الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويغيِّروها؛ ليدفعوا ما ينشأ عنها من الضرر.
[ص 30] على أن تجويز بيع الوفاء هو نفسه من جملة التقصير كما مر، فهو إن دفعَ الضررَ من وجهٍ، شدَّده من وجهٍ آخر.
وأما المعاملات التي ذكروا أن علة التحريم موجودة فيها، وإنما أحلَّها الشارع للحاجة، فقد أجاب عنها صاحب "إعلام الموقعين"، وعروض الحاجة فيها ليس ناشئًا عن تقصير.
وفوق هذا، فالمفاسد التي تترتب على تلك المعاملات خفيفة بالنسبة إلى المفسدة التي تترتب على منعها لو منعت، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن
المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء
شديدة، وقد تقدم بعضها، وأشدُّها أنه ربا في القرض. وقد شدَّد الشارع فيه أعظم التشديد، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275 - 279].
وفي الحديث: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرُها مثلُ أن ينكح الرجلُ أمَّه". صححه الحاكم وغيره
(1)
، وفي معناه أحاديث.
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 37) والبيهقي في "الشعب"(5519) من حديث ابن مسعود. وصححه الحاكم، وقال البيهقي: إسناده صحيح والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلَّا وهمًا، وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده.
ففي ما مرَّ: تخبُّط الشيطان، والخلود في النار، والمَحْق، والكفر، والإثم، وعدم الإيمان، ومحاربة الله ورسوله، ومثل أن ينكح الرجل أمه، وأشدّ من ذلك.
والمفسدة التي تقابل هذا كلَّه إنما هي أن يحتاج صاحب الأرض إلى بيعها بتاتًا!
على أن الشرع لم يَعُدَّ هذه مفسدةً، فلم تصرح الشريعة بكراهية ذلك، وبينت أن من اضطر إلى القوت وقدرَ أن يُحصِّله ببيع أرضه، أو يأكل الميتة، وجب عليه بيع أرضه، ولا تحل له الميتة. ومن كان له أرض يحصل بقيمتها ما يكفي لوجوب الحج، ولم يجد نفقة الحج إلا ببيعها، وجب عليه بيعُها. ومن حلَّ له دين، وكان للمدين أرض، وجب بيع الأرض، ولا يجب على الدائن الإنظار، وأمثال ذلك.
وفي تجويز هذا البيع مفاسد أخرى، منها: أن صاحب الأرض قد يحتاج إلى نفقة غير ضرورية، وإنما هي تبذير وإسراف، فتطيب نفسه أن يبيعها هذا البيع طمعًا في أن يستطيع فكَّها عن قرب، ثم لعله تحصل له أموال فيُؤثِر إنفاقَها في الفضول، ويَدَعُ الأرض قائلًا: أنا أستطيع فكَّها متى أردتُ، وقد يبقى هكذا إلى أن يموت، فيصير البيع باتًّا على رأي، أو يبقى حق الفكِّ لورثته، ولعلهم يكونون أعجزَ منه.
وإذا لم يجوّز هذا البيع، فإن هذا الرجل يضنُّ بأرضه أن يبيعها بيعًا باتًّا،
ويؤثر على ذلك أن يَكُفَّ عن فضول الإنفاق، وهذا خير له من الجهتين.
ومنها: أنها لا تثبت الشفعة في هذا البيع على رأي، فيكون فيه حيلة لإبطال أحكام الله تعالى.
وبالجملة فالحق على أهل العلم أن يحافظوا على الشريعة، ويردُّوا الناس إليها، لا أن يتركوا الناس يخرجون منها، ويساعدوهم على ذلك، بل ويحملوهم عليه، ثم إذا نشأ عن ذلك ضررٌ جعلوا التبعةَ على الشريعة، والغرامةَ عليها، فعادوا يُمزِّقونها، فيمزِّق الله تعالى دينَهم ودنياهم.
نُرقِّع دنيانا بتمزيقِ ديننا
…
فلا دينُنا يبقَى ولا ما نُرقِّعُ
(1)
[ص 31] فصل
وهناك حيل أخرى على ربا القرض، والحق إبطالها كلها، فإذا أراد المسلمون أن يرجع لهم عزُّ دينهم ودنياهم فليأخذوا أنفسهم بجادَّة الشريعة، دون بُنيَّات الطريق.
وفي الحديث: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما
(2)
.
(1)
البيت لإبراهيم بن أدهم في "عيون الأخبار"(2/ 330) و"العقد الفريد"(3/ 176)، ولبعض المجَّان في "الحيوان"(6/ 506)، وبلا نِسبة في "البيان والتبيين"(1/ 260) و"العقد الفريد"(6/ 268).
(2)
أخرجه أبو داود (3462) والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 316) من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وعطاء يَهِم كثيرًا ويرسل ويدلس. وأخرجه أبو يعلى (5659) والطبراني في "الكبير"(13585) والبيهقي في "الشعب"(10871) من طريقين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. وعطاء لم يسمع من ابن عمر. وأخرجه أحمد في مسنده (5007، 5562) من طريق أبي جناب عن شهر بن حوشب عن ابن عمر. وإسناده ضعيف لضعف أبي جناب وشهر بن حوشب.
ربا البيع
تواترت الأحاديث بالنهي عن بيع الذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، وهكذا الفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى.
وصح من عدة أحاديث جواز بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا.
وقال الدارقطني: ثنا محمد بن أحمد بن الحسن نا عبد الله بن أحمد نا هدبة بن خالد نا همام بن يحيى عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث الصنعاني. (قال قتادة:) وحدثنا صالح أبو الخليل عن مسلم (بن يسار) المكي عن أبي الأشعث أنه شهد خطبةَ عبادة بن الصامت قال: سمعته يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُباع الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن، والورق بالورق إلا وزنًا بوزنٍ، تِبْره وعينه، وذكر الشعير بالشعير، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ولا بأس بالشعير بالبر يدًا بيد، والشعير أكثرهما يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". قال عبد الله: فحدثتُ بهذا الحديث أبي فاستحسنه. "سنن الدارقطني"(ص 296)
(1)
.
(1)
(3/ 18).
أقول: محمد بن أحمد بن الحسن هو الدينوري، وعبد الله بن أحمد هو ابن الإمام أحمد بن حنبل، وبقية السند على شرط الشيخين، وقتادة يدلِّس؛ إلا أنه صرَّح بالسماع من أبي الخليل.
وقد أخرج أبو داود هذا الحديث من طريق همام عن قتادة عن أبي الخليل به. ولفظ أبي داود: "الذهب بالذهب: تِبْرها وعينها، والفضة بالفضة: تِبْرها وعينها، والبر بالبر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والتمر بالتمر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والملح بالملح مُدْيٌ بمُدْي، من زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرُهما يدًا بيد، وأما نسيئةً فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا".
قال أبو داود: روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار بإسناده. "سنن أبي داود"(ج 2 ص 120)
(1)
.
وأخرجه النسائي
(2)
من هذه الطريق بنحوه إلى قوله: "فقد أربى"، ولم يذكر ما بعده.
وأخرجه
(3)
من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار [عن أبي الأشعث الصنعاني]
(4)
عن عُبادة أنه قام خطيبًا فقال: "أيها الناس، إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي، ألا إن الذهب بالذهب
…
ولا بأسَ ــ يعني ــ
(1)
رقم (3349).
(2)
(7/ 277).
(3)
سنن النسائي (7/ 276).
(4)
سقط من الأصل، والاستدراك من النسائي.
ببيع الفضة بالذهب يدًا بيد والفضة أكثرهما، ولا تَصلُح النسيئةُ، ألا إن البر بالبر، والشعير بالشعير مُدْيًا بمُدْيٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدًا بيد، والشعير أكثرهما، ولا يصلح نسيئةً، ألا وإن التمر بالتمر مُدْيًا بمُدْيٍ، حتى ذكر الملح مدًّا بمد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى".
وأخرجه أيضًا هو والإمام أحمد بسند على شرط الشيخين عن سلمة بن علقمة عن ابن سيرين قال: حدثني مسلم بن يسار وعبدالله بن عبيد قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية، حدثهم عبادة قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر ــ قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر ــ إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد، كيف شئنا. قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن النسائي" (ج 2 ص 221 - 222)
(1)
، "المسند"(ج 5 ص 320)
(2)
.
أقول: عبد الله بن عتيك، ويقال: ابن عبيد، وابن عتيق، ويدعى ابن هرمز، ذكره في "تهذيب التهذيب"
(3)
، فقال:"روى عن معاوية وعبادة بن الصامت، وعنه محمد بن سيرين، ذكره ابن حبان في الثقات"
(4)
.
(1)
انظر: سنن النسائي (7/ 274).
(2)
انظر: المسند (22729).
(3)
(5/ 312).
(4)
"الثقات"(5/ 36).
وأخرج الإمام الشافعي عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن مسلم بن يسار ورجل آخر، ولفظه:"لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورِقَ بالورِقِ، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، [ص 32] عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم، ونقص أحدهما الملح أو التمر". "الأم"(ج 3 ص 12)
(1)
، و"مسند الشافعي" بهامش "الأم"(ج 6 ص 155)
(2)
، وزاد فيه:"قال أبو العباس الأصم: في كتابي: أيوب عن ابن سيرين، ثم ضرب عليه، يُنظر في كتاب الشيخ، يعني الربيع".
أقول: وأخرجه البيهقي في "السنن" من طريق أبي العباس الأصم عن الربيع عن الشافعي، وفيه:"عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل"، وزاد بعد "ولا الشعير بالشعير":"ولا التمر بالتمر"، وزاد في آخره:"وزاد أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن البيهقي"(ج 5 ص 276).
والحديث في "سنن الشافعي" رواية الطحاوي عن المزني (ص 43 - 44)
(3)
كما ذكره البيهقي.
أقول: سياق رواية سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين يدل على حفظه، فإنه سمى الرجل الآخر: عبد الله بن عتيك، وذكر القصة، وهو قوله:
(1)
(4/ 31، 32) ط. دار الوفاء.
(2)
(ص 147) ط. دار الكتب العلمية.
(3)
رقم (221) ط. دار القبلة.
جمعَ المنزلُ
…
إلخ، وضبط ما نقصه أحدهما، وهو:"والملح بالملح". وسياق رواية الثقفي عن أيوب عن ابن سيرين يدل على عدم الإتقان، فإنه لم يُسمِّ الرجلَ ولا ذكر القصةَ ولا ضبطَ الناقصَ، بل قال:"ونقص أحدهما التمرَ أو الملح". وهذا يوقع الشك في زيادته التي زادها، وهي قوله:"والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم".
وعبد الوهاب ثقة جليل، ولكن ذكروا أن في حفظه شيئًا.
وأما مسلم بن يسار فذكروا أنه لم يسمع من عبادة، ولكنه سمع من أبي الأشعث، وقد جاء في "صحيح مسلم"
(1)
وغيره عن أيوب عن أبي قِلابةَ قال: كنتُ بالشام في حلقةٍ فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدِّثْ أخانا (يعني مسلم بن يسار) حديثَ عبادة بن الصامت، قال: نعم. غزونا غزاةً
…
فبلغ عبادةَ بن الصامت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى".
فقد تبين أن عبادة سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قصَّر به ابن أبي عروبة على ما وقع في "سنن النسائي"، وأن أبا الأشعث سمعه من عبادة، وذلك متفق عليه، وأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث، ودلت رواية الدارقطني أنه سمعه أيضًا من أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث، فكأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث مجملًا، وسمعه من أبي أسماء عن أبي الأشعث مفسرًا، ومسلم بن
(1)
رقم (1587).
يسار سمعه من أبي الأشعث، وقتادة سمعه من صالح أبي الخليل عن أبي الأشعث عن مسلم، وقتادة قد سمعه من مسلم ومن أبي الأشعث، ولكنه يدلِّس، فكأنه في رواية ابن أبي عروبة وهشام دلَّس، فرواه عن مسلم، وأسقط رجلين.
وقد اعتضدت هذه الرواية الصحيحة المفسرة برواية عبد الله بن عتيك.
فأما ما أخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن أبي الليث عن الأشجعي عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث، وفيه:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوها يدًا بيد كيف شئتم لا بأس به، الذهب بالفضة يدًا بيد كيف شئتم، والبر بالشعير يدًا بيد كيف شئتم، والملح بالتمر (وفي نسخة بالبر) يدًا بيد كيف شئتم". وقال البيهقي: "وهذه رواية صحيحة مفسرة""سنن البيهقي"(ج 5 ص 282) = فهي صحيحة من الأشجعي إلى من فوق فقط، فإن إبراهيم بن أبي الليث متروك، يُرمَى بالكذب. انظر ترجمته في "لسان الميزان"
(1)
.
وأخرج البيهقي
(2)
من طريق عبد الله (بن محمد بن سعيد) بن أبي مريم عن الفريابي عن سفيان بنحوه.
وعبد الله هذا واهٍ، قال ابن عدي: حدث عن الفريابي بالبواطيل، ثم قال: إما أن يكون مغفلًا أو متعمدًا، فإني رأيت له مناكير. (لسان الميزان)
(3)
.
(1)
(1/ 337).
(2)
في "السنن الكبرى"(5/ 277).
(3)
(4/ 562). وانظر "الكامل"(4/ 255).
والحديث في "صحيح مسلم"
(1)
من رواية جماعة عن وكيع عن سفيان بسنده، ولفظه:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصنافُ فبِيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"(ج 5 ص 44).
وأخرجه الإمام أحمد عن وكيع، وفيه:"فإذا اختلف فيه الأوصاف" بدل "فإذا اختلفت هذه الأصناف""المسند"(ج 5 ص 320)
(2)
.
[ص 33] وأخرجه مسلم
(3)
وغيره من طريق أيوب عن أبي قلابة سمع أبا الأشعث سمع عُبادةَ: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". (ج 5 ص 43).
والأوصاف في رواية أحمد عن وكيع معناها الأصناف، كما في رواية غيره عن وكيع، وهكذا الألوان في حديث أبي هريرة عند مسلم
(4)
وغيره: "التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه".
ومما يدل على ذلك ــ مع الإجماع ــ حديث "الصحيحين"
(5)
وغيرهما
(1)
رقم (1587/ 81).
(2)
كذا في الطبعة القديمة، وفي المحققة رقم (22727):"فإذا اختلفت فيه الأصناف".
(3)
رقم (1587/ 80).
(4)
رقم (1588).
(5)
أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
في النهي عن بيع الجَمْعِ بالجنيب متفاضلًا، مع أنهما لونان من التمر، وأوصافهما مختلفة، وأدلة أخرى.
إذا تقرر هذا فقد قال بعض المتأخرين: إن ظاهر حديث عبادة عند مسلم الذي ساق فيه الستَّة مساقًا واحدًا، ثم قال:"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" ظاهره أنه لا يحلُّ نسيئةً حتى الملح بالفضة، إلا إن ثبت الإجماع على خلافه.
أقول: ما أجملتْه هذه الروايةُ قد فسَّرته الروايات المفصّلة، فجعلت الذهب والفضة بابًا، والبر والشعير بابًا آخر.
فعُلِم منها جوازُ بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا، ومنعُه نسيئةً، والبر بالشعير كذلك، وسكتت عن بيع البر بالذهب مَثَلًا، فكان على الجواز إلا أن يقوم دليل على منعه.
ثم إن رواية الشافعي جعلت التمر والملح بابًا ثالثًا، ووافقتْها على ذلك روايتان لا تصلحان للمتابعة، والروايات الأخرى توافق رواية الشافعي في ظهور أن التمر والملح ليسا من باب البر والشعير، ولكن لا يظهر منها أنهما باب واحد، أو كل منهما باب على حدة.
ولم أظفر بما يبين الحكم في ذلك من السنة، إلا أن إطلاق الأحاديث أنه ربا مع حديث "الصحيحين"
(1)
وغيرهما: "لا ربا [إلا] في النسيئة" قد يهدينا إلى الحق.
(1)
أخرجه البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد.
[ص 35] فصل
قد قدمنا الفرق بين القرض بربا وبين بيع السلعة بثمن إلى أجل أزيد من ثمنها نقدًا، والسلم في سلعة إلى أجل بأقل من ثمنها نقدًا.
وحاصله موضحًا: أنه إنما يُعقل أن يكون لمن دفع ماله حالاًّ ليعوض عنه مؤجلًا استحقاقٌ للربح، إذا علم أنه فاته بسبب الإعطاء إلى أجلٍ ربحٌ آخر، وإنما يتصور هذا إذا كان لو لم يعط ذلك المال إلى أجل لتصرَّفَ فيه بالبيع والشراء الذي هو مظنة الربح.
وهذا أمر غيبيٌّ، وأقرب ما يتعرف به هو النظر إلى نية المعطي على فرض أنه لو لم يطلب منه المال إلى أجل؛ أكان ينوي أن يحتفظ به، أم كان ينوي أن يتصرف فيه بالبيع والشراء.
ولكن النية أمر خفي بالنظر إلى الآخذ والشهود والحكَّام، وقد تخفى على المعطي نفسه، وعلى فرض ادعائه نية التصرف لا ينبغي تصديقنا له، وإلا لأوشك أن يدَّعي كلُّ معطٍ مثل ذلك.
فاقتضت الحكمة أن يُناط الحكم بالنظر إلى النسبة بين العوضين، فمن أقرض دراهم فقد أراد أن تعود دراهمه أو مثلها له.
ففي ذلك دلالة أنه يريد الاحتفاظ بالدراهم، فلو لم يُقرِضها لكنَزَها، فظهر بذلك أنه لم يفته بسبب الإعطاء ربح، فلا حقَّ له في الجبران.
ومن باع ثوبًا بدراهم، ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالثوب. فمن المظنون أنه لو لم يبعه بنسيئةٍ لباعه بنقدٍ، ثم يمكن أن يشتري بالنقد سلعةً أخرى ويبيعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحقَّ الجبران.
ومثله من أسلم دراهمَ في ثوب؛ ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالدراهم، فمن المحتمل أنه لو لم يُسلِمها لاشترى بها سلعةً نقدًا، ثم باعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحق الجبران.
والربح الفائت لا ينضبط، فلا ينضبط جبرانه، ولكنه هنا ضبط بما تراضيا عليه.
وهذا بحمد الله مستقيم واضح، ولكن احتجنا الآن إلى النظر في النسبة بين العوضين، فإن النسبة بين الدراهم والدراهم المماثلة، وبين الدراهم والثوب المباينة، وبينهما نِسَبٌ مختلفة، فما الذي يلحق منها بذاك، وما الذي يلحق بهذا؟
قد يقال: لعل الفاصل هو معنى القرض، فكل ما كان من البيوع في معنى القرض بربا، فحكمه حكمه.
وهذا حق فيما أرى، ولكن قد يقع الاشتباه فيه أيضًا، فإسلامُ دينارٍ في خاتم ذهب قد يتراءى أنه ليس في معنى القرض، بل هو في معنى إسلام دينار في ثوب.
فإن قلت: بل في معنى القرض باشتراط منفعة، كما لو ذهب رجل بدينار يبحث عن صائغ؛ ليدفعه إليه ليكسره ويصوغه خاتمًا، ويدفع إليه أجرته، فلقيه رجل فأخبره، فقال: أنا محتاج إلى دينار، فأقرِضْني دينارك أَصرِفه في حاجتي، وعندما يحصل بيدي دينار أذهب به، فأبحثُ عن صائغ، وأعطيه فيكسره، ويصوغه خاتمًا على الصفة التي تريد، وأدفع أنا أجرته، وآتيك بالخاتم، والأجل شهران.
فلمخالِفك أن يقول: قد يجيء مثل هذا في السلم في الثوب، يذهب رجل بدينارٍ يلتمس ثوبًا، فيلقاه آخر، فيستقرض منه الدينارَ على أنه عندما يحصل بعده دينارٌ، يذهب فيشتري به ثوبًا على الصفة، فإن لم يحصل إلَّا بأزيد من دينار دفع المستقرض الزيادةَ من عنده، ثم يأتي بالثوب إلى المقرض، والأجل شهران.
فإن قلت: بينهما فرقٌ من جهتين:
الأول: أن خاتم الذهب يمكن أن يكون عين الدينار القضاء، ولا بد أن تكون الأجرة زائدة على مقدار الدينار، وأما الثوب [ص 36] فلا يمكن أن يكون من عين الدينار، ويمكن أن يُشترى بأقل من دينار.
الثاني: أن خاتم الذهب يمكن تحصيله بغير توسط بيع، بأن يصنعه ويدفع الأجرة، والثوب لا يحصل إلا بتوسط بيع.
فلمخالفك أن يقول: دعْ خاتمَ الذهب، وافرض المبيع حليةَ فضة، فقد دلت الأحاديث على أن الذهب بالفضة نسيئةً من الربا، وحلية الفضة لا تكون من عين الدينار، وقد تحصل بأقل من دينار، فأي فرقٍ بينها وبين الثوب؟
فإن قلت: الفرق بينهما قرب النسبة بين الذهب والفضة.
قلت: فقد رجع الأمر إلى النسبة، وهي محتاجة إلى التحقيق كما قدمنا.
يمكن أن يقال: إذا كان العوضان بحيث يغني أحدهما غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسُّطِ صنعةٍ، فهما في حكم المتماثلين، فكلٌّ من الدينار وسبيكة الذهب وحليته يغني غناء الآخر بتوسط صنعة، وكلٌّ منها مع واحد
من الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها يُغني غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسط صنعة.
فالدنانير وحلية الذهب يغني كلٌّ منهما غناء الآخر في الجملة بتوسط صنعة، بأن تُصاغ الدنانير حليةً، أو تُضرب الحليةُ دنانيرَ، وسبيكة الذهب وحلية الفضة يغني كل منهما غناء الآخر، بأن تُصاغ السبيكة حلية، أو تُضرب دنانير، وتضرب حلية الفضة دراهم، وقِسْ على ذلك.
والذي يظهر من مذاهب العلماء أنهم لم ينظروا إلى الحلية، ولكن منهم من نظر إلى الثمنية، فجعلها العلة في تحريم بيع الذهب بالفضة نساءً.
فإما أن يكون بنى على ما كان في صدر الإسلام من تبايع الأعراض بالذهب والفضة، وإن كانا غير مضروبين.
وإما أن يكون بنى على أن السبيكة والحلية يمكن تحويلهما إلى النقد بالصنعة، ولاسيما والمشروع في الإسلام أن تكون دار الضرب مفتوحةً للناس كلهم، من أراد أن يضرب ذهبه أو فضته نقدًا دفعها إلى دار الضرب، وأعطاهم أجرة تعبهم، فضربوا له. وهكذا كان في القرون الأولى.
وإنما تحجرت الحكومات دور الضرب ظلمًا؛ لتشتري وزن الدينارين من الذهب الخالص بدينار مغشوش، ثم تغش الذهب، وتضربه ثلاثة دنانير، أو نحو ذلك، ومثله في الفضة. ونشأ من ذلك من الظلم والفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد وقعت أزمات مالية شديدة في بعض الأمم، كألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، هذا أساسها، وربما اشتدت الأزمة منها حتى تهدِّد العالم أجمع.
هل نظر القائل: إن العلة في بيع الذهب بالفضة هي الثمنية ــ وهو مالك
والشافعي رحمهما الله تعالى ــ إلى المعنى الذي قررناه أولًا، أعني أن كلاًّ منهما يغني غناء الآخر في الجملة، فصار بيع أحدهما بالآخر نساءً في معنى الذهب بالذهب نساءً، والفضة بالفضة نساءً، وذلك في معنى القرض، فتحقق فيه الربا؟
أما الشافعي فلم ينظر إلى هذا حتمًا، فإنه أجاز بيع الشيء بآخر من جنسه نساءً في غير الذهب والفضة والمطعومات، وذلك كالحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، وغير ذلك، فإذا لم يعتد بالمماثلة، فكيف يعتد بالمقارنة؟ أعني أن يغني أحدهم غناء الآخر.
وجعل العلة في الأربعة الباقية هي الطعم، ووسَّعه حتى منع بيع البر بالسقمونيا. ولا يخفى أن النسبة بينهما التباين، فإن البرّ قوتٌ، والسقمونيا مُسهِّل.
[ص 37] وأما مالك فقد ظن بعض المحققين من أصحابه أنه نظر إلى المعنى الذي قررناه؛ لأنه يحرِّم البيع نساءً في ما إذا اتفق العوضان في الجنس، ولو في الثياب والآنية وغيرها.
وأكد ذلك أنه يشترط مع الاتفاق في الجنس الاتفاق في المنفعة المقصودة، فأجاز بيع البعير النجيب بالبعير من حاشية الإبل، وهذا يدل أنه نظر إلى المعنى الذي قدمناه.
وجعل العلة في الأربعة الباقية هي القوت مع الادّخار، وفسر بعض أصحابه ذلك بأن البر والتمر لما اتفقا في المنفعة المقصودة، وهي القوت مع الادخار، صارا كالجنس الواحد، فأما البر والشعير فإنه جعلهما جنسًا واحدًا حتى لا يجوز تبايعهما نقدًا إلا مثلًا بمثل.
ومع هذا ففي كونه نظَرَ إلى المعنى الذي قدمناه نظرٌ لوجهين:
الأول: أنه يمنع بيع
(1)
البر بالملح نساءً، وهكذا البر بشيءٍ آخر مما يكون فيه إصلاحٌ للطعام، كالأُدم والأَبزار، كالفلفل والكمُّون، مع أن الملح لا يغني غناء البر، والفلفل لا يغني غناء البر.
الثاني: أنه يجيز بيع الشيء بما يغني غناءه نساءً في غير الذهب والفضة والأقوات المدَّخَرة ومُصلِحاتها.
وقد استشكل المحقق الشاطبي المالكي ذلك، فقال بعد أن ذكر ربا القرآن:"وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادةً على غير عوض، ألحقت السنةُ به كلَّ ما فيه زيادة بذلك المعنى".
ثم ذكر حديث عبادة، ثم قال: "ثم زاد على ذلك بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا
…
وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء، وهو ممنوع
…
ويبقى النظر لِمَ جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهذا من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم
…
". "الموافقات" (ج 4 ص 22 - 23).
وقوله: "بيع هذا الجنس بمثله في الجنس" يريد به نحو بيع الفضة بالذهب، والبر بالتمر، كما يرشد إليه السياق. فأما إذا اتحد الجنس، فإن أبا حنيفة رحمه الله يحرم النَّساء في ذلك مطلقًا، وهكذا مالك، إلا أنه يشترط
(1)
في الأصل: "بين" سهوًا.
مع الاتفاق في الجنس الاتفاقَ في المنافع المقصودة.
أقول: قد ظهر لي أن مالكًا رحمه الله تعالى إنما منعه عن طرد الحكم في كل شيئين تقاربت النسبة بينهما، بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، أنه رأى أن معنى الربا ليس بالقوي، فإن من باع ذهبًا بفضة إلى أجل، قد تبين أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالذهب عينه، غاية الأمر أنه كان ينوي الاحتفاظ بأحدهما، لا بعينه.
وإذا كان الأمر كذلك فقد قام احتمال أنه لو لم يعطِ الذهب بفضة إلى أجل يمكن أن يعطيه بفضةٍ نقدًا، ثم يعطي الفضة بذهبٍ نقدًا، وهكذا، وذلك مظنة الربح.
ثم يحتمل أحد أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون رأى التعليلَ بالربا مع ضعفه يقوى في الذهب والفضة وفي الأقوات بعضها ببعض؛ لغلبة التعامل بالقرض في هذه الأشياء، وقوة احتمال أن التبايع بها نَساءً إنما جُعِل حيلةً على الربا، بخلاف ما يقارب من الثياب والأدوية والآنية، فلم تجر العادة بتقارُضِها، ولا بالربا فيها، فلهذا لم يطرد الحكم.
[ص 38] الثاني: أن يكون رأى أن الربا لا يصلح للعلية أصلًا، وإنما العلة الاحتكار على ما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى، ورأى أن الاحتكار إنما يشتد ضرره في النقدين والأقوات ومُصلحاتِها.
الثالث: أن يكون رأى أن العلة هو مجموع الأمرين، لأن معنى الربا وحده ليس بالقوي كما تقدم، ومعنى الاحتكار لا يخلو عن ضعف كما
ستعلمه في تفصيله إن شاء الله تعالى.
وعلى كل من الثلاثة فإنما اشترط الادّخار؛ لأن ما لا يُدَّخر لا تَقوى التهمةُ بإرادة الاحتفاظ به ولا باحتكاره.
والبر والملح وإن لم يتقاربا بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، لكنهما مما جرت العادة بالتقارض فيه كثيرًا، فقوي معنى الحيلة على الربا، وأما بالنظر إلى الاحتكار، فلا يشترط فيه التقارب كما سيأتي.
وبعد، فالراجح أنه رأى العلة في النهي عن بيع الفضة بالذهب نساءً هو الربا فقط؛ لأمور:
الأول: أنه روى حديث عمر بلفظ: "الذهب بالورق ربًا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء". رواه مالك
(1)
عن ابن شهاب عن مالك بن أوس، فذكر قصة، ثم ذكر قول عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكره.
وفي "فتح الباري": "قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه، وحمله عنه الحفاظ، حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه (يعني تابع مالكًا في روايته عن الزهري هكذا) معمر والليث وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة (عن الزهري)، وشذ أبو نعيم عنه (أي عن ابن عيينة) فقال: "الذهب بالذهب"، وكذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري". "الفتح"(ج 4 ص 259)
(2)
.
(1)
في "الموطأ"(2/ 636، 637).
(2)
(4/ 378) ط. السلفية. وانظر "التمهيد"(6/ 282 ــ 284).
أقول: وابن إسحاق ليس بحجة فيما خالف فيه، على أن القصة تشهد أن الرواية كما ذكره مالك ومن معه.
وحاصلها: أن عمر إنما ذكر هذا الحديث إنكارًا على من أراد صرفَ ذهبٍ بورق، والورق مؤجل، فقال:"واللَّهِ لا تفارقه حتى تأخذ منه" فذكر الحديث.
فلو كان لفظ الحديث: "الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر
…
" لما كان فيه شاهد ظاهر للإنكار.
والحديث في "الصحيحين"
(1)
، ولم أجد حديثًا صحيحًا مصرحًا بأن البر بالشعير أو التمرِ إلى أجل ربًا.
الثاني: أن معنى الربا ظاهرٌ جدًّا في الدنانير بالدراهم نساءً، وما نسبة الدراهم إلى الدينار إلا كنسبة القطع الصغار المضروبة من الذهب إلى القطعة الكبيرة، كما لو ضُربت قِطَعٌ صغار من الذهب كل منها ثمن دينار، فالثمان منها دينار، فكما يكون اشتراء عشر منها بدينار ــ والقطع مؤجلة ــ ربًا ظاهرًا، فهكذا لو كان صرف الدينار ثماني رُبيّات، فاشترى عشر رُبيّات بدينار، والربّيات مؤجلة، وما لم يكن مضروبًا تبع للمضروب؛ لأنه يمكن ضربه، كما تقدم.
فأما الأقوات بعضها ببعض، فهي على الاحتمالات الثلاثة. والله أعلم.
[ص 39] ولنعقد لأحكام هذه الستة بابين:
(1)
البخاري (2174) ومسلم (1586).