الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق
ومن ثقة المسلم بالله تعالى أنه يثق أن الله عز وجل متكفل برزقه، وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب التي تجلب الرزق، ويثق أن الله سيعطيه ما قدر له من رزق، ولن ينقص منه شيئًا.
1 - الدعوة إلى ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق:
لقد دلت الكثير من النصوص الشرعية على أهمية الثقة بالله في التكفل بالأرزاق، وأن جميع المخلوقين ضمن الله رزقهم قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1).
قال الطبري رحمه الله: «يعني تعالى ذكره بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، وما تدب دابة في الأرض. و «الدابة» «الفاعلة» ، من دبَّ فهو يدب، وهو دابٌّ، وهي دابة.
{إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عيشها. قال مجاهد، في قوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.
وقوله: {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا {وَمُسْتَوْدَعَهَا} الموضع الذي يودعها، إما بموتها، فيه، أو دفنها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {مُسْتَقَرَّهَا} حيث تأوي {وَمُسْتَوْدَعَهَا} ، حيث تموت» (2).
(1) سورة هود، الآية:6.
(2)
جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 15/ 240.
وقال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بحريها، وبريها، وأنه {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس:{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت. وعن مجاهد:{مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب، كالتي في الأنعام، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك، كما قال تعالى:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (1). وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2). (3)
لقد أخبر سبحانه وتعالى في هذه الآية برزق الجميع، والدابة كل حيوان يدب والرزق حقيقة ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. قيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟
فقال: من عند الله. {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (4). فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟
(1) سورة الأنعام، الآية:38.
(2)
سورة النعام، الآية:59.
(3)
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 4/ 305.
(4)
سورة المنافقون، الآية:7.
فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد:
ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
…
وكيف أخاف الفقر والله رازقي
وللضب في البيداء والحوت في البحر
…
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم (1)
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها على الله.
{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم مستقر هذه الدواب، وهو: المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه، ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها مجيئها، وعوارض أحوالها. {كُلٌّ} من تفاصيل أحوالها {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة، والتي تقع في السموات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها، وصفاتها» (2).
إنه ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجو إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعد لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية، أبو سعيد محمد بن محمد الخادمي 3/ 5، ط/ 1، مطبعة الحلبي، القاهرة: 1348 هـ.
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 377.
وأيام الحياة والممات. وكل ما ذكر من كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق.
وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة على المفيدة للوجوب تفضلاً منه ورحمة، إلا أن الرزق بمقتضى سنته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرزق مرتبط بالسعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطلب والتحصيل، كما قال تعالى:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1).
ومن الآيات التي تدل على ضرورة أن يثق المسلم في تكفل الله برزقه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا إلا أن ييسره الله عليكم، ولهذا قال تعالى: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (3). فأثبت لها رواحًا وغدوًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب» (4).
(1) سورة طه، الآية:50.
(2)
سورة الملك، الآية:15.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده 1/ 30،رقم 205، وقال الأرنؤوط: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن هبيرة فمن رجال مسلم (1/ 30).
(4)
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 8/ 179.
ومن الآيات أيضًا التي تدعو المسلم إلى الثقة بالله تعالى في رزقه، وأنه ينبغي للعبد أن يطلب الرزق من الله تعالى فقط قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
(1) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني 5/ 267، ط/ 2، دار الحديث، القاهرة: 1424 هـ - 2004 م.
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي 3/ 451، ط/ 1، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة.
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1).
قال الرازي رحمه الله: «وذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمة من الجوع أو منعه من الهجوع، وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجره، وإما لكونه نافعًا في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعا منه أمرًا في المستقبل، وإما لكونه خائفًا منه. فقال إبراهيم:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثانًا لا شرف لها. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، إما في الوجود، وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فقوله: الله إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله: {الرِّزْقَ} إشارة إلى حصول النفع منه عاجلًا وآجلًا. وقال {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة، وقال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} معرفًا فما الفائدة؟
فنقول قال الزمخشري رحمه الله قال: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلًا، وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2).
(1) سورة العنكبوت، الآية:17.
(2)
سورة هود، الآية:6.
والرزق من الأوثان غير معلوم فقال: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لعدم حصول العلم به وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} الموعود به، ثم قال:{وَاعْبُدُوهُ} أي اعبدوه لكونه مستحقًّا للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير) (1).
ونص الله سبحانه في القرآن الكريم أنه رزاق يرزق الخلق كلهم لا فرق بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وأن المطلوب منهم ليس تدبير الأرزاق، وإنما عبادة الخلاق قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2).
قال الماوردي رحمه الله: «فيه خمسة تأويلات:
أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعًا أو كرهًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم، قاله مجاهد رحمه الله.
الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة، قاله زيد بن أسلم رحمه الله.
الرابع: إلا ليعرفوني، قاله الضحاك رحمه الله.
الخامس: إلا للعبادة، وهو الظاهر، وبه قال الربيع بن أنس رحمه الله.
وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم.
الثاني: ما أنفسهم، قاله أبو الجوزاء.
(1) مفاتيح الغيب، الإمام محمد بن عمرو المعروف بفخر الدين الرازي 25/ 38، ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2)
سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58.
الثالث: ما أريد منهم معونة ولا فضلًا» (1).
وقال ابن عاشور رحمه الله: «وجملة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} تقرير لمعنى {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئًا يصنعونه أو يتخذونه، فإنه المعروف في المعرف أن من يتخذ شيئًا إنما يتخذه لنفسه، وليست الجملة لإفادة.
الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج لذكر الضد. ولا يحسن ذكر الضد ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ.
فقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منه سدنة الأصنام.
والرزق هنا: المال كقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2). وقوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (3). ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (4). ويمنع من إرادته
(1) تفسير الماوردي المسمى «النكت والعيون» ، أبو الحسن علب بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، تحقيق: السيد عبد المقصود 5/ 374، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت.
(2)
سورة العنكبوت، الآية:17.
(3)
سورة الرعد، الآية:26.
(4)
سورة مريم، الآية:62.
هنا عطف {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . وقوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . تعليل لجملتي {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} و {الرِّزْق} هنا بمعنى ما يهم المال والإطعام. والرزاق: الكثير الإرزاق، والقوة: القدرة.
وذو القوة: صاحب القدرة. ومن خصائص {ذُو} أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص.
والمتين: الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشدائد القوة، وقد عد {الْمَتِينُ} في أسمائه تعالى. فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران بإتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله:{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
وإظهار اسم الجلالة في {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه: إني أنا الرزاق، فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال: وحذفت ياء المتكلم من {يَعْبُدُونِ} و {يُطْعِمُونِ} للتخفيف، ونظائره كثيرة في القرآن. وفي قوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي: لا رزاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله، وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها. فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها: الإرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر» (1).
(1) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور 27/ 46.
والذي يظهر من الآيات أن الله عز وجل لا يريد من خلق الناس جلب نفع له، ولا دفع ضرر عنه، كما تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي ، الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدر والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة.
والخلاصة: أنه تعالى خلق العبادة ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
وقد أقسم الله تعالى أن رزق العباد مكفوب لهم فقال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (2).
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 4/ 406، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت: 1407 هـ.
(2)
سورة الذاريات، الآية:22.
قال ابن كثير رحمه الله: «ثم قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} يعني: المطر، {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني: الجنة. قاله ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: قرأ واصل الأحدب رحمه الله هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال: ألا إني أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث فيها ثلاثاً لا يصيب شيئًا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدَوْخَلَة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما» (1).
قال د. وهبة الزحيلي: «ثم ذكر الله تعالى ضمانة الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسباً لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموًّا ونضجًا.
ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه، حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكوا فيه، كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون، فهو كمثل نطقكم، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا، كما تقول: إنه لحق، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ إذا حدث بالشيء
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 7/ 419.
يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا» (1).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم، ثم لي يصدقوا» .
قال الأصمعي: أقبلت خارجًا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علي، فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولي. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه» (2).
وجاء في نوادر الأصول في أحاديث الرسول: وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فلك وقد أرملوا من الزاد فأرسلوا رجلًا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (3). فقال الرجل ما الأشعريون بأهون الدواب على الله فرجع ولم يدخل على رسول
(1) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي 27/ 19.
(2)
أسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10 - 11، جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 24/ 424.
(3)
سورة هودن الآية: 6.
الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه «أبشروا أتاكم الغوث» ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده.
فبيناهم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءًا خبزًا ولحمًا فأكلوا منها ما شاءوا ثم قال بعضهم لبعض لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا قد قضينا منه حاجتنا ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله فما رأينا طعامًا أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به فقال يا رسول الله فما رأينا طعامًا أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به فقال «ما أرسلت إليكم شيئًا» فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع وما قال لهم فقال صلى الله عليه وسلم ذلك شيء رزقكموه الله سبحانه» (1).
قال القرطبي رحمه الله: «وقال يزيد بن مرثد: إن رجلًا جاع بمكان ليس فيه شي فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» (2).
وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعالج شيئًا فأعناه عليه، فقال:«لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله» (3).
(1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي، تحقيق: عبد الرحمن عميرة 3/ 35، ط/ دار الجيل، بيروت: 1992 م.
(2)
انظر: معجم ابن الأعرابي، أبو سعيد احمد بن محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي، وأسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10.
(3)
أخرجه احمد في مسنده رقم 15893، شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لجهالة حال سلام شرحبيل (3/ 469) وابن ماجه (4165) في الزهد: باب التوكل واليقين، من طريق أبي معاوية، رقم 4165، وقال الشيخ الألباني: ضعيف، والبخاري في «الأدب الممفرد» (453)، والطبراني (3479) من طريق جرير بن حازم كلاهما عن الأعمش، به.
وروي أن قومًا من الأعراب زرعوا زرعًا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر
…
صمًّا ململمة ملسًا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت
…
حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع
…
لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها
…
إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شي، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه» (1).
إن الله سبحانه يختص بالرزق والتقدير دون شريك ولا معين، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2). وسبحانه وبحمده، امتد رزقه للبهائم فضلًا عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباع في جحورها، والحيتان في قاع بحارها، وشمل رزقه الدواب بأنواعها، وصدق الله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (3).
فالمخلوق الذي لا يحمل الرزق يحمل إليه الرزق! والذي لا يملك قوت يومه أو غده ييسره الله له قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا
(1) الجامع لحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن احمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش 17/ 42.
(2)
سورة سبأ، الآية:26.
(3)
سورة هود، الآية:6.
وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1).
ومن لطائف ما ذُكر في تفسير هذه الآية ما أورده ابن كثير رحمه الله: «ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمطار؛ ولهذا قال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر شيئاً لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي: الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء والحيتان في الماء، قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي:«يا بن عمر، مالك لا تأكل؟» قال: قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال:«لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟» . قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا بإتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارًا
(1) سورة العنكبوت، الآية:60.
(2)
سورة هود، الآية:6.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:60.
ولا درهمًا، ولا أخبئ رزقاً لغد».
وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض، خرجوا وهم بيض فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبرغش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرَا عنه، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفَا عليه بالحضانة والرزق» (1).
وفي السنة النبوية ما يؤكد للإنسان أهمية أن يثق بالله تعالى في رزقه؛ فإن رزق الإنسان مكتوب له، وهو في بطن أمه فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» (2).
قال ابن حجر رحمه الله: «والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلًا أو كثيرًا وصفته حراماً أو حلالاً وبالأجل هل هو طويل أو قصير وبالعمل هو صالح أو فاسد ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعًا عن الأعمش ثم يكتب شقيًّا أو سعيدًا ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلًا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي
(1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 6/ 293.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، رقم 3036، وأخرجه مسلم، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه رقم 2643.
باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما» (1).
وجاء في التلخيص المعين على شرح الأربعين:
«وقوله: «ويؤمر» أي الملك «بأربع كلمات» والآمر هو الله عز وجل بكتب «رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» . وقوله «رزقه» الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك. والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث. «وأجله» أي مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافًا متباينًا، فمن الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائة سنة من هذه الأمة، أما من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا.
واختيار طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن، إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عز وجل» (2).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
««ويؤمر يعني الملك بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد» فيكتب رزقه وكتب الرزق يعني هل هو قليل أم كثير ومتى يأتيه وهل ينتقص أم لا ينتقص المهم أنه يكتب كاملاً ويكتب أجله أيضًا في أي يوم وفي أي مكان وفي أي ساعة وفي أي لحظة وعن بعد أم عن قرب وبأي سبب من
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، 11/ 483.
(2)
التلخيص المعين على شرح الأربعين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: سلطان بن سراي الشمري ص 40، ط/ دار الثريا للنشر.
الأسباب موته والمهم أنه يكتب كاملا، ويكتب عمله هل هو صالح أم سيئ أم نافع أم قاصر على الشخص نفسه والمهم يكتب كل أعماله ويكتب مآله وما أدرك ما المآل فيكتب هل هو شقي أم سعيد» (1).
وما من شك أنه مما يزيد ثقة المسلم في رزق الله سبحانه أنه جل في علاه خزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حدّ له ففي الحديث القدسي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (2).
قال ابن رجب رحمه الله: «المراد بهذا ذكر كمال قدرته سبحانه، وكمال ملكه، وإنَّ ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميع ما سألوه في مقامٍ واحدٍ، وفي ذلك حثُّ للخلق
(1) شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، 1/ 457.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم 2577.
على سؤاله وإنزال حوائجهم به» (1).
وقال المناوي رحمه الله: «وقوله: «ما زاد ذلك في ملكي شيئًا» نكره للتحقير «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» لأنه مرتبط بقدرته وإرادته وهما باقيتان ذاتيتان لا انقطاع لهما فكذا ما ارتبط بهما وعائد التقوى والفجور على فاعلهما «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» أي في أرض واحدة ومقام واحد «فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي» لأن أمري بين الكاف والنون قال القاضي: قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد لأن تزاحم السؤال مما يذهل المسؤول ويبهته ويعسر عليه إنجاح مأربهم والإسعاف بمطالبهم «إلا كما ينقص المخيط» بكسر فسكون ففتح الإبرة «إذا أدخل البحر» لأن النقص إنما يدخل المحدود الفاني والله سبحانه واسع الفضل عظيم النوال لا ينقص العطاء خزائنه فخاطب العباد من حيث يعقلون وضرب لهم المثل بما هو غاية القلة ونهاية ما يشاهدونه فإن البحر من أعظم المرئيات والإبرة صغيرة صقيلة لا يعلق بها شيء وإن فرض لكنه لا يظهر حسًّا ولا يعتد به عقلًا فلذا شبه بها «يا عبادي إنما هي أعمالكم» أي: هي جزاء أعمالكم «أحصيها» أضبطها وأحفظها «لكم» أي بعملي وملائكتي الحفظة «ثم أوفيكم إياها» أي أعطيكم جزاءها وافيًا تامًّا إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر والتوفية إعطاء الحق على التمام.
وهذا الحديث لجلالته وعظم فوائده كان راويه عن أبي ذر أبو إدريس الخولاني رحمه الله إذا حدث به جثا على ركبتيه تعظيماً له» (2).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «ثم قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم
(1) جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، 2/ 48.
(2)
فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن علي المناوي 4/ 627، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 1415 هـ - 1994 م.
ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عز وجل فلا ينصر الله، ومع هذا لا ينقص من ملكه شيئًا لأن الله تعالى غني عنه. «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته» أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة.
«ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئًا ولا تغيره» (1).
وقال ابن علان رحمه الله: «ففي ذلك إشارة إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفات البر والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم، لأنه تعالى الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، الكامل فلا نقص يلحقه بوجه «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» أي: أرض واحدة ومقام واحد «فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك» أي: إعطاء كل سائل مسئوله «مما عندي» من الخزائن الإلهية «إلا كما ينقص المخيط» هو بكسر فسكون ففتح: الإبرة: «إذا أدخل البحر» وهو في رأي العين لا ينقص شيئًا من البحر، فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئًا البتة، لأنها من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان ولا نهاية لهما، والنقص مما لا يتناهى محال بخلافه مما يتناهى، كالبحر وإن جل وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يؤخذ العطاء الكثير من المتناهي ولا ينقص، كالنار والعلم تقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على
(1) التلخيص المعين على شرح الأربعين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: سلطان بن سراي الشمري، ص 123.
الإعطاء، فعلم أن قوله:«إلا كما ينقص المخيط» الخ، ليس المراد منه حقيقته وإنما هو تمثيل يقرب إلى الفهم» (1).
إن هذا الحديث يدلُّ على كمال غنى الله سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليه، وأنَّ الجنَّ والإنس لو اجتمعوا أوَّلهم وآخرهم، وسأل كلُّ ما يريد، وحقَّق الله لهم ذلك، لم ينقص ذلك ممَّا عند الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، والمعنى أنَّه لا يحصل نقصٌ أصلًا؛ لأن ما يعلق بالمخيط - وهو الإبرة - من الماء لا يعتبر شيئًا، لا في الوزن ولا في رأي العين.
فلا تشغل همَّك بما ضمن لك من الرزق، فرزقك لا يغدو لغيرك، ورزق غيرك لن يصلك، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3).
لا يأكل أحد رزق أحد، ولا يزاحمه فيه، قال سبحانه:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (4).
وخزائن رزقه سبحانه وتعالى لا تنفد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ
(1) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد علي بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي، تحقيق: خليل مأمون شيحا 1/ 408، ط/ 4، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1425 هـ - 2004 م.
(2)
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر قيم الجوزية 1/ 288، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت: 2000 م.
(3)
سورة الحج، الآية:70.
(4)
سورة الرعد، الآيتان: 8، 9.