الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: قد دلت الأدلة على تحريم وطء الحائض وأنه أذىً، ففي وطئها مفاسد كثيرة ودم الحيض من أخبث الدماء نجاسة وأنتنها ريحًا، لكن أجاز الفقهاء وطأها لمن به شبق بشرطه وهو ألا يكون له زوجة أخرى ولا أمة وليس عنده ما يتزوج به ولا ما يشتري به أمة ولا تندفع شهوته إلا بالوطء في الفرج فإذا توفرت هذه الشروط فإنه يجوز له حينئذٍ وطؤها في فرجها، فلما ثبت جواز ذلك شرعًا فإنه يرتفع الأذى والضرر قدرًا إذ لا جواز مع الضرر، والله أعلم، وعلى ذلك فقس.
فإن قلت: كيف تقول لا جواز مع الضرر وقد كانت الخمرة حلالاً ثم حرمت لخبثها ولما فيها من الضرر، وكانت الحمر الأهلية حلالاً ثم حرمت لخبثها ونجاستها ولما فيها من الضرر فكيف تكون حلالاً مع ما فيها من الضرر والخبث الذي اقتضى تحريمها بعد؟
أقول: هذا سؤال جيد، وهو وارد علينا لو لم يكن له جواب لكن له جواب ولله الحمد والمنة وهو: أننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أن الخمر والحمار الأهلي وغيرها لما كانت حلالاً لم يكن فيها أي مفسدة أو ضرر وإنما هذه المفسدة وهذا الضرر خلق فيها لما حرمت، فلما حرمت اتصفت بذلك والله جل وعلا هو خالق هذه الأشياء بذواتها وصفاتها وأحكامها، فلا يبعد ذلك عنه جل وعلا، فعلى هذا تكون القاعدة سالمة من هذا الاعتراض (1) ، والله أعلم.
القاعدة الثامنة والثلاثون
38 - سَدُّ الذرائع
وهذه من أكبر القواعد الفقهية في الشريعة، وهي من أهم المهمات لطالب العلم، وأنا أذكر لك فيها طرفًا صالحًا يغنيك عن غيره - إن شاء الله تعالى - فأقول:
(1) في هذا الجواب نظر وربما يقال: إن المفسدة التي فيها في وقت قد تكون المصلحة في عدم تحريمها في ذلك الوقت راجحة على تحريمها ولذلك لم تحرم مراعاة لهذه المصلحة فتكون المفسدة منغمرة في جانب هذه المصلحة والله تعالى أعلم.
إن هذه الشريعة العظيمة إذا أمرت بشيءٍ فإنها تأمر بجميع ما يتوقف حصول هذا الشيء عليه، وإذا نهت عن شيء فإنها تنهى عن جميع الأشياء التي يتوقف حصول هذا المنهي عليها وهذا من باب الكمال، فإن الشريعة إذا سدت بابًا فإنها تسد معه جميع الأبواب المفضية إليه، وهذا هو عين الحكمة وذلك ليكون سياجًا مانعًا من الوقوع في المحرم قصدًا، فإنه لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت هذه الطرق وهذه الأسباب تابعة لها في الحكم، فكل وسائل الحرام حرام، وكل وسائل الطاعات طاعات فوسائل الواجب واجبة، ووسائل المندوب مندوبة، ووسائل المكروه مكروهة، ووسائل الحرام حرام، وهذه سياسة حكيمة حتى في ملوك الدنيا فإنهم إذا منعوا شيئًا منعوا جميع أسبابه وسدوا جميع طرقه، وإذا أمروا بشيء فإنهم يسهلون جميع أسبابه ويفتحون كل طرقه، وهذا من الكمال في المخلوق الذي لا نقص فيه، فالله أولى به فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فكان من عين الحكمة سد جميع الأبواب المفضية إليه.
وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة نذكر بعضها وهي كالفروع لهذه القاعدة:
فمنها: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين المجرد مع كون السب لها غيظًا وحمية لله تعالى وإهانة لآلهتهم فيه مصلحة (1) ، لكن سد هذا الباب؛ إذا كان يفضي إلى مفسدة أعظم وهي سب الله تعالى فسد جل وعلا هذا الباب درءاً لمفسدةٍ أعظم من المصلحة المترتبة على فتحه، وهذا الفرع يدخل تحت قاعدة:(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
(1) لأن الشرع جاء بتهديمها. لكن السب المجرد إذا أفضى في حالة ما إلى سب الله تعالى حرم.
ومنها: قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} فقد نهاهم جل وعلا عن قول: (راعنا) مع أنهم لا يقصدون بها إلا الخير وهي من المراعاة وذلك سدًا لذريعة مشابهة اليهود في قولهم: (راعنا) من الرعونة ولئلا يفتح بابًا لليهود كي ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة فيقولونها له يعنون بها سبه متشبهين بالمسلمين في قولها له يريدون بها الخير، فسدت هذه الأبواب كلها بمنع قول هذه الكلمة، واستبدالها بخير منها لا لبس فيها وهي قولهم:(انظرنا) .
ومنها: قوله تعالى في حق النساء: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} فحرم عليهن إبداء الزينة للرجال الأجانب، وسد جميع الأبواب المفضية له ومنها أن تضرب برجلها ليسمع الرجال صوت خلخالها لئلا يفضي إلى إثارة الشهوات منهم إليهن، مع أن ضرب المرأة برجلها في الأصل شيء جائز لكن لما كان يفضي إلى أمرٍ محرم سُدَّ بالنهي عنه.
ومنها: قوله تعالى: {إذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فنهاهم عن البيع بعد نداء الجمعة الذي تعقبه الخطبة لئلا يفضي البيع في هذا الوقت لتضييع الصلاة مع أن الأصل في البيع الجواز، لكن لما كان وسيلة للتشاغل عن حضور الجمعة سُدَّ هذا الباب بالنهي عنه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيحين: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه) . قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: (يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سب الرجل لوالدي الرجل سبًا لوالديه مع أنه لم يباشر سب والديه بنفسه وإنما تسبب في سبهم وإن لم يقصد ذلك.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة لتنفير الناس عنه ولئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
ومنها: قوله تعالى عن الخمر: {فاجتنبوه} فتحريم الخمر بالإجماع وذلك لما يفضي إليه من سكر العقل وتغطيته والذي يترتب عليه مفاسد عظيمة، ومع ذلك فقد سد الله جل وعلا جميع الأبواب الموصلة لسكر العقل، فقد حرم القطرة من الخمر لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة وحرم إمساكها للتخليل لئلا يتخذ ذريعة لإمساكها للشرب ثم بالغ في النهي حتى نهى عن شرب الخليطين، وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي يتخمر فيها أذن في ذلك أعني الإنتباذ في جميع الأوعية وذلك حسمًا لمادة قربان السكر فتبارك الله العلي الحكيم.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله، ونهى عن تجصيص القبر والكتابة عليه، وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدًا، وعن شد الرحال إليها،كل ذلك لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا تعبد من دون الله تعالى فكل ذلك حرام من باب سد الذرائع المفضية للشرك.
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب) وكان من حكمة ذلك أن هذه الأوقات يسجد فيها المشركون للشمس فنهى عن الصلاة في ذلك الوقت سدًا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة للمشابهة في القصد مع بُعْدِ هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة.
ومنها: تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والخلوة بها ومصافحتها وتحريم سفر المرأة بلا محرم كل ذلك ثبت بالأدلة الصحيحة وذلك سدًا لذريعة الفجور والفاحشة.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن لأرض العدو مخافة أن يقع في أيديهم فيهينوه، فسد ذريعة إهانة القرآن بتحريم السفر به لأرض العدو.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود)، وقوله:(إن اليهود لا يصبغون فخالفوهم) وقوله: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم)، وقوله:(خالفوا اليهود صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) ، وخالفهم في سدل الرأس بالفرق، وقال:(من تشبه بقومٍ فهو منهم) كل ذلك لأن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة للمشابهة في القصد والعمل، فمن اتفقت ظواهرهم فإنه غالبًا ما تتفق بواطنهم، والله أعلم.
ومنها: أن الشريعة حرمت على المرأة الخروج وهي متطيبة سدًا لذريعة ميل الرجال لها المؤدي لما هو معروف.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صومًا فليصمه) ونهى عن صوم يوم الشك لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين سائر الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام إلا إذا وافق صوم يومٍ يصومه أحدكم فليصمه) فنهى عن صيامه منفردًا وعن قيام ليلته من بين سائر الليالي سدًا لذريعة تعظيمه تعظيمًا خارجًا عن الحد المشروع (1) .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عائشة رضي الله عنها أنه يفضل هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم وأن يجعل لها بابين بابًا يدخل الناس منه وباب يخرجون منه، لكن في هذا الفعل مفسدة وهو خوفه صلى الله عليه وسلم من افتتان من هو حديث عهدٍ بجاهلية، فترك هذا الفعل سدًا لذريعة وقوعهم فيما هو أشد مفسدة من مراعاة المصلحة المترتبة عليه.
ومنها: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
ومنها: أنه حرم الغيبة والنميمة؛ لأنها ذريعة لاختلاف القلوب وفسادها وحرم الهجران في أمور الدنيا فوق ثلاث ليال؛ لأنه ذريعة إلى التفكك والانهزام والتنازع، فكل سبب يفسد ذات البين بين المسلمين فهو حرام، والله أعلم.
ومنها: أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يكون ذريعة لنيل غرضه وشفاء غيظه بالشهادة الكاذبة، وكذلك منعت من قبول شهادة القريب لقريبه لئلا يكون ذريعة لمحاباته بها وهي كاذبة (2) .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا نعس وهو يصلي أن يرقد حتى يذهب عنه النوم سدًا لذريعة اختلاط الأمر عليه، فيذهب يريد أن يستغفر فيسب نفسه وهو لا يشعر لغلبة النوم.
(1) ولئلا يرهق نفسه بالقيام فتفوته الجمعة، أما الصيام فلما ذكر ولئلا يكسل عن الطاعات منه بسبب صيامه. والله أعلم.
(2)
في هذا الفرع خلاف انظر اختيار شيخ الإسلام والشيخ ابن عثيمين.