المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌32 - التابع في الوجود تابع في الحكم إلا بدليل - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٢

[وليد السعيدان]

الفصل: ‌32 - التابع في الوجود تابع في الحكم إلا بدليل

القاعدة الثانية والثلاثون

‌32 - التابع في الوجود تابع في الحكم إلا بدليل

أي لا يفرد بحكم عن متبوعه، بل حكمه هو حكم متبوعه إلا بدليل، فالأشياء التي استقرت العادة العرفية المطردة أنها تكون تابعة لأشياء فإنها تدخل معها في بيعها وشرائها ولا تفرد عنها بحكم، بل لا ينظر إلى التابع بعين الإنفراد أبدًا، وإنما ينظر إليه تبعًا لمتبوعه، فالذي يتبع غيره في وجوده فإنه يتبعه في حكمه، سواءً كانت هذه المتابعة بأصل الخلقة أو بالاستقرار العرفي، ويعبر عنها بعض الفقهاء بقوله: التابع تابع، والمذكور في الأعلى إنما هو شرح لها وتوضيح لمعناها.

وقولنا: (التابع في الوجود) هذه المتابعة نوعان: إما بأصل الخلقة أي أن الله تعالى خلق هذا الشيء تابعًا لهذا الشيء، فلا يوجد إلا بوجوده، وإما أن تكون عرفية عرفًا مطردًا أي أن العرف يقرر متابعة هذا الشيء لهذا الشيء، وفي كلتا الحالتين يكون التابع في الوجود تابعًا في الحكم إلا أن يدل الدليل الشرعي أو العرفي بفصل بعضها عن بعض، ولكي تتضح هذه القاعدة أضرب بعض الفروع عليها، وإن رأيت في بعضها نقاشًا فإنما المقصود مطلق التفريع ليتدرب الطالب على تخريج الفروع على الأصول:

فأقول: منها: أطفال المؤمنين، أجمع العلماء إلا من شذ أنهم مع آبائهم في الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم قال:(في الجنة مع آبائهم) ، ذلك لأنهم تبع لآبائهم في الوجود فيتبعونهم في الحكم لأن التابع في الوجود تابع في الحكم، ولعل قائل أن يقول: ذلك يقتضي أن أطفال المشركين مع آبائهم في النار؟ قلنا: نعم، قاعدتنا تقتضي ذلك، وقال به بعض أهل العلم، لكن هذا لا يلزمنا؛ لأننا قلنا في نص القاعدة (إلا بدليل) فإذا وجد عندنا دليل يفك هذا التلازم فإننا نعمل به، وقد وجد عندنا دليل يفك هذا التلازم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم:(الله أعلم بما كانوا عاملين) وفي الحديث الآخر الصحيح (1)

(1) لعله الحسن لغيره.

ص: 18

أثبت أنهم: (يمتحنون في عرصات يوم القيامة) ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم يمتحنون في الآخرة والله أعلم بما كانوا عاملين، وهو القول الذي توجهه الأدلة وتدل عليه وبالتالي فلا تجري عليه قاعدتنا لوجود الدليل الذي يفصل بين أولاد المشركين وآبائهم أي قد وجد الدليل الفاصل بين التابع ومتبوعه.

ومنها: أن الولد ذكرًا كان أو أنثى يتبع في الرق والحرية والإسلام والكفر والنسب أبويه، فيتبع في الرق أمه، ويتبع في النسب أباه، ويتبع في الإسلام من أسلم من أبويه؛ لأنه تابع لهما، والتابع في الوجود تابع في الحكم.

ومنها: اللقيط: إذا وجد في بلادٍ إسلامية، أو يغلب فيها المسلمون فإنه يحكم بإسلامه؛ لأنه تابع لأهلها في الوجود إذ هو موجود بينهم فيكون تابعًا لهم في الحكم وهو الإسلام، وكذلك إذا وجد في ديار كفارٍ ليس فيها مسلم فإنه يحكم بكفره؛ لأنه تابع لهم في الوجود، والتابع في الوجود تابع في الحكم.

ومنها: الحمل في البطن: إن بيعت أمه دخل معها في البيع تبعًا مع وجود الجهالة لكنه لا يفرد بثمن خاص، ذلك لأنه مجهول والمجهول لا يصح بيعه؛ لأنه من الغرر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، لكن لما بيعت أمه فإنه يدخل معها تبعًا مع أنه لو أفرد بالبيع لم يصح لأنه تابع لها في الوجود فيكون تابعًا لها في الحكم.

ومنها: إذا بيع القفل فإنه يدخل معه مفتاحه في البيع تبعًا له؛ لأن المفتاح تابع للقفل في الوجود، والتابع في الوجود تابع في الحكم.

ومنها: إذا بيعت الدار فإنه يدخل في بيعها ما كان من ضروراتها كالجدران والسقف والأرض وما كان متصلاً بها لمصلحتها كالأبواب والنوافذ والسلم والخابية المدفونة؛ لأن هذه الأشياء تتبع الدار في الوجود، والتابع في الوجود تابع في الحكم، وتغتفر الجهالة في أساساتها وحيطانها؛ لأنها تابعة للدار في الوجود فتتبعها في الحكم.

ص: 19

ومنها: جلد الحيوان يتبع حكم الحيوان نفسه، فإن كان الحيوان طاهرًا فإن الجلد طاهر، وإن كان نجسًا فهو نجس؛ لأنه تابع، بل هو تابع للحيوان في الحكم حيًا أو ميتًا، فبهيمة الأنعام طاهرة في الحياة ويحلها الذكاة فجلدها طاهر، والحمار الأهلي نجس فكذلك جلده نجس وإذا ماتت بهيمة الأنعام حتف أنفها أي بلا ذكاة شرعية فإنها تكون نجسة وجلدها كذلك ينجس تبعًا لها، ذلك لأن الجلد تابع للحيوان في الوجود فيكون تابعًا له في الحكم، ولا يشكل على ذلك طهارة الجلد بالدبغ من الحيوان الطاهر في الحياة (1) ؛ لأن طهارته دل عليها الدليل، وكذلك الآدمي طاهر في الحياة فجلده كذلك طاهر، وطاهر بعد الموت على القول الصحيح، فكذلك جلده طاهر تبعًا له، لأن التابع في الوجود تابع في الحكم.

ومنها: إذا ضحى الإنسان عنه وعن أهل بيته أجزأ عن الجميع على القول الصحيح، أما هو فلأنه الأصل، وأما هم فلأنهم تبع له في الوجود فيتبعونه في الإجزاء (2) .

ومنها: قال الفقهاء: (إذا برئ الأصيل برئ الضامن) والمراد بالأصيل صاحب الدين، والضامن من ضمن الدين الذي في ذمته، فإذا سدد الأصيل وبرئت ذمته فإنه تبعًا تبرأ ذمة الضامن؛ لأن الضامن تابع للأصيل في التحمل، فإذا برئت ذمة الأصل برئت ذمة الفرع، ويدخل هذا الفرع تحت قاعدة أخرى وهي قولهم:(إذا سقط الأصل سقط الفرع إلا بدليل) .

(1) بل من الحيوان الذي تحله الذكاة حتى تخرج الهرة ونحوها.

(2)

والمراد أنهم يشتركون في الثواب لا أنهم يلزمهم ما يلزم المضحي على الصحيح.

ص: 20

ومنها: إن حق النفقة الزوجية والسكنى والمعاشرة الحسنة وحق المبيت والطاعة، كل هذه تتبع عقد الزواج في الوجود، فإذا وجد وجدت، ولا يحتاج إلى النص عليها إلا إذا كان في شيءٍ زائدٍ على العرف فلا يلزم المرأة أن تشترط النفقة ولا السكنى ولا المعاشرة الحسنة، ولا يلزم الزوج أن يطأها ولا أن تطيعه إلا فيما كان عرفا (1) ؛ لأن ذلك كله يثبت بمجرد العقد، ويحدده العرف فإذا وجد العقد وجدت هذه الأشياء، وإذا انفسخ بخلعٍ أو طلاق سقطت هذه الأشياء فلا يحتاج إلى التنصيص عليها في العقد، والله أعلم

ومنها: من اشترى أرضًا دخل في الشراء غراسها وبناؤها وحشيشها وما فيها من الآبار؛ لأنها تابعة للأرض في الوجود، والتابع في الوجود تابع في الحكم إلا بدليل.

ومنها: الحائض والنفساء لا تصلي بالدليل الصحيح والإجماع، فالصلاة المفروضة قد سقطت عن الحائض والنفساء، فتسقط نوافلها تبعًا لسقوطها؛ لأن النافلة شرعت لإتمام نقص الفرائض، فإذا سقطت الفرائض أصلاً فتسقط النوافل تبعًا؛ لأن النافلة تتبع الفريضة في الوجود فتتبعها في الحكم، وقد حكمنا على الفرائض بالسقوط فكذلك نعدي الحكم على نوافلها وهذا واضح جلي.

ومنها: إذا توضأ الإنسان عن حدثٍ أصغر فإنه يرتفع الحدث عن هذه الأعضاء الأربعة؛ لأنها مغسولة، ويرتفع الحدث عن بقية البدن تبعًا لارتفاع الحدث عن هذه الأعضاء الأربعة، وهذا من باب التفريع فقط، وإلا ففيه نقاش عريض.

(1) بقدره وبسعته وبطاقته.

ص: 21

ومنها: المأموم تابع لإمامه في الصلاة فإذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه لكن لو سها المأموم فإنه لا يفرد بحكم بل يتحمله الإمام، وكذلك لا يجوز للمأموم أن يسابق الإمام أو يوافقه في أفعال الصلاة وإنما الواجب المتابعة؛ لأنه تابع له، ولو مَرَّت امرأة أو كلب أسود أو حمار بين يدي الإمام بطلت صلاته وصلاة من خلفه وإن مرت بين يدي المأمومين لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم تبع للإمام، ولذلك قضت السنة أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وأن الإمام جُنَّة للمأمومين وكل ذلك مفرع على قاعدة التابع في الوجود تابع في الحكم فإن قلت: فما الحكم لو صلى الإمام محدثًا ولا يعلم به المأموم فهل تبطل صلاتهم أعني صلاة المأمومين؛ لأنهم تبع له أم لا؟ وإذا كان الجواب لا؟ فما الذي فصل التابع عن متبوعه في هذه الحالة؟

فالجواب: فيه خلاف بين العلماء، والمذهب أن من صلى محدثًا فإن صلاته تبطل وكذلك صلاة من خلفه تبطل؛ لأنهم تبع له ولأن كل من لم تصح صلاته في نفسه لم تصح بغيره، والمحدث لا تصح صلاته لنفسه فلم تصح بغيره، وهذه هي الرواية المشهورة.

والرواية الثانية: أن صلاة المأموم تصح إن لم يعلم بحدث إمامه وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الله تعالى لم يكلف المأموم أن يتأكد من طهارة إمامه؛ ولأن عمر رضي الله عنه صلى بأصحابه الفجر ثم رأى أثر جنابة فأعاد هو ولم يأمر أحدًا بالإعادة، وكذلك يروى هذا عن عليٍ رضي الله عنه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة:(يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) وهذا القول هو الذي لا يسع الناس العمل بغيره، وأما وجه الفصل بين التابع ومتبوعه على هذا القول فهو ما مرَّ من الأدلة، والله أعلم.

ص: 22

ومنها: البيعة لولي الأمر تتم بأمور كثيرة، منها أن يبايعه الناس ويكفي مبايعة أهل الحل والعقد له، ذلك لأن هؤلاء هم الأصل والبقية تبع لهم، ولا يلزم كل واحدٍ منا مبايعة ولي الأمر حتى تكون في عنقه بيعه، بل البيعة تثبت في عنق كل واحدٍ من الناس بمجرد مبايعة أهل الحل والعقد، فالناس تبع لأهل الحل والعقد في الدرجة فيكونون تابعين لهم في الحكم، فمن بايعه أهل الحل والعقد فكأننا بايعناه نحن، ومن فسخوا بيعته فقد فسخناها نحن، فإن بعض الجهال قد يقول: إنه ليس لولي الأمر في عنقي بيعة فإني لم أضع يدي في يده وأبايعه.

فنقول: لا بل في عنقك بيعة؛ لأن أهل الحل والعقد في بلادك بايعوه وأنت تبع لهم في الدرجة فتتبعهم في الحكم، والله أعلم.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) وهو عند الترمذي والدارقطني وابن حبان فإذا ذكيت أمه ذكاة شرعية وخرج ميتًا فهو حلال؛ لأن ذكاتها قامت مقام ذكاته؛ لأنه يتبعها في الوجود فيكون تابعًا لها في الحكم، والله أعلم.

ومنها: نماء العين المرهونة، فإنه يكون رهنًا تبعًا للعين؛ لأنه تابع لها في الوجود فيتبعها في الحكم.

ومنها: السجود على الأعضاء السبعة إنما هو تبع للسجود على الوجه، فالوجه هو أس الأعضاء ورأسها فإذا لم يستطع الإنسان السجود عليه لعذرٍ ما سقطت المطالبة بالسجود على بقية الأعضاء؛ لأنها تتبعه في السجود فتتبعه في الحكم (1) ، والله أعلم.

ولعل هذه الفروع فيها كفاية وغنية عن ذكر باقيها، وأحسب أن القاعدة بذلك قد اتضحت وضوحًا لا التباس فيه، وعلى ذلك فقس.

(1) لعل الأرجح السجود على بقية الأعضاء، ولقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " ونحوه من الأدلة.

ص: 23