المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌40 - إدراك العبادات التي تفوت بغير بدل أولى من إدراك ما يفوت إلى بدل - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٢

[وليد السعيدان]

الفصل: ‌40 - إدراك العبادات التي تفوت بغير بدل أولى من إدراك ما يفوت إلى بدل

؛ لأن المقصود هو الزيادة والسلعة جعلت بينهما من باب الحيلة، وبعضهم أجازها وإن حصل اتفاق بينهما ولكن بلا إلزام في إمضاء البيع، وعلى كل حالٍ فمسألة التورق الجائزة فيها توسعة على الناس لكن ينبغي أن تكون الزيادة مناسبة للأجل طولاً وقصرًا حتى لا يتضرر أحدهما. أما من شبهها بالعينة فقد أخطأ؛ لأن البائع الأول في العينة هو المشتري بأقل، وأما في مسألة التورق فالبائع الأول انتهت علاقته بالمشتري بعد نقل السلعة إلى حيازته بما هو متعارف عليه بين التجار ثم يتصرف المشتري فيها بما شاء، فإن شاء إمساكها فله ذلك، وإن شاء بيعها فله ذلك، وبيعها والانتفاع بثمنها هو مسألة التورق، والمضطر للبيع والشراء إذا لم يجد أحدًا يشتري منه أو يبيعه لاضطراره لازداد اضطراره، والمقصود أن مسألة التورق ليست من الحيل المحرمة، بل هي الطريق السليم لمن احتاج إلى المال ولم يجد من يقرضه قرضًا حسنًا، والله تعالى أعلم.

القاعدة الأربعون

‌40 - إدراك العبادات التي تفوت بغير بدل أولى من إدراك ما يفوت إلى بدل

وهي من قواعد أبي العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهي تنفع طالب الفقه جدًا في حال تعارض العبادات.

فأقول: اعلم - رحمك الله تعالى - إن العبادات إذا فاتت لا تخلو من حالتين:

ص: 67

إما أن تفوت إلى بدلٍ، وإما أن تفوت إلى غير بدل، والأصل عدم البدل إلا بدليل صحيح، فإذا تعارضت عبادتان لا يمكن الجمع بينهما بل يلزم من فعل إحداهما تفويت الأخرى، فننظر أوجه التفاضل بينهما، ومن ذلك عظم المصلحة وقلتها، فإذا كان مصلحة إحدى العبادتين أكبر من الأخرى فنقدم الأولى، ومن ذلك ما يكون له بدل مما لا بدل له فنقدم العبادة التي لا بدل لها على التي لها بدل، وهذا هو نص القاعدة، وهو مقتضى الفقه، ويدل على ذلك أن ما يفوت إلى بدل لا تفوت مصلحته، أعني إن فاتت مصلحة أصله فإنه يحل محلها مصلحة بدله، فهو متردد بين المصلحتين إن فاتت إحداهما حلت الأخرى محلها، وأما ما يفوت إلى غير بدل فإن مصلحته تفوت بفواته وليس لها بدل يقوم مقامها، فالقول بتقديمها فيه جمع بين المصلحتين بين مصلحة العبادة التي تفوت إلى غير بدل وبين مصلحة العبادة التي تفوت إلى بدل، إما أن يدركها هي بعينها أو يدرك بدلها، فلاشك أن إدراك ما يفوت أصلاً بلا عوض عنه أولى من الحرص على ما يفوت إلى بدل، هذا من ناحية التنظير والتدليل، أما من ناحية التفريع فهي كثيرة ومن ذلك إذا تعارضت قراءة القرآن مع إجابة المؤذن إذا أذن المؤذن وهو يقرأ القرآن فهل يستمر في القراءة أم يقطعها ويردد وراء الآذان؟

الجواب: أن قراءة القرآن إن فاتت فإنها تفوت إلى بدل وهو أن يقرأ بعد الأذان فهي لا تفوت، وأما إجابة المؤذن فإنه إن فات فإنه يفوت إلى غير بدل فحينئذٍ فتقديم عبادة الترديد وراء المؤذن أولى من قراءة القرآن؛ لأن العبادة التي تفوت إلى غير بدل أولى بالتقديم.

ومنها: صلاة المتطهر بالماء إذا عدمه وكان حاقنًا هل تقدم على عبادة الخشوع وحضور القلب؟ أم يذهب الإنسان ويحدث ويتيمم ويصلي بالتيمم؟

ص: 68

الجواب: أن الطهارة المائية إذا فاتت فإنها تفوت إلى بدل وهو الطهارة الترابية، أما الصلاة حاقنًا فإنها مَذْهَبةٌ للخشوع وحضور القلب، وعبادة الخشوع وحضور القلب لا بدل لها، إذ لا بدل يقوم مقام الخشوع، فعلى هذا فنقول: يحدث ويتيمم ويصلي؛ لأن إدراك الخشوع الذي لا بدل له أولى من إدراك الطهارة المائية التي لها بدل.

ومنها: من المعلوم أن السنة صلاة النافلة في البيت لحديث زيد بن ثابت مرفوعًا: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) وحديث ابن عمر في الصحيحين قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح) وفي رواية: (ركعتين بعد الجمعة في بيته) فالقاعدة المتقررة أن صلاة النافلة في البيت أفضل، لكن إذا كان في صلاتها في البيت تفويت للصف الأول فحينئذٍ ننظر، فإن صلاة النافلة إذا فاتت في البيت فإنها تدرك في المسجد فهي تفوت إلى بدل وأما الصف الأول فإنه إذا فات لا يدرك أي إلى لا بدل له فعلى هذا فيصلي من خشي فوات الصف الأول في المسجد تفاديًا من فوات ما لا بدل له.

ومنها: الآفاقي الذي قدم مكة هل الأفضل له كثرة الصلاة أو

الطواف؟

الجواب: إن الصلاة إذا فاتت فإنها تفوت إلى بدل لتمكنه من الصلاة في بلاده بعد رجوعه ولا يشترط لصحتها أن تكون في المسجد الحرام فهي تفوت إلى بدل وأما الطواف بالبيت فإنه لا يمكنه ذلك إلا في البيت الحرام فقط فلا طواف إلا بالبيت فإذا فوت الطواف فإنه لا يعوض ببدلٍ عنه وعلى هذا الاستكثار من الطواف بالبيت للآفاقي أفضل من الاستكثار من الصلاة نفلاً؛ لأن الصلاة تفوت إلى بدل والطواف يفوت إلى غير بدل.

ومنها: لو تعارض الطواف وصلاة التراويح للمقيم بمكة إما لأهلها أو لمن نوى الإقامة المطلقة عندهم، فهل الأفضل صلاة التراويح أو الطواف؟

ص: 69

الجواب: صلاة التراويح أفضل؛ لأنها إن فاتت في رمضان فإنه لا يدركها في غيره وأما الطواف فإنه إذا فات فإنه يفوت إلى بدل وهو إمكانية الطواف في وقتٍ آخر؛ لأنه مقيم بمكة، وهذا الفرع عكس الفرع الذي قبله.

ومنها: الصائم إذا لم يتقو على إنقاذ المعصوم من الهلكة إلا بإفساد الصوم فهل الأفضل إتمامه أم إنقاذ المعصوم؟

الجواب: إن الصوم إذا أفسده فإنه له بدل وهو القضاء فيقضي عدةً من أيامٍ أخر وأما النفس المعصومة إذا فاتت فإنها تفوت إلى غير بدل، فتقديم مصلحة حفظ النفس ومراعاتها أولى من مراعاة حرمة الصوم لأن الأولى لا بدل لها والأخرى لها بدل.

ومنها: جواز الانتقال إلى التيمم في شدة البرد الذي يخاف منه على النفس أو الطرف، ذلك لأن النفس أو الطرف لا بدل له، وأما الطهارة بالماء فلها بدل وهو التيمم بل هذا الفرع عام فالإنسان يجوز له الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء حقيقة أو حكمًا، أما عدمه حقيقة فبأن لا يجده أصلاً، وأما عدمه حكمًا فكالمريض الذي يزيده استعمال الماء في مرضه أو يؤخر برؤه، وكالمرأة التي لا تجد طريقًا إلى الماء إلا بالمرور على فساقٍ تخاف منهم على عرضها فإن العرض إذا انتهك فلا بدل له.

وعلى ذلك فقس، والله أعلى وأعلم.

ص: 70