الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السابعة والثلاثون
37 - كل ما جاز شرعًا ارتفع ضرره قدرًا
اعلم أن هذه الشريعة لا تأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا تنهى عن شيء إلا وفيه مفسدة خالصة أو راجحة، فهي إذا حرمت قولاً أو فعلاً أو عينًا من الأعيان فإنها لم تحرمه إلا وفيه مفسدة، وإذا أباحت شيئًا فإنها لم تبحه إلا لخلوه من هذه المفسدة. فأبدًا لا يجتمع حل شيء ووصفه بالمفسدة، وهذه القاعدة تقرر أن كل ما دل الدليل الشرعي على جوازه قولاً أو فعلاً فإنه جل وعلا يرفع ضرره قدرًا - أي كونًا - فلا يكون فيه ضرر أبدًا حتى وإن كان سبق له تحريم فإنه في حالة تحريمه يوصف بالضرر فإذا نسخ التحريم وثبت الجواز فإن هذا الضرر يرتفع عن هذا الفعل - بإذن الله تعالى -، فالخلق خلقه والأمر أمره (فتبارك الله رب العالمين) فلا يمكن أن يجتمع الجواز الشرعي والضرر الكوني، بل نحن نعرف أن بجواز الشيء انتفاء ضرره، وبثبوت ضرره انتفاء جوازه، فهما ضدان لا يجتمعان أبدًا في فعل من الأفعال، فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقادًا جازمًا لا ريب فيه ويؤمن إيمانًا تامًا لا ريب معه أنه لا يمكن أن تأمر أو تبيح الشريعة ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، كما أنها لا يمكن أن تحرم ما فيه مصلحة خالصة أو راجحة. فكل ما كان حرامًا ثم أحل فلزوال المفسدة منه، وكل ما كان حلالاً ثم حرم فلوصف الخبث فيه بعد تحريمه.
وإليك بعض الفروع على هذه القاعدة حتى تتضح أكثر فأقول:
منها: اختلف العلماء فيما صاده الكلب بفمه، هل يجب غسله أو لا؟ على أقوال والراجح عدم الوجوب، وذلك لأن الله تعالى قال:{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فأجاز لنا أن نأكل من صيد الكلب بشرطين: أن يكون معلمًا، وأن نذكر اسم الله عليه، ولم يأمر بغسل الصيد فلو كان واجبًا لأمر به؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم:(إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) الحديث. ولم يأمر بغسل الصيد؛ ولأن صيد الكلب المعلم يجوز أكله بهذه الأدلة، فإذا ثبت جواز صيده شرعًا فإن ضرره يرتفع قدرًا، فالضرر الذي من أجله أمرنا أن نغسل منه الإناء سبعًا إحداها بتراب قد ارتفع هنا وذلك لجواز أكل ما صاده، وما جاز شرعًا ارتفع ضرره قدرًا، فالله جل وعلا لم يأمر بغسل ما صاده لعلمه جل وعلا انتفاء الضرر من لعابه، والله أعلم.
ومنها: الأصل تحريم الأكل من الميتة لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} ، لكن إذا اضطر الإنسان لها وأشرف على الهلاك ولا شيء عنده يستغني به عنها فإن الشريعة حينئذٍ تجيز له الأكل من هذه الميتة بقدر الضرورة، فإذا ثبت جواز الأكل منها شرعًا فإن ضرر الميتة يرتفع قدرًا فلذلك يأكل منها المضطر والدود يتهاوى منها ورائحتها منتنة ومع ذلك لا يتأثر - بإذن الله تعالى؛ لأنه أكلها في حالٍ يجوز له الأكل منها والجواز الشرعي رافع للضر القدري (1) .
(1) اج هذا الأمر إلى دليل فقد يقول قائل: إن ما فيها من المضرة منغمرة في جانب مصلحة حفظ النفس فهلاك النفس أعظم من ضررها لو كان محققاً فكيف وهو محتمل خاضع لمشيئة الله وقدره.
ومنها: الأصل تحريم النظر إلى النساء الأجنبيات، قال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ} وإنه ما حصل بلاء وفاحشة إلا وكان النظر أول بداياته، ولذلك سدت الشريعة باب الزنا بسد باب النظر إلى النساء، لكن أجازت للخاطب العازم الذي ظهرت منه بوادر الصدق قبل العقد أن ينظر إلى مخطوبته بعلمها أو بدون علمها؛ لأنه أحرى أن يؤدم بينهما، فهذه النظرة الشرعية لما ثبت جوازها فإننا نعرف أنه لا ضرر فيها، فهذه النظرة لا تثير من الشهوة ما يثيره النظر المحرم ولا يحصل منها المفاسد والطوام التي تحصل من النظر المحرم، ذلك لأنها جازت شرعًا وكل ما جاز شرعًا فإنه يرتفع ضرره قدرًا مع أن كليهما نظر لكن اقترنت المفاسد والبلايا بالأول لحرمته وارتفعت عن الثاني لشرعيته، وإن أردت مصداق كلامي فانظر ما يثيره النظر إلى الزوجة وما يثيره النظر إلى غيرها، فإننا لم نسمع أحدًا عاقلاً يقول نظرت إلى زوجتي فاشتهت نفسي الزنا أبدًا فإن ما يحدثه النظر إلى الزوجة في النفس لا يكون فيه أي مفسدة، بل هو قاتل للمفسدة، أما النظر إلى الأجنبية فإنه يثير شهوة الزنا والفجور والخلوة المحرمة ولذلك جعل النظر إلى الزوجة قاتل لما في النفس من شهوة النظر الحرام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله فإن ذلك يذهب عنه) فسبحان من وسعت حكمته كل شيء وهو العزيز الحكيم.
ومنها: أن الأصل تحريم الربا وهو أبواب كثيرة منها:
بيع الرطب على رؤوس النخل بتمرٍ كيلاً، وهو ما يسميه العلماء بالمزابنة فهو بيع تمر بتمرٍ مع جهل مقدار أحدهما فإن الرطب على رؤوس النخل لا يعلم مقداره يقينًا حتى وإن خرصناه خرصًا فإنما هو من باب التقريب والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاصل ولاشك أن مفاسد الربا ومضاره الدينية والدنيوية على الأفراد والمجتمعات من انهدام اقتصادها، ومحاربة لله ورسوله، ومحق بركة الأموال أمر معروف لدى الجميع، والمزابنة ثبت النهي عنها كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً وإن كان كرمًا بزبيبٍ كيلاً وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله) متفق عليه، وعن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اشتراء الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا يبس) . قالوا: نعم. فنهى عن ذلك) رواه الخمسة بسند صحيح، فالمزابنة نوع من أنواع الربا يثبت فيها من المفاسد والمضار الدينية والدنيوية ما يثبت فيه؛ لأنها نوع منه، لكن ثبتت الرخصة الشرعية بجواز العرايا كما في حديث زيد بن ثابت:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً) متفق عليه، ولمسلم:(رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسقٍ أو في خمسة أوسق) متفق عليه، فهذه العرايا هي نوع من المزابنة؛ لأن المزابنة بيع التمر على رؤوس النخيل بتمرٍ آخر، والعرايا بيع الرطب على رؤوس النخل بتمرٍ آخر، والمزانبة ربًا؛ لأننا لا نعلم مقدار التمر على رأس هذه النخلة، والعرايا كذلك، لكن ثبت الدليل بجواز العرايا لكن بشرطين: الأول: أن يحتاج أصحابها إلى
الرطب ليترفهوا به ولا يقدرون على شرائه، أما مع عدم الحاجة فلا تجوز. الثاني: أن تكون في خمسة أوسق فما دون لا فيما زاد على ذلك، فإذا توفر هذان الشرطان فإن العرايا حينئذٍ جائزة شرعًا، فإذا ثبت جوازها الشرعي فاعلم أن جميع مضار الربا الدينية والدنيوية عنها منتفية، فليست سببًا لانهدام الاقتصاد ولا لمحاربة الله ورسوله ولا للعن فاعلها ولا غير ذلك، فإن هذه المضار جميعها قد ارتفعت عن العرايا وذلك لثبوت جوازها شرعًا وما جاز شرعًا ارتفع ضرره قدرًا.
ومنها: لاشك أن قتل النفس المؤمنة من أعظم الذنوب بعد الشرك كما في آية الفرقان وحديث ابن مسعود: (أي الذنب أعظم
…
) الحديث. وأن في قتلها من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله، لكن لما جاز قتلها في القصاص وبعض الحدود فإن هذا الجواز يرفع هذا الضرر؛ لأن الجواز الشرعي ينافي الضرر القدري.
ومنها: أكل لحم البقر حلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ويكفيك قوله تعالى: {وَأحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، وقال تعالى:{وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أمْ الأُنثَيَيْنِ} قاله في معرض الإنكار على من يحرم شيئًا بلا دليل وينسب ذلك لله تعالى كذبًا وزورًا، والأضحية والهدي يجوزان من بهيمة الأنعام وهي الإبل والغنم والبقر والأصل في الحيوانات الحل والإباحة إلا بدليل، فإذا ثبت جواز أكل لحم البقر شرعًا فاعلم أنه لا ضرر فيها قدرًا، إذ لا يمكن أن يبيح الله تعالى لنا ما فيه ضرر علينا، ومن هنا تعلم ضعف ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم في قولهم عنه:(البقر لحمها داء ولبنها دواء) فإنه ضعيف جدًا، بل ما أقربه أن يكون موضوعًا وذلك لمصادمته لهذه النصوص ولأصول الشريعة، فإنه لو كان لحمها داء أي مرضاً فوالله الذي لا إله إلا هو لما كان يبيحه الله تعالى لنا، فكيف يقول جابر:(نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) وهو في مسلم، وهي داء ويسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بل الذي نقوله ونعتقده أن لحم البقر حلال طيب وأن هذا الحديث حديث فيه رائحة الوضع تشم من ثناياه.