المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في النسخ - تيسير الوصول إلى منهاج الأصول - جـ ٤

[ابن إمام الكاملية]

الفصل: ‌الفصل الأول: في النسخ

‌الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

ما مر كان يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع، وهذا يشترك فيه الكتاب والسنة، دون الإجماع، لما سيأتي أنه لا ينسخ ولا ينسخ به.

وفيه، أي في الباب فصلان:

‌الفصل الأول: في النسخ

ص: 123

ويقال في اللغة لمعنيين:

للإزالة: يقال: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح آثار القدم، أي: أزالته.

وللنقل: نسخت (الكتاب، أي: نقلت ما فيه) إلى آخر.

وهو في الاصطلاح: بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ

ص: 124

عنه.

فقوله: «بيان» كالجنس.

وقوله: «انتهاء» ، أخرج به بيان المجمل.

وقوله: حكم شرعي، دخل فيه الأمر وغيره، وخرج به بيان

ص: 125

انتهاء حكم عقلي، وهو البراءة الأصلية.

فإن انتهاءها بدليل شرعي ليس بنسخ.

وقوله: بطريق شرعي، ليخرج الانتهاء بطريق عقلي كالموت والغفلة والعجز، فعدم تعلق الحكم هنا لعدم قابلية المحل بطريان الموت والغفلة والعجز وليست دلائل شرعية.

وقال بطريق، ولم يقل بحكم؛ لأن النسخ قد يكون بالفعل والتقرير، كذا قيل.

والتحقيق: أنه دليل النسخ.

ص: 126

وقوله: «متراخ» ، احتراز عن البيان بالمتصل: كالاستثناء والصفة.

والمنفصل: كما لو قال: «لا تقتلوا أهل الذمة» عقب قوله: «اقتلوا المشركين» .

واشترط في الناسخ: أن يكون متراخيًا، إذ لو لم يكن كذلك لكان الكلام متناقضًا.

وأخرج به أيضًا نحو: صل عند كل زوال إلى آخر الشهر.

ولا يرد على المصنف: المنسوخ إذا كان خبرًا؛ لأنه إن تضمن حكمًا شرعيًا فيفسخ، وإلا فلا ورود له.

وأما قول العدل: نسخ حكم كذا، فلم يدخل في حد المصنف؛ لأن قول العدل دال على ذلك الحكم الشرعي، فهو دليل النسخ الدال بالذات.

ص: 127

ولا يرد أيضًا: ما إذا اختلفت الأمة على قولين، ثم أجمعوا على أحدهما، فإنه وإن تعين الأخذ به بعد التخيير بينهما، لأن توهم صدق الحد عليه، مع أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، يرفعه ما احترز عنه؛ لأنه يذكره بعد استقلالًا.

أو في الحد حذف تقديره: بطريق شرعي غير الإجماع.

وأيضًا المراد بالتراخي في الحد: التراخي نزولًا.

والفرق بين النسخ والتخصيص مر.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: رفع الحكم، أي: حده بأنه خطاب دال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه وارتضاه الغزالي.

وقال القاضي: إنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملًا للفظ، والفحوى، والمفهوم، وكل دليل، إذا يجوز النسخ بجميع ذلك.

وإنما قلنا: على ارتفاع الحكم، ليتناول الأمر والنهي والخبر.

وإنما قلنا: بالخطاب المتقدم، لأن ابتداء العبادات في الشرع يزيل

ص: 128

حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخًا.

وإنما قلنا: لولاه لكان ثابتًا، لأن حقيقة النسخ الرفع، وهو إنما يكون رافعًا لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي.

وإنما قلنا: مع (تراخيه عنه، لأنه لو اتصل به لكان بيانًا لمدة العبادة لا نسخًا.

ورد تعريف القاضي بأن الحادث، الذي هو الرافع ضد السابق، وليس رفعه أي: رفع) الحادث السابق أولى من دفعه، أي: من دفع السابق الحادث.

والرفع والدفع مصدران مضافان إلى الفاعل.

ص: 129

وجوابه: أن القاضي أراد بالحكم الأثر الثابت بالخطاب المتعلق تعلق التنجيز فإنه ليس قديمًا، فيجوز رفعه وتأخره عن غيره، وإيضاحه في الشرح مع تحقيقات حسنة.

وفيه -أي:

في الفصل الأول: مسائل:

الأولى

أنه جائز وواقع بإجماع أهل الشرائع، وأحاله اليهود أي بعضهم فقالوا: يمتنع عقلًا.

ص: 130

وقال بعضهم: يجوز عقلًا لكنه لم يقع.

والعيسوية -منهم -قالوا بجوازه ووقوعه، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم -عندهم لم ينسخ شريعة موسى عليه الصلاة والسلام -بل بعث إلى بني إسماعيل، دون بني إسرائيل.

وكذبوا في ذلك -لعنهم الله -بل بعث إلى (كافة الخلق).

ص: 131

لنا: على جواز النسخ، وأنه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته، سواء اعتبرت المصالح، أم لا أن حكمه -تعالى -أن يتبع المصلحة فيتغير بتغيرها؛ لأنا نقطع بأن المصلحة (تختلف باختلاف الأوقات كشرب دواء في وقت دون وقت.

فلا بد أن تكون المصلحة) في وقت يقتضي شرع ذلك الحكم، وفي

ص: 132

وقت رفعه فتتغير الأحكام بتغير المصالح وإلا وإن لم يتبع حكمه تعالى المصلحة فله تعالى أن يفعل كيف شاء.

ولنا أيضًا: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم -ثبتت بالدليل القاطع؛ لأنه ادعى النبوة قطعًا، وتواتر ذلك، وظهرت المعجزة منه، مثل القرآن، لأنه كتاب شريف، بالغ في فصاحة اللفظ وكثرة العلوم.

فإن المباحث الإلهية واردة فيه على أحسن الوجوه، وكذلك علوم الأخلاق، وعلوم السياسات، وعلم تصفية الباطن، وعلم أحوال القرون الماضية، والمغيبات، مع خلو بلده عن العلماء، والأفاضل، والكتب العلمية، والمباحث الحقيقية، ولم يواظب على القراءة والاستفادة ألبتة.

وانقضى من عمره أربعين سنة على هذه الصفة ثم ظهر مثل هذا الكتاب عليه، وذلك معجزة قاهرة.

ص: 133

وأيضًا فقد تحداهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا.

وأيضًا: فقد ظهرت على يده معجزات كثيرة مثل: انشقاق القمر، وتسبيح الحصا، وتكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه،

ص: 134

وحنين الجذع، وكل منها، وإن كان (مرويًا بطريق) الآحاد لكن مجموعها يفيد التواتر.

وكل من ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة، فإنه يجب أن يكون نبيًا.

لأن الملك العظيم إذا حضر في محفل عظيم، وقام واحد فقال: يا أيها الناس إني رسول هذا الملك إليكم، ثم قال أيه الملك: إن كنت صادقًا في ذلك فخالف عادتك، وقم من سريرك، فإذا قام ذلك الملك عند سماع هذا الكلام عرف الحاضرون بالضرورة كون ذلك المدعي صادقًا في دعواه، فكذا هنا.

وله طريق آخر مذكورة في الكلام، فقد ثبتت نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم -بالدليل القاطع.

ص: 135

وقد نقل قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} .

فدل ذلك على النسخ، (لأن سبب نزولها: طعن الكفار حيث قولوا: إن محمدًا يأمر الشيء ثم ينهى عنه).

ص: 136

ولنا أيضًا: أن آدم عليه السلام كان يزوج بناته من بنيه (رواه الطبري وغيره من ابن عباس رضي الله عنهما.

ورواه الطبري عن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -نحوه.

ص: 137

قال شيخ الإسلام ما حاصله: وقد وقع لنا موصولًا إلى ابن عباس رضي الله عنهما وساق سنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آدم عليه السلام نهى أن ينكح ابنته توأمها، وأن يزوج توأمة هذا الولد آخر، وأن يزوجه توأمه الآخر.

فذكر الخبر باختصار قال: وهذا أقوى ما وقفت عليه من أسانيد هذه القصة ورجاله رجال الصحيح، إلا عبد الله بن خثيم بمعجمة ثم مثلثة مصغر.

فإن مسلمًا أخرج له في المتابعات، وعلق له البخاري شيئًا، ووثقه الجمهور.

قال: وفي هذه الأخبار رد لما ذكره الثعلبي عن جعفر، كما

ص: 138

سيجيء).

يعني ورد بلفظ الإطلاق بل العموم، لكن على التوزيع من غير تخصيص بالبنات والبنين في زمانه ولا يقيد بوقت دون وقت.

والاحتمالات التي لم تنشأ عن دليل بل ينفيها ظاهر الدليل تكون منفية، والآن تزويج البنات من البنين محرم اتفاقًا.

وهذا الرأي لليهود (لو صح ما رواه) الثعلبي عن جعفر الصادق، من إنكار تزويج أدم بناته من بنيه، (لكن فيه ما مر).

قيل: من جهة المانعين للنسخ مطلقًا: المأمور به حسن والمنهي عنه قبيح والفعل الواحد (في واحد).

لا يحسن ولا يقبح، لاستلزامه الضدين.

ص: 139

قلنا: هذا مبني على الحسن والقبح العقليين، وذلك فاسد، والمبني على الفاسد فاسد.

ومع هذا، أي: مع القول به لا استحالة، لأنه يحتمل أن يحسن لواحد، أو يحسن في وقت ويقبح لآخر، أو يقبح لواحد لكن في وقت آخر كشرب دواء بالنسبة إلى شخصين، أو إلى شخص واحد في وقتين وقد مر، وهنا تحقيقات حسنة في الشرح.

الثانية

يجوز نسخ بعض القرآن، ومنع أبو مسلم الأصفهاني ذلك،

ص: 140

كذا في المحصول.

ونقل عنه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، منع وقوع النسخ في القرآن وغيره.

أما نسخ جميع القرآن فلا يكون بالاتفاق.

ص: 141

تنبيه: قال العراقي: في شرح المعالم لابن التلمساني: إن أبا مسلم هذا هو الجاحظ، وتبعوه عليه، وهو غلط ممن قاله وجهل بالتاريخ، وليست كنية الجاحظ أبا مسلم، بل كنيته أبو عثمان، وأبو مسلم هذا اسمه محمد بن علي بن محمد ذكره الذهبي (في العبر).

وقال: الأديب المفسر المعتزلي آخر أصحاب ابن المقرئ موتًا، له تفسير في عشرين مجلدًا، توفي سنة تسع وخمسين وأربعمائة في جمادى الآخرة وله ثلاث وتسعون سنة بتقديم التاء فيهما.

لنا: أن قوله تعالى: {متاعًا إلى الحلول} نسخت بقوله

ص: 142

تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} .

(أخرجه البخاري عن عبد الله بن الزبير)(فنسخ الاعتداد بالحول، بأربعة أشهر وعشرًا).

قال أبو مسلم الأصفهاني قد تعتد الحامل به أي: بالحول لكونه قد يكون مدة الحمل، فذلك تخصيص لا نسخ.

ص: 143

قلنا: لا تعتد الحامل بالحول، بل إنما تعتد بالحمل، أي بوضعه سواء حصل بسنة، أو أقل، أو أكثر، فخصوصية السنة لاغ لا اعتبار له؛ لأن الله تعالى أوجب الاعتداد بالحمل.

ولنا أيضًا: وقوع النسخ في القرآن، وأنه دليل الجواز، وذلك في تقديم الصدقة على نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه وجب بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا .... } الآية.

ثم نسخ هذا الوجوب بقوله تعالى: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم

} الآية.

ص: 144

رواه الطبراني والبزار والترمذي عن علي رضي الله عنه -بمعناه، وقال: حسن.

قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه، أي: سبب الوجوب، وهو التمييز بين المنافق وغيره من المسلمين، إذ المؤمن يمتثل، والمنافق

ص: 145

يخالف، فلما حصل التمييز سقط الوجوب.

قلنا: زال كيف كان، يعني أن المدعى زوال الوجوب بعد ثبوته، سواء كان لزوال سببه أو لا، إذ هو معنى النسخ.

وفيه نظر: لأنه مناقض لما سيجيء، فإنه هناك استدل (على أن الإجماع) لا ينسخ القياس، بقوله: وأما القياس فلزواله بزوال شرطه، ومن جهة المعنى ما زال بزوال علة يمكن عودها.

لا يقال فيه: إنه منسوخ، بل مشروعيته باقية، حتى يعود عند عوده.

بل الجواب أنه ليس المراد من الآية التمييز، لأنه إن كان المراد التمييز للنبي صلى الله عليه وسلم -فغير واضح، فإنه كان يعلم أعيانهم حتى سماهم لصاحب سره حذيفة رضي الله عنه.

ص: 146

وإن أراد التمييز للصحابة رضي الله عنهم فدعوى زواله عنهم ممنوع بل استمر إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.

احتج أبو مسلم على منع نسخ القرآن بقوله تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} .

ص: 147

والنسخ باطل، فلو نسخ بعض القرآن لتطرق إليه الباطل، وذلك غير جائز اتفاقًا.

قلنا: الضمير في قوله تعالى: {لا يأتيه الباطل} راجع للمجموع، أي: لمجموع القرآن، ولا ينسخ مجموعه، وذلك اتفاق.

هذا والنسخ ليس باطلًا، لأن الباطل ضد الحق، والنسخ حق.

والمصنف إنما سلم ذلك في بعض القرآن متنزلًا.

ص: 148

تنبيه:

قيل: إنما أراد أبو مسلم بنفي النسخ في القرآن خاصة.

وقيل: خلافه لفظي؛ لأنه يجعل المعنى في علم الله تعالى كالمعنى في اللفظ، ويسمي الكل تخصيصًا، والجمهور يسمون الأول تخصيصًا، والثاني نسخًا.

ص: 149

الثالثة

يحوز نسخ الوجوب قبل العمل، سواء كان قبل دخول الوقت أو بعد دخوله وعدم انقضاء زمن يسع المأمور به، والأول: مثل أن يقول: يوم عرفة من قبل انقضاء زمان يسع الأسباب: لا تحجوا، فالنسخ أبدًا لا يتعلق بما مضى، بل بما يقدر وقوعه في

ص: 151

الاستقبال من أفراد الفعل. خلافًا للمعتزلة، وبعض الفقهاء.

أما بعد خروج الوقت فليس محل خلاف، بل جائز بالاتفاق، كما اقتضاه كلام ابن الحاجب، وصرح به الآمدي، وهذا إنما يأتي إذا صرح بوجوب القضاء وقلنا: الأمر بالأداء يستلزمه.

ص: 152

وأما إذا وقع النسخ في الوقت لكن بعد التمكن من فعله، فكلام المصنف يوهم جريان الخلاف فيه أيضًا.

ونقل الصفي الهندي المنع فيه عن الكرخي يوافقه، لكن صرح الآمدي بأنه جائز بلا خلاف، وإنما الخلاف قبل التمكن، وكذا ابن برهان وإمام الحرمين.

والمسألة ليست خاصة بالوجوب، بل غيره كذلك أيضًا أي كالندب.

ص: 153

لنا على الجواز: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر أي: أمره الله تعالى بذبح ولده.

قيل: إسماعيل، وبه قال الإمام الرازي.

وقيل: إسحاق، وصححه القرافي.

وإنما قلنا: إنه أمر بذبح ولده بدليل قوله تعالى: {إني أرى في المنام أني أذبحك} وقول: ولده له (عليهما الصلاة والسلام)

ص: 154

{افعل ما تؤمر به} .

وقوله: {إن هذا لهو البلاء المبين} وقوله: {وفديناه بذبح عظيم} فنسخ قبله، ولو لم يكن مأمورًا به لما أقدم على الذبح وترويع الولد إذ هو ممتنع شرعًا وعادة، ولم يكن فيه بلاء ولم يحتج إلى الفداء؛ لأن الذبح يدل على المأمور به.

وأما كونه نسخ قبله، فلأنه لو لم ينسخ لذبح، لكنه لم يذبح.

قيل: لم يكن مأمورًا بالذبح وإنما كان مأمورًا بالمقدمات، فظن أنه مأمور به.

وتلك الأمور التي تمسك بها من قوله: {افعل ما تؤمر}

ص: 155

وقوله: {إن هذا} ، وحصول الفداء إنما هي بناء على ظنه صلى الله عليه وسلم أنه مأمور.

قلنا: ظن النبي صلى الله عليه وسلم مطابق يستحيل فيه الخطأ فحينئذ لا يخطئ ظنه صلى الله عليه وسلم لا سيما في ارتكاب هذا الأمر العظيم.

ولك أن تقرر كلام المصنف هكذا.

قيل: لا نسلم أنه كان مأمورًا بالذبح، وإنما ظن ذلك ظنًا بإراءة الرؤيا والجواب.

الجواب ومع هذا فما ذكروه توريط على أصلهم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في شيء يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز عندهم.

قيل: وإن سلمنا أنه كان مأمورًا بالذبح لكن لا نسلم أنه

ص: 156

نسخ قبل الذبح لما روي أنه امتثل فإنه قطع فوصل، يعني كلما قطع شيئًا التحم عقب القطع.

قلنا: لو كان كذلك، أي: لو أتى بالذبح لم يحتج إلى الفداء، لأن الفداء بدل، والبدل إنما يحتاج إليه إذا لم يوجد المبدل.

وأيضًا هذا خلاف العادة، والظاهر، ولم بنقل معتبرًا، (كذا قيل لكن روي بإسناد جيد، وأخرجه ابن أبي حاتم: أن الله ضرب على حلقه صفيحة من نحاس، قال: فقلبه على وجهه وحز القفا، فذلك قوله تعالى:{وتله للجبين} فنودي {أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} فالتفت فإذا الكبش فأخذه فذبحه

الحديث.

قيل: لو كان الفعل واجبًا في الوقت الذي عدم الوجوب

ص: 157

فيه، لكان الشخص الواحد، في حكم واحد، في وقت واحد، مأمورًا به ومنهيًا عنه، لكن الواحد بالواحد في الواحد لا يؤمر وينهى لأنه محال.

قلنا: يجوز، وإنما يكون محالًا لو كان المقصود حصول الفعل، أما إذا كان للابتلاء فلا.

كما أن السيد يقول لعبده: اذهب غدًا إلى موضع كذا راجلًا، وهو لا يريد الفعل، وإنما يريد امتحانه ورياضته، فلما تهيأ للذهاب يقول له: لا تذهب.

الرابعة

يجوز النسخ بلا بدل أي: يجوز نسخ الحكم الشرعي من غير حكم

ص: 158

شرعي آخر.

وبه قال الجمهور، ومنعه قوم.

ونقل عن الشافعي رضي الله عنه.

وقوله في الرسالة: ((وليس ينسخ فرض أبدًا إلا أثبت مكانه فرض)).

أوله أبو بكر الصيرفي على أن المراد بالفرض الحكم، أي: إذا

ص: 159

نسخ لا بد أن يعقبه حكم آخر، فليس منافيًا لكلام أهل الأصول.

لأنه يرجع إلى ما كان عليه، وهو حكم.

فإن صدقة النجوى لما نسخ وجوبها، عاد الأمر إلى ما كان عليه من التخيير.

ص: 160

قال العراقي: لكن يجب أن يؤول إطلاق قولهم بلا بدل، على أن المراد بلا بدل منصوص عليه.

ويجوز أيضًا: النسخ إلى بدل أثقل.

وإليه أشار بقوله: ((أو يبدل أثقل منه)).

ونقل ابن برهان عن الشافعي رضي الله عنه خلافه ولم يجزم به عنه، بل قال: نقله ناقلون عنه وليس بصحيح، يعني وليس بصحيح

ص: 161

عنه.

وقوله: ((كنسخ وجوب تقديم صدقة النجوى)) يعني فإنه نسخ بلا بدل، فهو مثال للأول.

ومثال الثاني الكف عن الكفار فإن الكف عنهم كان واجبًا، أي: كان قتالهم حرامًا، لقوله تعالى:{ودع أذاهم} ثم نسخ بالقتال أي: بإيجاب القتال مع التشديد فيه، كثبات الواحد للعشرة، وذلك أثقل من الكف.

ص: 162

(استدل- أي: بضم التاء مبني للمفعول - أي: على عدم جواز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} .

دلت الآية على أنه لا بد من الإتيان بحكم هو خير من المنسوخ أو مثله، والعدم والأثقل ليسا بخير ولا مثل.

قلنا: ربما يكون عدم الحكم أو الأثقل خيرًا.

أما خيرية عدم الحكم: فقد يكون في وقت لمصلحة المكلف.

وأما خيرية الحكم الأثقل: فقد يكون لزيادة الثواب.

وقد يقال: المراد {نأت} بلفظة {خير منها} ، لا بحكم خير من حكمها، وليس الخلاف في اللفظ، إنما الخلاف في الحكم.

ولا دلالة عليه في الآية.

ص: 163

سلمنا كون المراد الحكم، لكنه عام يقبل التخصيص.

سلمناه: لكن هذا دال على عدم الوقوع، وأما على عدم الجواز فلا، والنزاع في الجواز.

وقال الصفي الهندي: العدم الصرف لا يوصف بقوله: {نأت} لأن ما أتى فهو شيء.

قال العراقي: وهو متجه، إلا أنا نقول النسخ أعاد (الحكم الذي كان عليه أولًا، فقد أتي) بالحكم الذي كان من قبله.

ويبقى قول المصنف ((عدم الحكم)) معترضًا إلا أن يريد عدم حكم مبتدأ.

* * *

ص: 164

الخامسة

ينسخ الحكم دون التلاوة، مثل قوله تعالى: {متاعًا

} الآية فنسخ حكم الاعتداد بالحول واللفظ مستقر.

لما رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا} إلى قوله: {غير إخراج} .

ص: 165

وقد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها فقال: فدعها يا ابن أخي لا أغير شيئًا من مكانه.

وبالعكس، وهو نسخ التلاوة دون الحكم، مثل ما نقل ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)) رواه الشافعي رضي الله عنه عن غمر رضي الله عنه بلفظ: ((إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أو يقول قائل: لا نجد حديثه في كتاب الله تعالى فلقد رجم رسول

ص: 166

الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)) فإنا قد قرأناها)).

وفي الصحيحين نحوه، وقد تابعه جمع من الصحابة.

- وينسخان، أي: الحكم والتلاوة معًا، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات

ص: 167

محرمات فنسخن بخمس فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن)).

رواه مسلم بلفظ ((يحرمن)) بدل ((محرمات)) وبزيادة معلومات بعد عشر رضعات.

قال: إليكا الطبري في تعليقه في الخلاف: وإنما أرادت: وكن مما يتلى وهذا واضح.

قال العراقي: وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن نسخ تلاوة

ص: 168

الخمس لم يبلغ جميع الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمر من لم يبلغه على قراءتها في القرآن حتى بلغه ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

واعلم أن المصنف أورد ثلاث دعاوي مترتبة مع أدلتها مع أن الخلاف ثابت في الوليين لبعض المعتزلة، دون الثالثة، لأن إقامة الدليل ليس منحصرًا في رفع الخلاف وإلزام المخالف، بل قد يكون الغرض منه إثبات المدعى، وهو هنا معرفة حكم شرعي هو: جواز نسخ التلاوة والحكم معًا، كما يتمسك بالإجماع وبالنصوص والأقيسة الجلية.

وأما قول العلماء: لا يجوز نصب الدليل في غير محل النزاع فمعناه: إذا حاول المستدل إلزام الخصم ورفع الخلاف وأقام الدليل على ما لا خلاف فيه، فإين أحدهما من الآخر.

***

ص: 169

السادسة

يجوز نسخ الخبر المستقبل، خلافًا لأبي هاشم اعلم أنه لا نزاع في جواز نسخ الخبر، ونسخ تكليفنا بالإخبار به.

لأن صورة الخبر وإن لوحظت في هذا، لكن النسخ لم يرد على الخبر، بل ورد على الطلب.

قال الأبهري: أما إذا نسخه بالتكليف بالإخبار بنقيضه، فإن كان هذا التكليف للرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز، لأنه يرفع الوثوق بصدق الرسول.

وإن كان لغير الرسول صلى الله عليه وسلم فجائز عندنا، لأن

ص: 170

الله تعالى كلف المؤمنين بالخبر الصادق كلما أخبروا عن شيء، وكلفهم بالكذب إذا كان فيه إنقاذ نفس معصومة.

وهذا من باب التخصيص ولا استحالة في وقوع مثله في باب النسخ.

والمعتزلة لا تجوزه، لأن الكذب عندهم قبيح، والتكليف عندهم بالقبيح قبيح.

وأما نسخ مدلول الخبر، أي: الأمر الخارجي الذي تطابقه الصورة الذهنية، كإيمان زيد مثلًا، إذا قيل: زيد مؤمن فهي مسألة الكتاب.

ص: 171

وحاصله: إن كان مما لا يتغير فلا يجوز اتفاقًا، كما قاله الإمام والآمدي، ولم يستثنه المصنف.

وأما الذي يتغير، فقال الآمدي تبعًا للإمام: يجوز نسخه مطلقًا سواء كان ماضيًا، أو مستقبلًا، أو وعدًا، أو وعيدًا.

واختار ابن الحاجب عدم الجواز مطلقًا، ونقل عن أكثر المتقدمين وأبي هاشم.

واختار ابن الحاجب عدم الجواز مطلقًا، ونقل عن أكثر المتقدمين وأبي هاشم.

واختار المصنف: أنه إن كان مدلوله مستقبلًا جاز وإلا فلا.

قال الإسنوي: وهو الذي نقله الآمدي.

ص: 172

قال ابن برهان: ومحل الخلاف إذا لم يكن الخبر معناه الأمر، فإن كان كقوله تعالى:{لا يمسه إلا المطهرون} جاز بلا خلاف.

وفي المحصول: أن الخلاف جارٍ فيه وإن تضمن حكمًا شرعيًا.

واستدل المصنف (على مختاره) بقوله: لنا أنه يحتمل أن يقال: لأعاقبن الزاني أبدًا، ثم يقال: أردت سنة، يعني يصح عقلًا أن يقول: لأعاقبن الزاني أبدًا، ثم يقول: أردت سنة، ولا معنى للنسخ إلا ذلك.

فإن النسخ إخراج بعض الزمان وهو موجود هنا.

ص: 173

وقد يقال: هذا تخصيص لا نزاع في صحته، وليس بنسخ، لأنه لو حمل على النسخ لزم الكذب.

وإذا حمل على التخصيص لا يلزم ذلك، لأنه بيان لما أريد بلفظ الا بد لا رفع له، وإبطال كما في النسخ.

قيل من جهة أبي هاشم: نسخ الخبر يوهم الكذب؛ لأن المتبادر إلى الفهم من الخبر جميع المدة المخبر بها، والكذب قبيح، وإيهام القبيح قبيح.

قلنا: ونسخ الأمر أيضًا يوهم البداء، وهو: ظهور الشيء بعد خفائه.

فلو امتنع نسخ الخبر لإيهام الكذب، لامتنع نسخ الأمر لإيهام البداء، إذا إيهام البداء قبيح كما أن إيهام الكذب قبيح.

ص: 174