الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين» (1).
4 - ثقة النبي بالله تعالى في غزوة الأحزاب:
ومن الثقة في نصر الله تعالى ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، وقد التفت عليه جموع الشرك والمشركين، وصناديد الكفر والمنافقين ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم واثقًا من نصر الله تعالى له.
ولقد كان المسلمون يدعون الله تعالى: «اللَّهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال:«اللَّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» .
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، 7/ 347.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده رقم 18716، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف ميمون أبي عبد الله (4/ 303).
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جندًا من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طُنُباً إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة» (1).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بالنصر والظفر ويعدهم الخير. أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنه ضمائرهم حتى قالوا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (2). وانسحبوا قائلين: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَاذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (3). (4).
إنه يتضح في تلك الغزوة شدة تضرع الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول النصر:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله، وخصوصاً في مغازيه، وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالًا شديدًا، فما كان من المسلمين
(1) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ص 278.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:12.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:13.
(4)
نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد بن عفيفي الخضري، تحقيق: هيثم هلال ص 150، ط/ 1، دار المعرفة بيروت: 1425 هـ - 2004 م.
إلا أن توجهوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا». وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» (1).
فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فأقبلت بشائر الفرج فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (2).
قال القرطبي رحمه الله: «وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها
…
وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط (3). وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إليَّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب» (4).
وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه
(1) أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، رقم 2775، وأخرجه مسلم في الجهاد والسير باب كراهة تمني لقاء العدو وباب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو رقم 1724.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:9.
(3)
الفساطيط: جمع فسطاط نوع من الأبنية في السفر وهو دون السرادق.
(4)
الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش.
الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين، رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» (2).
وما من شك أن النماذج كثيرة ومتعددة في الثقة في نصر الله، ولكن يكفي للتدليل ما ذكرنا.
(1) سورة الأحزاب، الآية:9.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، رقم 4114.
(3)
فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 222، ط/ دار الفكر المعاصر، بيروت: 1994 م.