الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء
من صور الثقة بالله تعالى: الثقة به في استجابة الدعاء، وقد دلت نصوص الكتاب السنة على أهمية الدعاء وضرورة أن يثق المسلم في ربه في استجابة الدعاء، وجاء في الكتاب والسنة نماذج متعددة لثقة الأنبياء في ربهم عندما دعوه سبحانه، وكيف استجاب لهم.
1 - أهمية الدعاء وثقة المسلم في استجابة الله له:
للدعاء أهمية كبيرة في حياة المسلم قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1).
قال الطبري رحمه الله: «يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سألك يا محمد عبادي عني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم» (2). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذا جواب سؤال، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} لأنه تعالى، الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضًا من داعيه، بالإجابة، ولهذا قال:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
(1) سورة البقرة، الآية:186.
(2)
جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبير، تحقيق: أحمد محمد شاكر 3/ 480، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م.
فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغني المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم» (1).
وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3).
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معللا اللويحق ص 87.
(2)
الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش 2/ 308، ط/ دار الكتب المصرية، القاهرة: 1384 هـ - 1964 م.
(3)
سورة غافر، الآية:60.
لقد أخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق، استجاب له، فإن الدعاء في نفسه عبادة، والدعاء: هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئًا، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
ولقد اشتملت الآية على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلًا من الله وكرمًا، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضًا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة.
قال ابن كثير رحمه الله: «هذا من فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب» (1).
وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر.
فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلًا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة بعد النفخة والاستكبار.
(1) تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 7/ 153، ط/ 2، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض: 1420 هـ - 1999 م.
وفي فضل توجه المسلم بالدعاء لله جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» ، وقرأ:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1). (2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» (3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (4).
والواجب على المسلم أن يدعو الله تعالى وهو واثق في الله في استجابة دعائه؛ فيسأل الله تعالى بعزم ورغبة وحضور قلب ورجاء.
قال تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت ارزقني إن شئت وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له» (6).
(1) سورة غافر، الآية:60.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب: الوتر، باب: الدعاء، رقم 1479، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود، الألباني ص 229 رقم 1479.
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب: التفسير، باب: سورة بني إسرائيل، رقم 3370، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 765 رقم 3370.
(4)
أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: منه، رقم 3373، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 765 - 766، رقم 3373.
(5)
سورة الأنبياء، الآية:90.
(6)
أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الإنسان 30، رقم 7029.
قال ابن حجر رحمه الله: «قوله فليعزم المسألة في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور الدعاء ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه وأن يجزم بوقوع مطلوبة، ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى وإن كان مأموراً في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة قوله ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، ومن رواية العلاء ليعزم وليعظم الرغبة ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة.
وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر رحمه الله لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه يفعل إلا ما شاءه وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر.
وقال ابن بطال رحمه الله في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريمًا.
وقد قال ابن عيينة رحمه الله لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب انظرني إلى يوم يبعثون وقال الداودي معنى قوله ليعزم المسألة أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقر قلت وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد» (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر رجلًا من بني
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني 11/ 140، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1379 هـ.
إسرائيل سأل بعضهم بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدًا قال فأئتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلًا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينا فسألني كفيلًا فقلت كفى بالله كفيلًا فرضي بك وسألني شهيدًا فقلت كفى بالله شهيدًا فرضي بك وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وحدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشداً» (1).
قال بدر الدين العيني رحمه الله: «وفيه أن من توكل على الله فإنه ينصره فالذي نقر الخشبة وتوكل حفظ الله تعالى ماله والذي أسلفه وقنع بالله كفيلًا أوصل الله تعالى ماله إليه وفيه جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة وفيه أن الله تعالى متكفل بعون من أراد أداء الأمانة وأن الله يجازي أهل الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع أجر الآخرة كما حفظه على المسلف» (2).
(1) أخرجه البخاري، كتاب: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها، رقم 2169.
(2)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني الحنفي 14/ 118، ط/ 2، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة: 1984 م.
إن ثقة المسلم في ربه تجعله يدعوه سبحانه بكل ما يريد، ولا يستعظم على الله شيء «ومن آداب الدعاء أن يسأل الله تعالى حاجاته كلها فلا يمنعه من الدعاء استعظام المطلوب ولا احتقاره» (1).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصَّلاة وصام رمضان كان حقًّا على الله أن يدخله الجنَّة هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها قالوا: يا رسول الله أفلا ننبِّئ النَّاس بذلك قال إنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله كلُّ درجتين ما بينهما كما بين السَّماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة وفوقه عرش الرَّحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنَّة» (2).
ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يجعل المسلم دعاءه كله لله واستعانته بالله وسؤاله لله فعن عبد الله ابن عباس رضي الله عنه قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «يا غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف» (3).
(1) سلاح المؤمن في الدعاء والذكر، محمد بن محمد بن علي بن همام بن داود، تحقيق: محيي الدين ديب مستو ص 153، ط/ دار ابن كثير، دمشق: 1414 هـ 1993 م.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، رقم 2790.
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: منه، رقم 2516، وقال الألباني: حديث صحيح انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 566 - 567، رقم 2516.
قال ابن رجب رحمه الله: «هذا منزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1). فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة.
واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة» (2).
ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يحرص المسلم على الصبر وعدم الاستعجال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يجعل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» (3).
قال ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار» (4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» . قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال:«يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» (5).
قال ابن بطال رحمه الله: «قال بعض العلماء: قوله: «ما لم يعجل» يعني يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان
(1) سورة الفاتحة، الآية:5.
(2)
جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ص 180، 181، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1408 هـ.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، رقم 6340، وأخرج
(4)
فتح الباري بسرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني 11/ 141.
(5)
أخرجه مسلم، كتاب: الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، رقم 2735.
يستحق به الإجابة، فيصبر كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب. وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي، والاستسلام لربه تعالى بالذلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء. وقال بعض السلف: لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك أن الله تعالى يقول:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1). فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد» (2).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: «اعلم أن الله عز وجل لا يرد دعاء المؤمن غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة فيعوضه عنه ما يصلحه وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة فينبغي للمؤمن ألا يقطع المسألة لامتناع الإجابة فإنه بالدعاء متعبد وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض» (3).
وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله» (4).
(1) سورة غافر، الآية:60.
(2)
شرح صحيح البخاري، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم 10/ 100، ط/ 2، مكتبة الرشد، الرياض: 1423 هـ - 2003 م.
(3)
كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب 1/ 929، ط/ دار الوطن، الرياض: 1418 هـ - 1997 م.
(4)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ص 10، ط/ دار المعرفة، بيروت: 1418 هـ - 1997 م.
إن الثقة بالله تعالى، واليقين بالإجابة (1): من أعظم الشروط لقبول الدعاء الثقة بالله تعالى، وأنه على كل شيء قدير؛ لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2)، وقال سبحانه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3)، ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (4).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى: «
…
يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركُم وإنسَكُم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقُصُ المِخيطُ إذا أُدخِلَ البَحر» (5).
وهذا يدل على كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين: من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد (6)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يدُ الله (7) ملأى لا يَغِضُها نفقةٌ سحاء (8) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء (9)
(1) انظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي 2/ 407.
(2)
سورة النحل، الآية:40.
(3)
سورة يس، الآية:82.
(4)
سورة الحجر، الآية:21.
(5)
أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم 2577.
(6)
جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي 2/ 48.
(7)
في رواية مسلم: (يمين الله ملأى)، رقم 992.
(8)
سحَّاء: أي دائمة الصب، تصب العطاء صباً، ولا ينقصها العطاء الدائم، (الفتح 13/ 395).
(9)
في رواية للبخاري بالجمع للسموات والأرض رقم 7441.
والأرض؛ فإنه لم يغِض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده (1) الميزان يخفض ويرفع» (2).
فالمسلم إذا علم ذلك، فعليه أن يدعو الله وهو موقن بالإجابة؛ لما تقدم؛ ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ» (3).
وبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن الدعاء المقبول الذي يستجيب الله لصاحبه لا بد أن يكون حاضر القلب، واثقًا في إجابة الله له.
«وإذا جمع مع الدَّعاء حضور القلب وجمعيَّته بكليَّته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة، وهي: الثُّلث الأخير من اللَّيل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصَّلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصَّلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر.
وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الربِّ، وذُلًّا له، وتضرُّعًا، ورقَّة. واستقبل الدَّاعي القبلة. وكان على طهارةٍ. ورفع يديه إلى الله. وبدأ بحمد الله والثَّناء عليه، ثمَّ ثنَّى بالصَّلاة على محمَّدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قدَّم بين يدي حاجته التَّوبة والاستغفار. ثمَّ دخل على الله، وألحَّ عليه في المسألة، وتملَّقه ودعاه رغبةً ورهبةً. وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده. وقدَّم بين يدي دعائه صدقةً، فإنَّ هذا الدُّعاء لا يكاد يُردُّ أبدًا،
(1) وفي رواية للبخاري، ومسلم:«وبيده الأخرى» ، رقم 7411، وفي مسلم، رقم 993.
(2)
البخاري بلفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} رقم 4684، ومسلم بنحوه، رقم 993، والترمذي بلفظ:«يمين الرحمن ملأى» ، رقم 3045.
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: أيها المصلي ادع تجب، 5/ 517، رقم 3479، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 790، رقم 3479.