الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: أنه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل لئلا يستجلب لنفسه لعنة الناس كما في الحديث.
والفروع كثيرة لا تكاد تحصى كثرة، وقد استفاض فيها الإمام العلامة ابن القيم في كتابه:(إعلام الموقعين عن رب العالمين)، فإنه قد ذكر تسعة وتسعين وجهًا على ذلك ثم قال بعدها:(وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي والأمر نوعان أحدهما: مقصود لنفسه. والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة للمفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) ا. هـ كلامه وما ذكرته من الفروع إنما هو منه - فرحمه الله رحمة واسعة -، والله أعلم.
القاعدة التاسعة والثلاثون
39 - كل حيلة يتوصل بها إلى إحقاق باطل أو إبطال حق فهي حرام
اعلم أن قاعدة تحريم الحيل وسد أبوابها إنما هي متفرعة من قاعدة سد الذرائع، وهي من كمال الشريعة الإسلامية؛ لأنه كما ذكرنا أن الشريعة إذا سدت بابًا من أبواب المحرمات فإنها تسد جميع الطرق المفضية إليه، لكن علم الله جل وعلا في علمه الأزلي أن بعض الناس لا يسلك الطرق الواضحة للوصول إلى الحرام، وإنما يسلك طرقًا تكون في ظاهرها لا بأس بها لكن هو يقصد بها التوصل إلى الحرام، إما إلى إحقاق باطلٍ أو إبطال حقٍ، فهذا هو الحيلة، وهي في الشريعة حرام بل أشد تحريمًا من سلوك الطرق الواضحة؛ لأن المحتال يخيل لنفسه أن أحدًا لم يعلم بقصده وحيلته، ولا يعلم هذا المسكين أن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فهو مخادع لنفسه ومخادع للمؤمنين ومخادع لله تعالى، فهي ظلمات بعضها فوق بعض - والعياذ بالله تعالى -، والأدلة على تحريم الحيل كثيرة جدًا نذكر طرفاً منها على هيئه فروع، فأقول وبالله التوفيق:
منها: قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} والحيلة نوع من أنواع المخادعة، وكل آية فيها ذم المخادعة والمكر فهو دليل على تحريم الحيل.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل) وهو نص صريح صحيح في تحريم الحيل والإخبار أنها من طباع اليهود.
ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) . فقيل: (يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس) . فقال: (لا هو حرام)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:(قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها - أي الميتة - جملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) .
فانظر كيف احتال اليهود على ربهم جل وعلا فإنهم في الظاهر لم يبيعوا الشحم الذي حرم عليهم، وإنما باعوه دهنًا أي بعد إذابته فلعنوا بارتكابهم ما نهوا عنه؛ لأنهم احتالوا فلم تنفعهم حيلتهم شيئًا، فالحرام هو الحرام والحيلة باطلة.
ومنها: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا
…
} الآيتين بعدها. قال المفسرون: أن هؤلاء طائفة من بني إسرائيل حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فامتثلوا في أول الأمر، فكان من فتنة الله لهم أن الحيتان لا تظهر وتقترب من شواطئهم إلا يوم السبت وتختفي في غيره فتحايلوا على ذلك فقالوا: نضع شباكنا يوم الجمعة ونأخذها يوم الأحد فلا نكون قد باشرنا الصيد يوم السبت وإنما الحيتان هي التي وقعت في الشباك بنفسها، فلما فعلوا ذلك جاءهم الناصحون والمنكرون فأبوا فنزل العذاب بهم، ومن المعلوم أن العذاب لم ينزل إلا لارتكابهم ما نهوا عنه، وهم في الظاهر لم يباشروا الصيد بأيديهم يوم السبت لكن لما نزل العذاب بهم علمنا أنهم ارتكبوا عين ما نهوا عنه وأن حيلتهم لم تنفعهم شيئًا، فهذا من أقوى الأدلة على تحريم الحيل.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له) والمراد بالمحلل - بالكسر - هو من يتزوج المرأة المطلقة ثلاثًا بقصد تحليلها لزوجها لا نكاح رغبة، وهو التيس المستعار والمحلل له - بالفتح - هو زوج المرأة الأول الذي بَتَّ طلاقها، وكلاهما ملعونان بنص الحديث؛ لأنهما احتالا على الشريعة لإحلال المرأة المطلقة لزجها الأول، وهي حيلة لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً، فإن المرأة التي نكحت نكاح تحليل لا تحل لزوجها الأول بهذا النكاح وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية، وابن القيم وغيرهما، مما يدل على أن الحيل باطلة وأن صاحبها قريب من لعنة الله - والعياذ بالله تعالى -.
ومنها: إجماع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على تحريم الحيل وإبطالها وإجماعهم حجة قاطعة، بل هي من أقوى الحجج وآكدها، فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا أوتى بمحللٍ ولا محللٍ له إلا رجمتهما) ولم ينكر عليه أحد وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر أن المرأة لا تحل بنكاح تحليل ظن وغيرهم في صور كثيرة ينهى فيها الصحابة على سلوك الحيل ويشددون فيها تشديدًا بالغًا مما يدل على اتفاقهم على ذلك.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنسٍ الطويل في مقادير الزكاة: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو إنقاصها، فمثال الأولى: أن يكون ثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاةً متفرقة فيجمعوها لتكون مائة وعشرين فلا يخرجون منها إلا شاةً واحدة فقط، فرارًا منهم من إخراج ثلاث شياة؛ لأن في كل أربعين شاةً شاةٌ، ومثال الثانية: أن يشترك اثنان في أربعين شاة لكل واحد منهما عشرون، فيفرقون مالهم حتى لا يجب عليهم شيء فرارًا من وجوب الواحدة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك سدًا لباب الحيل المحرمة.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) فحرم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صدناه وتمم ذلك بسد باب الحيلة بتحريم ما صيد لأجلنا، حتى لا يتحايل بعض الناس على ذلك بأمر الحلال أن يصيد له، فانظر كيف حرم الشيء ومن ثَمَّ سد جميع أبوابه ولذلك لما أهدى الصعب بن جثامة للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا رده وقال له:(إنا لم نرده عليك إلا أنا قوم حرم) متفق عليه، وفي حديث أبي قتادة في صيده الحمار الوحشي:(هل أحد منكم أمره أو أعانه أو أشار له بشيء) . فقالوا: لا. فقال: (كلوا ما بقي) وهو متفق عليه أيضًا، والله أعلم.
ومنها: تحريم الهدايا للعمال، كالحكام أو القضاة وكذلك أصحاب الديون، فهو لا يجوز لهم قبول الهدية؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، فقد تؤدي إلى عدم الحكم بالحق وإلى المماطلة في سداد الدين، فهي تؤدي إلى إبطال الحق، فهي بهذا الاعتبار حيلة محرمة وفي الحديث:(هدايا العمال غلول)، وروى ابن ماجة في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: (قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ فإذا كان لك على رجلٍ حق فأهدى إليك حمل تبنٍ أو حمل شعير أو جمل قَتٍّ فلا تأخذه فإنه ربًا) ، وفي سنن سعيد هذا المعنى عن أبي بن كعبٍ، وجاء عن ابن مسعود أيضًا نحو هذا المعنى، وأتى رجل عبد الله بن عمر فقال:(إني أقرضت رجلاً بغير معرفة فأهدى إليَّ هدية جزلة) . فقال: (رُدَّ عليه هديته) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء لما في ذلك من إبطال الحق، ولا يعرف ذلك حقًا إلا من كان صاحب ولاية ثم أهدي إليه فجاء صاحب الهدية بما يوجب عقابه فإن صاحب الولاية قد مُلِكَ قلبه بهذه الهدية بحيث لا يصدق في حكمه عليه أو يحاول البحث عن الأعذار له بأي طريق، فسدت الشريعة هذا الباب سدًا منيعًا بتحريم الإهداء لأصحاب الولايات وأصحاب الديون قبل وفائها، والله أعلم.
ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنه في تحريم بيع العينة، فإن العينة مبادلة مالٍ بمالٍ بينهما سلعة، فالسلعة إنما جعلت بين المالين الربويين من باب الحيلة فقط، فلم تنفع صاحبها في إحلال الحرام، فهي ربًا وإن وقعت على أي صورة، وهو قول أكثر العلماء واختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية.
ومنها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، فإن تعمد أحدهما لمفارقة صاحبه تقطع على الآخر حقه في خيار المجلس وتوجب البيع ففيها ضرر، فهي حيلة لإسقاط خيار المجلس الذي هو حق لهما فلا تجوز، وأما فعل ابن عمر فيجاب عنه بأنه لا حجة لفعل أحدٍ ولا لقوله مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأن ابن عمر لم يبلغه النهي وهذا هو الظن في هذا الصحابي الذي هو من أحرص الصحابة اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن النهي عن المفارقة بلغه لامتثل، والله أعلم.
فهذه بعض الأدلة على تحريم الحيل، وبها يتبين للمنصف أن تحريم الحيل أصل من أصول الشريعة، وأن القول بجوازها ظلم لا تأتي الشريعة به أبدًا، بل إن القول بجوازها فيه انتهاك لحجاب المحرمات وخوضٍ في حماها، ولذلك قال الناظم:
ولا تجوز الحيلة المحرمة
…
ومن يقل تجوز قل ما أظلمه
ويشير الناظم في البيت إلى قول من قال بجوازها واستدل بأدلة من الكتاب والسنة، وكل أدلتهم لا تصلح دليلاً لما أرادوه، وقد تولى الإمام ابن القيم الرد على استدلالهم بها ردًا محكمًا بديعًا لم يسبق إليه، فارجع إليه إن شئت فإن ما كتبته في هذه القاعدة إنما هو نصف نقطةٍ في بحر ما كتبه رحمه الله رحمة واسعة -.
وهنا مسألة مهمة جدًا قد يظن البعض أنها من الحيلة المحرمة وليست كذلك وهي مسألة التورق، وهي أن يشتري الإنسان سلعة بأجل بقصد بيعها والانتفاع بثمنها.
فهل يجوز أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء فقد كرهها عمر بن عبد العزيز وقال: هو أخية الربا، وهي رواية عن أحمد واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية فقد ثبت أنه كان يمنع منها، وقال ابن القيم عنه إنه روجع فيها مرارًا وأنا حاضر فلم يرخص فيها، واستدلوا على تحريمها بأنها من باب بيع المضطر وقد نهي عنه كما رواه الإمام أحمد في المسند بسندٍ فيه ضعف؛ ولأن المعنى الذي من أجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه.
وذهب كثير من العلماء إلى جوازها وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو الذي عليه الفتوى في البلاد السعودية - حفظها الله تعالى - وهو الراجح - إن شاء الله تعالى - (1) ، وذلك لأن الأصل في البيوع الحل والإباحة إلا بدليل، ولا دليل يمنع منها، وأما حديث النهي عن بيع المضطر فهو حديث ضعيف هو وشاهده من حديث حذيفة كلاهما ضعيف؛ ولأن فيه من التوسعة على الناس ما لا يعرفه إلا من احتاج ولم يجد من يعطيه بلا زيادة، وأما الزيادة في السلعة فهي من أجل الأجل لا لأنه مضطر فيستفيد البائع بالزيادة، ويستفيد المشتري بالتأجيل، وهذا البيع هو المعروف عندنا ببيع التقسيط، ففيه زيادة من أجل التأخير، وقد أفتى العلماء بجوازه، لكن بعضهم شدد فيما إذا حصل اتفاق بينهما قبل شراء السلعة فحرمه حينئذٍ بعضهم (2)
(1) من أجازها من أهل العلم عندنا اشترطوا لجوازها شروطاً. انظر الشرح الممتع للشيخ العثيمين. (ص 231) .
(2)
انظر الشرح الممتع للشيخ العثيمين فقد قال بتحريم ذلك وشدد فيه. (ص 366)، والذي يظهر الجواز لدليل: مع الجمع بالدراهم وللحاجة وللآية " إلى أجل مسمى ".