المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌31 - لا تكليف إلا بعلم ولا عقاب إلا بعد إنذار - تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية - جـ ٢

[وليد السعيدان]

الفصل: ‌31 - لا تكليف إلا بعلم ولا عقاب إلا بعد إنذار

‌31 - لا تكليف إلا بعلم ولا عقاب إلا بعد إنذار

وهذه القاعدة تمثل أصلاً كليًا عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله عليه -، بل هي من أكبر القواعد الكلية عنده، لتعلقها بالتكليف، ومعناها أن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليدل الناس عليه ويعرفهم به، وليبين لهم ما يجوز التعبد به له مما لا يجوز وذلك لا يمكن أبدًا على وجه التفصيل إلا بمعرفة ما جاءت به الرسل، وإلا فالإنسان بلا رسالة في ضلال مبين وفي ظلمة حالكة لا يبصر فيها طريقه، لكن من رحمة الله تعالى بنا أن أبان لنا الحجة وأوضح لنا المحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ومن رحمته أيضًا ومن مقتضى عدله أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد أن تقوم عليه الحجة الرسالية ببلوغها إليه وفهمه لها، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وقال تعالى: {وَأوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي وأنذر من بلغه وأما من لم يبلغه هذا القرآن فإن النذارة لم تقم عليه، ولذلك اشترط الأصوليون العلم بالمكلف به لقيام التكليف على الشخص، فمن لم يعلم ما كلف به فهو غير مكلف به، إن كان جهله به من الجهل الذي يعذر به صاحبه، وبالتالي فلا يعاقب على تركه إن كان مأمورًا بفعله ولا بفعله إن كان مأمورًا بتركه، ذلك أن العقوبة لا تكون إلا بعد قيام الحجة بالإنذار فالتكليف مشروط بالقدرة على العلم والعقوبة مشروطة بقيام الحجة وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة جدًا قد ذكرنا طرفًا منها في كتابنا (المباحث الجلية في رد المسائل الخلافية إلى الكتاب والسنة) ونذكر هنا طرفًا منها: فمن ذلك: الآيتان السابقتان.

ص: 14

ومنها: كل آية تدل على أن الشريعة لا تكلف نفسًا إلا وسعها ولا تحمل أحدًا ما لا طاقة له به، وأنها تريد اليسر لا العسر وأن الله قد وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، كل ذلك يدل على هذه القاعدة إجمالاً.

ومنها: حديث عدي بن حاتم لما أكل في رمضان وقد طلعت الصبح متأولاً قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن وسادك لعريض إنما هو نور الفجر وظلمة الليل) ولم يأمره بقضاء لأنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لعدم فهمه للآية وعدم الفهم الصحيح لمراد المتكلم نوع من أنواع الجهل كما قرر ذلك أهل اللغة فعذر؛ لأنه لم يعلم المراد ولم يعاقب؛ لأنه لم تقم عليه الحجة، ولم يؤمر بالقضاء؛ لأنه لم يكلف بما في الآية لعدم فهمه لها، فصدق قولنا أنه لا تكليف إلا بعلم ولا عقوبة إلا بإنذار.

ومنها: الرجل الذي جاء براوية خمرٍ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حرمت فأهداها له فقال: (ما هذا ألم تعلم أنها حرمت) ففتح الأعرابي الزق فأراقه بين يديه والحديث عند مسلم، فهذا الأعرابي لم يكلف بامتثال ما جاء في تحريم الخمر؛ لأنه لا يعلم بها، فلا تكليف إلا بعلم، وبالتالي لم يعاقب على عمله ذلك؛ لأنه لم ينذر، ولا عقوبة إلا بعد إنذار.

ومنها: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك

إلخ) الحديث، وهو من حديث أنس في الصحيحين، وهو مشهور ووجه الاستشهاد منه أن هذا الأعرابي لم يكلف بالأدلة الدالة على تحريم ذلك الفعل؛ لأنه لا يعلمها، ولا تكليف إلا بعلم ولم يعاقب على فعله ذلك لأنه لا عقوبة إلا بإنذار وهو لم تقم عليه الحجة.

ص: 15

ومنها: حديث الذي قال لأبنائه: إن مت فأحرقوني وهو معروف، وحديث المستحاضة، وحديث عمار في تيممه، وحديث أهل قباء في استدارتهم إلى القبلة، وحديث أصحاب الفترة وسيأتي - إن شاء الله تعالى -، كلها دليل على ذلك الأصل العظيم، فالإنسان لا يكلف إلا بالشيء الذي قامت عليه فيه الحجة فقط، أما ما لم تقم عليه الحجة فيه فلا تكليف عليه فيه، وغير المكلف لا يعاقب على ما لم يكلف به فإن العقوبة مرتبطة بالتكليف والتكليف لا يكون إلا بعلم، فمن لا يعلم بالشيء فإنه لا يعاقب عليه إن فعله وحقه الترك، أو تركه وحقه الفعل، وهذا من سعة رحمة الله تعالى وكمال فضله وعدله، وقولنا:(لا تكليف إلا بعلم) المراد بالعلم هنا هو ما تقوم به الحجة، والحجة لا تقوم إلا بالبلوغ والفهم أما الأول فبالإتفاق، وأما الثاني ففيه خلاف ويظهر أنه لفظي؛ لأن الجميع يشترط مطلق الفهم ولا يشترط الفهم المطلق كما هو محقق في كتابنا (المباحث الجلية) في المسألة الأولى وأيضًا قولنا:(ولا عقوبة إلا بعد إنذار) نريد بها ما يفيده قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقوله تعالى: {وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فهذا البيان هو ما نعنيه بالإنذار.

ص: 16

ويدخل تحت هذه القاعدة قاعدة مهمة وهي قولهم: (لا تكليف بالخطاب الناسخ إلا بعد العلم به) أي إذا شرع الله شيئًا ثم نسخه بشيء فإن هذا الخطاب الآخر لا يطالب بامتثاله إلا من بلغه، وهذا هو القول الصحيح، وعلى ذلك حديث ابن عمر في نسخ القبلة وأن أهل قباء صلوا العصر إلى القبلة المنسوخة بعد نزول الناسخ وهو الأمر بالتوجه إلى الكعبة فجاءهم رجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل الليلة عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، فاستداروا نحوها وبنوا على صلاتهم، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بإعادة هذه الصلاة التي افتتحوها إلى القبلة المنسوخة، مما يدل على أنهم إنما طولبوا بامتثال الدليل الناسخ عند بلوغه إليهم، وهذا في أهل قباء مع قربها من المدينة، فكيف بالمسلمين الأعراب ومن هاجر إلى الحبشة واليمن، ومن في أقطار الأرض من المسلمين، فبالتأكيد أن الخطاب الناسخ لم يبلغهم إلا بعد مدة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا بالإعادة، فلا تكليف إلا بعلم مطلقًا سواءً بالتشريع ابتداءً أو بالتشريع الناسخ، وهذا هو اختيار أبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه تعلم أن الجهل عذر من الأعذار التي يعذر بها المكلف في ترك المأمور أو فعل المحظور جهلاً. وإنما الخلاف في نوع الجهل الذي يعذر به المكلف، والأقرب عندي هو أن الجهل عذر إذا لم يقدر المكلف على دفعه وكان مما يشق التحرز منه، وقد حققنا المسألة في كتابنا المذكور بأوسع من ذلك وذكرنا فيه من الفروع ما يشفي ويكفي، فليراجعه من شاء وإنما المقصود هنا هو الإشارة إلى أهمية هذه القاعدة، والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 17