المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم إن الله عز وجل - ثقة المسلم بالله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

[محمد بن إبراهيم الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء

- ‌1 - أهمية الدعاء وثقة المسلم في استجابة الله له:

- ‌2 - استجابة الله لدعاء من وثق في إجابته سبحانه:

- ‌المبحث الثانيثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات

- ‌1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

- ‌2 - الدعوة إلى الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

- ‌3 - نماذج لمن وثق بالله وفرج الله كربته:

- ‌المبحث الثالثثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق

- ‌1 - الدعوة إلى ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق:

- ‌2 - أثر ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق:

- ‌المبحث الرابعثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله

- ‌1 - أهمية تكوين الدعاة لنشر الدعوة:

- ‌2 - الثقة بالله تعالى من أهم صفات الداعية:

- ‌3 - الثقة بالله تعالى تعلم الداعية الصبر:

- ‌المبحث الخامسثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء

- ‌1 - ثقة نبي الله موسى عليه السلام بالله تعالى في نصره على فرعون:

- ‌2 - ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه في غزوة بدر:

- ‌3 - ثقة النبي في ربه في غزوة أحد:

- ‌4 - ثقة النبي بالله تعالى في غزوة الأحزاب:

- ‌المبحث السادسثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه

- ‌1 - الثقة في أن وعد الله سبحانه لا يتخلف:

- ‌2 - الثقة في وعد الله بنصر رسله:

- ‌3 - الثقة في وعد الله للمؤمنين بدخول الجنة:

- ‌4 - الثقة في وعد الله لعباده الصالحين:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌تمهيد أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم إن الله عز وجل

‌تمهيد

أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم

إن الله عز وجل خلق الله الخلق جميعًا لغاية واحدة؛ لعبادته وحده لا شريك له قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).

قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفةً لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم» (2).

وقد بين لهم سبحانه وتعالى كيفية العبادة، ووضَّح لهم صفتها، وفصَّل لهم أنواعها، فثمة عبادات ظاهرة بالجوارح؛ كالصلاة والصيام، وما إلى ذلك، وعبادات باطنة قلبية كالخوف منه، والتوكل عليه، والرضا به، وما أشبه ذلك، ومن هذه العبادات القلبية التي تعبد الله بها عبادة: الثقة به، وصدق الاعتماد عليه، وحسن التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه ..

والثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا

(1) سورة الذاريات، الآية:56.

(2)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق ص 813، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م.

ص: 7

فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (1).

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان على ثقة كاملة بالله تعالى ولا أدل على ذلك ما كان في هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة واختبائه بغار حراء، ومع قرب المشركين منه صلى الله عليه وسلم يثق أن الله سينجيه منهم ويقول لأبي بكر رضي الله عنه: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثه قال: «نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (2).

وقد نص الله تعالى على ذلك إذ قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3).

والثقة أيضاً صفة من صفات الأولياء الصادقين؛ قال يحيى بن معاذ رحمه الله: «ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء» (4).

(1) سورة الأنبياء، الآيات: 68 - 70.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: التفسير، باب: سورة براءة، رقم 4386، وأخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رقم 4389.

(3)

سورة التوبة، الآية:40.

(4)

شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، حققه وخرج أحاديثه: د. عبد العلي عبد الحميد حامد 2/ 354، ط/ 1، مكتبة الرشد بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند: 1423 هـ - 2003 م.

ص: 8

وهي كذلك صفة من صفات العباد الزهاد، فقد جاء رجل إلى حاتم الأصم رحمه الله فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: «رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص» (1). وقال حاتم رحمه الله أيضاً: «وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل؛ فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه، فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين، فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لا بد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم وتصنع، فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم. وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى فإذا كنت مطمئناً بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدًا» (2) والثقة بالله تجعل العبد راضيًا بالله، يائسًا مما في أيدي الناس.

قال حاتم الأصم رحمه الله: «من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة» (3).

وقيل لأبي حازم رحمه الله: «يا أبا حازم ما مالك؟ قال: (ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس» (4).

(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني 8/ 75، ط/ 4، دار الكتاب العربي، بيروت: 1405 هـ.

(2)

المرجع السابق 8/ 76.

(3)

المرجع السابق 8/ 76.

(4)

المرجع السابق 3/ 231.

ص: 9

ومن وثق بالله نجاه الله من كل كرب أهمه.

قال أبو العالية رحمه الله: (إن الله - تعالى - قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1). ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (2) ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (5) فكن واثقًا بالله، متوكلًا عليه، معتصمًا به) (6).

ومن تحلى بالثقة بالله فقد فاز بالجنة؛ قال شقيق البلخي رحمه الله: «من عمل

(1) سورة التغابن، الآية:11.

(2)

سورة الطلاق، الآية:3.

(3)

سورة البقرة، الآية:245.

(4)

سورة آل عمران، الآية:103.

(5)

سورة البقرة، الآية:186.

(6)

حلية الأولياء، الأصبهاني 2/ 221 - 222.

ص: 10

بثلاث خصال أعطاه الله الجنة: أولها: معرفة الله عز وجل بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه، والثاني: أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه، والثالث: يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه، ولا يحرك شيئًا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة.

ثم بين الثقة بالله وشرحها وفسرها، فقال:(وتفسير الثقة بالله أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحه شيئًا دون الله، يعني في طاعته واجتناب معصيته» (1).

والثقة بالله دليل على تحقيق العبد للاستعانة بالله كلما أمرنا ربنا جل وعلا في القرآن الكريم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2).

«والاستعانة بالله تقوم على الثقة بالله، والاعتماد عليه. فقد يثق الإنسان بغيره، ولا يعتمد عليه في أموره، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه. والله وحده هو الذي بيده كل شيء، والمستعان في كل شيء، والعبد ليس بيده شيء، وهو محتاج إلى عون ربه في كل شيء كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3) والمستعان هو الله عز وجل.

فأهل الطاعة يستعينون به على فعل الطاعات، وترك المعاصي، كما قال سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4). والاستعانة: طلب العون من الله على الطاعة.

(1) حلية الأولياء، الأصبهاني 8/ 61.

(2)

سورة الفاتحة، الآية:5.

(3)

سورة هود، الآية:123.

(4)

سورة الفاتحة، الآية:5.

ص: 11

أما أهل المعاصي، فحين ترك العاصي سؤال العون من الله على طاعته، أعانه على معصيته، فتوجه إليها بعونه عليها، وحرمه سبحانه العون على الطاعة، فلم يتوجه إليها كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (1).

فالعباد كلهم مصروفون في طاعاتهم ومعاصيهم بقدرة الله وعونه .. إما بجنود الملائكة الهادية .. أو بجنود الشياطين المضلة .. فلا طاعة ولا معصية إلا بعون الله، وهو فعله على الإطلاق في الخير والشر، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وعونه» (2).

وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما كيف تكون الثقة بالله تعالى فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» (3).

هذا وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله الثقة بالله تعالى فقال: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى. قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب

(1) سورة الصف، الآية:5.

(2)

موسوعة فقه القلوب، محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري 1/ 227، ط 1، بيت الأفكار الدولية، الأردن: 2006 م.

(3)

أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: منه، رقم 2516، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 12

بقوله تعالى لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهي أو يقف ومراده: أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض.

وكذلك قوله: سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلباً لكانت الثقة سويداءه ولو كان عيناً لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها.

وقد تقدم أن كثيرًا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله فكأن الثقة عند الشيخ هي روح والتوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان والله أعلم» (2).ثم بين رحمه الله درجات الثقة بالله تعالى فقال: «وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: درجة الإياس وهو إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام.

(1) سورة القصص، الآية:7.

(2)

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 144، ط/ 2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1393 هـ - 1972 م.

ص: 13

يعني أن الواثق بالله لاعتقاده: أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره: فلا بد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك: فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته.

الدرجة الثانية: درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر. يقول: من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة: أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضًا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته نعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «الرضا أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُم أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ، والله بقسطه وعلمه جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرِّضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشَّكِّ والسَّخط» (1).

فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف: استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرًا كثيرًا.

الدرجة الثالثة: معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل قوله: معاينة أزلية الحق أي متى شهد

(1) شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي 1/ 384.

ص: 14

قلبه تفرد الرب سبحانه وتعالى بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضًا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب، وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان: وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملًا وحالًا وإيثارًا هو محض العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها، وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرًا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر: وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول» (1).والثقة بالله تعالى لها صور متعددة في حياة المسلم يمكن من خلالها تحقيق هذه الثقة، ومن أبرز نماذج ذلك:

(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 145.

ص: 15