الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبارةً، وفيها:«قد أجمع المسلمون نقلًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا» . ثم اعترضه بأن العيني اعترف في «شرح الهداية»
(1)
ــ وهو متأخر عن «شرح البخاري» ــ بأنه لم يثبت في هذا الباب النهيُ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: لا منافاة بين كلامه في الموضعين، وإنما أراد أنه لم يثبت حديثُ:«كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا» ، وعدم ثبوته بل وعدم ثبوت النقل من وجهٍ تقوم به الحجة على حدته لا يُنافي ثبوت الإجماع.
وهذا كما قالوا في المتواتر: إنه لا يُشترط في المخبرين به العدالة ولا الإسلام. وقد نقل الإجماع جماعة لا يُحْصَون من جميع المذاهب الإسلامية، فنقله الجصاص
(2)
وأثبت أن لفظ الربا في القرآن ينتظم الربا بالزيادة المشروطة في القرض وبغيرها، كما تقدم عنه.
ونقله أيضًا الباجي في «شرح الموطأ»
(3)
، ونقله الشافعية والحنابلة في كتبهم، واتفقت المذاهب الأربعة والزيدية والإمامية والخوارج وسائر المسلمين عليه، ولا يُعلَم أحد ممن يتسمى بالإسلام خالفَ فيه.
[ق 20]
بعض الآثار عن الصحابة والتابعين
أخرج البخاري في «صحيحه»
(4)
في مناقب عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة بن أبي موسى: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، إذا كان لك على رجل
(1)
«البناية» (7/ 631 - 632) ط. دار الفكر.
(2)
في «أحكام القرآن» (1/ 467).
(3)
«المنتقى» (5/ 65، 97).
(4)
رقم (3814). والقَتُّ: علف الدوابّ.
حقٌّ، فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حملَ شعيرٍ أو حملَ قَتٍّ، فلا تأخذه فإنه ربًا». رواه من طريق شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، وقبل هذا اللفظ قصة.
وأخرج البخاري
(1)
في كتاب الاعتصام القصةَ عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، فذكر القصة ولم يذكر قوله في الربا.
قال ابن حجر في «الفتح» : «زاد في مناقب عبد الله بن سلام ذكر الربا .... ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا، كما أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي كريب شيخ البخاري فيه، لكن باختصار فكأن البخاري حذفها» . «الفتح» (ج 13 ص 242)
(2)
.
ورواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي عن أبي أسامة، وفيه:«إنك في أرضٍ الربا فيها فاشٍ، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يُقرِض القرضَ إلى أجل، فإذا بلغ أتاه به وبسَلَّةٍ فيها هدية، فاتّقِ تلك السَّلّة وما فيها» . «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349).
أقول: سعيد بن أبي بردة ثقة اتفاقًا، لم يتكلم فيه أحد، وقد قال الإمام أحمد: بخٍ ثبت في الحديث
(3)
.
وأما بُريد فإنه وإن وثَّقه جماعة فقد تكلم فيه آخرون. قال الإمام أحمد:
(1)
رقم (7342).
(2)
(13/ 311) ط. السلفية.
(3)
انظر «تهذيب التهذيب» (4/ 8).
يروي مناكير، وطلحة بن يحيى أحبُّ إليَّ منه. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال النسائي في «الضعفاء» : ليس بذاك القوي. وقال ابن حبان: يخطئ. وقال ابن عدي: «سمعتُ ابن حماد يقول: بريد بن عبد الله ليس بذاك القوي. أظنه ذكره (عن) البخاري»
(1)
.
أقول: وكأن البخاري رحمه الله إنما حذف ذكر الربا من أثر بُريد لمخالفته في سياقه من هو أثبتُ منه وهو سعيد، وليس هذا ببعيد من معرفة البخاري وبُعْدِ نظره.
وقد ذكر صاحب الاستفتاء هذا الأثر وخلَّط في بعض الأسماء، ثم أجاب عنه بوجوه:
الأول: أنه موقوف ليس في حكم المرفوع.
الثاني: أنه متروك العمل باتفاق الأمة.
الثالث: أنه يعارضه الأحاديث الصحيحة.
الرابع: أن في شرح «كشف الأسرار»
(2)
للبزدوي في تفسير بيان القاطع التي تلحق (كذا) المجمل: «احتراز عما ليس بقاطعٍ ثبوتًا أو دلالةً، حتى لا تصير (كذا) المجمل مفسرًا بخبر الواحد
…
». يعني: فلا يصلح هذا الأثر لبيان الربا المذكور في القرآن.
(1)
المصدر نفسه (1/ 431، 432). وزيادة «عن» من المؤلف، وهي كذلك في «الكامل» لابن عدي (2/ 62).
(2)
(1/ 50).
فأما الأول فمسلَّم، ولكنه قول صحابي قد وافقه غيرُه من الصحابة، ولا يُعلَم لهم مخالف. ومثل ذلك تقوم به الحجة، وهو عند قوم إجماع.
وأما الثاني فمقصوده أن الأمة اتفقت على جواز قبول الهدية بعد القضاء. وعن هذا جوابان:
الأول: أن هذا خاص برواية بُريد، وهي مرجوحة كما علمت. وأما رواية سعيد فهي ظاهرة في الهدية قبل القضاء، وهي حرام باتفاق الأمة، وإنما أجازها بعض العلماء إذا تبيَّن أنها بريئة عن الربا، كما إذا كانت بين رجلين صداقة، وجرت عادة أحدهما بالإهداء إلى الآخر، ثم اتفق أنه استقرض منه قرضًا، ثم قبل القضاء أهدى إليه كما كان يُهدي إليه سابقًا. والأثر ظاهر فيما عدا هذه الصورة بدليل قوله:«إنك بأرضٍ الربا فيه فاشٍ» .
الجواب الثاني: أن من أحلَّ الهدية عند القضاء أو بعده إنما ذهب [ق 21] إلى أن التهمة منتفية، وعلى هذا فإذا جرت عادة المستقرض بالإهداء إلى من يُقرضه كانت التهمة باقيةً، ولاسيما إذا كان متَّهمًا، وكأنه إنما يُهدِي إليه تمهيدًا لأن يستقرض منه مرةً أخرى.
وقد قال مالك
(1)
رحمه الله: «لا بأس بأن يَقْبِضَ من أسلف شيئًا من الذهب أو الورِق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفَه ذلك أفضلَ مما أسلفه، إذا لم يكن ذلك على شرطٍ منهما أو وَأْيٍ
(2)
أو عادةٍ، فإن كان ذلك على شرط أو وأي أو عادة فذلك مكروه، ولا خير فيه
…
فإن كان ذلك على طيب
(1)
في «الموطأ» (2/ 681).
(2)
الوأي: المواعدة.
نفس من المستسلف ولم يكن ذلك على شرط ولا وأيٍ ولا عادةٍ كان ذلك حلالًا لا بأس به».
قال الباجي في «شرحه» : «فأما الشرط فلا خلاف في منعه، وأما العادة فقد منع من ذلك مالك أيضًا. وأما أبو حنيفة والشافعي فيكرهانه، ولا يريانه حرامًا. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك
…
». «المنتقى» (ج 5 ص 97).
(1)
عن ابن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسًا بقضاء الدراهم البيض من الدراهم السود ما لم يكن شرطًا. وعن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك بأسًا ما لم يكن شرطًا أو نيةً. وعن الشعبي: قيل له: الرجل يستقرض، فإذا خرج عطاؤه أعطى خيرًا منها، قال: لا بأس ما لم يشترط أو يُعطيه التماسَ ذلك. وعن الحكم وحماد قالا: إن لم يكن نوى فلا بأس. وعن الشعبي: قيل له: يُقرِض
(2)
الرجل القرض وينوي أن يُقضى أجودَ منه، قال: ذلك أخبث.
أقول: فإذا جرت العادة بالزيادة أو الهدية، أوشك أن تصحبها النية. وهذا مَحملُ رواية بُريد لو صحت، بدليل قوله:«إنك في أرضٍ الربا فيها فاش» ، وإذا فشا الربا في البلد أوشك أن تجري فيها العادة بذلك والنية، وإذا ثبتت العادة جاءت مفاسد الربا التي تقدمت في القسم الأول.
وأما الثالث فيعني صاحب الاستفتاء بالأحاديث الصحيحة الأحاديثَ الواردة في حسن القضاء. والجواب أنها إنما تعارض رواية بريد، وأما رواية
(1)
(7/ 26، 177، 178).
(2)
في الأصل: «يقضي» . والتصويب من «المصنف» .
سعيد فسالمةٌ. على أننا نقول: يمكن الجمع بين الأحاديث وبين رواية بريد بما تقدم عن السلف، أنه إنما تحلُّ الزيادة والهدية إذا لم تجرِ بها عادة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملتزمًا للزيادة، وفي حديث قضاء البعير ما يصرِّح بذلك، فإنه أمرهم بأن يقضوا الرجل بَكْرَه، فطلبوا فلم يجدوا إلا رباعيًّا، فذكروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فأمرهم بإعطائه. فظهر من ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بالزيادة أولًا، وإنما أمرهم بقضائه، فلو وجدوا بَكْرَه لقضوه إياه، ولو علموا من عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاءَ الأفضل لما راجعوه.
وأما الوجه الرابع ففيه أمران: الأول: أنه مبني على أن ربا القرآن مجمل، وقد تقدم ردُّه. الثاني: أن المفسَّر عند الحنفية هو ما أوضح المراد به بحيث لا يبقى احتمال تأويل ولا تخصيص، فقول شارح «الكشف» أن المجمل لا يصير مفسرًا بخبر الواحد، إنما عنَى: لا يصير مفسرًا بهذا المعنى، كما يُعلم من مراجعته ومراجعة غيره من أصول الحنفية، وهم متفقون على أن خبر الواحد كافٍ لبيان المجمل بحيث تقوم به الحجة، وإن لم يصِرْ مفسرًا بالمعنى المذكور، بل قالوا كما في «تحرير ابن الهمام»:«إذا بُيِّن المجمل القطعي الثبوت بخبر واحدٍ نُسِب إليه، فيصير ثابتًا به، فيكون قطعيًّا» . ثم قال: «ومنعه صاحب التحقيق وهو حقٌّ» . انظر «التحرير والتقرير» (ج 3 ص 40).
وبهذا المعنى أجاب بعضهم عما أُورِد عليهم في قولهم: إن القعدة الأخيرة فرض في الصلاة، مع أنهم لم يحتجوا عليها إلا بخبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد الفرضية على أصلهم. ولقولهم بقطعية المعنى الذي بيَّنه خبر الواحد المبيِّن لمجمل قطعي وجهٌ يؤخذ مما قررتُه في رسالة «العمل
بالضعيف»، فلا أطيل به هاهنا.
والمقصود أن صاحب الاستفتاء أوهَمَ أو توهَّم أن قول شارح «الكشف» يدل أن خبر الواحد لا يصلح بيانًا للمجمل القطعي. وهذا خطأ قطعًا. ومن عرف اصطلاحهم وتدبَّر كتبهم علم أنه إنما يريد أن خبر الواحد لا يصير به المعنى بحيث لا يحتمل تأويلًا ولا تخصيصًا، وهذا هو معنى المفسّر عندهم، فأما صيرورته مبينًا بحيث تقوم الحجة بذلك المعنى فأمرٌ ثابت عندهم اتفاقًا. والله أعلم.
[ق 22] وروى البيهقي وغيره من طريق كلثوم بن الأقمر عن زر بن حُبيش قال: قلت لأبيّ بن كعب: يا أبا المنذر! إني أريد الجهاد فآتي العراقَ فأُقرِض، قال:«إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاش. فإذا أقرضتَ رجلًا فأهدى إليك هدية، فخذْ قرضَك واردُدْ إليه هديته» . «سنن البيهقي (ج 5 ص 349).
وهو في «مصنف ابن أبي شيبة»
(1)
بلفظ: «إذا أقرضتَ قرضًا فجاء
(2)
صاحب القرض يحمله ومعه هدية، فخُذْ منه قرضك
(3)
ورُدَّ عليه هديتَه».
قال صاحب الاستفتاء: كلثوم بن الأقمر مجهول.
قلت: ذكره ابن حبان في «الثقات»
(4)
وقال: روى عن جماعة من الصحابة، روى عنه أهل الكوفة، وهو أخو علي بن الأقمر».
(1)
(6/ 176).
(2)
في الأصل: «جاء» ، والتصويب من «المصنف» .
(3)
في الأصل: «قرضه» . والتصويب من «المصنف» .
(4)
(5/ 336).
وما تضمنه هذا الأمر من ردّ الهدية التي يُهديها المستقرض عند القضاء قد عرفت وجهه مما تقدم، وهو أنه علل ذلك بقوله:«إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاشٍ» أي: فالعادة والنية والتهمة أوجبت ذلك. وبهذا خرج عما دلَّت عليه الأحاديث في حسن القضاء كما سبق، والله أعلم.
وقال صاحب الاستفتاء في موضع آخر: أثر عبد الله بن سلام مضطرب ومعلول.
كذا قال، وهذه قاعدة أخرى له ولأستاذه في «شرح الترمذي» ، يعمد إلى الأحاديث التي تخالفه وتكون بغاية الصحة، فيذكر اختلافًا لفظيًّا أو قريبًا منه أو معنويًّا والترجيح ممكن، فيزعم ذلك اضطرابًا قادحًا. وليس هذا سبيل أهل العلم، وكأنه أراد بالاضطراب هنا ما قدَّمناه من مخالفة رواية بُريد لرواية سعيد، وبالعلة مخالفة رواية بُريد لأحاديث حسن القضاء. وقد مرَّ الجواب عنها، والله أعلم.
وأخرج البيهقي من طريق ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن الخطاب من ثمرة أرضه فردَّها، فقال أُبي: لِمَ رددتَ عليَّ هديتي وقد علمتَ أني من أطيب أهل المدينة ثمرةً؟ خذ عني ما تردّ عليّ هديتي. وكان عمر رضي الله عنه أسلفَه عشرةَ آلاف درهم. قال البيهقي: هذا منقطع. «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349).
وانقطاعه أن ابن سيرين لم يدرك عمر. وقد أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه»
(1)
من طريق أخرى عن ابن سيرين، وزاد فيه زيادة حسنة، ولكنه
(1)
(6/ 177).
انقلب متنه، ولفظه: أن أبيًّا كان له على عمر دينٌ، فأهدى إليه هديةً فردَّها، فقال عمر: إنما الربا على من أراد أن يُربي وينسأ.
أقول: وهو مع انقطاعه شاهد قوي لما مضى.
وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجلٍ عشرون درهمًا، فجعل يُهدي إليه، وجعل كلَّما أهدى إليه هدية باعها، حتى بلغ ثمنُها ثلاثةَ عشر درهمًا، فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلّا سبعةَ دراهم. «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349 - 350).
[ق 23] ردَّه صاحب الاستفتاء بأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس.
أقول: لم يتبيَّن لي مَن أبو صالح هذا، فإن هناك جماعة ممن يُكنى أبا صالح ويروي عن ابن عباس، ولا أدري من أين جزمَ صاحب الاستفتاء بأنه أبو صالح باذام مولى أم هانئ؟ فإنه هو الذي قال ابن حبان
(1)
: إنه لم يسمع من ابن عباس.
وأخرج البيهقي بسندٍ على شرطِ مسلم عن سالم بن أبي الجعد ــ وهو من رجال «الصحيحين» ــ قال: كان لنا جارٌ سمَّاك عليه لرجلٍ خمسون درهمًا، فكان يُهدِي إليه السمك، فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك، فقال: قاصّه بما أهدى إليك. (ج 5 ص 350).
وقال ابن أبي شيبة
(2)
: ثنا إسماعيل بن إبراهيم [عن أيوب] عن عكرمة
(1)
في «المجروحين» (1/ 185).
(2)
«المصنف» (6/ 174). وما بين المعكوفتين منه. وقد أشار المؤلف إلى السقوط في النسخة التي نقل منها.
قال ابن عباس: «إذا أُقرِضْتَ قرضًا فلا تُهدِينَّ هديةَ كُراعٍ ولا هدية دابة» .
كذا في النسخة، وقد سقط بين إسماعيل وعكرمة رجلٌ.
وقال أيضًا
(1)
: ثنا خالد بن حيان عن جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق قال: سئل ابن عباس عن رجل استقرض طعامًا عتيقًا، فقضى مكانه حديثًا، قال:«إن لم يكن بينهما شرطٌ فلا بأسَ به» .
حبيب لم يدرك ابن عباس.
وأخرج البيهقي وغيره بسند صحيح عن ابن سيرين عن عبد الله ــ يعني ابن مسعود ــ أنه سئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفْقَر المقرِضَ ظهرَ دابته، فقال عبد الله:«ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا» . «سنن البيهقي» (ج 5 ص 350).
وأعاده بنحوه (ص 351) ثم قال: ابن سيرين عن عبد الله منقطع.
وقال ابن أبي شيبة
(2)
: ثنا إسماعيل بن علية عن التيمي عن أبي عثمان أن ابن مسعود كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرًا منها.
أقول: هذا سند صحيح على شرط الشيخين.
وأخرج ابن أبي شيبة
(3)
من طريق زيد بن أبي أنيسة أن عليًّا سئل عن الرجل يُقرِض القرض ويُهدى إليه، قال: ذلك الربا العجلان.
(1)
«المصنف» (7/ 274).
(2)
المصدر نفسه (7/ 176).
(3)
«المصنف» (6/ 177).
زيد لم يدرك عليًّا عليه السلام.
وقال أيضًا
(1)
: ثنا إسماعيل بن إبراهيم ــ وهو ابن عُلية ــ عن يحيى بن يزيد الهُنَائي سألتُ أنس بن مالك عن الرجل يُهدِي له غريمُه، فقال: إن كان يُهدِي له قبلَ ذلك [فلا بأس]، وإن لم يكن يُهدي له قبلَ ذلك فلا يصلح.
وأخرجه البيهقي مطولًا مرفوعًا، ثم قال: ورواه شعبة ومحمد بن دينار فوقفاه. «السنن» (ج 5 ص 350).
وفي «الموطأ»
(2)
: مالك عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مَن أسلف سلفًا فلا يشترطْ إلّا قضاءَه.
وقد أخرجه محمد بن الحسن في «موطئه»
(3)
ثم قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي له أن يشترط أفضل منه، ولا يشترط عليه أحسن منه، فإن الشرط في هذا لا ينبغي. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
أقول: وهذا موقوف في أعلى درجات الصحة.
وفيه
(4)
: مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: «من أسلف سلفًا فلا يشترِط أفضلَ منه، وإن كانت قبضة من علَفٍ فهو ربا» .
وفيه
(5)
: مالك أنه بلغه أن رجلًا أتى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا
(1)
المصدر نفسه (6/ 175). وما بين المعكوفتين منه.
(2)
(2/ 682).
(3)
رقم (828).
(4)
«الموطأ» (2/ 682).
(5)
المصدر نفسه (2/ 681، 682).
عبد الرحمن! إني أسلفتُ رجلًا سلفًا واشترطتُ عليه أفضلَ مما أسلفتُه، فقال عبد الله بن عمر: «فذلك الربا
…
السلف على ثلاثة وجوه: سلفٌ تُسْلِفه تريد به وجهَ الله فلك وجهُ الله، وسلفٌ تُسِلفه تريد به وجهَ صاحبك فلك وجهُ صاحبك، وسلفٌ تُسلِفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا».
وأخرج البيهقي عن فضالة بن عبيد أنه قال: «كلُّ قرض جرَّ منفعةً فهو وجه [من] وجوه الربا» . «السنن» (ج 5 ص 350).
قال ابن حجر في «بلوغ المرام»
(1)
: سنده ضعيف.
وروى الحارث بن أبي أسامة
(2)
عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربًا» .
قال في «بلوغ المرام»
(3)
: إسناده ساقط.
[ق 24] وقال ابن أبي شيبة
(4)
: ثنا حفص عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال: «كل قرضٍ جرَّ منفعة فهو ربًا» .
وقد أخرجه محمد بن الحسن في «الآثار»
(5)
عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم بلفظ: «كل قرض جرَّ منفعةً فلا خير فيه» . قال محمد: وهو قول أبي حنيفة.
(1)
(3/ 53 مع «سبل السلام»).
(2)
كما في «بغية الباحث» (436).
(3)
(3/ 53 مع «السبل»).
(4)
«المصنف» (6/ 180).
(5)
برقم (760) ط. دار النوادر.
وقال ابن أبي شيبة
(1)
: ثنا وكيع ثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم أنه كره كل قرض جرَّ منفعةً.
وأخرج محمد في «الآثار»
(2)
عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يُقرِض الرجلَ الدراهمَ على أن يوفيه خيرًا منها، قال: فإني أكرهه. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي حنيفة
(3)
عن حماد عن إبراهيم في رجلٍ أقرض رجلًا ورقًا فجاءه بأفضلَ منها، قال: الورِق بالورِق، أكره له الفضل حتى يأتي بمثلها. قال محمد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس ما لم يكن بشرط اشترط عليه، فإذا كان اشترط عليه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة.
وقال ابن أبي شيبة
(4)
: ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: إذا كان للرجل على الرجل الدينُ فأهدى له ليؤخر عنه، فليحسُبْه من دَينه.
ثنا جرير
(5)
عن منصور ومغيرة عن إبراهيم قال: إذا كان ذلك قد جرى بينهما قبل الدين يدعوه ويدعوه الآخر ويكافئه، فلا بأسَ بذلك، ولا يحسُبه من دينه.
(1)
«المصنف» (6/ 181).
(2)
(759) بلفظ: «يوفيه بالرَّي، قال: أكرهه» .
(3)
(758).
(4)
«المصنّف» (6/ 176).
(5)
المصدر نفسه (6/ 176).
وقال أيضًا
(1)
: ثنا [ابن] إدريس عن هشام عن الحسن ومحمد أنهما كانا يكرهان كل قرض جرَّ منفعةً.
وقال أيضًا
(2)
: ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنية عن أبيه عن الحكم قال: كان يُكْرَه أن يأكل الرجل من بيت الرجل وله عليه دين، إلّا أن يحسُبه من دَينه.
ثنا وكيع
(3)
عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن عمر قال: يُقاصُّه.
وأخرج
(4)
عن الشعبي أنه قال: إن كان لك على الرجل الدينُ فلا تُضيِّفْه.
وعن الحسن
(5)
أنه سئل عن السَّفْتَجة فقال: إنما يُفعَل ذلك من أجل اللصوص، لا خير في قرضٍ جرَّ منفعةً.
[ق 25] فهذه نصوص الصحابة والتابعين ما بين صحيحٍ وما يقرب منه كلها متفقة على المنع من الزيادة المشروطة وتحريمها، وبعضها مصرحة بأن ذلك هو الربا، وبعضها تُلحِق بذلك الهدية التي يُهديها المستقرض قبل الأداء طمعًا في أن يُمهِله المقرِض
(6)
، فلا يعجل عليه في المطالبة.
(1)
«المصنف» (6/ 180). وما بين المعكوفتين منه.
(2)
المصدر نفسه (6/ 178).
(3)
المصدر نفسه (6/ 177).
(4)
المصدر نفسه (6/ 178).
(5)
المصدر نفسه (6/ 280).
(6)
في الأصل: «المستقرض» سهوًا.
وبعضها ألحق بذلك الهدية عند الوفاء إذا كان بأرضٍ [يكون] الربا فيها فاشيًا، وبينّا أن الوجه في ذلك هو اتهام المستقرض بأنه إنما أهدى تلك المرة ترغيبًا للمقرِض في أن يُقرِضه مرةً أخرى، وهذه التهمة إنما تقوى عند فُشوِّ الربا. وبعضها بيَّن أن في معنى الزيادة كل منفعة لها قدْرٌ، كركوب الدابة ونحوه.
وبعضها أطلق أن كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا.
وهو محمول على ما عدا ما صحت به السنة من الأمر بحسن القضاء، فإمَّا أن يقال: هو عام مخصوص، وإما أن يقال: إنه لا يتناول حسنَ القضاء، لأن قوله «جرَّ» يُشعِر بأنه اجتلبها قسْرًا، فإنَّ الجرّ يَقْسِر المجرور على المجيء، والقرض إنما يَقْسِر المنفعة على المجيء إذا كانت مشروطة أو في قوة المشروطة. فأما الشكر الذي يتبرع به المستقرض فلم يَقْسِره القرض، لأن المقرض لم يطلبه. وكون القرض باعثًا عليه في الجملة لا يكفي لأن يقال: إنه جرَّه مع مراعاة حقيقة المعنى، لأن القرض لم يستقلَّ بالبعث، بل لم يلحظ فيه ذلك. وإنما الباعث الحقيقي هو إرادة المستقرض الشكرَ وهو غير مُلْجَأٍ إليه ولا مُطالَب به.
وصاحب الاستفتاء يحاول دفع هذه الآثار لمجرد ما في بعضها من مخالفةٍ ما لأحاديث حسن القضاء، وهذا الدفع خارج عن سبيل العلم والعلماء. قال: «على أن الفقهاء لم يتمسَّكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا هذا، ولم يُفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا، بل اتفقوا على أنه لا يكون ربًا إلا أن تكون مشروطةً في العقد، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار والأحاديث الواردة في هذا الباب على ما فيها، لأنها
تدلُّ على حرمة كل منفعةٍ سواء شُرِطت أو لم تُشترط، مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق».
أقول: فسبيل العلم والعلماء هو العمل بالأحاديث والآثار فيما اتفقت عليه، وإخراجُ ما قام الدليل على إخراجه، وهو حسن القضاء. هذا على فرض أن الأحاديث والآثار كلها عامة، وليس الأمر كذلك كما سلف. فأما أن تُردَّ الأحاديث والآثار مع قيام الإجماع على موافقتها في بعض الصور، وعدمِ وجود ما يخالفها في ذلك= فليس هذا من العلم في شيء. ويلزمه أن كلَّ دليل عام أو مطلق قد قام دليلٌ على تخصيصه أو تقييده
(1)
يسقط الاستدلال به جملةً، فلا يحتج به فيما عدا الخاص والمقيد وإن وافقه الإجماع! وهذا ضلال في ضلال.
[ق 26] ومما يُضحك ويُبكي أن صاحب الاستفتاء لم يدفع ما حكى أكثره من الأحاديث والآثار والإجماع بشيء، فلم يستطع أن يحكي حديثًا ــ ولو موضوعًا ــ ولا أثرًا عن صحابي أو تابعي أو فقيه يدلُّ على أن الزيادة المشروطة وما في معناها ليست بربًا، وإنما بيده أحاديثُ حسن القضاء وقياسٌ ساقط، وقد رأيتُ أن أعجِّل الجواب عن ذلك ههنا.
* * * *
(1)
في الأصل: «إطلاقه» سبق قلم.
أحاديث حُسن القضاء
ذكر صاحب الاستفتاء حديث «الصحيحين»
(1)
وغيرهما عن جابر، فذكر منه لفظ مسلم:«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبلالٍ: «أعْطِه أُوقية من ذهبٍ وزِدْه» فأعطاني أوقيةً من ذهبٍ وزادني قيراطًا». ولفظ البخاري: «فوزن لي بلالٌ فأرجَحَ في الميزان» .
والجواب عنه أن في هذا الحديث عينه عند مسلم: «قلت: فإن لرجلٍ عليَّ أوقيةَ ذهبٍ فهو لك بها، قال: قد أخذتُه به، فتبلَّغْ عليه إلى المدينة. قال: فلما قدمتُ المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
» إلخ. «صحيح مسلم» (ج 5 ص 52).
وفيه عند البخاري قبل اللفظ الذي ذكره: «فاشتراه مني بأوقيةٍ
…
فأمر بلالًا أن يزِنَ لي أوقيةً، فوزن لي بلالٌ فأرجح في الميزان». «صحيح البخاري» (ج 3 ص 62).
والمقصود أن جابرًا باع جملَه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأوقية وهما في السفر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قضاه وزاده. فالزيادة هنا تفضُّلٌ محض، ولا تحتمل أن تكون زيادة مشروطة في القرض.
وذكر حديث أبي رافع
(2)
: «استسلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بَكْرًا، فجاءته إبلٌ من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني أن أقضي الرجلَ بَكْرَه، فقلت: لا أجد إلا
(1)
البخاري (2097) ومسلم (ج 3/ 1222).
(2)
أخرجه مسلم (1600). وسيذكر المؤلف لفظه.
جملًا خيارًا رباعيًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أعْطِه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً» .
أقول: لفظ مسلم: «عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استسلف من رجلٍ بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجلَ بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيرًا رَباعيًّا، فقال: «أعطِه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً» . «صحيح مسلم» (ج 5 ص 54).
فقوله: «فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه» ظاهر في أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أولًا أن يقضي الرجلَ بَكْرًا مثلَ بكْرِه، وهذا صريح في أن الزيادة لم تكن مشروطة، إذ لو كانت مشروطة لما أخلفَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرطه.
وقوله: «أعطِه إياه» تفضُّلٌ محض.
وقوله: «خيار الناس أحسنهم قضاء» لا يتناول ما إذا كانت الزيادة مشروطة، لأنها متى كانت مشروطة ــ والفرض أن الشرط لازم كما يحاوله صاحب الاستفتاء ــ كانت لازمة، ومن أدى ما يلزمه لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس [ق 27] وإنه من أحسنهم قضاءً، لأن الشرير والمسيء إذا أُلزِما بشيء أدَّياه، ألا ترى أن من غُبِن في ثوب فاشتراه بضِعْفِ قيمته ثم أدّى الثمن الذي اشترى به= لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس ولا من أحسنهم قضاءً. فثبت أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «خيار الناس أحسنهم قضاء» خاصٌّ بالزيادة التي هي تفضُّل محض، كما وقع في القصة أنه استسلف من رجلٍ بكرًا على أن يقضيه مثله كما هو شأن السلف، فقضاه خيرًا من بَكْرِه تفضلًا.
وذكر حديث «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة أن رجلًا تقاضى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
فقال: «دَعُوه فإن لصاحب الحق مقالًا، واشتَرُوا له بعيرًا، فأعطُوه إياه» ، قالوا: لا نجد إلّا أفضل من سنِّه، قال:«اشتروه فأعطُوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً» .
أقول: في رواية عند البخاري: «كان لرجلٍ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أعطُوه» فطلبوا سنَّه فلم يجدوا له إلّا سنًّا فوقها، فقال: «أعطُوه
…
» «صحيح البخاري» (ج 3 ص 117)
(2)
.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم أولًا: «أعطُوه» ظاهر في أن المراد: أعطُوه مثلَ سنِّه، كما هو شأن السلف عند الإطلاق. وهذا ظاهر في أن الزيادة لم تكن مشروطة، فهي تفضُّلٌ محض.
وقوله: «خيركم أحسنكم قضاء» قد تقدم الكلام عليه.
وفي رواية لمسلم
(3)
: «جاء رجل يتقاضى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيرًا، فقال: «أعطُوه سنًّا فوقَ سنِّه
…
» وهي مختصرة.
وذكر حديث البزار
(4)
عن أبي هريرة: «أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ يتقاضاه قد
(1)
البخاري (2390) ومسلم (1601).
(2)
رقم (2305).
(3)
رقم (1601/ 122).
(4)
كما في «كشف الأستار» (1306). قال البزار: لا نعلم رواه عن حبيب هكذا إلا حمزة، ولا عنه إلا ابن المبارك. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 141): «فيه أبو صالح الفراء، ولم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح.
استسلفَ منه شطْرَ وَسْقٍ، فأعطاه وسَقًا، فقال: نصفُ وَسْقٍ لك، ونصف وسَقٍ من عندي. ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه، فأعطاه وسقينِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«وسْقٌ [لك] ووسْقٌ من عندي» .
أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نصف وسقٍ لك ونصف وسقٍ من عندي» ظاهر في أن هذه الزيادة تفضُّلٌ محض، ولو كانت مشروطة شرطًا لازمًا كما يحاوله صاحب الاستفتاء لكان الوسق كلُّه حقًّا للمُسْلِف بمقتضى الشرط، فلا يكون له النصف فقط ويكون النصف الآخر من عنده صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر حديث البزار
(1)
أيضًا عن ابن عباس: «استسلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رجلٍ من الأنصار أربعين صاعًا
…
فأعطاه أربعين فضلًا وأربعين سَلَفه، فأعطاه ثمانين».
أقول: قوله: «فأعطاه أربعين فضلًا» ظاهر في أنه تفضُّلٌ محض، ولم تكن مشروطة.
وذكر حديث البيهقي عن أبي هريرة قال: «أتى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فاستسلف له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شطْرَ وسْقٍ، فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه، فأعطاه وسقًا وقال: «نِصفٌ لك قضاءٌ، ونصفٌ لك نائلٌ من عندي» «سنن البيهقي» (ج 5 ص 351).
[ق 28] أقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نائلٌ من عندي» نصٌّ على أنه تفضُّلٌ محض.
(1)
كما في «كشف الأستار» (1307). قال البزار: لا نعلمه بإسناد متصل إلا بهذا، ولم نسمعه إلا من أحمد [بن خزيمة] وكان ثقة. وقال الهيثمي (4/ 141): رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار، وهو ثقة.
تمسَّك صاحب الاستفتاء بهذه الأحاديث من وجهين:
الأول: أنه قال في حاشية (ص 20): «ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة في القرض، وليس فيه أنه كان مع شرطٍ أو بدون شرط، فمن ادعى الحرمة بالشرط لابدّ عليه من بيان، لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة، ولا يجوز تقييدها بدون مخصص» .
الثاني: قال: «وأما كونه ربًا عند الشرط فهو لا يصح أيضًا، لما رُوي
(1)
من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطلَ أبا رافع فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك، أنا أُحِلُّه لك، فقال أبو بكر: إن أحللتَه فإن الله لم يُحِلَّه لي، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«الزائد والمزاد في النار» أو هكذا. لأن فيه دلالةً على أن الزيادة بغير شرطٍ أيضًا حرام، أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام، شُرِطت أو لم تُشترط، فلو كانت الزيادة في القرض ربًا لكانت حرامًا بدون شرطٍ أيضًا، مع أن الزيادة في القرض بدون الشرط مباحٌ باتفاق الأمة، فثبت أنها ليست بربًا».
أقول: أما الوجه الأول فقد علمتَ جوابه بإيضاح أن الأحاديث إنما وردت بالزيادة على وجه التفضُّلِ والنائل المحض. ولو كانت مطلقة لكان على صاحب الاستفتاء أن يحكم بردِّها بناءً على قاعدته أنها متروكة العمل باتفاق الأمة، وأما أهل العلم والإيمان فيقولون: لو كانت عامة أو مطلقة وجب تخصيصها أو تقييدها بنصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة والإجماع، وقد كفانا الله تعالى هذا بوضوح أنها واردة في التفضل المحض
(1)
سبق تخريجه.
كما علمتَ.
وأما الوجه الثاني فهو قياس ساقط، والحكم مسلَّم، وهو حرمة الزيادة في الفضة بالفضة يدًا بيدٍ، وإن لم يثبت أثر أبي بكر رضي الله عنه.
وقد قدَّمنا أن الفضة بالفضة يدًا بيدٍ ليس بربًا حقيقي بدلالة القرآن، وبدلالة حديث «الصحيحين»
(1)
: «لا ربا إلَّا في النسيئة» وغير ذلك، وإنما العلة فيه الاحتكار في بعضٍ، وتشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة في بعضٍ، كما تقدم إيضاحه في القسم الأول.
والاحتكار والتشبيه لا ينتفي بالرضا وطيب النفس، كما انتفى الربا في حسن القضاء؛ لأن المعنى في تحريم الربا هو الظلم كما أومأ إليه القرآن، وليس في حسن القضاء ظلم، فإن المستقرض إنما يزيد بطيبٍ من نفسه شكرًا لإحسان المقرض أو تفضُّلًا مؤتنفًا، وليس في ذلك ظلم ولا فيه شيء من مفاسد الربا.
ثم لو فرضنا استقامة القياس فهو ساقط الاعتبار، لمخالفته النصوصَ التي بيناها فيما تقدم، والإجماعَ الذي اعترف به صاحب الاستفتاء نفسه.
[ق 29] والمقصود أن صاحب الاستفتاء مع ذكره لأكثر الآثار عن الصحابة والتابعين، واعترافه باتفاق الفقهاء «من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا» = لم يستطع أن يعارضها بأثر عن صحابي أو تابعي أو فقيه. والله المستعان.
(1)
البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد. وقد سبق.