الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاب الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ
فِي نوحهم على الشُّهَدَاء بِالْحرَّةِ
قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو زيد النميري حَدثنِي أَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن يحيى الْكِنَانِي حَدثنِي بعض آل الزبير قَالَ لما قتل أهل الْحرَّة هتف هَاتِف بِمَكَّة على أبي قبيس
…
قتل الْخِيَار بَنو الْخِيَار
…
ذَوُو المهابة والسماح
الصائمون القائمون
…
القانتون أولو الصّلاح
المهتدون المتقون
…
السَّابِقُونَ إِلَى الْفَلاح
مَاذَا بواقم والبقي
…
مَعَ من الجحا جحة والصباح
وبقاع يثرب ويحهن
…
من النوائح والصياح
…
فَقَالَ ابْن الزبير لأَصْحَابه يَا هَؤُلَاءِ قد قتل أصحابكم فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
رَأْي الْمُؤلف وتعليقه
قلت كَانَت وقْعَة الْحرَّة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ على بَاب طيبَة وَاسْتشْهدَ فِيهَا خلق كثير وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة رضي الله عنهم قَالَ خَليفَة فَجَمِيع من أُصِيب من قُرَيْش وَالْأَنْصَار ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ وروى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الْحرَّة وَقَالَ ليقْتلن بِهَذَا بِهَذَا الْمَكَان رجال هم خِيَار أمتِي بعد أَصْحَابِي وَكَانَ سَببهَا أَن اهل الْمَدِينَة خلعوا يزِيد بن مُعَاوِيَة وأخرجوا مَرْوَان بن الحكم وَبني أُميَّة وَأمرُوا عَلَيْهِم عبد الله بن حَنْظَلَة الغسيل وَلم يُوَافق أهل الْمَدِينَة أحد من أكَابِر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذين كَانُوا فيهم فَجهز إِلَيْهِم يزِيد بن مُعَاوِيَة مُسلم بن عقبَة فأوقع بهم
قَالَ السُّهيْلي وَقتل فِي ذَلِك الْيَوْم من وُجُوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ألف وَسَبْعمائة وَقتل من أخلاط النَّاس عشرَة آلَاف قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ هَذَا خسف ومجازفة والحرة الَّتِي يعرف بهَا هَذَا
الْيَوْم يُقَال لَهَا حرَّة زهرَة وَعرفت حرَّة زهرَة بقرية كَانَت لبنى زهرَة قوم من الْيَهُود قَالَ الزبير فِي فَضَائِل الْمَدِينَة كَانَت قَرْيَة كَبِيرَة فِي الزَّمن الْقَدِيم وَكَانَ فِيهَا ثَلَاثمِائَة صانع وَكَانَ يزِيد قد أعذر إِلَى أهل الْمَدِينَة وبذل لَهُم من الْعَطاء أَضْعَاف مَا يُعْطي النَّاس واجتهد فِي استمالتهم إِلَى الطَّاعَة والتحذير من الْخلاف وَلَكِن أبي الله إِلَّا مَا أَرَادَ {فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
الْبَاب التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ فِي إِخْبَار الْجِنّ بوفاة عمر بن عبد الْعَزِيز وَهَارُون الرشيد
قَالَ شكر الْهَرَوِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد الله بن مُحَمَّد بن عبيد الله ابْن عَاصِم بن عمر بن عبد الْعَزِيز حَدثنِي مُؤَمل بن إياب حَدثنَا اسماعيل ابْن دَاوُد المخراق حَدثنَا الْمَاجشون قَالَ خرجت بِمَكَّة فِي لَيْلَة وَإِذا أَنا بكلب يعدو حَتَّى دخل فِي وسط كلاب فَقَالَ أتضحكن وتلعبن وَقد مَاتَ اللَّيْلَة عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ فانجفلت ومررت فحسبنا تِلْكَ اللَّيْلَة فَوَجَدنَا عمر بن عبد الْعَزِيز قد مَاتَ
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي تَارِيخ نيسابور فِي تَرْجَمَة هَارُون الرشيد قَالَ سَمِعت أَبَا الْوَلِيد حسان بن مُحَمَّد الْفَقِيه يَقُول سَمِعت ابراهيم بن عبد الله السَّعْدِيّ يَقُول صعدت المئذنة لأؤذن فوقفت انْتظر الصُّبْح فَإِذا شبه كلب فِي نَاحيَة الرّيّ مستقبله مثله من النَّاحِيَة الْأُخْرَى فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه سويق فَقَالَ بليق فَقَالَ إيش الْخَبَر قَالَ توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَنزلت وكتبت فَإِذا هَارُون مَاتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
قلت توفّي هَارُون بطوس لَيْلَة السبت لثلاث خلون من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة وَمكث خَليفَة ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وشهرا وعمره سبع واربعون سنة وَالله أعلم
الْبَاب الموفي ثَمَانِينَ فِي بكاء الْجِنّ أَبَا حنيفَة رحمه الله
قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أبي الْعَوام السَّعْدِيّ أخبرنَا أُسَامَة بن أَحْمد ابْن اسامة أَبُو سَلمَة حَدثنَا الْحسن بن مَنْصُور النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد ابْن مَنْصُور الْملَائي حَدثنَا أَبُو عَاصِم الرقي حَدثنَا الخليجي أَن الْجِنّ بَكت أَبَا حنيفَة لَيْلَة مَاتَ وَكَانُوا يسمعُونَ الصَّوْت وَلَا يرَوْنَ الشَّخْص
…
ذهب الْفِقْه فَلَا فقه لكم
…
فَاتَّقُوا الله وَكُونُوا خلفا
مَاتَ نعْمَان فَمن هَذَا الَّذِي
…
يحيى اللَّيْل إِذا مَا سدفا
…
وَكَانَت وَفَاة أبي حنيفَة سنة خمسين وَمِائَة بِبَغْدَاد
الْبَاب الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ فِي نوحهم على وَكِيع بن الْجراح
قَالَ عَبَّاس الدوري فِي تَارِيخه حَدثنَا أَصْحَابنَا عَن وَكِيع أَنه خرج إِلَى مَكَّة وَكَانُوا إِذْ ذَاك يخرجُون فِي الصَّيف فَجعل أَهله يسمعُونَ النوح فِي دَارهم وَكَانَت دَارهم قوراء كَبِيرَة فَجعلُوا لَا يَشكونَ أَن النوح من دَارهم فَاسْتَيْقَظَ عِيَاله فَجعلُوا يسمعُونَ النوح فَلَمَّا قضى النَّاس الْحَج وَقدمُوا سَأَلَهُمْ النَّاس عَن وَكِيع مَتى مَاتَ فَقَالُوا فِي لَيْلَة كَذَا وَكَذَا فَإِذا هِيَ اللَّيْلَة الَّتِي سمعُوا النوح فِيهَا
قلت كَانَ وَكِيع إِمَامًا حَافِظًا واعيا للْعلم يَصُوم الدَّهْر وَيخْتم الْقُرْآن كل لَيْلَة مَعَ خشوع وورع وَكَانَ يُفْتِي بقول أبي حنيفَة وَسمع مِنْهُ كثيرا وَتُوفِّي سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة عَن ثَمَان وَسِتِّينَ سنة وَله أَخْبَار رحمه الله وترجمته كَبِيرَة
حكى الزَّمَخْشَرِيّ أَنه حج أَرْبَعِينَ حجَّة ورابط فِي عبادان أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَختم بهَا الْقُرْآن أَرْبَعِينَ ختمة وروى اربعة آلَاف حَدِيث وَتصدق بِأَرْبَعِينَ ألفا وَمَا روى وَاضِعا جنيه وَالله تَعَالَى اعْلَم
الْبَاب الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ فِي نوحهم على الْخَلِيفَة المتَوَكل
قَالَ أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا حَدثنَا عبد الله بن عَمْرو حَدثنِي المؤمل ابْن حَمَّاد الْكَلْبِيّ حَدثنِي عَمْرو بن شَيبَان قَالَ كنت لَيْلَة قتل المتَوَكل فِي منزلي بِالشَّام وَلم أعلم أَنَّهَا اللَّيْلَة الَّتِي قتل فِيهَا جَعْفَر فَلم اشعر إِلَّا وهاتف يَهْتِف فِي زَوَايَا الدَّار يَقُول
…
يَا نَائِم اللَّيْل فِي جثمان يقظان
…
أفض دموعك يَا عَمْرو بن شَيبَان
…
فَفَزِعت لذَلِك ثمَّ إِنِّي نمت فَأَعَادَ الصَّوْت فَمَا زَالَ على هَذَا ثَلَاث مرار كَأَنَّهُ يفهمني فَقلت لِلْجَارِيَةِ اعطيني دَوَاة وقرطاسا فَوَضَعته بجنبي فَانْدفع يَقُول يَا نَائِم اللَّيْل الْبَيْت
…
أما ترى الْعصبَة الأنجاس مَا فعلوا
…
بالهاشمي وبالفتح بن خاقَان
وافى إِلَى الله مَظْلُوما فعج لَهُ
…
أهل السَّمَوَات من مثنى ووحدان
فالطير ساهمة والغيث منحبس
…
والنيت منتقص فِي كل أبان
والسعر ينْقض والأنهار يابسة
…
وَالْأَرْض هامدة فِي كل أوطان
وسوف تَأْتيكُمْ أُخْرَى مسومة
…
توقعوها لَهَا شَأْن من الشان
فابكوا على جَعْفَر وارثوا خليفتكم
…
فقد بكاه جَمِيع الْإِنْس والجان
…
قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنِي ميسرَة بن حسان حَدثنِي جَعْفَر ابْن مسْعدَة قَالَ كنت بسامرا بعد قتل المتَوَكل فَأريت فِي النّوم كَأَن قَائِلا يَقُول
…
لقد خلوك وانصدعوا
…
فَمَا ألووا وَمَا ربعوا
وَلم يوفوا بعهدهم
…
فتبا للَّذي صَنَعُوا
أَلا يَا معشر الْمَوْتَى
…
إِلَى من كُنْتُم تقعوا
لنطلبها فَإِن الْقلب
…
قد أودى بِهِ وجع
وَلم نَعْرِف لكم خَبرا
…
فقلبي حشوه الْجزع
…
قَالَ فَبَكَيْت فِي نومي أَشد الْبكاء فانتبهت وَقد حفظت الأبيات
فَقَالَ لي صَاحب لي كَانَ معي مَا قصتك مَا زلت سَائِر ليلتك تبْكي فِي نومك
قلت المتَوَكل على الله هُوَ جَعْفَر أَبُو الْفضل بن المعتصم بِاللَّه ابي اسحاق مُحَمَّد بن هَارُون الرشيد بن مُوسَى الْهَادِي بن مُحَمَّد الْمهْدي ابْن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قتل فِي شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام وسنه اربعون سنة أباؤه كلهم خَليفَة وَكَذَلِكَ أَخَوَاهُ المعتز بِاللَّه وَالْمُعْتَمد على الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
الْبَاب الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ فِي بَيَان هَل الْجِنّ كلهم منظرون
قَالَ ابو الشَّيْخ فِي النَّوَادِر حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا عِيسَى ابْن أبي عِيسَى قَالَ بلغ الْحجَّاج بن يُوسُف أَن بِأَرْض الصين مَكَانا إِذا اخطأوا فِيهِ الأَرْض سمعُوا صَوتا يَقُول هَلُمَّ الطَّرِيق وَلَا يرَوْنَ أحدا فَبعث نَاسا وَأمرهمْ أَن يتخاطوا الطَّرِيق عمدا فَإِذا قَالُوا لكم هلموا الطَّرِيق فاحملوا عَلَيْهِم فانظروا مَا هم فَفَعَلُوا ذَلِك قَالَ فدعوهم فَقَالُوا هلموا الطَّرِيق فحملوا عَلَيْهِم فَقَالُوا إِنَّكُم لن ترونا فَقَالُوا مُنْذُ كم أَنْتُم هَهُنَا قَالُوا مَا نحصي السنين غير أَن الصين خربَتْ ثَمَانِي مرار وعمرت ثَمَانِي مرار وَنحن هَهُنَا
وَرَوَاهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن الْمُنْذر الْهَرَوِيّ الْمَعْرُوف بشكر فِي كتاب الْعَجَائِب فَقَالَ حَدثنَا عَبَّاس الدوري حَدثنَا مُحَمَّد بن بكار حَدثنَا ابو معشر فَذكره وَقَالَ ابْن ابي الدُّنْيَا حَدثنَا زَكَرِيَّا بن الْحَارِث بن مَيْمُون
الْعَبْدي حَدثنَا معَاذ بن هِشَام عَن ابيه عَن قَتَادَة قَالَ قَالَ الْحسن الْجِنّ لَا يموتون قَالَ قلت قَالَ الله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل فِي أُمَم قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس}
قلت وَمعنى قَول الْحسن أَن الْجِنّ لَا يموتون أَنهم منظرون مَعَ إِبْلِيس فَإِذا مَاتَ مَاتُوا مَعَه وَظَاهر الْقُرْآن يدل على أَن إِبْلِيس غير مَخْصُوص بالإنظار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأما وَلَده وقبيله فَلم يقم دَلِيل على أَنهم منظرون مَعَه وَظَاهر قَوْله تَعَالَى {فَإنَّك من المنظرين} يدل على أَن ثمَّ منظرين غير إِبْلِيس وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يدل على أَن المنظرين يهم الْجِنّ كلهم فيتحمل أَن يكون بعض الْجِنّ منظرين وَأما كلهم فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ وَقد قدمنَا فِي أَمر الْجِنّ الوافدين على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَخْبَارًا تدل على مَوْتهمْ وَكَذَلِكَ فِي غُضُون الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة وَقد صرح ابْن عَبَّاس بذلك وَأَن إِبْلِيس مَخْصُوص بالإنظار
قَالَ أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب العظمة حَدثنَا الْوَلِيد حَدثنَا الْعَبَّاس بن حمدَان حَدثنَا مُؤَمل حَدثنَا اسماعيل عَن الْجريرِي عَن حبَان عَن زرْعَة ابْن ضَمرَة قَالَ قَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس أتموت الْجِنّ قَالَ نعم غير إِبْلِيس قَالَ فَمَا هَذِه الْحَيَّة الَّتِي تدعى الحان قَالَ هِيَ صغَار الْجِنّ وَقَالَ ابْن شاهين فِي غرائب السّنَن حَدثنَا عُثْمَان بن احْمَد حَدثنَا حَنْبَل ابْن اسحاق حَدثنَا سعيد بن سُلَيْمَان حَدثنَا شُعَيْب بن هَارُون حَدثنَا فُضَيْل بن كثير بن دِينَار حَدثنَا عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ إِن الدَّهْر يمر بإبليس فيهرم ثمَّ يعود ابْن ثَلَاثِينَ وَقَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا حَدثنَا إِبْرَاهِيم ابْن رَاشد حَدثنَا دَاوُد بن مهْرَان حَدثنَا حَمَّاد بن شُعَيْب عَن عَاصِم الْأَحول قَالَ سَأَلت الرّبيع بن أنس فَقلت أَرَأَيْت هَذَا الشَّيْطَان الَّذِي مَعَ الْإِنْسَان لَا يَمُوت قَالَ وَشَيْطَان وَاحِد هُوَ أَنه ليتبع الرجل الْمُسلم فِي الْفِتْنَة مثل ربيعَة وَمُضر قَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا حَدثنَا زَكَرِيَّاء بن الْحَارِث بن مَيْمُون الْعَبْدي
حَدثنَا معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ الْجِنّ يموتون وَلَكِن الشَّيْطَان بكر البكرين لَا يَمُوت قَالَ قَتَادَة أَبوهُ بكر وَأمه بكر وَهُوَ بكرهما وَأوردهُ أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب العظمة فَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا معَاذ فَذكره وَالله أعلم حشر الْجِنّ
فصل فِي حشر الْجِنّ قَالَ الله تَعَالَى {وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا} الْآيَة روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ يحْشر الله تَعَالَى الْجِنّ وَالْإِنْس فِي الأَرْض الَّتِي قد مدت مد الْأَدِيم العكاظي ينفذهم الْبَصَر وَيسْمعهُمْ الدَّاعِي وَينزل سبط من الْمَلَائِكَة فيطوفون بالإنس وَالْجِنّ ثمَّ ينزل سبط ثَان فيطوفون بِالْمَلَائِكَةِ ثمَّ ثَالِث ثمَّ ذكر السَّادِس ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِل
قَالَ وَمن صَحِيح الْأَخْبَار أَن الأَرْض إِذا زلزلت وسير جبالها فتحاول الْجِنّ النّفُوذ من أقطار السَّمَوَات فيلقون ثَمَانِيَة عشرَة صفا من الْمَلَائِكَة حراسا فيضربون وُجُوههم وَيَقُولُونَ إِلَيْكُم {لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} قَالَ وَهَذَا الحَدِيث أوردهُ الضَّحَّاك فِي تَفْسِيره وَغَيره وَالله سبحانه وتعالى أعلم
الْبَاب الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ فِي أَن إِبْلِيس هَل كَانَ من الْمَلَائِكَة
قَالَ أَبُو الوفا على بن عقيل فِي كتاب الْإِرْشَاد إِن قيل لَك إِبْلِيس كَانَ من الْمَلَائِكَة أم لَا فَقل من الْمَلَائِكَة خلافًا لبَعض أَصْحَابنَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز لِأَن الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَقَالَ {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس} وَالِاسْتِثْنَاء لَا يكون من غير الْجِنْس هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي لُغَة الْعَرَب بِدلَالَة أَنه لَا يحسن قَول الْقَائِل فتح الخبازون إِلَّا فلَانا ويريدون فلَانا الْحداد وَلَا يحسن أَن يَقُول رَأَيْت النَّاس إِلَّا حمارا وان اسْتدلَّ مستدل على جَوَازه بقول الْقَائِل
. وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس
…
إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس
…
فَقل اليعافير والعيس من جنس مَا يؤنس بِهِ وَإِنَّمَا استثناهما من الإيناس لَا من غير ذَلِك لِأَنَّهُ لم يجز لغير الأنيس ذكر لَا آدَمِيّ وَلَا جني وَلَا غير ذَلِك قَالَ وَالَّذِي يدل على صِحَة هَذَا وانه من الْمَلَائِكَة أَنه لَو لم يكن مِنْهُم لما حسن لومه وسبه بامتناعه لِأَن لَهُ أَن يَقُول أمرت وَقد كَانَ مناظرا على مَا هُوَ أقل من هَذَا فَلَمَّا عدل إِلَى قَوْله {أَنا خير مِنْهُ} علم أَنه انْصَرف الْأَمر إِلَيْهِ وَلِهَذَا لَو نَادَى السُّلْطَان لَا يفتح البزازون فَفتح الخبازون لم يحسن لومهم لأَنهم لم يدخلُوا تَحت النَّهْي فَإِن قَالُوا فقد خصّه باسم فَقَالَ إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ قيل الْجِنّ نوع من الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُم الْجِنّ كَمَا يُقَال الكروبيون والروحانيون والخزنة والزبانية وهم كلهم جنس وَاحِد يشْتَمل على أَنْوَاع كالآدميين زنج وعرب وعجم فَلَو قَالَ قَائِل أمرت عَبِيدِي كلهم بِالطَّاعَةِ فأطاعوا إِلَّا فلَانا فَإِنَّهُ كَانَ من الزنج فعصاني لم يدل على ان عَبده الزنْجِي لَا يُشَارك عبيده فِي الجنسية وَإِن فارقهم فِي النوعية أنْتَهى وَقَالَ أَبُو يعلى رَأَيْت فِي تعليقات أبي اسحاق بن شاقلا يَقُول سَمِعت الشَّيْخ يَعْنِي أَبَا بكر وَقد سُئِلَ عَن إِبْلِيس أَمن الْمَلَائِكَة فَقَالَ أَمر بِالسُّجُود فلولا أَن إِبْلِيس مِنْهُم مَا كَانَ مَأْمُورا قَالَ أَبُو اسحاق فَقلت أجمعنا أَن الْمَلَائِكَة لَا تتناكح وَلَا لَهَا ذُرِّيَّة وَقد كَانَ لإبليس ذُرِّيَّة دلّ على أَنه من غَيرهَا وَظَاهر كَلَام أبي بكر عبد الْعَزِيز أَنه من جملَة الْمَلَائِكَة وَقد صرح أَبُو بكر فِي كتاب التَّفْسِير أَنه من الْمَلَائِكَة وَحكى الِاخْتِلَاف فِيهِ وانه لَو لم يكن من الْمَلَائِكَة خرج عَن أَن يكون مَأْمُورا بِالسُّجُود لِأَن السُّجُود انْصَرف إِلَى الْمَلَائِكَة وَقد أجمعنا على أَنه كَانَ مَأْمُورا بِهِ وَهُوَ قَول الْأَكْثَر من الْمُفَسّرين ابْن عَبَّاس وَغَيره وَقَول ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَآخَرين وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ وَهُوَ مَذْهَب شَيخنَا أبي الْحسن وَظَاهر كَلَام ابي اسحاق انه لَيْسَ من الْمَلَائِكَة وَأَنه من الْجِنّ لِأَنَّهُ اعْترض
على أبي بكر بِالدَّلِيلِ وَهُوَ قَول ابي الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لم يكن إِبْلِيس من الْمَلَائِكَة طرفَة عين قَالَ أَبُو يعلى فَإِن قيل فقد قَالَ تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} قَالَ قبل هَذَا إِخْبَار عَمَّا كَانَ مستترا فِيهِ من مَعْصِيّة الله عز وجل وَمُخَالفَة أمره لِأَن اشتقاق الْجِنّ من الاستتار وَمِنْه قَوْله فِي الْجَنِين جَنِين لاستتاره فِي بطن أمه وَمِنْه سمي الْمَجْنُون مَجْنُونا لِأَنَّهُ قد ستر بالخبال عقله وَجَوَاب آخر وَهُوَ أَن أَبَا بكر قد ذكره فِي كتاب التَّفْسِير فِي كِتَابه عَن ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود جعل إِبْلِيس على ملك سَمَاء الدُّنْيَا وَكَانَ من قَبيلَة من الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُم الْجِنّ وَإِنَّمَا سموا الْجِنّ لأَنهم خزان الْجنَّة وَكَانَ إِبْلِيس مَعَ ملكه خَازِنًا وَأما مَا احْتج بِهِ أَبُو اسحاق من أَن إِبْلِيس لَهُ الشَّهْوَة فقد حدثت لَهُ الشَّهْوَة بعد أَن مُحي من ديوانهم كَمَا حدثت الشَّهْوَة فِي هاروت وماروت بعد أَن هبطا إِلَى الأَرْض وَقيل إنَّهُمَا هويا امْرَأَة وَقد كَانَا ملكَيْنِ وَإِذا ثَبت أَنه من الْمَلَائِكَة وَأَنه محى من ديوانهم لما كَانَ مِنْهُ من الْعِصْيَان وَكَذَلِكَ هاروت وماروت انْتهى
رَأْي الْمُؤلف
قلت وَقد ذكر الطَّبَرِيّ فِي تَارِيخه قَول ابْن عَبَّاس فَقَالَ حَدثنَا الْقَاسِم بن الْحسن حَدثنَا الْحُسَيْن بن دَاوُد حَدثنِي حجاج عَن ابْن جريج قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس كَانَ إِبْلِيس من أشرف الْمَلَائِكَة وَأكْرمهمْ قَبيلَة وَكَانَ خَازِنًا على الْجنان وَكَانَ لَهُ سُلْطَان سَمَاء الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُ سُلْطَان الأَرْض وَبِه عَن ابْن جريج عَن صَالح مولى التَّوْأَمَة وَشريك بن أبي نمر أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا عَن ابْن عَبَّاس قَالَ إِن من الْمَلَائِكَة قَبيلَة من الْجِنّ كَانَ إِبْلِيس مِنْهَا وَكَانَ يسوس مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض حَدثنِي مُوسَى بن هَارُون الهمدني حَدثنَا عَمْرو بن حَمَّاد حَدثنَا أَسْبَاط بن نصر عَن السّديّ فِي خبر ذكره عَن ابي مَالك وَعَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مرّة الْهَمدَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعَن أنَاس من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جعل إِبْلِيس ملك سَمَاء الدُّنْيَا وَكَانَ من قَبيلَة من الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُم الْجِنّ وَإِنَّمَا سموا الْجِنّ لأَنهم خزان الْجنَّة وَكَانَ إِبْلِيس مَعَ ملكه خَازِنًا وَقَالَ أَبُو بكر
الْقرشِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعيد حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا نوح بن قيس عَن أبي يسر بن جزور عَن قَتَادَة قَالَ كَانَ إِبْلِيس عَاشر عشرَة من الْمَلَائِكَة على الرّيح
قَالَ الطَّبَرِيّ حَدثنَا أَبُو كريب عُثْمَان بن سعيد حَدثنَا بشر بن عمار عَن أبي روق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ إِبْلِيس من حَيّ من أَحيَاء الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُم الْجِنّ خلقُوا من نَار السمُوم من بَين الْمَلَائِكَة قَالَ وَكَانَ اسْمه الْحَارِث يَعْنِي بِالْعَرَبِيَّةِ قَالَ وَكَانَ خَازِنًا من خزان الْجنَّة قَالَ وخلقت الْمَلَائِكَة كلهم من نور غير هَذَا الْحَيّ قَالَ وخلقت الْجِنّ الَّذين ذكرُوا فِي الْقُرْآن من مارج من نَار وَهُوَ لِسَان النَّار الَّذِي يكون فِي طرفها إِذا التهبت قَالَ وَخلق الْإِنْسَان من طين فَأول من سكن الأَرْض بَنو الْجِنّ فأفسدوا فِيهَا وسفكوا الدِّمَاء وَقتل بَعضهم بَعْضًا فَبعث الله إِلَيْهِم إِبْلِيس وَمن مَعَه حَتَّى ألحقهم بجزاير البحور وأطراف الْجبَال فَلَمَّا فعل إِبْلِيس ذَلِك اغْترَّ فِي نَفسه وَقَالَ قد صنعت شَيْئا لم يصنعه أحد قَالَ فَاطلع الله على ذَلِك من قلبه وَلم يطلع عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة الَّذين كَانُوا مَعَه
قلت وَيدل على قَول ابْن شاقلا مَا رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا عَن عَليّ ابْن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة بن صَالح أَن الْعَلَاء بن الْحَارِث حَدثهُ عَن ابْن شهَاب أَنه سُئِلَ عَن إِبْلِيس قَالَ إِبْلِيس من الْجِنّ وَهُوَ أَبُو الْجِنّ كَمَا أَن آدم من النَّاس وَهُوَ أَبُو النَّاس وَالله سبحانه وتعالى أعلم
الْبَاب الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ فِي أَن إِبْلِيس هَل كلمة الله تَعَالَى أم لَا
قَالَ ابْن عقيل ان قَالَ لَك قَائِل هَل كلم الله تَعَالَى إِبْلِيس من غير واسطه فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك أَعنِي الاصوليين فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم لم يكلمهُ قَالَ وَقَالَ بَعضهم بل كَلمه وَالصَّحِيح أَنه لَا يجوز أَن يكون كلمة كفاحا وَإِنَّمَا يكون على لِسَان ملك لِأَن كَلَام الْبَارِي لمن كَلمه رَحْمَة ورضى وتكرم وإجلال أَلا ترى أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء فضل بذلك على سَائِر الْأَنْبِيَاء مَا عدا الْخَلِيل مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَجَمِيع الآى الْوَارِدَة مَحْمُولَة على أَنه أرسل إِلَيْهِ بِملك يَقُول فَإِن قيل أَلَيْسَ رسَالَته تَشْرِيفًا وَقد كَانَت لإبليس على غير وَجه التشريف كَذَلِك يكون كَلَامه تَشْرِيفًا لغير إِبْلِيس وَلَا يكون تَشْرِيفًا لإبليس قيل مُجَرّد الْإِرْسَال لَيْسَ بتشريف وَإِنَّمَا يكون لإِقَامَة الْحجَّة بِدلَالَة أَن مُوسَى عليه السلام أرْسلهُ إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَلَا شرف لَهما وَلَا قصد إكرامهما وإعظامهما لعلمه بِأَنَّهُمَا عدوان لَهُ وَكَلَامه إِيَّاه تَشْرِيفًا لَهُ قَالُوا لما قَالَ للْمَلَائكَة اسجدوا هَل كَانَ مُخَاطبا مَعَهم أم لَا قيل يجوز أَن يدْخل فِي عُمُوم النُّطْق وَلَا يخص بذلك بِدلَالَة أَنه سُبْحَانَهُ شرف نبيه بتخصيصه على سَائِر الْأُمَم فَلم يبلغُوا بخطاب الْعُمُوم خطابه الْخَاص وَيجوز أَيْضا حمل خطابه وَأمره بِالسُّجُود الْخَاصَّة من الْمَلَائِكَة كفاحا ولإبليس بالارسال وَيكون اللَّفْظ عَاما مُطلقًا وَالْمعْنَى مفصلا كَمَا يُقَال أَمر السُّلْطَان رَعيته بِالْخدمَةِ لزيد وَإِن كَانُوا مُخْتَلفين فِي مَرَاتِب أمره بَعضهم شافهه وَبَعْضهمْ أرسل إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ يَجْعَل غَضَبه عَلَيْهِ وَكَونه عَاصِيا حجَّة فِي عدم كَلَامه وَقد أخبر سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يكلم من هَذَا حَاله فَقَالَ {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} {قَالَ اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَلِأَن الْكَلَام بِالْغَضَبِ وَالْعَذَاب لَا يكون تَشْرِيفًا بل انتقاما كالملك إِذا شتم خادمه وضربه وَأمر بقتْله لَا يُقَال قد أكْرمه قيل كَلَام العالي تشريف لمن يكلمهُ وَإِن كَانَ وعيدا فَلهَذَا لَا يكلم السُّلْطَان لمن غضب عَلَيْهِ ولعنه بِنَفسِهِ فَأَما السقاط والحارس فَإِنَّهُ بِكُل ذَلِك إِلَى خدمه
ورعيته وَقد نبه سُبْحَانَهُ على ذَلِك وَأَن كَلَامه يشرف بِهِ الْمُخَاطب فَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا} وَهَذَا يدل على مَا ذكرت وَأما قَوْلهم وَيَوْم يناديهم فَالْمُرَاد يناديهم على لِسَان بعض مَلَائكَته إرْسَالًا بِدلَالَة الْآيَة الثَّانِيَة وَهِي قَوْله سُبْحَانَهُ {وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة} وَلَو كَانَ النداء هُنَاكَ الْكَلَام لَكَانَ الْقُرْآن متناقضا وَنحن نجمع بَين الْآيَتَيْنِ فَنَقُول يناديهم بِبَعْض مَلَائكَته وَلَا يكلمهم بِنَفسِهِ وَلِهَذَا يُقَال قد نَادَى السُّلْطَان فِي الْبَلَد بِمَعْنى أَمر مناديا فَنَادَى لَا أَنه نَادَى بِنَفسِهِ وَالله تَعَالَى أعلم
الْبَاب السَّادِس وَالثَّمَانُونَ فِي خطأ إِبْلِيس فِي دَعْوَاهُ أَنه خير من آدم عليه السلام وتعليله بِأَنَّهُ خلق من نَار
اعْلَم أَن هَذِه الشُّبْهَة الَّتِي ذكرهَا إِبْلِيس إِنَّمَا ذكرهَا على سَبِيل التعنت وَإِلَّا فامتناعه من السُّجُود لآدَم إِنَّمَا كَانَ عَن كبر وَكفر وَمُجَرَّد إباء وحسد وَمَعَ ذَلِك فَمَا أبداه من الشُّبْهَة فَهُوَ داحض لِأَنَّهُ رتب على ذَلِك أَنه خير من آدم لكَونه خلق من نَار وآدَم خلق من طين ورتب على هَذَا أَنه لَا يحسن مِنْهُ الخضوع لمن دونه وَمن هُوَ خير مِنْهُ وَهَذَا بَاطِل من وُجُوه
الأول أَن النَّار طبعها الْفساد وَإِتْلَاف مَا تعلّقت بِهِ بِخِلَاف التُّرَاب
الثَّانِي أَن النَّار طبعها الخفة والطيش وَالْجدّة وَالتُّرَاب طبعه الرزانة والسكون والثبات
الثَّالِث أَن التُّرَاب يتكون فِيهِ وَمِنْه أرزاق الْحَيَوَان وأقواتهم ولباس الْعباد وزينتهم وآلات مَعَايشهمْ ومساكنهم وَالنَّار لَا يكون فِيهَا شَيْء من ذَلِك
الرَّابِع أَن التُّرَاب ضَرُورِيّ للحيوان لَا يسْتَغْنى عَنهُ الْبَتَّةَ وَلَا عَمَّا يتكون فِيهِ وَمِنْه وَالنَّار يسْتَغْنى عَنْهَا الْحَيَوَان البهيم مُطلقًا وَقد يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْإِنْسَان الْأَيَّام والشهور فَلَا يَدعُوهُ إِلَيْهَا ضَرُورَة
الْخَامِس أَن التُّرَاب إِذا وضع فِيهِ الْقُوت أخرجه أَضْعَاف أَضْعَاف مَا وضع فِيهِ فَمن بركته يُؤَدِّي مَا استودعته فِيهِ إِلَيْك مضاعفا وَلَو استودعته النَّار لخانتك وأكلته وَلم تبْق وَلم تذر
السَّادِس أَن النَّار لَا تقوم بِنَفسِهَا بل هِيَ مفتقرة إِلَى مَحل تقوم بِهِ يكون حَامِلا لَهَا وَالتُّرَاب لَا يفْتَقر إِلَى حَامِل فالتراب أكمل مِنْهَا لغناه وافتقارها
السَّابِع أَن النَّار مفتقرة إِلَى التُّرَاب وَلَيْسَ التُّرَاب مفتقرا إِلَيْهَا فَإِن الْمحل الَّذِي تقوم بِهِ النَّار لَا يكون إِلَّا متكونا أَو فِيهِ من التُّرَاب فَهِيَ الفقيرة إِلَى التُّرَاب وَهُوَ الْغنى عَنْهَا
الثَّامِن أَن الْمَادَّة الإبليسية هِيَ المارج من النَّار وَهُوَ ضَعِيف تتلاعب بِهِ الأهوية فيميل مَعهَا كَيْفَمَا مَالَتْ وَلِهَذَا غلب الْهوى على الْمَخْلُوق مِنْهُ فَأسرهُ وقهره وَلما كَانَت الْمَادَّة الْآدَمِيَّة هِيَ التُّرَاب وَهُوَ قوي لَا يذهب مَعَ الْهَوَاء أَيّمَا ذهب قهر هَوَاهُ وأسره وَرجع إِلَى ربه فاجتباه واصطفاه وَكَانَ الْهَوَاء الَّذِي مَعَ الْمَادَّة الْآدَمِيَّة عارضا سريع الزَّوَال فَزَالَ وَكَانَ الثَّبَات والرزانة اصليا لَهُ فَعَاد إِلَيْهِ وَكَانَ إِبْلِيس بِالْعَكْسِ من ذَلِك فَعَاد كل مِنْهُمَا إِلَى أَصله وعنصره آدم إِلَى أَصله الطّيب الشريف واللعين إِلَى أَصله الردي
التَّاسِع أَن النَّار وَإِن حصل مِنْهَا بعض الْمَنْفَعَة وَالْمَتَاع فالشر كامن فِيهَا لَا يصدها عَنهُ إِلَّا قسرها وحبسها وَلَوْلَا القاسر والحابس لَهَا لأفسدت الْحَرْث والنسل التُّرَاب فالخير وَالْبركَة كامن فِيهِ كلما أثير وقلب ظَهرت بركته وخيره وثمرته فَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر
الْعَاشِر أَن الله تَعَالَى أَكثر ذكرهَا فِي كِتَابه وَأخْبر عَن مَنَافِعهَا وخلقها وَأَنه جعلهَا مهادا وفراشا وبساطا وقرارا أَو كفات للأحياء والأموات ودعا عباده إِلَى التفكر فِيهَا وَالنَّظَر فِي آياتها وعجائبها وَمَا أودع فِيهَا وَلم
يذكر النَّار إِلَّا فِي معرض الْعقُوبَة والتخويف وَالْعَذَاب إِلَّا فِي مَوضِع أَو موضِعين ذكرهَا فِيهِ بِأَنَّهَا تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بِنَار الْآخِرَة ومتاع لبَعض أَفْرَاد النَّاس وهم المقوون النازلون بالقرى وَهِي الأَرْض الخالية إِذا نزلها الْمُسَافِر يمتع بالنَّار فِي منزله فَأَيْنَ هَذَا من أَوْصَاف الأَرْض فِي الْقُرْآن
الْحَادِي عشر أَن الله تَعَالَى وصف الأَرْض بِالْبركَةِ فِي غير مَوضِع من كِتَابه خُصُوصا وَأخْبر أَنه بَارك فِيهَا عُمُوما فَقَالَ تَعَالَى {أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى أَن قَالَ {وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها} فَهَذِهِ بركَة عَامَّة وَأما الْبركَة الْخَاصَّة بِبَعْضِهَا فكقوله تَعَالَى {ونجيناه ولوطا إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا} وَأما النَّار فَلم يخبر انه جعل فِيهَا بركَة أصلا بل الْمَشْهُود أَنَّهَا مذهبَة للبركات ماحقة لَهَا فَأَيْنَ الْمُبَارك فِي نَفسه الْمُبَارك فِيمَا وضع فِيهِ إِلَى مزيل الْبركَة وَمَا حَقّهَا
الثَّانِي عشر أَن الله تَعَالَى جعل الأَرْض مَحل بيوته الَّتِي يذكر فِيهَا اسْمه ويسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال عُمُوما وبيته الْحَرَام الَّذِي جعله قيَاما للنَّاس مُبَارَكًا وَهدى للعاملين خُصُوصا فَلَو لم يكن فِي الأَرْض إِلَّا بَيته الْحَرَام لكفاها ذَلِك شرفا وفخرا على النَّار
الثَّالِث عشر أَن الله تَعَالَى أودع الأَرْض من الْمَعَادِن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الْحَيَوَانَات وامتعتها وَالْجِبَال والرياض والمراكب البهية والصور البهيجة مَا لم يودع فِي النَّار شَيْئا مِنْهُ فَأَي رَوْضَة وجدت فِي النَّار أَو جنَّة أَو مَعْدن أَو صُورَة أَو عين خرارة أَو نهر مطرد أَو ثَمَرَة لذيذة
الرَّابِع عشر إِن غَايَة النَّار أَنَّهَا وضعت خادمة لما فِي الأَرْض فَالنَّار إِنَّمَا محلهَا مَحل الْخَادِم لهَذِهِ الْأَشْيَاء فَهِيَ تَابِعَة لَهَا خادمة فَقَط إِذا استغنت عَنْهَا طردتها وأبعدتها عَن قربهَا وَإِذا احْتَاجَت إِلَيْهَا استدعتها استدعاء المخدوم لِخَادِمِهِ
الْخَامِس عشر أَن اللعين لقُصُور نظره وَضعف بصيرته رأى صُورَة الطين تُرَابا ممتزجا بِمَاء فاحتقره وَلم يعلم أَن الطين مركب من أصلين
المَاء الَّذِي جعل الله تَعَالَى مِنْهُ كل شَيْء حَيا وَالتُّرَاب الَّذِي جعله خزانَة الْمَنَافِع وَالنعَم هَذَا وَلم يجِئ من الطين من الْمَنَافِع وأنواع الْأَمْتِعَة فَلَو تجَاوز نظره صُورَة الطين إِلَى مادته ونهايته لرَأى أَنه خير من النَّار وَأفضل ثمَّ لَو سلم بطرِيق الْفَرْض الْبَاطِل إِن النَّار خير من الطين لم يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْمَخْلُوق مِنْهَا خيرا من الطين فَإِن الْقَادِر على كل شَيْء يخلق من الْمَادَّة المفضولة من هُوَ خير مِمَّن خلقه من الْمَادَّة الفاضلة فالاعتبار بِكَمَال النِّهَايَة لَا بِنَقص الْمَادَّة فاللعين لم يتَجَاوَز نظره مَحل الْمَادَّة وَلم يعبر مِنْهَا إِلَى كَمَال الصُّورَة وَنِهَايَة الْخلقَة وَالله أعلم
الْبَاب السَّابِع وَالثَّمَانُونَ فِي كَيْفيَّة الوسوسة وَمَا ورد فِي الوسواس
قَالَ الله تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس} السُّورَة بكمالها هَذِه السُّورَة مُشْتَمِلَة على الِاسْتِعَاذَة من الشَّرّ الَّذِي هُوَ سَبَب الذُّنُوب والمعاصي كلهَا وَهُوَ منشأ الْعُقُوبَات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فسورة الفلق تَضَمَّنت الِاسْتِعَاذَة من الشَّرّ الَّذِي هُوَ ظلم الْغَيْر لَهُ بِالسحرِ والحسد وَهُوَ شَرّ من خَارج وَسورَة النَّاس تَضَمَّنت الِاسْتِعَاذَة من الشَّرّ الَّذِي هُوَ سَبَب ظلم العَبْد نَفسه فَهُوَ شَرّ من دَاخل فالشر الأول لَا يدْخل تَحت التَّكْلِيف وَلَا يطْلب مِنْهُ الْكَفّ عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من كَسبه وَالشَّر الثَّانِي يدْخل تَحت التَّكْلِيف وَيتَعَلَّق بِهِ النَّهْي والوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الْحَرَكَة وَالصَّوْت الْخَفي الَّذِي لَا يحس فيحترز مِنْهُ فالوسواس الْإِلْقَاء الْخَفي فِي النَّفس وَلما كَانَت الوسوسة كلَاما يكرره الموسوس ويؤكده عِنْد من يلقيه إِلَيْهِ كرر لَفظهَا بازاء تَكْرِير مَعْنَاهَا وَاخْتلف النُّحَاة فِي لفظ الوسواس هَل هُوَ وصف أَو مصدر على قَوْلَيْنِ وَأما الخناس ففعال من خنس يخنس إِذا توارى واختفى وَمِنْه قَول أبي هُرَيْرَة فانخنست مِنْهُ وَحَقِيقَة اللَّفْظ اختفاء بعد ظُهُور فَلَيْسَتْ لمُجَرّد الاختفاء وَلِهَذَا وصف بهَا الْكَوَاكِب وَقَوله {يوسوس فِي صُدُور النَّاس} صفة ثَالِثَة للشَّيْطَان فَذكر وسوسته أَولا ثمَّ ذكر محلهَا ثَانِيًا فِي صُدُور النَّاس وَتَأمل حكم الْقُرْآن وجلالته كَيفَ أوقع الِاسْتِعَاذَة من شَرّ الشَّيْطَان الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ {الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس}
وَلم يقل من شَرّ وسوسته لنعم الِاسْتِعَاذَة شَره جَمِيعه فَإِن قَوْله {من شَرّ الوسواس} نعم كل شَره وَوَصفه بأعظم صِفَاته وأشدها شرا وأقواها تَأْثِيرا وأعمها فَسَادًا وَتَأمل السِّرّ فِي قَوْله {يوسوس فِي صُدُور النَّاس} وَلم يقل فِي قُلُوبهم والصدور هِيَ ساحة الْقلب وبيته فَمِنْهُ تدخل الواردات عَلَيْهِ فتجتمع فِي الصَّدْر ثمَّ تلج فِي الْقلب فَهُوَ بِمَنْزِلَة الدهليز وَمن الْقلب تخرج الْأَوَامِر والإرادات إِلَى الصَّدْر ثمَّ تتفرق على الْجنُود وَمن فهم هَذَا فهم قَوْله تَعَالَى {وليبتلي الله مَا فِي صدوركم وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ} فالشيطان يدْخل إِلَى ساحة الْقلب وبيته فَيلقى مَا يُرِيد إلقاءه إِلَى الْقلب فَهُوَ يوسوس فِي الصَّدْر وسوسته واصلة إِلَى الْقلب وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان} وَلم يقل فِيهِ وَالله أعلم وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى {الوسواس} يحْتَمل أَن يفعل كلَاما خفِيا يُدْرِكهُ الْقلب وَيُمكن أَن يكون هُوَ الَّذِي يَقع عِنْد الْفِكر وَيكون مِنْهُ مس وسلوك وَذُهُول فِي أَجزَاء الْإِنْسَان ويتحفظه وَهَذَا ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي رِوَايَة بكر بن مُحَمَّد هُوَ يتَكَلَّم على لِسَانه خلافًا لبَعض الْمُتَكَلِّمين فِي إنكارهم سلوك الشَّيْطَان فِي أجسام الْإِنْس وَزَعَمُوا انه لَا يجوز وجود روحين فِي جَسَد فَإِن قيل كَيفَ يَصح سلوكه فِي الْإِنْسَان وَتَحفظه لَهُ وَهُوَ من نَار وَمَعْلُوم أَن النَّار تحرق الْآدَمِيّ قيل النَّار لَا تحرق بطبعها وَإِنَّمَا يحدث الله تَعَالَى فِيهَا الإحراق حَالا فحالا فَيجوز أَن لَا يحدث فِيهَا الإحراق فِي حَال سلوكه فَإِن قيل يحمل قَوْله عليه الصلاة والسلام يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم يَعْنِي وساوسه تجْرِي مِنْهُ هَذَا المجرى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} مَعْنَاهُ حبه قيل لَو لم يدْخل فِي جَوف الْإِنْسَان لم يحس بوسوسة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يحس بِكَلَام أَو وَسْوَسَة خَارِجَة من جِسْمه إِلَّا بِصَوْت يسمعهُ بِإِذْنِهِ وَلَيْسَ للشَّيْطَان صَوت يسمع فَهُوَ بِمَثَابَة حَدِيث النَّفس
فَإِن قيل فَيَقُولُونَ للشَّيْطَان سَبِيل إِلَى تخبيط الْإِنْسِي كَمَا لَهُ سَبِيل إِلَى