الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: في أفعاله صلى الله عليه وسلم
وفيه مسائل خمسة: والثاني في الأخبار.
وقدم الكلام في الأخبار على الكلام في الإجماع، لئلا يتخلل بين أفعاله صلى الله عليه وسلم وبين طرف ثبوتها مباحث أجنبية.
الأولى
من المسائل الخمس:
"في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وهي مقدمة لما بعدها، لأن الاستدلال بأفعالهم، متوقف على عصمتهم، فقال: إن الأنبياء معصومون لا يصدر عنهم ذنب.
قال: إلا الصغار سهوًا، والتقرير مذكور في كتاب المصباح في علم الكلام من كلام المصنف، لأنها من مسائل الكلام.
والعصمة: ملكة نفسانية تمنع صاحبها من الفجور.
والحق أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- معصومون. لا يصدر عنهم ذنب، لا كبيرة ولا صغيرة، لا عمدًا ولا سهوًا بل طهر الله تعالى ذواتهم عن جميع النقائض. وحكى ابن برهان هذا عن اتفاق المحققين، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي الفتح الشهرستاني.
والقاضي عياض والشيخ تقي الدين السبكي وغيرهم.
قال النووي: ومنعها المحققون، أي: الصغائر أيضًا على الأنبياء.
وقطعوا بالعصمة منها وأولوا (الظواهر الواردة فيها).
وقد ذكرت أجوبة كثيرة عن شبه كثيرة في الشرح يتعين الوقوف عليها.
الثانية
فعله صلى الله عليه وسلم إن كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب فهو دال على الإباحة.
وفي التنقيح للقرافي قول: إنه للندب، وجزم به بعضهم.
وحكى الأستاذ أبو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما: هذا، وعزاه لأكثر المحدثين.
قال: والأصل فيه أنه يستدل به على إباحة ذلك.
والثاني: أنه لا يتبع فيه إلا بدلالة.
فقول المحقق، والإسنوي:"لا نزاع في كونها للإباحة" فيه ما
فيه وما سوى ذلك ن ثبت كونه من خصائصه، فواضح (أنه لا تشاركه فيه الأمة).
وإن لم يثبت، وكان بيانًا لمجمل، فحكمه حكم الذي بينه من الإيجاب وغيره سيجيء ولذا (لم يذكره هنا).
وإن لم يكن، بيانًا وعلمنا صفته بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب وغيره فحكم أمته كحكمه عند الجمهور.
وإن لم يعلم صفته نظر:
ن ظهر فيه قصد القربة، فإنه يدل على الندب عند الإمام وأتباعه ومنهم المصنف، وقد صرحوا به في المسألة الثالثة.
وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة، وهو المعني بقوله:"فعله المجرد". واحترز عن جميع ما تقدم بذلك.
فإنه يدل على الإباحة عند مالك رضي الله عنه، واختاره إمام الحرمين في البرهان. وجزم به الإمام الرازي في موضع مع اختياره الوجوب في المعالم. ويدل على الندب عند الشافعي رضي الله عنه. ويدل على الوجوب عند أبي العباس بن سريج وأبي سعيد الإصطخري.
وابن خيران الشافعيين.
وتوقف أبو بكر الصيرفي، فقال لا يدل على شيء من الأحكام بالتعيين وهو المختار وصححه القاضي أبو الطيب.
وحكي عن جمهور المحققين كالغزالي.
واختاره الآمدي تبعًا للمحصول في موضع لاحتمالها أي لاحتمال هذه الأمور الثلاثة، واحتمال أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم فيتوقف إلى ظهور البيان.
وهذه المذاهب الأربعة حكاها الآمدي في الفعل الذي ظهر فيه قصد القربة.
وحكى القاضي أبو الطيب عن الصيرفي: أنه للندب.
احتج القائل بالإباحة: بأنه فعله صلى الله عليه وسلم لا يكره لشرفه المانع عن ارتكابه المكروه، ولا يحرم لعصمته، والأصل عدم الوجوب والندب لاشتمالهما على زيادة والأصل عدمها فتبقى الإباحة.
وورد: بأن الغالب على فعله صلى الله عليه وسلم الوجوب، أو الندب، فيكون الحمل على الإباحة حملاً على المرجوح المغلوب، وهو ممتنع.
قال العراقي: يحتمل أن يقال: إنما يمتنع صدور المكروه منه (إذا
لم يبين به الجواز، فإن فعله لبيان الجواز فعلا مانع من صدوره عنه) ويكون في حقه مستحبًا أو واجبًا.
ويحتمل أن يقال: لا يصدر عنه مطلقًا؛ لأن له مندوحة عن الفعل بالقول مطلقًا.
ولقائل أن يقول: الوجوب والندب وإن كانا غالبين على فعله صلى الله عليه وسلم لكنهما على خلاف الأصل، والأصل مقدم على الغالب.
واحتج القائل بالندب: بأن قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} يدل على الرجحان لكون الأسوة موصوفة بالحسنة، والحسنة لها رجحان؛ لأن المراد بها في الآية الحسنة اللغوية لا الشرعية التي المباح منها. ويفهم من الحسن اللغوي
الرجحان بالضرورة، والرجحان يحتمل الوجوب والندب، كذا قيل.
وقال العراقي في قوله: {أسوة} أفاد الشرعية، فلما قال:{حسنة} اقتضى زيادة على المشروعية، وبقي الرجحان.
ولقائل أن يقول: الآية تدل على وجوب المتابعة حيث قال: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} فإنه جار مجرى التهديد، والأصل عدم الوجوب، فيبقى الندب.
وجواب هذا يأتي في جواب القائل بالوجوب فلذا تركه هنا.
واحتج القائل بالوجوب بقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه} .
أمر باتباعه، والأمر للوجوب.
وبقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} .
فإنه يدل على أن محبة الله -تعالى- مستلزمة للمتابعة.
ومحبته -تعالى- واجبة إجماعًا، ولازم الواجب واجب فتكون المتابعة واجبة.
وبقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} .
وما فعله فقد أتاه، والأخذ هنا الامتثال، فيكون امتثال فعله واجبًا، لأن الأمر للوجوب.
وأيضًا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على وجوب الغسل بالتقاء الختانين، بقول عائشة رضي الله عنها:"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا". أخرج قولها النسائي والترمذي وابن ماجة. قال الترمذي: صحيح. وقال في علله: قال البخاري: هو خطأ إنما يرويه الأوزاعي عن عبد الرحمن ابن القاسم مرسلاً، ولم يلتفت ابن حبان إلى ذلك وأخرجه في
صحيحه.
وكذلك ابن القطان فأوجبوا الغسل بمجرد فعله.
وأجيب: بأن المتابعة هو الإتيان بمثل فعله على وجهه، أي: على الوجه الذي فعله من الوجوب وغيره، حتى لو فعله على وجه الندب، وفعلناه على وجه الوجوب لم يكن متابعة.
فحينئذ يلزم أن يكون الأمر بالمتابعة موقوفًا على جهة فعله، فما لم نعرفه لم نكن مأمورين بالمتابعة فيه.
وكذا التأسي شرطه العلم بصفة الفعل.
وفي المحصول والإحكام وغيرهما أن التأسي والمتابعة
معناهما واحد، فلذا جعل المصنف جواب المتابعة جوابًا عن التأسي الذي استدل به القائل بالندب.
ولم يصرح بجوابه هناك تأدبًا مع الشافعي رضي الله عنه.
وقال العراقي: للمتابعة شرط ثالث ذكره الآمدي والإمام في الكلام على حجية الإجماع، وهو أن يكون إثباته به لكونه أتى به.
قال: وقوله: "أو بيانها" بالرفع.
{وما آتاكم الرسول} معناه: وما أمركم، وهو السابق إلى الفهم بدليل {وما نهاكم} حيث قابله به ليتجاوب طرفا النظم، وهو اللائق بالفصاحة الواجب رعايتها في القرآن.
واستدلال الصحابة رضي الله عنهم.
لا نسلم أنه كان بمجرد فعله، بل بقوله -صلى الله عليه وسلم
-: "خذوا عني مناسككم"- رواه مسلم.
لأنه فعل في باب المناسك، وورود هذا في الحج لا يمنع الاستدلال هنا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام.
قال الجوهري: النسك العبادة، والناسك العابد.
* * *
الثالثة
جهة فعله صلى الله عليه وسلم منحصرة في الوجوب والندب والإباحة لما تقدم.
والطرق التي يعلم بها الجهة إما تعلم الثلاثة، أو تخص بعضها.
الأول: العام.
وهو إما بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على أحدها معينًا بأن يقول مثلاً: هذا الفعل واجب، أو مندوب، أو مباح.
أو بتسويته صلى الله عليه وسلم الفعل بما علم جهته، فيكون حكمه حكمه وله صورتان:
الأولى: أن يفعل فعلاً، ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الذي علمت جهته.
الثانية: أن يخير بينه وبين فعل بينت جهته، لأن التخيير لا يكون بين حكمين مختلفين، أي من واجب ومندوب، أو مندوب ومباح، ونحوها.
أو يعلم بطريق من الطرق أن ذلك الفعل امتثال آية دلت على أحد هذه الوجوه الثلاثة بالتعيين.
وإليه الإشارة بقوله: "بما علم أنه امتثال آية دلت على أحدها"، وهو عطف على "تنصيصه" وما مصدرية، تقديره: أو بعلمنا أنه .. إلى آخره.
أو يعلم أن ذلك الفعل بيان لآية مجملة دلت على أحد الثلاثة وإليه أشار بقوله: "بيانها" أي بيان آية دلت على أحدها.
قال العراقي: لا نسلم كون فعله صلى الله عليه وسلم مندوبًا أو مباحًا، بل هو واجب مطلقًا، إذ البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم وإنما يكون ذلك في حقنا.
وقد صرح بذلك الإمام في باب المجمل والمبين.
قلت: وتقدم له قريبًا ما ينافي هذا، والله أعلم.
ويعلم خصوصًا أما الوجوب بأحد أمور ثلاثة:
إما بأمارته الدالة على كونه واجبًا كالصلاة بأذان وإقامة؛ لأنهما شعار مختص بالفرائض.
وإما كونه موافقة نذر، كما إذا قال: إن شفى الله مريضي فلله على صوم يوم الاثنين فشفي.
أو يكون الفعل ممنوعًا، أي حرامًا.
لو لم يجب كالركوعين في الخسوف.
هو في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو يدل على وجوب الركوع الثاني.
وبهذا يستدل على وجوب الختان: لأنه لو لم يكن واجبًا لما جاز قطع جزء من البدن.
ولا ينتقض هذا بسجود السهو،
والتلاوة، وبرفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد.
لأنه تركه تارة والإتيان به أخرى دل على كونه مندوبًا، كذا قيل.
وفي شرح المهذب: أنه لو صلى صلاة الكسوف ركعتين كسائر الصلوات، صحت وكان تاركًا للأفضل.
وفي المحصول وغيره: أنه يعلم أيضًا وجوب الشيء بوجوب قضائه.
ويعلم الندب خصوصًا بقصد القربة مجردًا عن أمارة تدل على خصوص الوجوب أو الندب.
فيدل على أنه مندوب؛ لأن الأصل عدم الوجوب.
وكونه قضاء لمندوب، لأن القضاء يماثل الأداء في الجملة ويعرف المندوب أيضًا بأن يداوم على الفعل ثم يتركه من غير نسخ.
الرابعة
الفعلان لا يتعارضان؛ لأن التعارض بين الأمرين هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه.
فحينئذ لا يمكن التعارض (بين فعلين، بحيث يكون أحدهما ناسخًا
للآخر، أو مخصصًا له.
لأنهما إن لم تتناقض أحكامهما فلا تعارض.
وإن تناقضت فكذلك، لأنه يجوز أن يكون الفعل في وقت واجبًا، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه.
ولا يكون مبطلاً لحكم الأول، إذ لا عموم للأفعال، سواء كانا متماثلين، كصلاة العصر في وقتين، أو مختلفين، وجاز اجتماعهما، كصلاة وصوم، أو لم يجتمعا، كصوم وأكل في يومين.
فلا تعارض في الكل، بل التعارض إنما يقع بين القولين.
كما ذكره المصنف في الكتاب السادس.
أو بين الفعل والقول كما ذكره هنا، حيث قال:"فإن عارض فعله صلى الله عليه وسلم الواجب علينا اتباعه" فيه بأن دل دليل
على ذلك قولاً متقدمًا على ذلك الفعل نسخه، أي نسخ ذلك القول المتقدم الفعل، المتأخر المخالف له، سواء كان ذلك القول عامًا، أو خاصًا به، أو خاصًا بنا.
وقوله: "الواجب اتباعه" احترز به عما إذا لم يدل دليل على أنه يجب علينا أن نتبعه في ذلك الفعل.
فإنه يستثنى منه صورة واحدة، لا يكون فيها ناسخًا، بل مخصصًا، وهو ما إذا كان خاصًا بنا فلا تعارض أصلاً.
ولم يذكر حكم الفعل الذي لم يقم الدليل على وجوب اتباعه فيه في
شيء من الأقسام لعدم الفائدة بالنسبة إلينا.
وإن عارض فعله صلى الله عليه وسلم الواجب علينا اتباعه فيه، ودل الدليل على وجوب تكرره عليه وعلى أمته قولاً متأخرًا عامًا له صلى الله عليه وسلم ولأمته فبالعكس.
يعني فالقول العام المتأخر ينسخ هذا الفعل المتقدم.
قال العراقي: وهذا محله فيما إذا دل دليل على تكرر الفعل، وإلا فلا تعارض بينه وبين القول المتأخر.
فيؤخذ هذا من قول المصنف.
وإن اختص القول به نسخه في حقه، أي نسخ القول المختص به الفعل العام له ولأمته في حقه فقط، وبقي تكليفنا بالفعل دونه.
وإن اختص القول بنا خصنا في حقنا قبل الفعل، ونسخ القول الفعل
عنا بعده؛ لأنه يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
فيكون القول المتأخر ناسخًا لفعله المتقدم.
ومحل ما تقدم جميعه إذا كانت دلالة الدليل الدال على وجوب اتباع الفعل ظاهرة.
فإن كانت قطعية فلا يحمل القول المتأخر على التخصيص، بل يكون ناسخًا مطلقًا.
وهذا كله إذا كان الفعل المتقدم مما يجب اتباعه فيه، كما تكلم فيه المصنف.
فإن لم يكن كذلك فلا تعارض فيه بالنسبة إلى الأمة، لأن الفعل لم يتعلق بهم.
وأما بالنسبة إليه فإن كان الفعل مما دل الدليل على وجوب تكرره عليه وكان القول متأخرًا خاصًا به صلى الله عليه وسلم أو متناولاً له وللأمة بطريق النص، كقوله: لا يجب علي ولا عليكم، فيكون القول ناسخًا للفعل.
أو بطريق الظهور فيكون الفعل السابق مخصصصا لهذا العموم،
لأنه لا يشترط تأخر المخصص عن العام كما عرفت.
ولم يذكره لوضوحه.
وإن جهل التاريخ ولم يعلم هذا القول متقدم أو متأخر -فالأخذ بالقول في حقنا، إن لم يمكن الجمع بينهما لاستبداده، أي لاستقلاله.
فإن دلالة القول على مدلوله أقوى من دلالة الفعل؛ لأن القول وضع لذلك فلا يختلف بخلاف الفعل فإن له محامل.
وإنما يفهم منه في بعض الأحوال ذلك بقرينة خارجية فيقع الخطأ فيه كثيرًا.
وقيل: يقدم القول مطلقًا، واختاره في الإحكام والمحصول.
وقيل: يقدم الفعل؛ لأنه أبين في الدلالة.
وقيل: بالتوقف إلى الظهور لتساويهما في وجوب العمل.
واختار ابن الحاجب التوقف بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالقول بالنسبة إلينا.
وفرق بينهما بأنا متعبدون بالعمل فأخذنا بالقول لظهوره، ولا ضرورة بنا إلى الحكم بأحدهما بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم.
ولعل سكوت المصنف عن الحكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لهذا والله أعلم.
الخامسة
أنه عليه الصلاة والسلام قبل النبوة تعبد -بضم التاء والعين- بشرع أي: كلف بشرع، لما ورد أنه كان يتعبد، كان يتحنث،
…
كان يطوف، وتلك أعمال شرعية تعرف بالضرورة ممن يمارسها قصد الطاعة، وهو موافقة أمر الشارع، ولا يتصور من غير تعبد، فإن العقل بمجرده لا يحسنه، واختاره ابن الحاجب وغيره.
وعلى هذا فقيل: كلف بشرح نوح، وقيل: موسى، وقيل: عيسى وقيل: آدم، (عليهم الصلاة والسلام).
وقيل: جميع الشرائع شرع له.
وقيل: لا، أي لم يكن مكلفًا بشرع، ونقله القاضي أبو بكر عن جمهور المتكلمين.
وعلى هذا فانتفاؤه بالنقل أو العقل فيه خلاف.
وقيل بالوقف، وبه قال إمام الحرمين والغزالي والآمدي.
ولا يخفى أن الخلاف في الفروع التي تختلف فيها الشرائع.
أما ما اتفقوا عليه كالتوحيد فلا شك في التعبد به.
وأما بعد النبوة: فالأكثر على المنع، من كونه متعبدًا بشريعة أصلاً، واختاره الإمام والآمدي وأشعر كلام المصنف باختياره.
وقيل: بل كان متعبدًا بذلك، أي مأمورًا بأخذ الأحكام من كتبهم.
صرح به الإمام، ولذا عبر عنه المصنف بقوله:"وقيل: أمر بالاقتباس".
ويعبر عن هذا المذهب بأن: شرع من قبلنا شرع لنا.
واختاره ابن الحاجب.
وللشافعي رضي الله عنه قولان أصحهما الأول.
وأبطل المصنف الثاني بقوله: "ويكذبه" أي الثاني، انتظاره صلى الله عليه وسلم الوحي، مع وجود تلك الأحكام في شرع من تقدمه.
وعدم مراجعته صلى الله عليه وسلم كتبهم وأخبارهم في الوقائع.
وعدم مراجعتنا إذ لم يوجب علينا المراجعة.
وفيه نظر مبين في الشرح.
قيل: راجع النبي صلى الله عليه وسلم التوراة في الرجم لما ترافع إليه اليهود في زنا المحصن.
(أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).
قلنا: مراجعته صلى الله عليه وسلم كانت للإلزام.
فإن اليهود أنكروا أن يكون في التوراة وجوب الرجم، ولم يكن لإنشاء شرع استدل من جهة القائلين بأنه كان بعد النبوة متعبدًا بشرع: بآيات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اقتفاء أي اتباع الأنبياء السالفة -عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
كقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} .
وقوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} .
وقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} .
وشرعهم من جملة الهدى.
وقوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} الآية.
قلنا: أمر باتباعهم (في أصول) الشريعة، وكلياتها وهي الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع، وهي أصول الديانات والكليات الخمس، أي حفظ النفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، والأنساب، واتباعه عليه -الصلاة والسلام- لهم في ذلك حصل له بالدليل القاطع لا عن مجرد تقليد.
* * *