المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌35 - يجوز التطوع بجنس الفرض الفائت قبل أدائه إن أمكن فعله في وقته - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٢

[وليد السعيدان]

الفصل: ‌35 - يجوز التطوع بجنس الفرض الفائت قبل أدائه إن أمكن فعله في وقته

ومنها: تفاضل العبادات بحسب الأشخاص، فمن الناس من يكون الجهاد أفضل في حقه، ومنهم من يكون طلب العلم أفضل في حقه،ومنهم من يكون الاشتغال بالذكر أفضل في حقه، فإياك أن تفتي الناس بتفاضل العبادة بذاتها، وإنما بما هو أصلح لكل أحد بحسبه وعلى ذلك يحمل اختلاف الأحاديث في الذين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:(أي العمل أفضل) .

ومنها: من المعلوم أن صلاة الجنازة لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل وهو قيراط مثل جبل أحد كما في الحديث، وترك الصلاة عليها أمر مفضول وتضييع لهذا القيراط، لكن إن اقترنت بالترك مصلحة شرعية فإنه يكون فاضلاً وذلك ككون الميت مدينًا أو غالاً أو مبتدعًا أو مصرًا على كبيرةٍ من الذنوب فإن امتناع الأمراء والوجهاء وأهل الدين والصلاح من العلماء والعباد وغيرهم، امتناعهم من الصلاة عليه زجرًا للناس عن فعله، وردعًا لهم عن مواقعة جرمه أمر فيه غاية المصلحة، فيكون فاضلاً لاقتران هذه المصلحة، وعلى ذلك يخرج امتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال وعلى قاتل نفسه وعلى من عليه دين وذلك كله مراعاة للمصلحة. وعلى هذه الفروع قس.

وخلاصة الكلام هو أن العبادات تتفاضل باعتبارين، باعتبار ذاتها، وباعتبار المصلحة المتعلقة بها، والذي ينبغي للطالب هو مراقبة هذه المصلحة والحكم بالفضيلة باعتبارها كما مرَّ في هذه الفروع، والله وأعلم.

القاعدة الخامسة والثلاثون

‌35 - يجوز التطوع بجنس الفرض الفائت قبل أدائه إن أمكن فعله في وقته

أقول: اعلم - رحمك الله تعالى - أن الواجب باعتبار وقته نوعان:

واجب موسع، وواجب مضيق: والواجب الموسع هو ما يتسع لفعله ولفعل غيره من جنسه كوقت الصلاة فإنه طويل يسع الصلاة نفسها ويسع صلوات غيرها إما نوافل وإما فرائض فائته، فكل وقتٍ يتسع لأداء ما وجب فيه ويتسع لفعل غيره من جنسه فهو الوقت الموسع.

ص: 39

وأما المضيق فهو الذي لا يتسع لغيره من جنسه كشهر رمضان فإنه لا يتسع إلا لفعله فقط فلا يتسع للتطوع بالصيام أو قضاء رمضان آخر أو فعل صيام منذور مثلاً، بل لا يتسع إلا لصيامه فقط وهذا هو القول الصحيح خلافًا للحنفية الذين يقولون: من جاز له الفطر فيجوز له صيام غير رمضان في يوم الجواز،فهذا قول كأنه مجانب للأدلة – رحم الله من قاله وغفر له – والمقصود: أن تعرف الفرق بين الواجب الموسع والواجب المضيق إذا علم هذا فليعلم أن من وجب عليه شيء من العبادات أو الحقوق المالية فهل يجوز له أن يتطوع بجنس هذه العبادة أو جنس ذلك الحق قبل أداء الفريضة أو لا يجوز؟

هذا هو ما تفيده القاعدة التي نحن بصدد شرحها، وبعبارة أدق نقول: إذا دخل وقت الصلاة مثلاً فإنها تجب بدخول وقتها، فهل يجوز للإنسان أن يتنفل في هذا الوقت قبل أداء الواجب عليه أم لا؟ كذلك إذا وجبت عليه الزكاة، فهل يجوز له أن يتصدق قبل أداء الزكاة أم لا؟ هذا

هو نص القاعدة.

والجواب أن يقال: إن الحقوق والفروض نوعان: حقوق لله تعالى، وحقوق للآدميين، فأما الأول: فإنه إذا وجب عليك فرض فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون وقته موسعًا وإما مضيقًا، فإن كان وقته موسعًا فإنه يجوز لك التطوع بجنسه قبل أدائه على القول الصحيح، وأما إن كان مضيقًا فلا يجوز لك ذلك، بل الواجب عليك أن تؤدي الفرض أولاً ثم إن شئت التطوع بجنسه فلك ذلك، وعلى ذلك فروع:

منها: يجوز للإنسان أن يتطوع بالصلاة بعد دخول وقت الفرض بما شاء من التطوعات؛ لأن وقت الفرض وقت موسع، لكن إذا تضايق الوقت بحيث لم يعد يتسع إلا لإيقاع الصلاة المفروضة فقط فإنه لا يجوز حينئذٍ التطوع بالصلاة، بل يجب أداء الفرض؛ لأن الوقت أصبح مضيقًا.

ص: 40

ومنها: من فاتته أيام من رمضان وجب عليه قضاؤها، ووقت القضاء وقت موسع يبدأ من انتهاء رمضان إلى رمضان الآخر، فيجوز حينئذٍ أن يتطوع الإنسان بالصوم قبل قضاء هذه الأيام، فله أن يصوم الاثنين والخميس والأيام البيض ويوم عرفة وعاشوراء ونحوه مما يستحب صيامه، ذلك لأن وقت القضاء وقت موسع، لكن إذا لم يبق على رمضان الآخر إلا بقدر الأيام الفائتة فإنه حينئذٍ لا يجوز له التطوع بالصوم أبدًا، بل الواجب أداء الواجب عليه ذلك؛ لأن الوقت صار وقتًا مضيقًا (1) .

ومنها: من حج تطوعًا أو عن نذرٍ أو عن غيره قبل حجة الإسلام فإنه ينقلب ما نواه إلى نية حجة الإسلام، وذلك لأن وقت الحج وقت مضيق، وقد دل الدليل على وجوب البدء بالحج عن النفس أي حجة الإسلام كما في حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: (ومن شبرمة) ؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: (أحججت عن نفسك) ؟ قال: لا. قال: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ؛ ولأنه لا يتكرر في العام إلا مرة فوجب تقديم حجة الإسلام؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له وهذا هو جادة المذهب.

ومنها: من وجبت الزكاة في ماله، فهل له أن يتصدق قبل إخراجها؟

الجواب: فيه خلاف بين العلماء والراجح والله أعلم جواز ذلك، وقد نص عليه الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – ولكن إذا كان في ماله سعة، أما إذا لم يكن عنده إلا هذا النصاب الزكوي فقط فإن الصدقة منه لا تجوز بما ينقصه لتعلق حق الفقراء به.

(1) لماذا لم تشر إلى القول الآخر في المسألة لكثرة من قال به من أهل العلم ثم ترجح ما تراه كما فعلت في الزكاة.

ص: 41

فهذا بالنسبة للعبادات، وأما بالنسبة للتصرفات المالية وهي الحقوق التي بين العباد فإن مبناها على المشاحة لا المسامحة، فمن وجب في ماله حق لغيره وطالب به هذا الغير فهل يجوز له أن يتصرف في ماله قبل أداء هذا الحق؟ الجواب: فيه خلاف بين العلماء، ومذهب الأصحاب الجواز إذا لم يكن حجر عليه، وإن استغرق ماله كله، ولكن اختار الشيخ تقي الدين أنه لا ينفد شيء من ذلك مع مطالبة الغرماء بحقوقهم، وحكاه قولاً في المذهب وهو الراجح - إن شاء الله تعالى -، ذلك لأن الغرماء لما طالبوه تعلق حقهم بماله، وفي حديث جابر قال: أعتق رجل منا عبدًا له عن دبر ليس له مال غيره فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم (فباعه) متفق عليه، وهذا القول هو الموافق للعدل، فإنه لو جاز تصرفه في ماله مع المطالبة لأدى ذلك إلى تفويت حق الغرماء وإلى خداعهم في إخراج ماله لمن اتفق معه على أنه صدقة، أو وقف ونحوه فإذا هدأت المطالبة رده عليه، فالقول الراجح هو أن من تعلق بماله حق لغيره فإنه لا يجوز له أن يتصرف في ماله بقدر هذا الحق، وأما ما زاد على قدر الحق فله التصرف فيه؛ لأنه لم تتعلق به حقوق للغير، وبناءً على هذا القول فإنه لا يصح وقف ما تعلق به حق للغير ولا بيعه ولا هبته ولا الصدقة به، وهذا مع مطالبة الغير بذلك وهذا القول هو الذي لا يسع الناس غيره خصوصًا في هذا الزمن الذي كثرت فيه المماطلات والكذب - والعياذ بالله تعالى -، والله تعالى أعلم.

ص: 42

مسألة: بحث العلماء في حكم تصدق الرجل بماله كله هل يجوز

أم لا؟ واختلفوا في ذلك والراجح التفصيل في ذلك، فإن كان هذا المال قد تعلق به حق للغير فإن التصدق به كله أو بما تعلق به الحق أي بقدر الحق لا يجوز أن يتصدق به، وإن لم يكن قد تعلق بماله أي نوع من أنواع الحقوق فلا يخلو إما أن يغلب على ظنه قوة نفسه ألا يسأل الناس ويتكففهم ثقة بما عند الله تعالى من الفضل فإنه يجوز له التصدق به، وعلى ذلك يحمل حديث تصدق أبي بكرٍ بماله، وأما إن كان يغلب على ظنه أنه إن تصدق بماله كله أنه سيسأل الناس أموالهم وأن نفسه ضعيفة عن الثقة بكمال فضل الله عليه فهذا لا ينبغي أن يعرض نفسه لهذه المذلات بل يمسك عليه بعض ماله ليحفظ وجهه عن الناس ومع ذلك فنقول: خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الهدي على الإطلاق وهو في هذه المسألة ألا يزيد الإنسان على الثلث ما أمكن، أو على الأقل يمسك بعض ماله بلا تقدير بالثلث وعليه حديث سعد بن أبي وقاص وحديث أبي لبابة وحديث كعب بن مالك، والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 43