المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات: - ثقة المسلم بالله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

[محمد بن إبراهيم الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء

- ‌1 - أهمية الدعاء وثقة المسلم في استجابة الله له:

- ‌2 - استجابة الله لدعاء من وثق في إجابته سبحانه:

- ‌المبحث الثانيثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات

- ‌1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

- ‌2 - الدعوة إلى الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

- ‌3 - نماذج لمن وثق بالله وفرج الله كربته:

- ‌المبحث الثالثثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق

- ‌1 - الدعوة إلى ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق:

- ‌2 - أثر ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق:

- ‌المبحث الرابعثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله

- ‌1 - أهمية تكوين الدعاة لنشر الدعوة:

- ‌2 - الثقة بالله تعالى من أهم صفات الداعية:

- ‌3 - الثقة بالله تعالى تعلم الداعية الصبر:

- ‌المبحث الخامسثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء

- ‌1 - ثقة نبي الله موسى عليه السلام بالله تعالى في نصره على فرعون:

- ‌2 - ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه في غزوة بدر:

- ‌3 - ثقة النبي في ربه في غزوة أحد:

- ‌4 - ثقة النبي بالله تعالى في غزوة الأحزاب:

- ‌المبحث السادسثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه

- ‌1 - الثقة في أن وعد الله سبحانه لا يتخلف:

- ‌2 - الثقة في وعد الله بنصر رسله:

- ‌3 - الثقة في وعد الله للمؤمنين بدخول الجنة:

- ‌4 - الثقة في وعد الله لعباده الصالحين:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

‌المبحث الثاني

ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات

ومن أبرز صور ثقة المسلم بالله تعالى ثقته في تفريج الكرب والشدة فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله، وكم من شدة وكرب عظيم ظن العبد أنه لا مخرج لها ولا منجى منها لكن عندما يثق في مولاه، ويتذكر قدرته جل في علاه؛ فإنها سرعان ما تتحل وتنفرج وتبدد قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1).

‌1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات:

إن الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يومًا كدرت أيامًا، وإن أضحكت ساعة أبكت أيامًا، لا تدوم على حال قال الله تعالى:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (2).

فقر وغنى، عافية وبلاء، صحة ومرض، عز وذل، فهذا مصاب بالعلل والأسقام، وذاك مصاب بعقوق الأبناء، وهذا مصاب بسوء خلق زوجته وسوء عشرتها، وتلك مصابة بزوج سيئ الأخلاق، فظ الخلق، سيئ العشرة، وثالث مصاب بكساد تجارته وسوء صحبه الجيران، وهكذا إلى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عند حد، ولا يحصيها عدّ.

(1) سورة الطلاق، الآية:12.

(2)

سورة آل عمران، الآية:40.

ص: 37

ولا يزيل هذه الآلام، ويكشف هذه الكروب إلا الله علام الغيوب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، والمسلم حالة في البأساء الصبر والإنابة إلى الله، يتوسل بالأسباب الموصلة إلى كشف المكروه، لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمات، يحاول التخلص منها في حزم الأقوياء وعزيمة الأصفياء، قدوته في ذلك سيد المرسلين، وإمام الصابرين، فقد حل به وبأصحابه الكرام من الشدائد والمحن والابتلاء ما تقشعر منه الأبدان، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، بل قابلوا تلك الخطوب بالصبر والثبات:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (1).

وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردًا له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستغفر لنا، ألا تدعو لنا، فقال:«قد كان من قلبكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (2).

قال ابن بطال رحمه الله: (وقول خباب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تدعو الله أن يكفينا» يعنى عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد.

وفيه من الفقه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الدعاء في ذلك على أن الله أمرهم

(1) سورة آل عمران، الآيتان: 173 - 174.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم 3416.

ص: 38

بالدعاء أمرًا عامًا بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1). وبقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2). إلا لأنه صلى الله عليه وسلم علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أن يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته في سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة في ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء عليهم السلام فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعي من إحدى الثلاث التي وعد النبي صلى الله عليه وسلم بها.

وفيه: علامات النبوة وذلك خروج ما قال صلى الله عليه وسلم من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك» (3).

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه يحكي ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان قبلنا ابتلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء يحفر له حفرة ثم يلقى فيها ثم يؤتى بالمنشار على مفرق رأسه ويشق، وأيضًا يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه وهذا تعزير عظيم وأذية عظيمة.

ثم أقسم صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر يعني سيتم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة الإسلام حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت

(1) سورة غافر، الآية:60.

(2)

سورة الأنعام، الآية:43.

(3)

شرح صحيح البخاري، أبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، 15/ 324.

ص: 39

لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون أي فاصبروا وانتظروا الفرج من الله فإن الله سيتم هذا الأمر وقد صار الأمر كما أقسم عليه الصلاة والسلام ففي هذا الحديث آية من آيات الله حيث وقع الأمر مطابقًا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

وآية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم حيث صدقة الله بما أخبر به وهذه شهادة له من الله بالرسالة كما قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1). وفيه أيضًا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين وإذا صبر الإنسان ظفر فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ولا يظن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة.

قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذنهم وربما يقتلونهم كما قتلوا الأنبياء.

اليهود من بني إسرائيل قتلوا الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين، فليصبر ولينتظر الفرج ولا يمل ولا يضجر بل يبقى راسيًا كالصخرة والعاقبة للمتقين والله تعالى مع الصابرين.

فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود ولكن بدون فوضى وبدون استفسار وبدون إثارة بطريق منظمة لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطا ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم.

والمؤمن يصبر ويتئد ويعمل بتؤده ويوطن نفسه ويخطط تخطيطًا منظمًا يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ويفوت عليهم الفرص لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير يريدون أن يثيروهم حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا هذا الذي نريد وحصل بذلك شر كبير.

(1) سورة النساء، الآية:166.

ص: 40

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه اصبروا فالمؤمن فيمن قبلكم - وأنتم أحق بالصبر منه - كان يعمل به هذا العمل ويصبر فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان فاصبروا حتى يأتي الله بأمره والعاقبة للمتقين.

فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر ولكن اعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله ولا تمل فالدرب طويل لا سيما إذا كنت أول الفتنة فإن القائمين بها سوف يحاولون ما استطاعوا أن يصلوا إلى قمة ما يريدون فاقطع عليهم السبيل وكن أطول منهم نفسًا وأشد منهم مكرًا فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» (1).

ولقد وعد مولانا سبحانه وتعالى عباده بالسعة بعد الضيق، وبالعافية بعد البلاء، وبالرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر قال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2).

قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن مع الشدة التي أنت فيها من جهاد هؤلاء المشركين، ومن أوله ما أنت بسبيله رجاء وفرجاً بأن يُظفرك بهم، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعاً وكرهاً.

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية لما نزلت، بشَّر بها أصحابه «وقال: لن يغلب عسر يسرين»» (3).

إن الله عز وجل يخاطب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه. وقد لازمه معك فعلًا. فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك، فخفف حملك، الذي أنقض ظهرك. وكان اليسر مصاحبًا للعسر،

(1) شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/ 46، ط/ 1، دار السلام، القاهرة: 2002 م.

(2)

سورة الشرح، الآيتان:6.

(3)

جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 24/ 495.

ص: 41

يرفع إصره، ويضع ثقله. وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .. وهذا التكرار يشير بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عسرة وضيق ومشقة، اقتضت هذه الملاحظة، وهذا التذكير، وهذا الاستحضار لمظاهر العناية، وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية، وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد .. والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمراً عظيماً .. ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (1).

إن مع العسر يسرًا .. فخذ في أسباب اليسر والتيسير. فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض، ومع شواغل الحياة .. إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد .. العبادة والتجرد والتطلع والتوجه

{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} .. إلى ربك وحده خالياً من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم .. إنه لا بد من الزاد للطريق. وهنا الزاد. ولا بد من العدة للجهاد. وهنا العدة .. وهنا ستجد يسرًا مع كل عسر، وفرجًا مع كل ضيق.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «يا غلام إنيّ أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» .

وفي رواية: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في

(1) سورة الشرح، الآيتان:8.

ص: 42

الشدة، واعلم: أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (1).

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالركوب واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإنَّ الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ

قَدْرًا} (2).

وروى آدم بن أبي إياس في "تفسيره" بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أُسر ابني عوفٌ، فقال له: أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، وكانوا قد شدُّوه بالقِدِّ فسقط القِدُّ عنه، فخرج إذا هو بناقةٍ لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا شدُّوه، فصاح بهم، فاتبع آخرها أوَّلها، فلم يفاجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف وربِّ الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب يألم ما فيه من القد، فاستبق الأب والخادم إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: منه، رقم 2516، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 566 - 567، رقم 2516.

(2)

سورة الطلاق، الآية:3.

ص: 43

«اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بإبلك» ، ونزل:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (1).

قال الفضيل رحمه الله: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا، لأعطاك مولاك كلَّ ما تريد. وذكر إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال: ما سأل السائلون مسألة هي ألحلف من أن يقول العبد: ما شاء الله، قال: يعني بذلك التفويض إلى الله عز وجل وقال سعيد بن سالم القداح: بلغني أنَّ موسى عليه السلام كانت له إلى الله حاجه، فطلبها، فأبطأت عليه، فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فعجب، فأوحى الله إليه: أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجحُ ما طلبت به الحوائج.

وأيضًا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعُّه، ولم يظهر عليه أثر الإجابة يرجع إلى نفسه بالملائمة، وقال لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحبُّ إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، وأنَّه ليس بأهل لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنِّه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله.

قال وهب رحمه الله: تعبَّد رجل زمانًا، ثم بدت له إلى الله حاجةٌ، فصام سبعين سبتًا، يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يُعطَها، فرجع إلى نفسه فقال: منك أتيت، لو كان فيك خير، أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملكٌ، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خيرٌ من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك.

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا

(1) سورة الطلاق، الآية:3.

ص: 44

فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (1).

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (2).

وقال حاكيًا عن يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (3).

ثم قص قصة اجتماعهم عقيب ذلك.

وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليمِّ، وإغراق عدوِّهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمَّد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك» (4).

إن اليقين والثقة بالله عز وجل من أعظم ما يناله العبد من توحيد الله تعالى؛ فصاحب التوحيد على يقينٍ من ربه، مصدق بآياته، مؤمن بوعده ووعيد كأنه يراها رأي العين، فهو واثق بالله متوكل عليه راضٍ بقضائه وقدره، محتسب الأجر والثواب منه.

إن النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف،

(1) سورة يوسف، الآية:110.

(2)

سورة البقرة، الآية:214.

(3)

سورة يوسف، الآية:87.

(4)

جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحم بن أحمد بن رجب الحنبلي، ص 42 - 43.

ص: 45

وأصعب الظروف، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضرُّه لا يوجه قلبه إلا إلى الله؛ فلهذا قال المكروب: «لا إله إلَاّ أنت» .

ومثل هذا ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلَاّ الله العظيم الحليم لا إله إلَاّ الله ربُّ العرش العظيم لا إله إلَاّ الله ربُّ السموات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم» (2).

فإنَّ هذه الكلمات فيها تحقيق التَّوحيد وتألُّه العبد ربَّه وتعلُّق رجائه به وحده لا شريك له وهي لفظ خبرٍ يتضمَّن الطَّلب. والنَّاس وإن كانوا يقولون بألسنتهم: لا إله إلَاّ الله فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى وبحسب تحقيق التَّوحيد تكمل طاعة الله.

قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (3).

فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتَّخذ إلهه هواه أي جعل معبوده هو ما يهواه وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه فهم يتَّخذون أندادًا من دون الله يحبُّونهم كحبِّ الله» (4).

إن الثقة بالله تعالى في تفريج الكرب ورفع البلاء مما ينبغي أن يكون في اعتقاد المسلم في كل لحظة وكل حين.

(1) سورة الأنعام، الآية:82.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، رق 5986.

(3)

سورة الفرقان، الآيتان: 43، 44.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، تحقيق: أنور الباز، عامر الجزار، 10/ 259، ط/ 3، دار الوفاء: 1426 هـ - 2005 م.

ص: 46

قال ابن القيم رحمه الله: «إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما جاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له» (1).

فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة» (2).

ويشدد الإمام ابن القيم رحمه الله على ضرورة وأهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات لأن له الحول والقوة:

«فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف إنما هي لله، وبيده في الحقيقة فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط، عليك وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً فما شاء الله كان ولا بد وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة.

فالتوحيد مفزع أعدائه وأوليائه فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى

(1) أخرجه مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير، رقم 7692.

(2)

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 188، ط/ 2، دار المعرفة، بيروت: 1395 هـ - 1975 م.

ص: 47