الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني
في البحث مع صاحب الاستفتاء
خلاصة الاستفتاء
لخَّص صاحب الاستفتاء رسالته في أربعة مقاصد:
الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل عند الحنفية وغيرهم، حتى يصحّ أن يقال: اتفقت عليه الأمة.
الثاني: أن السنة فسَّرته بحديث عبادة وغيره: «الحنطة بالحنطة
…
»
(1)
، وبالآثار في ربا الجاهلية، وهو الزيادة عند حلول أجل الدين في مقابل مدِّ الأجل. والقرض ليس بدين، لأنه لا يكون إلى أجل عند الفقهاء، فعلى هذا لا يكون الربا إلا في البيع.
الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربا منصوص.
الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصح قياسه على الربا المنصوص ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغير الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان، كما قالوا بجواز الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في بعض ذلك ثابت بالنص.
* * * *
(1)
أخرجه مسلم (1588) من حديث أبي هريرة، ونحوه (1587) من حديث عبادة.
[ق 6] الكلام على المقصد الأول
للمستفتي ثلاثُ حِجاجٍ على أن لفظ «الربا» في القرآن مجمل:
الأولى: الإجماع، ونَقَل عدة عبارات من كتب الحنفية وغيرهم.
الثانية: أن الكتاب والسنة والإجماع وردت بجواز بعض الزيادات، كالربح في البيع، والزيادة تفضُّلًا عند القضاء.
الثالثة: ما رُوي عن عمر أنه قال: «كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسِّرها لنا، فدعُوا الربا والريبة»
(1)
.
والجواب عن الأولى بمنع الإجماع، كيف وقد نقل صاحب الاستفتاء نفسه عن «مقدِّمات ابن رشد المالكي» (بحوالة ج 3 ص 41) ما لفظه: «وقد اختُلف في لفظ الربا الوارد في القرآن، هل هو من الألفاظ العامة يُفهم المراد بها وتُحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصُّها، أو من الألفاظ المجملة؟
…
».
ونقل أيضًا عن كتاب «أحكام القرآن»
(2)
لابن العربي المالكي: «اختلفوا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيانَ لها إلا من غيرها؟ والصحيح أنها عامَّة
…
».
(1)
أخرجه أحمد (246، 350) وابن ماجه (2276) وغيرهما. وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف.
(2)
(1/ 241).
ونقل أيضًا عن الطحاوي ما يُعلَم منه أنها عنده ليست بمجملة، وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقال [إلكيا الهراسي]
(1)
الشافعي في كتابه «أحكام القرآن» : [ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا لمَّا كان غير معلوم، أورث احتمالًا في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل، ولا البيع كما ذكرناه].
وهَبْ أنه لم يُنقل عن أحدٍ القولُ بأنها غير مجملة، فهذا لا يمنع أن يذهب ذاهب إلى عدم إجمالها ما دام لم يَخرِقْ إجماعَهم في حكم ينبني عليها. وإنما يكون ذلك من باب إحداث دليل أو تأويل، وقد نصَّ علماء الأصول أنه لا يكون خرقًا للإجماع.
فإن قيل: فإنه ينبني على كونها غيرَ مجملة تحريمُ الزيادة المشترطة في القرض، وهي المسألة المستفتى عنها.
قلتُ: هم مجمعون على تحريم ذلك، ونصوص العلماء على الإجماع في ذلك لا تُحصى. وممن صرَّح به: الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»
(2)
، والباجي المالكي في «شرح الموطأ»
(3)
، وشرَّاح «المنهاج»
(4)
في فقه الشافعية، وغيرهم من الحنفية والحنابلة، وغيرهم
(5)
.
(1)
بيَّض في الأصل لاسم المؤلِّف ولكلامه المقتبس من كتابه، فأثبتناه من «أحكام القرآن» (1/ 233) لإلْكيا الهراسي.
(2)
(4/ 313).
(3)
«المنتقى» (/).
(4)
انظر «نهاية المحتاج» (3/ 424).
(5)
انظر «عمدة القاري» للعيني (12/ 45، 135)، و «المغني» لابن قدامة (6/ 436)، و «المحلَّى» لابن حزم (8/ 77، 467 - 468).
وهبْ أنه يمتنع مخالفة الذاهبين إلى الإجمال، أفليس يمتنع مخالفة الإجماع على تحريم الزيادة المشروطة في القرض؟ وقد علمتَ أن الإجماع على الإجمال موهوم، والإجماعَ على التحريم معلومٌ، ومخالفةَ القول بالإجمال من باب إحداث دليل أو تاويل، ومخالفةَ القول بالتحريم خرقٌ لإجماعٍ في حكم شرعي عملي بإحداث حكم آخر.
[ق 7] والجواب عن الحجة الثانية أن القائل بالإجمال يقول: إن لفظ «الربا» نُقِل إلى معنى شرعي. ومَن يقول ببقائه على أصل اللغة يقول: هو عام مخصوص، فكل زيادة صحَّ دليلٌ بجوازها خُصَّت من عموم الربا.
وقد تقرر في الأصول أن التخصيص أولى من النقل، والعمومات المخصوصة كثيرة في الشريعة حتى قيل: ما من عام إلا وقد خُصَّ، فلو كان كل عام قد خُصَّ يُحمل على الإجمال والنقل، لوجب أن يقال ذلك في جميع الألفاظ العامة المخصوصة، وهذا باطل حتمًا.
والجواب عن الحجة الثالثة أن هذا الأثر أخرجه ابن ماجه
(1)
وغيره من طريق سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر. وسعيد وقتادة مدلِّسان، وابن المسيب عن عمر منقطع. ولو صحَّ لم يكن نصًّا في الإجمال، بل يُحمل على أن هناك أمورًا ليست من أفراد الربا لفظًا، ولكنها تُشبِهه من حيث المعنى، وقد تقدم في القسم الأول ما يتضح به ذلك.
وكثيرًا ما يرِد في القرآن نصوص على أمور معروفة، فيُلْحِق بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ليس منها نصًّا، ولكنه في معناها. نَصَّ القرآن على حُرمة الأمِّ
(1)
رقم (2276) وقد سبق تخريجه.
والأخت من الرضاعة، فألحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرهما بقوله:«يَحرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب»
(1)
.
ونصَّ القرآن على حُرمة الجمع بين الأختين، فألحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعَ بين المرأة وعمَّتها أو خالتها
(2)
، وأمثال ذلك كثير.
فرأى عمر أن هناك أشياءَ فيها شَبَهٌ من الربا في المعنى، توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبيِّن أنها تُلحق بالربا أو لا تُلحق. وقوله في آخر الأثر:«فدَعُوا الربا والريبة» صريح في هذا، فتدبَّر.
وهبْ أنه أراد الإجمال، فهو قول صحابي، وهبْ أن قول الصحابي حجة، فقد جاء عن عمر وجماعة من الصحابة تحريم الزيادة في القرض كما سيأتي. ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة، بل ولا من غيرهم. فأيُّ القولين أحق بأن يكون حجَّةً؟ والله المستعان.
[ق 8] وقد سلك الجصَّاص في كتاب «أحكام القرآن» في الاحتجاج للإجمال مسلكًا أدقَّ مما تقدَّم، فقال: «والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به. ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلًا من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]،
(1)
أخرجه البخاري (2645) ومسلم (1447) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى.
فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين، لأنه لا عوضَ لها من جهة المقرض. وقال تعالى:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا من البياعات سمَّاها ربًا، فانتظم قوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] تحريمَ جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع». (ج 1 ص 465).
وحاصله: أن العرب لم تكن تعرف للربا معنى إلا القرض إلى أجل بشرط زيادة. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في بياعات أخرى أنها ربا، فعُلِم أن الربا في عُرف الشرع أعم منه في عُرف أهل اللغة، فثبت النقل والإجمال.
والجواب: أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بمقدمتين:
الأولى: أن لفظ الربا لغةً أو عُرفًا سابقًا نزولَ القرآن لا يعم البياعات التي نصَّت السنة أنها ربا.
الثاني
(1)
: أن تكون السنة نصَّت على ما يعلم منه أن تلك البياعات يتناولها لفظ الربا في القرآن بعموم لفظه.
فأما المقدمة الأولى، فقد ادَّعى الجصَّاص ــ كما تقدم ونقله صاحب الاستفتاء ــ أن الربا الذي كان متعارفًا بين العرب «إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض» .
وقال الفخر الرازي في «تفسيره»
(2)
كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا:
(1)
كذا في الأصل بالتذكير.
(2)
(7/ 62) ط. دار الفكر.
وقال ابن العربي في «أحكام القرآن»
(1)
كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: [ق 9]«وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجلُ الرجلَ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: أتقضي أم تُربي؟ يعني أم تزيدني على ما لي عليك، وأصبِرُ أجلًا آخر» .
وقال الطحاوي في «شرح معاني الآثار»
(2)
كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: «إن ذلك الربا ــ يعني في حديث «الربا في النسيئة» ــ إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدينُ فيقول له: أجِّلْني منه إلى كذا وكذا (على كذا وكذا)
(3)
درهمًا أزيدها في دينك».
وقد رد المستفتي كلَّ ما قيل في ربا الجاهلية فقال: «لم يتبيَّن إلى الآن بسند مرفوع ربا الجاهلية في أي شيء كان؟ فهو مجهول» .
أقول: سواءٌ علينا أَعَرفنا ربا الجاهلية أم لم نعرفه، ينبغي لنا تحقيق الربا في اللغة، فإنه على فرض معرفة ربا الجاهلية لا يخرج عن كونه هو الربا
(1)
(1/ 241).
(2)
(4/ 65).
(3)
ما بين القوسين من المؤلف، وعند الطحاوي:«بكذا وكذا» .