكم الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما ليس واجبًا بأصل الشرع، ذلك لأن مقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبًا، والتزام ما لم يكن لازمًا، فأما ما كان واجبًا بأصل الشرع فلا داعي لاشتراطه وما كان حرامًا فإنه لا يكون حلالاً بمجرد الاشتراط، فإذا فهمت هذا الأصل فإنه سوف يتبين لك إخلال كثير من الفقهاء به، وأن بعضهم يحرم من الشروط ما لا دليل له على تحريمه.

ونضرب بعض الفروع لهذا الأصل حتى يتضح:

منها: قال الأصحاب: ولا يصح كل بيع علق على شرط مستقبل غير قوله - إن شاء الله -، أو بيع العربون، أما غيرهما فلا يصح ولذلك اشترطوا لصحة البيع أن يقع منجزًا لا معلقًا. ولا دليل لهم على هذا، بل ليس في الأدلة الشرعية ولا القواعد الفقهية ما يمنع تعليق البيع بالشرط، والحق جوازه، لأن الأصل في هذه الشروط هو الحل والإباحة إلا بدليل، فأين الدليل الذي يمنع من تعليق صحة البيع على شرطٍ مستقبل؟! فإذا لم يكن ثمة دليل يمنع فالقول بجوازه هو المتعين؛ لأنه مما أحل الله تعالى ولا يجوز تحريم ما أحل الله، واختار هذا القول شيخ الإسلام تقي الدين وابن القيم.

ص: 10

ومنها: لو قال البائع: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي زيد، فهذا عند الأصحاب لا يصح لعدم نقل الملك؛ ولأنه عقد غير مجزوم به بل معلق على شرط؛ ولأنه قد يجيء أو لا يجيء، وقد يرضى أو لا يرضى، والأصل في البيع هو انتقال السلعة إلى المشتري والمال إلى البائع بعد العقد، فهذا الشرط لا ينعقد معه البيع.

قلت: بل هو صحيح لا غبار عليه، فالعقد والشرط كلاهما صحيح؛ لأن الأصل في الشروط في البيع الحل والإباحة إلا بدليل، ولا دليل يدل على تحريم هذا الشرط، فإن رضي به المشتري لزمه وإلا فلا يلزمه الدخول فيه وقبوله أصلاً؛ ولأن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، وهذا الشرط ليس فيه ما يحل الحرام أو يحرم الحلال.

وأما قولهم: أنه يبقى العقد معلقًا والملك لم ينتقل، قلنا: نعم وهذا هو مقصود هذا الشرط، فالبائع لا يريد انتقال المبيع إلا إذا جاء زيد أو رضي بهذا البيع، واختار هذا القول شيخ الإسلام تقي الدين وتلميذه ابن القيم، والله أعلم.

ومنها: باعه جارية واشترط عليه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فاختار بعض العلماء بطلان الشرط لانتقال الملك من يده؛ ولأن صاحب السلعة لا يجبر أن يبيعها لواحدٍ بعينه. لكن الراجح هو صحة هذا البيع وهذا الشرط؛ لأن الأصل صحة هذه الشروط إلا بدليل يبطلها، ولا دليل على إبطال هذا الشرط، فإن رضي به المشتري وإلا فلا يلزمه الدخول في العقد، ولعموم حديث:(المسلمون على شروطهم) فإذا جاء المشتري يبيع هذه الجارية أو هذه الدار ونحوها فإن بائعها الأول أحق بها بالثمن، وإن أبى المشتري أن يبيعها عليه أجبره الحاكم؛ لأنه التزم ذلك الشرط، واختاره شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله.

ومنها: اشترى منه حطبًا واشترط عليه حمله وتكسيره ورصه في مكان معين صح البيع والشرط؛ لأن الأصل فيها الحل والإباحة.

ص: 11

ومنها: باعه عبدًا واشترط عليه العتق صح البيع ولزم الشرط وهو المشهور من المذهب؛ لأن الأصل فيها الحل والإباحة، ويجبر المشتري على العتق إن أباه، ويكون الولاء للمشتري لا البائع الأول؛ لأن الولاء لمن أعتق.

ومنها: باعه دارًا واشترط سكناها مدة معلومة، أو دابة واشترط نفعها مدة معلومة صح البيع والشرط لحديث جابر عند الشيخين وتقدم.

ومنها: ما يسمى بالشرط الجزائي، وهو من مصلحة العقد، فبعض العلماء حرمه لكن الراجح جوازه لعموم الأدلة الماضية؛ ولأنه حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، ويدل عليه بالخصوص ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لمكريه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه (1) ، والله أعلم.

هذه بعض الأمثلة التي تدلك على ما وراءها من أن كل شرط يشترطه العاقدان فالأصل فيه الحل والإباحة إلا الشرط الذي يخالف دليلاً صحيحًا فهو حينئذٍ باطل. ومن ذلك – أي من الشروط الفاسدة – اشتراط الولاء كأن يبيعه عبدًا أو جارية ويشترط أن الولاء له فهذا الشرط باطل لكن البيع صحيح؛ لأن اشتراط الولاء مخالف للشريعة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة: (وإنما الولاء لمن أعتق) وقال فيه: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) .

(1) قول التابعي ليس بحجة، لكن يقال: يستأنس على جوازه بما رواه البخاري

إلخ. وينبغي اشتراط عدم مخالفته دليلاً شرعياً، كما لو باعه ديناً واشترط الزيادة إذا لم يسدد أو كان الشرط ملزماً بالملتزم بإتمام العمل.

ص: 12

ومنها: اشتراط البراءة من كل عيب كأن يقول: بعتك هذه السلعة بشرط أني بريء من كل عيب فيها، فهذا شرط باطل؛ لأنه غرر وغش إن كان يعلمه، وللمشتري الرد بالعيب أو أرشه إن وجده، وعلله بعض الأصحاب بأن خيار العيب لا يثبت إلا بعد البيع فلا يسقط بإسقاطه قبله، وليس هذا بسليم؛ لأن مقتضاه صحة البراءة من العيوب بعد العقد ولا يقولون هم بذلك، فالتعليل الصحيح لبطلان هذا الشرط هو أن فيه غرراً وغشاً وتعمية وتدليساً. أما إذا سمى البائع العيب ووضع يده عليه وبينه بيانًا واضحًا حتى عرفه المشتري بعينه وقال: بعتك بالبراءة من هذا العيب، فإنه يبرأ حينئذٍ لدخول المشتري في العقد على بصيرة تامة بهذا العيب ولا رد له لرضاه به، لكن الصحيح عند شيخ الإسلام الذي دل عليه قضاء الصحابة هو أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري، لكن إذا ادعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلمه فإن نكل قضي عليه، لقصة عبد الله بن عمر في عبدٍ باعه على زيد بشرط البراءة، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم هذا العيب. قال: لا، فرده عليه، والله أعلم.

ومنها: اشتراط عقدٍ في عقد كاشتراط سلفٍ في بيع كأن يقول: بعتك هذه السلعة بشرط أن تقرضني قرضًا فهذا لا يجوز لقوله: (لا يحل سلف وبيع) وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز بيع وسلف، وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يسلفه سلفًا أو يقرضه قرضًا. ا. هـ

ومنها: اشتراط اشتراء السلعة المباعة بأجل بثمن حالٍ أقل وهو مسألة العينة، فإذا قال لك: بعتك هذه السلعة بألف مؤجلة بشرط أن اشتريها منك بثمانمائة حالة فهذا الشرط لا يجوز؛ لأنه بيع العينة وقد دل الدليل على تحريمها

فهذا بعض الكلام على هذه القاعدة العظيمة، ولكثرة المخالفين فيها أطلت الكلام في توضيحها، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

القاعدة الحادية والثلاثون

ص: 13