الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة والثلاثون
33 - الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم لا إلى المقدر المظنون
وقولنا: (الحادث) أي الواقع حديثًا، وقولنا:(يضاف) أي يلحق وينسب (إلى السبب المعلوم) أي المتيقن أو الظاهر، وقولنا:(المقدر المظنون) أي الأمر المشكوك في سببيته.
ومعناها: أنه إذا وقع تنازع في سبب حكم ما من الأحكام أيًّا كان وأمكن إضافته إلى سببين أحدهما: معلوم ظاهر، والآخر مظنون مقدر أي مفترض ومحتمل، فإننا نضيف هذا الحكم إلى السبب الذي تيقنا وعلمنا سببيته، لا إلى ما لم نتيقن ثبوته وسببيته، ذلك لأن هذا السبب المعلوم متيقن الثبوت، والسبب المقدر المظنون مشكوك في ثبوته، واليقين لا يزول بالشك كما تقدم، والأدلة على هذه القاعدة المهمة هي جميع الأدلة الدالة على أن اليقين لا يزول بالشك، ومما يستدل به عليها نصًا هو حديث عدي بن حاتم في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك لنفسه، وإن رميت الصيد فوجدته بعد يومٍ أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل) والحديث مختصر، ووجه الاستشهاد منه هو أن الصيد الذي رماه بسهمٍ فذهب ثم وجده ميتًا وليس به إلا أثر سهمه فإن موته يحتمل أمرين: إما أن يكون بسبب رمية السهم وهي السبب المبيح، وإما أن يكون بسقوطه مثلاً أو بظمئه أو جوعه وهو السبب المحرم، فهنا سببان سبب معلوم ظاهر لنا وهو رمية السهم، وسبب مقدر مظنون وهو أن يكون مات بجوعٍ أو عطش وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكل مثل هذا الصيد، مما يدل على أنه أضاف موته للسبب المعلوم المتيقن ثبوته، وأبطل جميع الأسباب المحتملة.
وكذلك الصيد الذي وقع في الماء بعد صيده فإنه يحتمل أمرين، إما أن يكون مات بسبب رمية السهم، أو يكون مات بسبب سقوطه في الماء وهو سبب يقتل غالبًا أعني الغرق بالماء، فهنا سببان وكلاهما معلوم ظاهر، لكن كونه مات بسبب ارتطامه بالماء وغرقه فيه أظهر وأثبت؛ لأنه لم يجرحه السهم جرحًا موحياً: أي قاتلاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فلا تأكل) تغليبًا للسبب المحرم؛ لأنه أثبت، وقد يكون هذا الفرع يدخل تحت قاعدة اجتماع السبب المبيح والحاظر، فيغلب جانب الحاظر.
إذا عرفت هذا فإليك الفروع وهي كثيرة جدًا لكن نقتصر على بعضها طلبًا للاختصار:
فمنها: إذا وقعت في الماء نجاسة فتغيرت أحد أوصافه ثم غبنا عنه غيبة يزول فيها وصف النجاسة غالبًا ثم وجدناه بعدها لا يزال متغيرًا وتغيره هذا يحتمل أنه من النجاسة التي علمنا وقوعها فيه أولاً، ويحتمل أنه من سببٍ آخر، فعندنا إذًا سببان: أحدهما: معلوم متيقن وهو أن يكون تغيره بوقوع النجاسة فيه. والثاني: مقدر مظنون وهي احتمالية سبب آخر، وعلى القاعدة نضيف هذا التغير إلى السبب المعلوم لا إلى المقدر المظنون، فنقول: إن هذا الماء نجس بسبب تغيره بالنجاسة التي وقعت فيه، وقد أجمع العلماء أن الماء سواءً كان كثيرًا أو قليلاً إذا وقعت فيه نجاسة وتغيرت أحد أوصافه إما لونه أو طعمه أو ريحه أنه نجس، والله أعلم.
ومنها: إذا وجد الإنسان في ثوبه بللاً بعد نومةٍ، ولم يتحققه منيًا، وقد تقدم نومه مداعبة من قبلةٍ وضمٍ ونحوه، فإن هذه أسباب للمذي، فهذه البلة عندنا لها سببان: إما أن تضاف إلى هذه الأسباب المعلومة، وإما أن تضاف إلى أسباب أخرى مظنونة، وعلى نص القاعدة فإنها تضاف إلى السبب المعلوم، فنقول: إن هذه البلة مذي تأخذ حكمه من وجوب غسل جميع الذكر مع الأنثيين وغسل ما أصابه من الثوب والبدن إضافة لهذه البلة للسبب المعلوم التي هي أسباب للمذي (1) ، والله أعلم.
ومنها: من جرح الصيد جرحًا غير قاتل ثم وجده ميتًا وليس به إلا أثر سهمه فيحل الصيد إحالة للموت على السبب المعلوم، وهو هذا الجرح، وتقدمت قبل قليل.
ومنها: من جرح غيره جرحًا غير قاتل ولم يمت به، ثم مات بعد فترة فلموته سببان إما أن يكون بسبب سراية الجرح المعلوم وإما أن يكون بسببٍ محتملٍ مقدرٍ غيره، وعلى مقتضى هذه القاعدة يحال موته على السبب المعلوم وهو هذا الجرح فيوجب القصاص إن كان عمدًا عدوانًا أو الدية إن كان خطأً، أو شبه عمد، لكن ينبغي أن يقرر ذلك طبيب عالم مسلم أن الموت حصل بسبب سراية الجرح، والله أعلم.
ومنها: لو جرح المحرم الصيد جرحًا غير قاتل ثم بعد مدةٍ وجد الصيد ميتًا وليس به أثر جرحٍ آخر، فعندنا لموته سببان: أحدهما: معلوم وهو الجرح الأول. والآخر: مظنون مقدر وهو أن يكون مات بسببٍ آخر، والقاعدة تقضي إضافة الحكم إلى سببه المعلوم، فنقول: إن الظاهر أن الصيد لم يمت إلا بسبب جرح المحرم له فعلى المحرم جزاؤه وهو المثل وهذا هو الصحيح من المذهب.
(1) أو نضح ما أصابه من الثوب على الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.
ومنها: قاعدة: من وجب عليه حق لغيره وامتنع من أدائه جاز لصاحب الحق الأخذ منه إن كان سبب الحق ظاهرًا، كالضيف إذا امتنع أهل البلد من ضيافته فإنه يجوز له الأخذ منهم بقدر ضيافته يومًا وليلة ولو بلا إذنهم ويحال هذا الأخذ إلى السبب الظاهر وهو الضيافة فإنه في أخذه لا ينسب إلى خيانة، وكذلك المرأة يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها بالمعروف إذا امتنع من نفقتها أو لم يعطها ما يكفيها ويحال هذا الأخذ إلى الزوجية بينهما وهو سبب ظاهر يعرفه الناس ففي هاتين الصورتين حصل فيه أخذ الحق من صاحبه وهذا الأخذ له سببان: أحدهما: معلوم ظاهر وهو الضيافة في الأولى والزوجية في الصورة الثانية. والثاني: أسباب أخرى كالسرقة والخيانة ونحوها وهي أسباب مظنونة، والقاعدة تقضي إحالة الحكم إلى سببه المعلوم، فنقول: إن الأخذ في الأولى سببه الضيافة والثانية الزوجية وعلى هذا فقس.
ومنها: مسائل القسامة: وهي أيمان مغلظة في دعوى قتل معصوم ودليلها قصة عبد الله بن سهل أنه خرج وهو وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة إلى خيبر فوجد عبد الله بن سهل مقتولاً بين النخيل فاتُهمَ اليهود بقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لأولياء المقتول تحلفوا خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم) . قالوا: كيف نحلف ونحن لم نر ولم نسمع. قال: (تبرئكم يهود بخمسين يمينًا) . قالوا: وكيف نقبل أيمان قومٍ كفار، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد قتيل بين قومٍ ومنهم من هو عدوًّ له وهذه العداوة ظاهرة معلومة فإننا نحيل هذا القتل إلى هذا السبب والقرينة القوية، بتأييد خمسين يمينًا من أولياء المقتول وهي موافقة لأصول الشريعة كما ذكره ابن القيم في الإعلام. هذا وقد يكون هذا المقتول قد مات بسببٍ آخر لكنها أسباب مظنونة مقدرة والسبب القوي هو هذه العداوة بينه وبين أفراد هذه القبيلة التي وجد مقتولاً بينهم فأحيل الحكم عليه
ومنها: إذا قال السيد إن مت في مرضي هذا فسالم حر وإن لم أمت فيه فغانم حر ثم مات السيد ولا نعلم هل مات بسبب هذا المرض أو بسببٍ آخر، فالقاعدة تقضي أن يحال هذا الموت على السبب المعلوم وهو المرض مع أنه يحتمل أنه مات بغيره لكنها احتمالات مظنونة مقدرة فلا نشتغل بها، بل نقول: إن سالمًا حر إحالة للموت على سببه المعلوم وهو المرض.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فإن الزوجية سبب معلوم ظاهر بين الزوجين، فالأولاد بين الزوجين ينسبون للزوج إحالة لهم على السبب المعلوم الظاهر.
ومنها: إذا ادعت المرأة أن زوجها لا ينفق عليها وقد مكثت عنده عدة سنوات، فإنه من الأكيد أنها في هذه الفترة لابد أن تأكل وتشرب وتكتسي فلا يخلو هذا إما أن يكون من الزوج وإما من غيره لكن السبب المعلوم عندنا هو أن يكون طعامها وشرابها وكسوتها في هذه الفترة من زوجها؛ ولأن الأصل عدم نفقة غيره عليها فأحلنا هذا لحكم لسببه الظاهر وأسقطنا دعواها (1) ؛ لأن القاعدة تقضي بإحالة الحكم على سببه الظاهر.
ومنها: لو أصدق رجل امرأة تعليم سورة البقرة ثم ادعت عليه أنه لم يقم بذلك ووجدناها بعد الدعوى تحفظها، فإن هذا الحفظ يحتمل أن يكون من سببين إما أن يكون بتعليمه وتحفيظه لها سورة البقرة وهذا هو السبب المعلوم، وإما أن يكون هي حفظتها من نفسها أو بسببٍ آخر، والقاعدة تقضي أن يكون هو الذي علمها وأن دعواها ساقطة وأن ذمته بريئة وذلك إحالة للحكم على السبب المعلوم (2) ، والله أعلم.
ومنها: لو تزوج الإنسان بكرًا ثم بعد مدةٍ ادعت أنه عنين وكذبها في دعواها، وكشفت القابلة عليها فوجدتها ثيبًا وادعت أن ثيوبتها من سببٍ آخر كسقوطٍ أو إدخال إصبع ونحوه فإن عندنا لثبوتها سببين: أحدهما معلوم وهو أن يكون زوجها هو الذي فضها ويحتمل أن تكون بسببٍ آخر، لكن القاعدة تقضي إحالة هذه الثيوبة إلى الزوج؛ لأنه السبب المعلوم، وما سواه من الأسباب فمقدر مظنون فلا عبرة به، وبالتالي فدعواها باطلة لوجود ما يناقضها.
وبهذا ينتهي الكلام على هذه القاعدة المفيدة جدًا لطالب العلم، ولعل فيما ذكر من الفروع والتخريج كفاية - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلى وأعلم.
(1) لعله الأوجه وجعلنا القول قول الزوج.
(2)
وأن القول قول الزوج.