الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاب الأول
فِي بَيَان إِثْبَات الْجِنّ وَالْخلاف فِيهِ
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه الشَّامِل اعلموا رحمكم الله أَن كثيرا من الفلاسفة وجماهير الْقَدَرِيَّة وكافة الزَّنَادِقَة أَنْكَرُوا الشَّيَاطِين وَالْجِنّ رَأْسا وَلَا يبعد لَو أنكر ذَلِك من لَا يتدبر وَلَا يتشبث بالشريعة وَإِنَّمَا الْعجب من إِنْكَار الْقَدَرِيَّة مَعَ نُصُوص الْقُرْآن وتواتر الْأَخْبَار واستفاضة الْآثَار ثمَّ سَاق حَملَة من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة وَقَالَ أَبُو قَاسم الْأنْصَارِيّ فِي شرح الْإِرْشَاد وَقد أنكرهم مُعظم الْمُعْتَزلَة وَدلّ إنكارهم اياهم على قلَّة مبالاتهم وركاكة دياناتهم فَلَيْسَ فِي إثباتهم مُسْتَحِيل عقلى وَقد دلّت نُصُوص الْكتاب وَالسّنة على اثباتهم وَحقّ على اللبيب المعتصم بِحَبل الدّين أَن يثبت مَا قضى الْعقل بِجَوَازِهِ وَنَصّ الشَّرْع على ثُبُوته
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني وَكثير من الْقَدَرِيَّة يثبتون وجود الْجِنّ قَدِيما وينفون وجودهم الْآن وَمِنْهُم من يقر بوجودهم وَيَزْعُم أَنهم لَا يرَوْنَ لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فِيهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا لَا يرَوْنَ لأَنهم لَا ألوان لَهُم ثمَّ قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ والتمسك بالظواهر والآحاد تكلّف منا مَعَ إِجْمَاع كَافَّة الْعلمَاء فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على وجود الْجِنّ وَالشَّيَاطِين والاستعاذة بِاللَّه تَعَالَى من شرورهم وَلَا يراغم مثل هَذَا الِاتِّفَاق متدين متشبث بمسكه من الدّين ثمَّ سَاق عدَّة أَحَادِيث ثمَّ قَالَ فَمن لم يرتدع بِهَذَا وَأَمْثَاله فَيَنْبَغِي أَن يتهم فِي الدّين ويعترف بالانسلال مِنْهُ على أَنه لَيْسَ فِي إِثْبَات الشَّيَاطِين ومردة الْجِنّ مَا يقْدَح فِي أصل من أصُول الْعقل وَقَضِيَّة من قضاياه وأكبر مَا يستروحون إِلَيْهِ خطور الْجِنّ بِنَا وَنحن لَا نراهم وَلَو شَاءَت
أبدلت لنا أَنْفسهَا وَإِنَّمَا يستبعد ذَلِك من لم يحط علما بعجائب المقدورات وَقَوْلهمْ فِي الْجِنّ يجرهم الى انكار الْحفظَة من الْمَلَائِكَة عليهم السلام وَمن انْتهى بهم الْمَذْهَب الى هَذَا وضح افتضاحه
قلت وَإِنَّمَا طويت ذكر مَا اورده إِمَام الْحَرَمَيْنِ من الْآيَات وَالْأَخْبَار لِأَن ذَلِك يأتى إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَبْسُوطا فِي كل بَاب بِحَسبِهِ
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار بن أَحْمد بن عبد الْجَبَّار الْهَمدَانِي أعلم ان الدَّلِيل على اثبات وجود الْجِنّ السّمع دون الْعقل وَذَلِكَ أَنه لَا طَرِيق لِلْعَقْلِ إِلَى إِثْبَات أجسام غَائِبَة لِأَن الشَّيْء لَا يدل على غَيره من غير ان يكون بَينهمَا تعلق كتعلق الْفِعْل بالفاعل وَتعلق الاعراض بالمحال أَلا ترى أَن الدّلَالَة لما دلّت على حَاجَة الْفِعْل فِي حُدُوثه الى الْفَاعِل وَحَاجته فِي كَونه محكما الى كَون فَاعله قَادِرًا عَالما وَكَونه قَادِرًا عَالما يقتضى كَونه حَيا وَكَونه حَيا لَا آفَة بِهِ يقتضى كَونه سميعا بَصيرًا فَدلَّ الْفِعْل على أَن لَهُ فَاعِلا وَأَنه على أَحْوَال مَخْصُوصَة على مَا ذكرنَا بَينهمَا من التَّعَلُّق قَالَ وَلَا يعلم اثبات الْجِنّ باطرار أَلا ترى أَن الْعُقَلَاء الْمُكَلّفين قد اخْتلفُوا فَمنهمْ من يصدق بِوُجُود الْجِنّ وَمِنْهُم من كذب ذَلِك من الفلاسفة والباطنية وَإِن كَانُوا عقلاء بالغين مأمورين منهيين وَلَو علم ذَلِك باضطرار لما جَازَ أَن يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك بل لم يجز ان يشكوا فِيهِ لَو شككهم فِيهِ مشكك أَلا ترى أَنه لَا يجوز أَن يخْتَلف الْعُقَلَاء فِي أَن الارض تَحْتهم وَلَا أَن السَّمَاء فَوْقهم وَلَا يجوز أَن يشكوا فِي ذَلِك لَو شككهم فِيهِ مشكك وَفِي اخْتلَافهمْ فِي اثبات الْجِنّ وَالْأَمر على مَا هُوَ عَلَيْهِ دلَالَة على أَنه لَا يجوز أَن يعلم اثبات الْجِنّ ضَرُورَة ثمَّ قَالَ وَالَّذِي يدل على اثباتهم آي كثير فِي الْقُرْآن تغنى شهرتها عَن ذكرهَا وَأجْمع أهل التَّأْوِيل على مَا يذهب اليه من اثباتهم بظاهرها وَيدل أَيْضا على اثباتهم مَا علمناه باضطرار من ان النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يتدين بإثباتهم وَمَا روى عَنهُ فِي ذَلِك من الْأَخْبَار وَالسّنَن الدَّالَّة على اثباتهم أشهر من ان يشْتَغل بذكرها
فصل قَالَ الشَّيْخ ابو الْعَبَّاس بن تَيْمِية لم يُخَالف أحد من طوائف الْمُسلمين فِي وجود الْجِنّ وَجُمْهُور طوائف الْكفَّار على إِثْبَات الْجِنّ أما اهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فهم مقرون بهم كإقرار الْمُسلمين وَإِن وجد فيهم من يُنكر ذَلِك فَكَمَا يُوجد فِي بعض طوائف الْمُسلمين كالجهمية والمعتزلة من يُنكر ذَلِك وَإِن كَانَ جُمْهُور الطَّائِفَة وأئمتها مقرون بذلك وَهَذَا لِأَن وجود الْجِنّ تَوَاتَرَتْ بِهِ اخبار الانبياء عليهم السلام تواترا مَعْلُوما بالاضطرار وَمَعْلُوم بالاضطرار أَنهم أَحيَاء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون لَيْسُوا صِفَات وأعراضا قَائِمَة بالانسان أَو غَيره كَمَا يزعمه بعض الْمَلَاحِدَة فَلَمَّا كَانَ أَمر الْجِنّ متواترا عَن الانبياء عليهم السلام تواترا ظَاهرا يعرفهُ الْعَامَّة والخاصة لم يُمكن طَائِفَة من طوائف الْمُؤمنِينَ بالرسل أَن ينكرهم فالمقصود هُنَا ان جَمِيع طوائف الْمُسلمين يقرونَ بِوُجُود الْجِنّ وَكَذَلِكَ جُمْهُور الْكفَّار كعامة أهل الْكتاب وَكَذَلِكَ عَامَّة مشركى الْعَرَب وَغَيرهم من أَوْلَاد سَام والهند وَغَيرهم من أَوْلَاد حام وَكَذَلِكَ جُمْهُور الكنعانيين واليونانيين وَغَيرهم من أَوْلَاد يافث فجماهير الطوائف تقر بِوُجُود الْجِنّ بل يقرونَ بِمَا يستجلبون بِهِ معاونة الْجِنّ من العزائم والطلاسيم سَوَاء كَانَ ذَلِك سائغا عِنْد أهل الْأَيْمَان أَو كَانَ شركا فَإِن الْمُشْركين يقراون من العزائم والطلاسم والرقى مَا فِيهِ عبَادَة للجن وتعظيم لَهُم وَعَامة مَا بأيدي النَّاس من العزائم والطلاسم والرقى الَّتِي لَا تفقه بِالْعَرَبِيَّةِ فِيهَا مَا هُوَ شرك بالجن وَلِهَذَا نهى عُلَمَاء الْمُسلمين عَن الرقى الَّتِى لَا يفقه بِالْعَرَبِيَّةِ مَعْنَاهَا لِأَنَّهَا مَظَنَّة الشّرك وَإِن لم يعرف الراقي أَنَّهَا شرك وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه رخص فِي الرقى مَا لم تكن شركا وَقَالَ من اسْتَطَاعَ ان ينفع أَخَاهُ فَلْيفْعَل وَقد كَانَ للْعَرَب ولسائر الْأُمَم من ذَلِك أُمُور يطول وصفهَا وَأُمُور وأخبار
الْعَرَب فِي ذَلِك متواترة عِنْد من يعرف أخبارهم من عُلَمَاء الْمُسلمين وَكَذَلِكَ عِنْد غَيرهم وَلَكِن الْمُسلمين أخبر بجاهلية الْعَرَب مِنْهُم بجاهلية سَائِر الْأُمَم
فصل وَلم يُنكر الْجِنّ الا شرذمة قَليلَة من جهال الفلاسفة والأطباء وَنَحْوهم أما أكَابِر الْقَوْم فالمأثور عَنْهُم إِمَّا الْإِقْرَار بهم وَإِمَّا أَن يحْكى عَنْهُم قَول فِي ذَلِك وَأما الْمَعْرُوف عَن أبقراط أَنه قَالَ فِي بعض الْمِيَاه إِنَّه ينفع من الصراع لست أَعنِي الصرع الَّذِي يعالجه أَصْحَاب الهياكل وَإِنَّمَا أَعنِي الصرع الَّذِي تعالجه الْأَطِبَّاء وَأَنه قَالَ طبنا مَعَ طب أهل الهياكل كطب الْعَجَائِز مَعَ طبنا وَلَيْسَ لمن أنكر ذَلِك حجَّة يعْتَمد عَلَيْهَا تدل على النَّفْي وَإِنَّمَا مَعَه عدم الْعلم إِذا كَانَت صناعته لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على ذَلِك كالطبيب الَّذِي ينظر فِي الْبدن من جِهَة صِحَّته ومرضه الَّذِي يتَعَلَّق بمزاجه وَلَيْسَ فِي هَذَا تعرض لما يحصل من جِهَة النَّفس وَلَا من جِهَة الْجِنّ وَإِن كَانَ قد علم من طبه ان للنَّفس تَأْثِيرا عَظِيما فِي الْبدن أعظم من تَأْثِير الْأَسْبَاب الطبية وَكَذَلِكَ للجن تَأْثِير فِي ذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث إِن الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم أهـ
وَهُوَ البخار الَّذِي تسميه الْأَطِبَّاء الرّوح الحيواني المنبعث من الْقلب الساري فِي الْبدن الَّذِي بِهِ حَيَاة الْبدن
فصل قَالَ ابْن دُرَيْد الْجِنّ خلاف الْإِنْس وَيُقَال حنه اللَّيْل وأحنه وحن عَلَيْهِ وغطاه فِي معنى وَاحِد إِذا ستره وكل شَيْء استتر عَنْك فقد جن عَنْك وَبِه سميت الْجِنّ وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسمون الْمَلَائِكَة جنا لاستتارهم عَن الْعُيُون وَالْجِنّ وَالْجنَّة وَاحِد وَالْجنَّة مَا واراك من السِّلَاح قَالَ والحن بِالْحَاء زَعَمُوا أَنهم ضرب من الْجِنّ قَالَ الراجز
(يلعبن أحوالي من حن وحن
…
)
قَالَ ابو عمر الزَّاهِد الحن كلاب الْجِنّ وسفلتهم وَقَالَ الْجَوْهَرِي الجان ابو الْجِنّ وَالْجمع جينان مثل حَائِط وحيطان والجان إيضاحية بَيْضَاء قلت وَقد وَقع فِي كَلَام السُّهيْلي فِي النتائج ان الْجِنّ تشْتَمل على الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن عَن الْأَبْصَار فَإِنَّهُ قَالَ وَمِمَّا قدم للفصل والشرف تَقْدِيم الْجِنّ على الْإِنْس فِي أَكثر الْمَوَاضِع لِأَن الْجِنّ تشْتَمل على الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن عَن الابصار قَالَ الله تَعَالَى {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} وَقَالَ الاعشى
…
وسخر من جن الملائك سَبْعَة
…
قيَاما لَدَيْهِ يعْملُونَ بِلَا أجرل
…
فَأَما قَوْله تَعَالَى {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا}
فَإِن لفظ الْجِنّ هَهُنَا لايتناول الْمَلَائِكَة بِحَال لنزاهتهم عَن الْعُيُوب وَأَنه لَا يتَوَهَّم عَلَيْهِم الْكَذِب وَلَا سَائِر الذُّنُوب فَلَمَّا لم يتناولهم عُمُوم اللَّفْظ لهَذِهِ الْقَرِينَة بَدَأَ بِلَفْظ الْإِنْس لفضلهم وكمالهم
وَقَالَ ابْن عقيل إِنَّمَا سمي الْجِنّ جنا لاستجنانهم واستتارهم عَن الْعُيُون مِنْهُ سمي الْجَنِين جَنِينا وَالْجنَّة للحرب جنَّة لسترها والمجن مجنا لستره للمقاتل فِي الْحَرْب وَلَيْسَ يلْزم بِأَن ينتقص هَذَا بِالْمَلَائِكَةِ لِأَن الْأَسْمَاء المشتقة لَا تنَاقض أَلا ترى أَن الخابئة سميت بذلك لاشتقاقها من الخبئ وَأَنه يخبأ فِيهَا وَلَا يُقَال يبطل بالصندوق فَإِنَّهُ يخبأ فِيهِ وَلَا يُسمى صندوقا وَالشَّيَاطِين
العصاة من الْجِنّ وهم ولد إِبْلِيس والمردة أعتاهم وأغواهم وهم أعوان إِبْلِيس ينفذون بَين يَدَيْهِ فِي الأغواء كأعوان الشَّيَاطِين قَالَ الْجَوْهَرِي كل عَاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان قَالَ جرير
…
أَيَّام يدعونني الشَّيْطَان من غزل
…
وَهن يهوينني إِذْ كنت شَيْطَانا
…
وَالْعرب تسمي الْحَيَّة شَيْطَانا قَالَ يصف نَاقَته
…
تلاعب مثنى حضرمي كَأَنَّهُ
…
تعمج شَيْطَان بِذِي خروع قفر
…
وَقَوله تَعَالَى {طلعها كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين}
قَالَ الْفراء فِيهِ ثَلَاثَة أوجه احدها ان يشبه طلعها فِي قبحه برءوس الشَّيَاطِين لِأَنَّهَا مَوْصُوفَة بالقبح وَالثَّانِي أَن الْعَرَب تسمى بِهِ بعض الْحَيَّات والشيطان نونه أَصْلِيَّة قَالَ امية
…
أَيّمَا شاطن عَصَاهُ عكاه
…
ثمَّ يلقى فِي السجْن والأغلال
…
وَيُقَال أَيْضا إِنَّهَا زَائِدَة فَإِن جعلته فيعالا من قَوْلهم شيطن الرجل صرفته وَإِن جعلته من تشيطن لم تصرفه لِأَنَّهُ فعلان
وَقَالَ ابو الْبَقَاء الشَّيْطَان فيعال من شطن يشطن إِذا بعد وَيُقَال فِيهِ شاطن وتشيطن وَسمي بذلك كل متمرد لبعد غوره فِي الشَّرّ وَقيل هُوَ فعلان من شاط يشيط إِذا هلك فالمتمرد هَالك بتمرده وَيجوز ان يكون سمي بفعلان لمبالغته فِي إهلاك غَيره
وَقَالَ القَاضِي ابو يعلى الشَّيَاطِين مَرَدَة الْجِنّ وأشرارهم وَكَذَلِكَ يُقَال فِي الشرير مارد وَشَيْطَان من الشَّيَاطِين وَقد قَالَ تَعَالَى {شَيْطَان مارد}
وَقَالَ الْجَوْهَرِي شطن عَنهُ بعد وأشطنه ابعده
وَقَالَ ابْن السّكيت شطنه يشطنه شطنا إِذا خَالف عَن نِيَّة وَجهه وبئر شطون بعيدَة القعر وَنوى شطون بعيد
وَقَالَ ابْن دُرَيْد زعم قوم من اهل اللُّغَة أَن اشتقاق ابليس من الابلاس كَأَنَّهُ إبلس أَي يئس من رَحْمَة الله وإبلس الرجل إبلاسا فَهُوَ مبلس إِذا يئس
قلت وَهَذَا يدل على أَن إِبْلِيس إِنَّمَا سمي بِهَذَا الِاسْم بعد لعن الله تَعَالَى إِيَّاه وَقد روى ابْن ابي الدُّنْيَا وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ اسْم إِبْلِيس حَيْثُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَة عزازيل وَكَانَ من الْمَلَائِكَة ذَوي الأجنحة الْأَرْبَعَة ثمَّ إِبْلِيس بعد وَعَن ابي الْمثنى قَالَ كَانَ اسْم ابليس نائل فَلَمَّا أَسخط الله تَعَالَى سمي شَيْطَانا وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه لما عصى إِبْلِيس لعن وَصَارَ شَيْطَانا وَعَن سُفْيَان قَالَ كنية إِبْلِيس ابو كدوس
وَقَالَ ابو الْبَقَاء وإبليس اسْم أعجمي لَا ينْصَرف للعجمة والتعريف وَقيل هُوَ عَرَبِيّ واشتقاقه من الإبلاس وَلم ينْصَرف للتعريف وَلِأَنَّهُ لَا نَظِير لَهُ فِي الاسماء وَهَذَا بعيد على أَن فِي الْأَسْمَاء مثله نَحْو إخريط وإحفيل وإصليت
قَالَ ابو عمر بن عبد الْبر الْجِنّ عِنْد أهل الْكَلَام وَالْعلم بِاللِّسَانِ منزلون على مَرَاتِب فَإِذا ذكرُوا الْجِنّ خَالِصا قَالُوا جني فَإِن أَرَادوا أَنه مُمكن يسكن مَعَ النَّاس قَالُوا عَامر وَالْجمع عمار فَإِن كَانَ مِمَّن يعرض للصبيان قَالُوا أَرْوَاح فَإِن خبث وتعزم فَهُوَ شَيْطَان فَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ مارد فَإِن زَاد على ذَلِك وقوى امْرَهْ قَالُوا عفريت وَالْجمع عفاريت وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ
الْبَاب الثَّانِي فِي ابْتِدَاء خلق الْجِنّ
قَالَ ابو حُذَيْفَة اسحاق بن بشر الْقرشِي فِي الْمُبْتَدَأ حَدثنَا عُثْمَان حَدثنَا الْأَعْمَش عَن بكير بن الْأَخْنَس عَن عبد الرَّحْمَن بن سابط الْقرشِي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ خلق الله تَعَالَى بني الجان قبل آدم بألفي سنة أهـ أخبرنَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ وَكَانَ الْجِنّ سكان الأَرْض وَالْمَلَائِكَة سكان السَّمَاء وهم عمارها لكل سَمَاء مَلَائِكَة وَلكُل اهل سَمَاء صَلَاة وتسبيح وَدُعَاء فَكل سَمَاء فَوق سمائهم أَشد عبَادَة وَأكْثر دُعَاء وَصَلَاة وتسبيحا من الَّذين تَحْتهم فَكَانَت الْمَلَائِكَة عمار السَّمَاء وَالْجِنّ عمار الأَرْض أهـ
وَقَالَ بَعضهم عمروا الارض الفي سنة وَقَالَ بَعضهم اربعين سنة وَقَالَ اسحاق قَالَ ابو روق عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ خلق الله سوميا ابو الْجِنّ وَهُوَ الَّذِي خلق من مارج من نَار قَالَ تبارك وتعالى تمن قَالَ أَتَمَنَّى أَن نرى وَلَا نرى وَأَن نغيب فِي الثرى وَأَن يصير كهلنا شَابًّا فَأعْطِي ذَلِك فهم يرَوْنَ وَلَا يرَوْنَ وَإِذا مَاتُوا غَيَّبُوا فِي الثرى وَلَا يَمُوت كهلهم حَتَّى يعود شَابًّا يَعْنِي مثل الصَّبِي يرد الى أرذل الْعُمر قَالَ وَخلق الله تَعَالَى آدم فَقيل لَهُ تمن قَالَ فتمنى الْجَبَل فَأعْطِي الْجَبَل وَقَالَ إِسْحَاق حَدثنِي جُوَيْبِر وَعُثْمَان بإسنادهما أَن الله تَعَالَى خلق الْجِنّ وَأمرهمْ بعمارة الارض فَكَانُوا يعْبدُونَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ حَتَّى طَال بهم الأمد فعصوا الله عز وجل وسفكوا الدِّمَاء وَكَانَ فيهم ملك يُقَال لَهُ يُوسُف فَقَتَلُوهُ فَأرْسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم
جندا من الْمَلَائِكَة كَانُوا فِي السَّمَاء الدُّنْيَا كَانَ يُقَال لذَلِك الْجند الْجِنّ فيهم إِبْلِيس وَهُوَ على أَرْبَعَة آلَاف فهبطوا فأفنوا بني الجان من الأَرْض وأجلوهم عَنْهَا وألحقوهم بجزائر الْبَحْر وَسكن إِبْلِيس والجند الَّذين كَانُوا مَعَه الأَرْض فهان عَلَيْهِم الْعَمَل وأحبوا الْمكْث فِيهَا
حَدثنَا مُحَمَّد بن اسحاق عَن حبيب بن أبي ثَابت أَو غَيره أَن إِبْلِيس وَجُنُوده أَقَامُوا فِي الأَرْض قبل خلق آدم أَرْبَعِينَ سنة حَدثنَا إِدْرِيس الأودي عَن مُجَاهِد قَالَ إِبْلِيس كَانَ على سُلْطَان سَمَاء الدُّنْيَا وسلطان الأَرْض وَكَانَ مَكْتُوبًا فِي الرفيع عِنْد الله تَعَالَى أَنه قد سبق فِي علمه أَنه سَيجْعَلُ خَليفَة فِي الأَرْض فَوجدَ ذَلِك إِبْلِيس فقرأه وَأبْصر دون الْمَلَائِكَة فَلَمَّا ذكر الله عز وجل للْمَلَائكَة أَمر آدم عليه السلام اخبر إِبْلِيس الْمَلَائِكَة أَن هَذَا الْخَلِيفَة الَّذِي يكون تسْجد لَهُ الْمَلَائِكَة وَأسر ابليس فِي نَفسه أَنه لن يسْجد لَهُ أبدا وَأخْبر الْمَلَائِكَة أَن الله تَعَالَى يخلف خَليفَة يسفك دِمَاء وَأَنه سيأمر الْمَلَائِكَة فيسجدون لذَلِك الْخَلِيفَة قَالَ فَلَمَّا قَالَ الله عز وجل {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} حفظوا مَا كَانَ قَالَ لَهُم ابليس قبل ذَلِك فَقَالُوا {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} الْآيَة وَأَخْبرنِي مقَاتل وجويبر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ لما أَرَادَ الله عز وجل أَن يخلق آدم قَالَ للْمَلَائكَة {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} قَالَت الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} وَذَلِكَ أَنهم أَحبُّوا الْمكْث فِي الأَرْض واستخفوا لِلْعِبَادَةِ فِيهَا قَالَ ابْن عَبَّاس لم يعلمُوا الْغَيْب لكِنهمْ اعتبروا أَعمال ولد آدم بأعمال الْجِنّ فَقَالُوا {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} اه
كَمَا أفسدت الْجِنّ ويسفك الدِّمَاء كَمَا سفكت الْجِنّ وَذَلِكَ إِنَّهُم قتلوا نَبيا لَهُم يُقَال لَهُ يُوسُف وَأخْبرنَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كَانَ الله تَعَالَى بعث اليهم رَسُولا فَأَمرهمْ بِطَاعَتِهِ وَأَن لَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَأَن لَا يقتل بَعضهم بَعْضًا فَلَمَّا تركُوا طَاعَة الله تَعَالَى وَقتلُوا
قَالَت الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا} الْآيَة فَرد عَلَيْهِم قَوْلهم وَأخْبرهمْ أَنهم لم يبلغُوا عنصر علم الله تَعَالَى فِي آدم عليه السلام فخافت الْمَلَائِكَة أَن يَكُونُوا قد عصوا الله تَعَالَى فِيمَا ردوا عَلَيْهِ فلاذوا بالعرش يطوفون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ من ذَلِك وَبقول الله عز وجل {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} وَاعْلَم أَن آدم هُوَ خَليفَة الأَرْض وَولده عمارها وسكانها وَأَنْتُم عمار السَّمَاء وَأخْبرنَا ابْن جريج قَالَ الله تَعَالَى {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فتكلموا يَعْنِي بِمَا هُوَ كَائِن من خلق آدم عليه السلام وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} {وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون} فَأَما الَّذين كتموا فَلَمَّا قَالَ الله تَعَالَى {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فَرَجَعُوا بِمَا قد سَمِعت ليخلق الله تَعَالَى رَبنَا مَا شَاءَ فوَاللَّه لَا يخلق رَبنَا خلقا إِلَّا كُنَّا أكْرم عَلَيْهِ وَأعلم مِنْهُ فَلَمَّا أسجدهم لآدَم قَالُوا هُوَ أكْرم على الله تَعَالَى منا غير أَنا أعلم مِنْهُ فَلَمَّا أنبأهم بِأَسْمَائِهِمْ علمُوا أَن آدم عليه السلام أعلم مِنْهُم
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي ربيع الْأَبْرَار أَبُو هُرَيْرَة يرفعهُ إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق أَرْبَعَة أَصْنَاف الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين وَالْجِنّ وَالْإِنْس ثمَّ جعل هَؤُلَاءِ عشرَة أَجزَاء فتسعة مِنْهُم الْمَلَائِكَة وجزء وَاحِد الشَّيَاطِين وَالْإِنْس وَالْجِنّ ثمَّ جعل هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عشرَة أَجزَاء فتسعة مِنْهُم الشَّيَاطِين وَوَاحِد الْجِنّ وَالْإِنْس ثمَّ جعل الْجِنّ وَالْإِنْس عشرَة أَجزَاء فتسعة مِنْهُم الْجِنّ وَوَاحِد مِنْهُم الْإِنْس قلت فعلى هَذَا يكون نِسْبَة الْإِنْس من الْخلق كنسبة الْوَاحِد من الْألف وَنسبَة الْجِنّ من الْخلق كنسبة التِّسْعَة من الْألف وَنسبَة الشَّيَاطِين من الْخلق كنسبة التسعين من الْألف وَنسبَة الْمَلَائِكَة من الْخلق كنسبة التسْعمائَة من الْألف وَالله اعْلَم
الْبَاب الثَّالِث فِي أَن أصل الْجِنّ النَّار كَمَا أَن أصل الْإِنْس الطين
قَالَ الله تَعَالَى {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَقَالَ تَعَالَى {وَخلق الجان من مارج من نَار} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْلِيس {خلقتني من نَار وخلقته من طين}
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار الدَّلِيل على هَذ السّمع دون الْعقل وَذَلِكَ لِأَن الْجَوَاهِر كلهَا قد دلّ الدَّلِيل على أَنَّهَا متماثلة لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يسد مسد الآخر وَيقوم مقَامه فِي الصّفة الَّتِي تخصه إِذا كَانَ على مثل صفته وَهَذَا هُوَ حد المثلين وَإِنَّمَا تخْتَلف صفاتهما وهيئتهما لأغراض تخص بَعْضهَا دون بعض وَإِذا صَحَّ هَذَا فَالله قَادر على أَن يفعل مَا شَاءَ من التَّأْلِيف وَيُوجد من الألوان وَسَائِر الْأَعْرَاض ويركب مَا شَاءَ من ذَلِك تركيبا يحْتَمل الْأَعْرَاض المحتاجة إِلَى تركيب مَخْصُوص كالحياة الَّتِي يحْتَاج فِي وجودهَا إِلَى تركيب مَخْصُوص وَالْعلم إِلَى بنية الْقلب وَكَذَلِكَ الْإِرَادَة وَمَا جرى هَذَا المجرى وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا دلّ على أَن لَا طَرِيق لنا إِلَى أَن نعلم ان الله عز وجل خلق اصل الْجِنّ من قبيل جَوْهَر مَخْصُوص دون قبيل آخر من جِهَة الْعقل وَلَا نعلم ذَلِك أَيْضا باضطرار لِأَن ذَلِك لَو علم باضطرار لم يَقع اخْتِلَاف فِي اثباتهم لِأَن الْعلم بِمَا خلقُوا مِنْهُ فرع على الْعلم بِأَنَّهُم مخلوقون وَلَا يجوز أَن يعلم الْفَرْع باضطرار وَيعلم الأَصْل باكتساب لِأَن مَا يعلم باكتساب يجوز أَن يجهل وَمَا يعلم باضطرار لَا يجوز أَن يجهل مَعَ كَمَال الْعقل وَبطلَان هَذَا يدل على أَنه
لَا يجوز أَن يعلم أصل الْجِنّ مَا هُوَ باضطرار للِاخْتِلَاف فِي إثباتهم فقد بَان أَن ذَلِك لَا يعلم باضطرار كَمَا لَا يعلم باكتساب من جِهَة الْعقل فان قيل كَيفَ تَجْعَلُونَ فِي قَول إِبْلِيس {خلقتني من نَار} دلَالَة مَعَ أَنه يجوز أَن يكذب فِي ذَلِك أَو يَظُنّهُ وَلَا يكون لَهُ بِهِ علم قيل لَهُ مَوضِع الدّلَالَة من ذَلِك قَول الله تَعَالَى ولولم يكن الْأَمر على مَا قَالَ لما ترك الله تَكْذِيبه لِأَن ترك تَكْذِيب الْكَاذِب مِمَّن لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَوْف وَالْجهل قَبِيح اهـ
قَالَ وَبِهَذَا بِعَيْنِه احْتج شُيُوخنَا على الْمخبر بالاستطاعة بقول الْجِنّ لِسُلَيْمَان عليه السلام {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين} فَزعم أَن قوى على الْإِتْيَان بِعَرْشِهَا قبل أَن يفعل الْإِتْيَان فَلم يَجْعَل قَول الجنى دَلِيلا على ذَلِك وَإِنَّمَا جعلُوا سكُوت سُلَيْمَان على تَكْذِيبه وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ حجَّة لِأَنَّهُ لَو لم يكن قَادِرًا على الْإِتْيَان بِهِ لم يدع الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا بَطل الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور بِأَن صِحَة مَا تقدم ذكره على أَنا لَا نعلم خلافًا بَين الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلَا يشك أَن هَذَا كَانَ من دين الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَإِن قيل فِي النَّار من اليبس مَا لَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا والحياة فِي وجودهَا تحْتَاج إِلَى رُطُوبَة كَمَا تحْتَاج إِلَى بنية مَخْصُوصَة وَإِلَى الرّوح الَّتِي هِيَ النَّفس المتردد عِنْد شيخكم أبي هَاشم إِن كَانَ شيخكم أَبُو عَليّ يجوز وجود الْحَيَاة مَعَ عدم النَّفس وَيَقُول إِن أهل النَّار لَا يتنفسون وَإِذا صَحَّ هَذَا فالرطوبة لَا بُد مِنْهَا فِي وجود الْحَيَاة وَكَذَلِكَ البنية فَكيف يَصح لكم مَا قُلْتُمْ فَهَلا لديكم هَذَا على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بقوله {خلقناه من قبل من نَار السمُوم} غير مَا ذهبتم اليه وَإِن الْآيَة لَيست على ظَاهرهَا
قيل لَهُ إِن الامر وَإِن كَانَ على مَا ذكرت فَإِن الله تَعَالَى قَادر على أَن يفعل رُطُوبَة فِي تِلْكَ النَّار بِمِقْدَار مَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا لِأَن مجاورة المَاء وَالنَّار لَا تستحيل يدلك على هَذَا المَاء المسخن فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسخن من
أَجزَاء من النَّار تتخلل فِي خلل المَاء فَلهَذَا مَتى قَامَ فِي الْهَوَاء رقت أَجزَاء النَّار وَفَارَقت المَاء وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبُرُودَة أَلا ترى أَن البخار الَّذِي يرْتَفع مِنْهُ صعد إِنَّمَا يكون ذَلِك لارْتِفَاع أَجزَاء النَّار لِأَن أجزاءها خَفِيفَة والخفيف هُوَ مَا فِيهِ اعْتِمَاد صعدا وَالْمَاء ثقيل لِأَن فِيهِ اعْتِمَادًا سفلا فالبخار وَإِن كَانَ فِيهِ أَجزَاء من الرُّطُوبَة فَإِن أَكثر مَا فِيهِ أَجزَاء النَّار فلغلبتها عل الاجزاء الرّطبَة ترْتَفع مَعهَا وَتصير حكم الاجزاء المائية فِي لطافتها حَتَّى ترفعها أَجزَاء النَّار كالقطن وَمَا يجْرِي مجْرَاه مِمَّا ترفعه النَّار بصعودها فَدلَّ على صِحَة مَا ذَهَبْنَا اليه من مجاورة المَاء وَالنَّار على هَذَا السَّبِيل الَّذِي بَيناهُ وَإِذا صحت هَذِه الْجُمْلَة لم يمْتَنع إِحْدَاث الله تَعَالَى أَجزَاء من الرُّطُوبَة فِي خلل النَّار حَتَّى يَصح وجود الْحَيَاة وَلَيْسَ فِي البنية وَلَا فِي الرّوح لَهُم تعلق لِأَن النَّار تحْتَمل البنية وَكَذَلِكَ تحْتَمل مجاورتها الرّيح وَالروح هُوَ الْهَوَاء للنار قَالَ فَإِن قيل إِذا لم يجوزوا لُغَة اسْتثِْنَاء الشَّيْء من غير جنسه أَلا ترى أَنَّك لَا تَقول عِنْدِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثوبا وَمَا شاكله فَكيف يجوز اسْتثِْنَاء إِبْلِيس من جملَة الْمَلَائِكَة إِذا لم يكن من جنسهم وَمن أصلهم مَعَ أَن الله تَعَالَى خاطبنا بلغَة الْعَرَب فَهَلا دلكم هَذَا على أَنه من جنس الْمَلَائِكَة وَأَن اصل الْجِنّ لَيْسَ هُوَ النَّار
قُلْنَا انما جَازَ ذَلِك لما جمعهم وإياه الحكم الْمَقْصُود وَهُوَ الْأَمر بِالسُّجُود وَإِذا كَانَ هَذَا سائغا فِي اللُّغَة وَكَانَ مَشْهُورا عِنْد أَهلهَا سقط السُّؤَال وَصَحَّ مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْل
وَقَالَ ابو الْوَفَاء بن عقيل فِي الْفُنُون سَأَلَ سَائل عَن الْجِنّ فَقَالَ الله تَعَالَى اخبر عَنْهُم أَنهم من نَار بقوله تَعَالَى {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَأخْبر أَن الشهب تَضُرهُمْ وتحرقهم فَكيف تحرق النَّار النَّار فَقَالَ الْجَواب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
اعْلَم أَن الله تَعَالَى أضَاف الشَّيَاطِين وَالْجِنّ إِلَى النَّار حسب مَا أضَاف الْإِنْسَان إِلَى التُّرَاب والطين والفخار وَالْمرَاد بِهِ فِي حق الانسان أَن أَصله الطين وَلَيْسَ الْآدَمِيّ طينا حَقِيقَة لكنه كَانَ طينا كَذَلِك الجان كَانَ نَارا فِي
الأَصْل وَالدَّلِيل على ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم عرض لي الشَّيْطَان فِي صَلَاتي فخنقته فَوجدت برد رِيقه على يَدي وَلَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عليه السلام لقتلته أهـ
وَمن يكون نَارا محرقة كَيفَ يكون رِيقه بَارِدًا وَلَا لَهُ ريق رَأْسا لَكِن كَانَ يَقُول لَهُ لِسَان وذؤابة من نَار محرقة فَعلم صِحَة مَا قُلْنَا وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شبههم بالنبط وَلَوْلَا أَنهم على أشكال لَيست نَارا لما ذكر الصُّور وَترك الالتهاب والشرر انْتهى
قلت هَكَذَا لَفظه وَلَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عليه السلام لقتلته وَهَذَا اللَّفْظ غير مَعْرُوف بل الْمَعْرُوف فِي الصَّحِيح وَالسّنَن لَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عليه السلام لأصبح موثقًا حَتَّى ترَاهُ النَّاس وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَقَد هَمَمْت أَن أوثقه إِلَى سَارِيَة حَتَّى تصبحوا فتنظروا إِلَيْهِ وَمِمَّا يدل على أَن الْجِنّ لَيْسُوا باقين على عنصرهم الناري قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن عَدو الله تَعَالَى إِبْلِيس جَاءَ بشهاب من نَار ليجعله فِي وَجْهي أهـ وَقَوله صلى الله عليه وسلم رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي عفريتا من الْجِنّ يطلبني بشعلة من نَار كلما الْتفت رَأَيْته أهـ
وَبَيَان الدّلَالَة مِنْهُ أَنهم لَو كَانُوا باقين على عنصرهم الناري وَأَنَّهُمْ نَار محرقة لما احتاجوا إِلَى أَن يَأْتِي الشَّيْطَان أَو العفريت مِنْهُم بشعلة من نَار ولكانت يَد الشَّيَاطِين أَو العفريت أَو شَيْء من أَعْضَائِهِ إِذا مس ابْن آدم احرقه كَمَا يحرق الْآدَمِيّ النَّار الْحَقِيقِيَّة بِمُجَرَّد الْمس فَدلَّ على أَن تِلْكَ النَّار انغمرت فِي سَائِر العناصر حَتَّى صَار الْبرد رُبمَا كَانَ هُوَ الْغَالِب فِي بعض الأحيان إِمَّا للأعضاء نَفسهَا أَو لما تحلل من الْبدن كاللعاب كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى برد لِسَانه على يَدي وَفِي رِوَايَة حَتَّى برد لعابه وَلَا شكّ أَن الله تَعَالَى جعل الأقوات منمية للأجسام وَيكون
النمو استأصل عَن الْغذَاء على حَسبه فِي الْحَرَارَة والبرودة على اخْتِلَافهمَا فِي الرُّطُوبَة واليبوسة وَلَا شكّ أَنهم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ مِمَّا نَأْكُل مِنْهُ وَنَشْرَب وَيحصل لأجسامهم بذلك نمو وَبَقَاء على حسب الْمَأْكُول فِي مأكولهم الْحَار والبارد الرطبان واليابسان فَهَذَا مَعَ التوالد قد نقلهم عَن العنصر الناري وَصَارَ فيهم الطبائع الْأَرْبَع
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ولسنا ننكر مَعَ ذَلِك يَعْنِي أَن الأَصْل الَّذِي خلقه مِنْهُ النَّار أَن يكثفهم الله تَعَالَى ويغلظ أجسامهم ويخلق لَهُم أعراضا تزيد على مَا فِي النَّار فَيخْرجُونَ عَن كَونهم نَارا ويخلق لَهُم صورا وأشكالا مُخْتَلفَة وَالله سبحانه وتعالى أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب