الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوه الربا
لا فرق بين أن يُقرِض بشرط الزيادة دفعةً واحدةً، أو يُقرِض بشرط زيادة مقررة في كل شهر مثلًا، أو يقرض بلا شرط زيادة، ثم يطالب بالقضاء، فيستمهل المستقرض فيمهله بشرط زيادة، أو يكون له عند رجل دين من غير القرض، كثمن وأجرة ونحو ذلك، فإذا حلَّ الأجل أمهله إلى أجل آخر بشرط زيادة.
هذا كله داخل في آية الربا كما سيأتي تحقيقه، والمعنى فيه واحد.
وهناك صور أخرى تحتاج إلى إيضاح:
منها:
العِينة
، وهي أن يحتاج الرجل إلى القرض فلا يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، فيتواطأ مع إنسان على أن يشتري المحتاج من صاحب المال سلعة بمائة درهم إلى أجل، ثم يبيعها المحتاج لصاحب المال بتسعين نقدًا مثلًا.
وتأويل ذلك أنه أخذ تسعين درهمًا على أن يرد مائة، وهذا هو عين الربا.
وقد اشتهر عن الشافعية تصحيح هذه المعاملة، فأما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فإنما يوجد في نصوصه تصحيح البيعين حيث لم يعلم نية السوء، ذكر في باب بيع الآجال من "الأم"
(1)
أثر عائشة: "أن امرأة سألتها عن بيعٍ باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من
(1)
(4/ 160).
ذلك نقدًا، فقالت عائشة: بئسَ ما اشتريتِ، وبئسَ ما ابتعتِ، أخبري زيد بن أرقم [ص 16] أن الله عز وجل قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يتوب".
ثم ساق الكلام عليه، وفيه أن القياس يوافق فعلَ زيد، ثم قال: "فإن قال قائل: فمن أين القياس مع قول زيد؟
قلت: أرأيتَ البيعة الأولى أليس قد ثبت بها عليه الثمن تامًّا؟
فإن قال: بلى.
قيل: أفرأيت البيعة الثانية أهي الأولى؟
فإن قال: لا.
قيل: أفحرامٌ عليه أن يبيع ماله بنقدٍ، وإن كان اشتراه إلى أجل؟
فإن قال: لا، إذا باعه من غيره.
قيل: فمن حرَّمه منه؟
فإن قال: كأنها رجعت إليه السلعة، أو اشترى شيئًا دينًا بأقلَّ منه نقدًا.
قيل: إذا قلتَ: "كأنَّ" لما ليس هو بكائن لم ينبغِ لأحد أن يقبله منك، أرأيت لو كانت المسألة بحالها، فكان باعها بمئة دينارٍ دينًا واشتراها بمئة أو بمئتين نقدًا؟
فإن قال: جائز.
قيل: فلا بد أن تكون أخطأت "كأن" ثَمَّ أو ههنا؛ لأنه لا يجوز له أن يشتري مئة دينار دينًا بمئتي دينار نقدًا.
فإن قلت: إنما اشتريت منه السلعة.
قيل: فهكذا كان ينبغي أن تقول أولًا، ولا تقول:"كأن" لما ليس هو بكائن.
أرأيت البيعة الآخرة بالنقد لو انتقضت أليس تُردُّ السلعة، ويكون الدين ثابتًا كما هو، فتعلم أن هذه بيعة غير تلك البيعة؟
فإن قلت: إنما اتهمته.
قلنا: هو أقل تهمة على ماله منك، فلا تركن عليه إن كان خطأً، ثم تحرِّم عليه ما أحلَّ الله له؛ لأن الله عز وجل أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وهذا بيع وليس بربا". "الأم" (ج 3 ص 68 - 69)
(1)
.
أقول: السياق صريح في أن كلام الشافعي رحمه الله خاص بما إذا لم تقع بينهما مواطأة، ولا قامت دلالة ظاهرة على قصد الاحتيال، وصورة ذلك مثلًا أن يَعْمِد رجل فيشتري ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يتفرقان، ثم يعود المشتري إلى البائع، فيعرض عليه الثوب بتسعة دراهم نقدًا، فيشتريه منه.
فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: لا وجه لاتهام المشتري الأول بأنه إنما اشترى توصلًا إلى الأخذ بالربا، وهناك ما يُبعِد اتهامه، وهو أن المعروف من حال الإنسان أنه لا يرضى بضياع ماله، وإذا اتهمنا هذا الرجل بالنية المذكورة كنا قد اتهمناه بأنه أراد من أول الأمر ضياع درهم من ماله، فالأولى أن يحمل على أنه اشترى الثوب رغبةً فيه، ثم عرضتْ له حاجة، أو اطلع على غبن، فعاد فباعه.
(1)
(4/ 160 ــ 161) ط. دار الوفاء.
وقوله: "فلا تركن عليه" صوابه: "فلا تَزْكَنْ عليه"، من الزكن، وهو الظن، أي: لا تتهمه إن كان زكنك خطأً لا دليل لك عليه.
ويعلم مما تقدم أنه لو علم تواطؤهما على التوصل إلى الربا، أو اعترفا بأن نيتهما ذلك، صحَّ الحكم بحرمته.
وكذلك إذا كانت النية التوصل، ولم يظهر لنا ذلك، فإن الحرمة ثابتة على الناوي.
ويبقى النظر في صورة البيع الأولى وصورته الثانية، الحكم ببطلانهما أو أحدهما، ففي "فتح الباري":"والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يُجوِّزون العقود على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن"(ج 12 ص 274)
(1)
.
ذكر ذلك بعد أن نقل عن "إعلام الموقعين"
(2)
كلامًا فيه تنزيه الشافعي عما ينسبه إليه أصحابه، وفيها:"وكذا في مسألة العينة، إنما جوز أن يبيع [ص 17] السلعة ممن يشتريها، جريًا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوِّز قطُّ أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومئتين، ثم يحضران سلعة تحلل الربا، ولاسيما إن لم يقصد البائع بيعها، ولا المشتري شراءها".
وقال في "الفتح" أيضًا: "نص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في
(1)
(12/ 337) ط. السلفية.
(2)
(3/ 293).
تفويت الحقوق، وقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم، ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى"، فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا، ولا يخلِّصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محلّلًا، ودخل في الوعيد على ذلك باللعن، ولا يخلِّصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قُصِد به تحريمُ ما أحلَّ الله أو تحليلُ ما حرَّم الله كان إثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيُّل على الفعل الحرام بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له". "فتح الباري" (ج 12 ص 267)
(1)
.
أقول: إذا ثبتت الحرمة أوشك أن يثبت البطلان، وقد قال الشافعية بحرمة الصلاة في وقت الكراهة وبطلانها، واستثنوا ما له سبب متقدم، أو مقارن كتحية المسجد، ثم قالوا: لكن لو دخل المسجد لأجل الصلاة في وقت الكراهة حرمت عليه الصلاة، ولم تصح؛ لأنه معاند للشرع، وهكذا قالوا في من قرأ في الصلاة آية السجدة ليسجد أنه إذا سجد بطلت صلاته.
فعلى هذا يلزمهم إبطال العِينة إذا كان المقصود من صورة البيع فيها هو أخذ ألفٍ بألفٍ ومئتين.
ودلائل البطلان كثيرة، ولكن المقصود ههنا إثبات الحرمة، والشافعية يوافقون عليها كما مر.
ومن تدبر المعنى علم أنها أشدُّ من حرمة الربا الصريح، قال البخاري
(1)
(12/ 328) ط. السلفية.
في كتاب الحيل من صحيحه
(1)
: "باب ما يُنهى عنه من الخداع في البيوع
(2)
، وقال أيوب: يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أَتَوا الأمرَ عيانًا كان أهون عليَّ".
قال في "الفتح": "قال الكرماني: قوله: "عيانًا" أي لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل؛ لأنه ما جعل الدين آلة للخداع. انتهى. ومن ثَمَّ كان سالكُ المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغضَ عند الناس ممن يتظاهر بها، وفي قلوبهم أوضعَ، وهم عنه أشدُّ نفرةً". "فتح الباري"(ج 12 ص 273)
(3)
.
أقول: والباعث على هذه المعاملة قد يكون كفرًا، وقد يكون محاربةً لله عز وجل فوق محاربته بأصل الربا، وقد يكون جهلًا، ولا يَغُرنَّك ما جازف به بعضهم فقال:"إن هذه المعاملة محمودة؛ لأنها فرار من الربا الذي حرَّمه الله إلى البيع الذي أحلَّه"، فإنها مغالطةٌ محضةٌ؛ لأن صورة البيع التي يأتي بها المتعاينان غير مقصودة لهما قصدًا صحيحًا، وإنما هو قصد محرم، وهو المخادعة لله عز وجل، والاحتيال عليه، والعناد لشرعه.
هذا، وقد حرَّم الله تعالى أكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ، وليس هذه بتجارةٍ، فإن الآخذ لم يشترِ السلعة ليبيعها بربحٍ كما هو دأب التاجر، وقد تقدم بيان المعنى الذي أُحِلَّ لأجله التغابن في التجارة، وليس موجودًا ههنا.
(1)
(12/ 336) مع الفتح.
(2)
في الأصل: "العيوب"، والتصويب من البخاري.
(3)
(12/ 336) ط. السلفية.
للعينة صور، وقد عدّ الحنفية منها أن تطلب من رجل أن يُقرِضك، فيقول لك: بل أبيعك هذه السلعة بنسيئة، وخذها أنت وبعها في السوق بنقد، فيأخذها ويبيعها في السوق.
ونقلوا عن أبي يوسف أنه قال: "لا يُكره هذا البيع؛ لأنه فعله كثير من الصحابة، وحمدوا على ذلك، ولم يعدُّوه من الربا، حتى لو باع كاغذةً بألف يجوز، ولا يكره"
(1)
.
[ص 18] أقول: لا بد من تفصيل؛ فإذا كان ثمن السلعة التي أعطاه عشرة دراهم نقدًا، واثني عشر درهمًا نسيئةً، فإن أعطاه إياها بعشرةٍ نسيئةً فهذا هو الذي يمكن أن يكون محمودًا؛ لأنه كأنه أقرضه.
وإن أعطاه إياها باثني عشر ففيه نظر، وقد يقال: إذا كان محققًا أنه لو لم يعطه تلك السلعة باثني عشر درهمًا إلى أجل لطلبها منه آخر بذلك الثمن إلى مثل ذلك الأجل، فلا يظهر إثم المعطي، ولكن يبقى النظر في الآخذ، فقد يقال: إنه إنما اشتراها بنية أن يأخذ عشرة نقدًا، وتكون في ذمته اثنا عشر، فإن أثِمَ الآخذ رجع الإثم على المعطي أيضًا إذا علم بنية الآخذ، وأما إذا أعطاه إياها بثلاثة عشر مثلًا فالحرمة ظاهرة.
هذا، وما حكاه أبو يوسف عن الصحابة لم يُنقَل متصلًا، إلا ما رُوي عن زيد بن أرقم على ما فيه، والقصة نفسها تدل أنه لم يقصد العِينة، وقد ذكرها الباجي في "شرح الموطأ"
(2)
، وفيها: "قالت: فإني بعتُه عبدًا إلى العطاء
(1)
انظر "حاشية ابن عابدين"(5/ 325، 326).
(2)
"المنتقى"(4/ 166).
بثمان مئة درهم، فاحتاج فاشتريته قبل محل الأجل بست مئة درهم".
هذا مع أن هذه المرأة هي أم ولد زيد، كما في القصة، ولم يُذكَر أنه كان قد أعتقها، وإذا لم يكن قد أعتقها فهي باقية حينئذٍ في ملكه، والعلماء مصرِّحون على أنه لا ربا بين السيد وبين مملوكه.
وذكر البيهقي وغيره أثرًا عن ابن عمر
(1)
، وفي سنده مقال، وفيه مع ذلك ما يصرح بأن البيع لم يكن بنية العينة.
وقد قال محمد بن الحسن: "هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أَكَلَةُ الربا
…
" انظر "الدر المختار"
(2)
أواخر الكفالة.
[ملحق ص 18] بقي أن بعض المحتالين على الربا يشتري مقدارًا وافرًا من بضاعة رائجة، وإذا طُلب منه بيعه نقدًا بقيمة مثله نقدًا أو إلى أجل قريب بقيمة مثله إلى ذلك الأجل، امتنع، وإنما يرصُده للمحتاجين إلى القرض، يجيء أحدهم فيسأله القرض، فيقول: ليس عندي دراهم ــ وكثيرًا ما يكون كاذبًا ــ ولكن أبيعك هذه السلعة بعشرةٍ نسيئةً إلى شهرين مثلًا، فيقول الطالب: وماذا أصنع بها ولا حاجة لي فيها؟ فيقول: تخرج بها فتبيعها بدراهم نقدًا، فتنتفع بها، فيقول الطالب: قيمة مثلها نقدًا في السوق ثمانية، فكيف أشتريها منك بعشرة، وأحملها وأتعب فيها حتى أجد من يشتريها مني بثمانية؟ فيقول: ليس عندي إلا ذلك، فإن أحببتَ فخذْ، وإلا فاذهبْ.
وإذا اشتهر بهذا فربما يجيئه طالب القرض، فيشتري منه على ذلك
(1)
"السنن الكبرى"(5/ 317).
(2)
"الدر المختار" مع حاشية ابن عابدين (5/ 326).
الوجه، ولا يذكر قرضًا.
ولما كنتُ قاضيًا بجيزانَ سمعت برجلٍ حضرمي هذه حِرفتُه، فرأيت أن أعزِّره وأمنعه من هذه المعاملة، وأردَّه في ما بقي له من الديون إلى رأس ماله، ثم عرضتُ ذلك على شيخنا الإمام محمد بن علي بن إدريس رحمه الله، فأقرَّني على ذلك.
ثم سُئلت مرارًا عن بيع النَّساء بزيادة في الثمن فأجبت أن التاجر الذي يبيع بنقد إذا طُلِبت منه سلعة بنسيئة فلا أراه حرامًا، ومثله غير التاجر إذا كانت عنده سلعة فطُلِبت منه بنسيئة فباعها بثمن لو طلبت منه بنقد لباعها بأقلَّ منه، وأما من إذا طلبت منه السلعة بنقد أو بنسيئة إلى أجل قريب بقيمة مثلها لم يبع، وإنما يرصدها للنسيئة؛ لتحصل له زيادة لها قدر، فلا أراه إلا حرامًا، ولاسيما إذا علم أو ظن أن المشتري إنما يريد القرض، ولما لم يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، واستشنع الربا الظاهر أو لم يجد من يعطيه بربا، اضطر أن يشتري سلعة بعشرة إلى شهرين مثلًا، ويتعب بحملها، وطلب من يشتريها منه بثمانية نقدًا ليأخذ الثمانية فيسدّ بها حاجته.
هذا والغالب أن الذين يأخذون من مثل ذلك الحضرمي هم الفقراء والذين عرفوا بالمطل، فإنهم يمطلونه؛ لأنهم يرون أنه ظالم لهم ولغيرهم، ولكنه لا يبالي؛ لأنه قد اعتاد الإلحاح في التقاضي، والتشديد فيه، وقد مرَّ الفرق بين العينة وبين بيع النَّساء الذي لا حيلة فيه. والله أعلم.
الصورة الثانية: الانتفاع بالرهن:
اتفق العلماء على تحريمه؛ لأنه ربا، وإنما أجاز بعضهم في رهن الدابة أن ينفق عليها المرتهن ويركبها أو يحلبها بقدر ما أنفق عليها متحرِّيًا العدل
في ذلك، وكذلك الأمة ينفق عليها، ويسترضعها بقدر نفقتها.
وقد احتال الناس على هذا النوع من الربا بصورة بيع كثرت أسماؤه لخبث مسماه، فيقال: بيع العهدة، وبيع الوفاء، وبيع الأمانة، وبيع الإطاعة، وبيع الطاعة، والبيع الجائز، وبيع المعاملة، والبيع المعاد، والرهن المعاد، وغير ذلك.
وحاصله أن يحتاج رجل إلى القرض، فيلتمس من يُقرِضه على أن يرهنه أرضه رهنًا شرعيًّا، فلا يجد مسلمًا يقبل ذلك، فيقول له إنسان: أنا أعطيك واسترهِنْ أرضك على شرط أن تكون منافعها لي ما دام الدين عندك، فقيل لهم: هذا ربا، فأوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا صورة العقد بيعًا.
ثم تارةً يقع العقد مع الشرط، كقوله: بعتك هذه الأرض بألف، على أنه ليس لك أن تخرجها من ملكك، وأنه متى جئتُ أنا أو ورثتي أو ورثتهم أو من يرثهم وهكذا بمثل الثمن رجعت الأرض إلى ملكنا. ويستغنى عن تفصيل الشروط بقولهم: بيع وفاء، أو بيع عهدة، أو غير ذلك من الأسماء الخاصة بهذه المعاملة الخبيثة.
وتارةً يتقدم الشرط على العقد، كأن يقول مريد الأخذ: اشهدوا أن البيع الذي سيقع بيننا بيع عهدة مثلًا.
وتارةً يتأخر، وربما جعلوا الشرط بلفظ النذر، كأن يقول مريد الأخذ: لله عليّ إذا اشتريتُ هذه الأرض من فلان أن أُقِيلَه إذا طلب الإقالة هو أو ورثته وإن سفلوا، وقد تقع صورة النذر بعد العقد.
[ص 19] وهذه الحيلة إنما حدثت في القرون المتأخرة، وأنكرها العلماء، وقد اطلعتُ على كلام المتأخرين من الفقهاء فيها. فأما الشافعية فقالوا: إذا وقعت المواطأة والشرط، ثم وقع العقد بصفة البيع، ولا ذكر للشرط في عقده، فالشرط السابق لغوٌ، والبيع صحيح نافذ. وإن كان الشرط بعد انعقاد العقد ولزومه فالبيع صحيح نافذ، والشرط وعدٌ، للمشتري أن يفي به وأن لا يفي. ولو كان الشرط بصيغة نذر من المشتري لزمه الوفاء به، وإن وقع الشرط في صلب العقد بطل البيع، ومن الشرط أن يقال: بيع عهدة، أو بيع وفاء، أو نحوه.
ولكن بعض فقهاء حضرموت أفتوا بصحة البيع والشرط.
قال في "القلائد"
(1)
: "بيع العهدة المعروف بجهة حضرموت وغيرها، وهو أن يتفق المتبايعان أن البائع متى أراد رجوع المبيع إليه أتى بمثل الثمن المعقود به، وفَسَخ البيع، أو يُفسَخ عليه، رضي المشتري أم لا. وكذا إن اتفقا أنه إن أراد فكَّ البعض فله ذلك، كما صرَّح به بعض الفقهاء، وهو فاسد إن وقع الشرط في نفس العقد أو بعده في زمن الخيار، وسيأتي في الخيار أن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له وهو مقتضٍ لصحة ما فعلاه هنا، ولزومِه عندهم، فإن وقع قبل العقد بالمواطأة ثم عقدا مُضمِرَين ذلك فهو وعد لايلزم على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، ولكن رأى جماعة من أهل العلم تنفيذه بناء على وجوب الوفاء بالوعد، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى وغيره، وأقاموا ذلك مقام الحقوق اللازمة
(1)
"قلائد الخرائد" لباقشير الحضرمي (1/ 317).
حتى ينوب الحاكم في الفسخ أو قبوله حيث غاب المشتري أو امتنع".
ثم قال بعد ذلك بكلام: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا، ويلزم".
أقول: الحاصل أنه أسند جواز البيع مع الشرط المذكور في صلب العقد إلى أمرين:
الأول: قوله: "إن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له". وقال في الخيار: "وجوزه أحمد وإسحاق مطلقًا، ويتأبد".
الثاني: قوله: "وذهب جماعة إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا".
وأسند وجوب الشرط ولزومه إذا كان قبل العقد إلى مذهب مالك في وجوب الوفاء بالوعد.
فأما الأول: فكأنه مستند إلى ما في "فتح الباري"
(1)
: "فإن شرطا أو أحدهما الخيار مطلقًا، فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: هو شرط باطل، والبيع جائز. وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يبطل البيع أيضًا. وقال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخيار أبدًا".
فأما الإمام أحمد: فإن صح هذا عنه فكأنه رواية ضعيفة عند أصحابه، فإن في "زاد المستقنع" من كتبهم في خيار الشرط:"أن يشترطاه في العقد مدة معلومة، ولو طويلة".
(1)
(4/ 328).
قال في شرحه "الروض المربع": "ولا يصح اشتراطه بعد لزوم العقد، ولا إلى أجل مجهول، ولا في عقد حيلة ليربح في قرض فيحرم، ولا يصح البيع"(ص 190)
(1)
.
[ص 20] أقول: والمدة الطويلة إذا مات الشارط قبلها انقطع خياره عندهم، ففي "زاد المستقنع":"ومن مات منهما بطل خياره".
قال الشارح: "فلا يورث إن لم يكن طالب به قبل موته"(ص 191)
(2)
.
أقول: ومطالبته به قبل موته تكون فسخًا، فينفسخ العقد من حينئذٍ، ولو طالب به عقب العقد بساعة انفسخ العقد من حينئذٍ، ولو لم يدفع الثمن، وهذا مخالف لمقصود بيع العهدة.
وفوق هذا فالمقصود ببيع العهدة هو الحيلة، فيكون البيع والشرط باطلًا عند الحنابلة مطلقًا كما علمت.
والفرق بين شرط الخيار لغير حيلة وشرطه لحيلةٍ: أن الأول يكون مقصود البائع عند البيع إخراج المبيع من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم بعد ذلك، فلأجل هذا شرط الخيار.
والثاني لا يقصد البائع إخراج المبيع عن ملكه، وإنما حاجته إلى الدراهم ألجأته إلى أن يضع أرضه تحت يد معامله إلى أن يتيسر له قضاء تلك الدراهم، ولهذا يرضى صاحب الأرض بدراهم أقلَّ من ثمن المثل، وتجدهم في حضرموت يصرحون بأنه رهن، فيقول البائع: رهنت أرضي عند
(1)
(4/ 421) بحاشية ابن قاسم.
(2)
(4/ 432، 433).
فلان، ويقول المشتري: هذه الأرض مرهونة عندي، وتجد ذلك في وصاياهم وغيرها، وإنما يطلقون عليه بيعًا حال العقد، كما يعلمهم كتَّاب العقود الذين عرفوا طرفًا من الفقه، أو تعلموا كيف يكتبون وثيقة في هذا الباب.
وعلى هذا فإذا كان في مذهب أحمد رواية بصحة الخيار المطلق، فلا تفيد أهل العهدة؛ لأن مقصودهم الحيلة على الربا، ولغير ذلك. والله أعلم.
وفي "الشرح" في أحكام الشروط: "وكذا شرط رهن فاسد، كخمر، ومجهولٍ، وخيارٍ أو أجل مجهولين، ونحو ذلك، فيصح البيع، ويفسد الشرط"(ص 188)
(1)
.
والمراد أنه يصح ما لم يكن العقد حيلة، كما تقدم. والله أعلم.
وأما قول إسحاق فلم أقف على تفصيل مذهبه، وعسى أن يكون كمذهب أحمد، وما لم يعلم قوله مفصّلًا مفسّرًا لا يمكن تقليده.
وأما الثاني: وهو قوله: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان الشرط واحدًا"، فليس على إطلاقه، ففي مذهب أحمد تفصيل؛ فمن الشروط في مذهبه ما يصح مطلقًا، وهو ما وافق مقتضى العقد، كاشتراط حلول الثمن، أو كان من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو فيه منفعة معلومة للبائع، كركوبه الدابة إلى موضعٍ معين، أو للمشتري كأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع أن يحمله إلى موضع معلوم.
(1)
"الروض المربع"(4/ 404) بحاشية ابن قاسم.
فهذا النوع الثالث ــ أعني الذي فيه منفعة معلومة للبائع أو للمشتري ــ يصح عندهم إذا كان شرطًا واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين. وفسروا الشرطين باشتراط منفعتين، قال في "الروض المربع":"كحمل حطبٍ وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله"
(1)
.
ومن الشروط في مذهبه ما هو فاسد، وهو ما ينافي مقتضى العقد، فتارة يبطل الشرط ويصح العقد، كاشتراط المشتري أنه إذا لم ينفق المبيع رده، أو أن لا يبيع المبيع ولا يهبه ولا يعتقه، وتارةً يبطل العقد أيضًا، كاشتراط عقد آخر، كأن يقول: بعتك بشرط أن تقرضني، وتارة لا ينعقد البيع من أصله، كقول الراهن: إن جئتك بحقك، وإلا فالرهن لك، وكذا كل بيعٍ عُلِّق على شرط مستقبل، [ص 21] وتمام التفصيل في كتبهم.
والحاصل: أن الشرط الذي يجوز عندهم إذا كان واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين= هو ما كان في مصلحة البيع، وفيه منفعة معلومة لأحد العاقدين. ومثَّلوه بأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع حمله إلى موضعٍ معلومٍ أو تكسيره، أو يشتري ثوبًا، ويشترط على البائع تفصيله أو خياطته، فيصح. ولو اشترط مشتري الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط مشتري الثوب تفصيله وخياطته، كان قد جمع شرطين، فيبطل البيع.
والشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس من مقتضى البيع، ولا من مصلحته، بل هو من المنافي، وفي المنافي عندهم تارةً يلغو الشرط ويصح البيع، ومن أمثلته عندهم الخيار المجهول كما تقدم، ومثله فيما يظهر الخيار إلى مدة معينة مع شرط أن المشتري إذا مات يقوم ورثته مقامه.
(1)
(4/ 399).
ووجه ذلك أن الخيار من أصله منافٍ للبيع، وإنما أجيز لدليل خاص، وذلك الدليل الخاص لا يتناول أن يكون الخيار لورثته من بعده، فهذا يقتضي بطلان الشرط وصحة البيع، ولكن الشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس خيارًا، وإنما المقصود به الحيلة على الربا، وهو باطل عندهم كما تقدم.
وتحقيقه أن خيار الشرط موضوع لمن يكون قصده حال البيع أن يخرج السلعة من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم، وبيع العهدة ليس من هذا قطعًا، وإنما المقصود منه أن تكون السلعة رهنًا بيد من يُسمى مشتريًا، ليفكَّه من يُسمى بائعًا هو أو ورثته متى أرادوا.
هذه حقيقته، ولهذا يطلقون عليه لفظ "الرهن"، فيقول الرجل: أريد أن أرهن أرضي، ويقول الآخر: يريد فلان أن يرهن عندي
(1)
أرضه، ويقولان بعد العقد: رهنت أرضي عند فلان، وهذه الأرض عندي رهن، كما تقدم.
وعلى كل حال فقد تبين بطلان بيع العهدة في مذهب أحمد وحرمته، وأنه ربا. والله أعلم.
وأما السند الثالث: وهو الإلزام بالمواطأة قبل العقد، بناءً على وجوب الوفاء بالوعد في مذهب مالك، وفسره في "القلائد"
(2)
بعد ذلك بقوله: "مذهبنا أيضًا أن الوفاء بالوعد مكرمة متأكدة، وأن الإخلاف به مع القدرة وعدم الضرر مكروه جدًّا، وعند قوم يجب الوفاء، وقالت المالكية: يجب إن ارتبط بسبب، كقوله: أعطِني كذا، أو احلِفْ لا تسبَّني وأنا أعطيك كذا. وبيع
(1)
في الأصل: "عني".
(2)
(1/ 320).
العهدة عندنا من هذا
…
واختار جمع كثير من أصحابنا المتأخرين والذين قبلهم ما ذكرناه من المواطأة قبل، وإلزام الوعد بمقتضى مذهب من أوجبه للضرورة في الحاجة إلى الثمن، مع قلة الراغب في المبيع إلا بغبن كثير، فقصدوا التخلص منه بشرط أن له أن يفكَّه عند قدرته، ومشوا على ذلك حتى ألزمت به الحكام، ورتبوا عليه الأحكام".
أقول: مالك وأصحابه رحمهم الله بريئون من هذه المعاملة، ومن المواعيد عندهم ما يأمرون بالوفاء بها، ولكن يقولون: ليس للحكام الإلزام بها قضاءً، ومنها ما إذا كان تمهيدًا لعقد ينزل عندهم منزلة الشرط في ذلك العقد، فيبطل العقد ويحرم. ومنها: غير ذلك. بل النذر عندهم لا يلزم به إلا ما لا يصح وقوعه إلا قربة.
وفي "الشرح الكبير" مع المتن: " (وإنما يلزم به) أي النذر (ما ندب) ".
قال الدسوقي في حواشيه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارة قربةً، وتارة غيرها فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة [هـ بن] ". (ج 2 ص 144).
وأما ما ذكره صاحب "القلائد" عنهم فمحله فيما ارتبط بسبب فيه كلفة على الموعود؛ لأنه صار في معنى الإجارة أو الجعالة.
وقوله: "أعطني كذا، وأنا أُعطيك كذا" في معنى البيع، فإن وقع الوعد في بيع الوفاء قبل العقد فهي مواطأة مفسدة، كما سيأتي عن المالكية، وإن وقع في صلب العقد فأولى، وإن وقع بعد لزوم العقد فقد صرحوا بأنه وعد لا يلزم الوفاء به، كما سيأتي.
[ص 22] ومالك رحمه الله تعالى يحتاط في محاربة الربا أشد الاحتياط، حتى حرَّم الإقراض طمعًا في الزيادة، إذا عُرف من عادة المستقرض الزيادة في القضاء، وحرَّم قبول الزيادة إذا كانت عن وعد أو عادة.
فكان على أنصار بيع العهدة أن يراجعوا كتب المالكية، أو يستفتوا أحد علمائهم، ولا يُقدِموا على التحليل والتحريم بناءً على نقول مجملة. والله المستعان.
هذا وقد نصَّ المالكية على حرمة بيع العهدة، أو بيع الوفاء، ووجوب إبطاله وحرمة انتفاع المشتري بالمبيع إذا كان الشرط في صلب العقد، أو تواطآ عليه قبل العقد، وأنه إذا لم يكن هناك شرط ولا مواطأة أصلًا فالبيع صحيح، ولو تبرع المشتري بعد لزوم البيع بنحو قوله:"متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع" كان وعدًا يستحبُّ الوفاء به، ولا يلزم.
وهذه عبارة الدسوقي في حواشي "الشرح الكبير" للمالكية: "وبيع الثُّنيا هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن رد المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد، أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لتردد الثمن بين السلفية والثمنية
…
وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاءُ بذلك الوعد، بل يستحبُّ فقط". (ج 3 ص 62).
وفي المتن والشرح: " (ورُدَّ) المبيع بيعًا فاسدًا لربه إن لم يفت وجوبًا، ويحرم انتفاع المشتري به ما دام قائمًا".
وحكى المحشي عن الشيخ أحمد الزرقاني أن المشتري بهذا البيع يرد
الغلة مع المبيع، ولا حق له فيها.
وحكى عن (ح) ورجحه أن المشتري إذا قبض المبيع برضا البائع يفوز بغلته ما دام عنده، بناءً على أن حكم البيع الفاسد في المذهب هكذا، فهو حرام يجب نقضه، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ولكن مع ذلك كله يفوز بغلته؛ لأنه في ضمانه، والخراج بالضمان.
قال: "وإن لم يقبضه (المشتري) بل بقي عند البائع، فالغلة له لا للمشتري، ولو كان المشتري أبقاه عند البائع بأجرة، كما يقع بمصر؛ لأنه فاسد، ولم يقبضه".
أقول: حكم البيع الفاسد عندهم هكذا، أنه يحرم ويجب رده، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ومع ذلك فغلَّته للمشتري إذا قبضه برضا البائع؛ لأن الخراج بالضمان، وإنما الشأن في هذا البيع: أبيعٌ فاسد هو، فيكون حكمه كما قال (ح)، أم غير ذلك؟
والذي يظهر أن الزرقاني جعله رهنًا، والحق معه، لأنَّ الشرط المذكور سلخ هذا العقد عن حقيقة البيع، وجعله من حقيقة الرهن بشرط انتفاع المرتهن به.
[ملحق ص 22] والبيع الذي سماه سلف المالكية بيع الثُّنيا، وذكروا أنه فاسد، إنما هو نحو أن يشرط بائع الجارية مثلًا على المشتري أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، كما في "الموطأ"
(1)
.
وقد حكى الباجي في "المنتقى" عن سحنون أنه علَّل عدم جوازه "بأنه
(1)
(2/ 616).
سلفٌ يجرُّ منفعة، وذلك أنه يسلفه الثمن؛ لينتفع هو باستغلال المبيع". "المنتقى على الموطأ" (ج 4 ص 210)
(1)
.
أقول: وقضية تعليل سحنون أن لا تكون الغلة للمشتري؛ لأنها منفعة جرَّها القرض، والمالكية يشددون في ذلك جدًّا، كما تراه في باب القرض من "الشرح الكبير" وغيره من كتبهم.
هذا مع أن الصورة المتقدمة لم يتمحض العقد فيها لأن يكون في المعنى سلفًا ورهنًا؛ لأنه لم يشترط ردّه عليه مطلقًا، ولا اشترط أن يتأبد حق الاسترداد حتى بعد موتهما، ولا اشترط أن يرده له بمثل الثمن الذي دفعه، بل اشترط أن المشتري إذا أراد بيعه فالبائع أحق به بالثمن الذي يريد المشتري أن يبيع به.
فإذا كان هذا عند سحنون سلفًا جرّ منفعةً، فما بالك ببيع الوفاء؟ وفيه اشتراط الرد مطلقًا مؤبدًا بمثل الثمن المدفوع، فقد انسلخ هذا العقد عن حقيقة البيع في المعنى إلى حقيقة السلف والرهن على شرط أن ينتفع المرتهن بالمرهون.
وبالجملة فمن تدبَّر مذهب مالك رحمه الله ورأى إمعانه في سدِّ الذرائع، ولا سيما ذرائع الربا، والتفاته إلى المعاني، واهتمامه بإبطال الحيل، وذهابه إلى وجوب معاقبة الخارج عن طريق الشرع بنقيض قصده، لا يسعُه إلا الجزم بما قاله الزرقاني.
فمن مذهب مالك رحمه الله أن المطلقة في مرض الموت ترث، ولو لم
(1)
(6/ 129) ط. دار الكتب العلمية.
يمت الزوج حتى انقضت عدتها، وتزوجت بعدة أزواج، وقال: إن الرجل إذا تزوج امرأة في عدتها فرق بينهما، ثم لا يحلُّ به نكاحها أبدًا عقوبةً له على استعجاله.
أقول: وإذ قد عُلِم أن المقصود في بيع الوفاء إنما هو أن يقضي البائع حاجته بالثمن، وأن ينتفع المشتري بالمبيع حتى يرجع له الثمن، وتلك حقيقة الربا، كما أفاده ما مرَّ عن سحنون، فلا خفاء أنه إذا قضى للمشتري بالغلة حصل مقصود المرابين، وأدى ذلك إلى انهماكهم في هذه المعاملة الخبيثة، ولاسيما في هذه الأزمان التي لم يعد يكفي لزجر الناس أن يقال لهم: هذا العقد حرام، وعدم إبطاله حرام، وانتفاع المشتري بالمبيع حرام، فإنهم يقولون: حرام في حرام في حرام، ولكن الحكام لا يتمكنون من منعنا من مقصودنا، بل يحكمون لنا بالغلات، فأهلًا وسهلًا بالحرام إذا كان يقضي به الحكام.
هذا، وفي مذهب مالك كثير من جواز عقوبة الحاكم للمعتدين، حتى جوز إتلاف المال المغشوش، ونحو ذلك.
بقي أن يقال: فما يصنع الزرقاني بقاعدة الخراج بالضمان؟
أقول: أما إن كان يرى أن هذا العقد يكون سلفًا ورهنًا ــ كما يأتي عن الحنفية، وهو المعنى المعقول المعروف بين الناس كما سيأتي ــ فلا إشكال؛ لأن الرهن غير مضمون.
وإن كان يرى أن المبيع يكون في ضمان المشتري، فلعله يقول: إن قاعدة الخراج بالضمان قد عارضتها قاعدة سدّ الذرائع، وقاعدة العقوبة بنقيض القصد.
فإن قيل: ولماذا تختص العقوبة بالمشتري مع أنهما جميعًا شريكان في الإثم؟
قلت: يمكن أن يقال: إن الغالب على البائع أن يكون محتاجًا. على أنه إذا جعل رهنًا ــ كما هو معنى هذه المعاملة في الحقيقة ــ فليس هناك عقوبة، بل هناك صورة عقوبة عليهما معًا، فعقوبة المشتري حرمانه من الغلة، وعقوبة البائع حرمانه من أن يكون المبيع في ضمان المشتري.
ونكون بهذا الحكم قد رجعناهما إلى ما شرعه الله لهما مما أرادا أن يفرا منه. والله المستعان.
وفي حاشية الدسوقي في النذر بعد قول المتن والشرح: ""(وإنما يلزم به) أي النذر (ما ندب)" ما لفظه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارةً قربة، وتارةً غيرها، فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة" (ج 2 ص 144).
هذا، وما تقدم عنهم من أن التبرع بالوعد بعد العقد لا يضر، ويستحب الوفاء به، شرطه عندهم أن يكون تبرعًا محضًا.
قال الباجي: "مسألة: وأما إن تطوع المبتاع بعد كمال العقد، وملكه للمبيع، فقال أصبغ: إذا سلما من مداهنة أو مواعدة فذلك جائز". "المنتقى"(ج 4 ص 211)
(1)
.
فأما إذا كان للمشتري عادة أن من باع له مثل هذا البيع يعده بالإقالة، فإن مالكًا نصَّ في ما يشبه هذا بأن العادة بمنزلة الشرط في صلب العقد. انظر
(1)
(6/ 131) ط. دار الكتب العلمية.
"المنتقى"(ج 5 ص 96 - 97).
وقاعدة "الخراج بالضمان" أصلها حديث صحَّحه جماعة، وضعَّفه البخاري وأبو داود؛ لأن في سنده مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، ومع ذلك ففيه أن مورده في الرد بالعيب أن رجلًا اشترى غلامًا، ثم بعد مدة اطلع فيه على عيب، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردّه، فقال المقضيُّ عليه: قد استعمله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الخراج بالضمان"
(1)
.
وقد تقرر في الأصول أن المحلى بـ "ال" لا يعم إلا إذا لم يتحقق عهد، والعهد ههنا متحقق، وعليه فالمراد: الخراج الذي تطالب به بالضمان الذي كان على المشتري.
نعم يقاس على هذا ما في معناه. والمشتري بالبيع الفاسد ليس في معناه؛ لأن الأول نشأ ضمانه عن وضع يده بحق مأذون فيه شرعًا، وليس الأمر في البيع الفاسد كذلك؛ لأن العقد فيه حرام، وتأخير بعضه حرام، وانتفاع المشتري فيه حرام. والله أعلم.
وأما غير مالك ممن قال بوجوب الوفاء بالوعد، فلا يجوز التمسك بقولهم حتى يعلم تفصيل مذهبهم، وسيأتي شيء من ذلك عن بعض متأخري الحنفية.
(1)
أخرجه أبو داود (3510) والترمذي (1286) وابن ماجه (2243) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال أبو داود: هذا إسناد ليس بذاك، ونقل الترمذي عن البخاري تضعيفه. وصححه ابن حبان (1125، 1126 ــ موارد) والحاكم في "المستدرك"(2/ 15)، ووافقه الذهبي.
وأما قول صاحب القلائد: "للضرورة في الحاجة إلى الثمن .. "، فسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.
[ص 23] رأي الحنفية
في كتب الحنفية خبط شديد في هذه المعاملة، ويسمونها بيع الوفاء، فأكثرهم على أنه قرض ورهن، فالذي سُمّي ثمنًا قرض، والذي سُمّي مبيعًا رهن، وليس لمن يسمى مشتريًا شيء من المنافع والفوائد، وإنما هو رهن بكل معنى الرهن.
قال صاحب "جواهر الفتاوى" منهم: "وهو الصحيح".
وفي " [حاشية] الدر المختار"
(1)
: "قال السيد الإمام: قلت للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن، وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا وتُظهِره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليُبرِز نفسه، وليُقِمْ دليله" اهـ.
قلت
(2)
: وبه صُدِّر في "جامع الفصولين"، فقال رامزًا لفتاوى النسفي: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا، وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة
…
لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام" (ج 4 ص 274)
(3)
.
(1)
"حاشية ابن عابدين"(5/ 276).
(2)
القائل هو ابن عابدين.
(3)
"حاشية ابن عابدين"(5/ 276) ط. دار الفكر.
وقال جماعة منهم: هو بيع فاسد، وللبيع الفاسد عندهم أحكام؛ منها: أنه حرام، فيجب على كل منهما فسخه، فإن لم يبادرا إلى ذلك أجبرهما القاضي، ومع ذلك يقولون: إذا قبض المشتري المبيع برضا البائع ملكه ملكًا خبيثًا حرامًا، فلا يحل له أكله ولا لبسه، ولا وطؤها إذا كانت أمة، وله أن يبيعه، أو يهبه، أو يعتقه، أو يَقِفَه، وغير ذلك من التصرفات، فإن تلف المبيع أو تعذر رده (وتفصيل ذلك في كتبهم) ضمنه المشتري للبائع بقيمته يوم قبضه، وإذا لم يتلف ولم يتعذر رده وجب رده للبائع مع زوائده المنفصلة كالولد، ومثله الثمرة ونحوها.
فإن أتلف المشتري المبيع ضمنه، وردَّ الزوائد المنفصلة، وإن أتلفها ضمنها. وبقية التفصيل في كتبهم.
وفي كتبهم أقوال أخر، في بعضها: أنه بيع باتٌّ، ولا رجوع للمشتري، وفي بعضها: أنه يصح، ويملك المشتري الانتفاع بالمبيع، ولا يملك التصرف في رقبته، بل متى طلب المشتري الفسخ فسخ، ثم قيل: إنه ينقطع ذلك بالموت، وقيل: لا ينقطع.
ولكن هذه الأقوال صُرِّح في بعضها بأنها خاصة بما إذا كان عقد البيع سالمًا عن الشرط، وإنما تواطآ على ذلك، أو وقع الوعد بعد العقد.
وبالجملة فالخبط شديد، وتحرير المسألة على أصول مذهبهم: أن الشرط إذا وقع في صلب العقد، ومنه أن يقال: بيع وفاء أو عهدة، وقد علما معناه، ففيه احتمالان:
الأول: أن ينظر إلى المعنى، فيجعل رهنًا، وهذا هو الذي عليه أكثرهم، وبه يصدرون في كتبهم، قال في "البزازية": "ذكر صاحب المنظومة في
فتاواه أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن ما أكل من نزله، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، ويسترد عند قضاء الدين؛ لأن الاعتبار بأغراض المتعاقدين، فإن البائع يقول: رهنتُ ملكي، والمشتري يقول: ارتهنتُ ملكه
…
". هامش "الهندية" (ج 4 ص 443)
(1)
.
الاحتمال الثاني: أن ينظر إلى لفظ "ب ي ع" فيقال: هو بيع بشرط، ومن المقرر في مذهبهم أن البيع إذا وقع بشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يجْرِ العرف العام به، ولا ورد الشرع بجوازه، فالبيع فاسد. ومثَّلوا له بشرط المشتري للثوب أن يفصله البائع أو يخيطه، وشرط بائع العبد أن يبقى على خدمته شهرًا، أو أن لا يخرجه المشتري عن ملكه، ونحو ذلك.
أقول: والاحتمال الأول هو الظاهر، فإن سلفهم قالوا: إذا وقع البيع بشرط، وظاهر ذلك أن يكون البيع موجودًا حقيقةً، لفظًا ومعنًى، وإنما وقع شرط لا يلائمه، ولكنه لا يُبطِل حقيقته، ويُدخِله في حقيقة أخرى، وأمثلتهم تبين ذلك.
وبيع الوفاء ليس من هذا، فإنه وإن وجد فيه البيع لفظًا، فليس بموجود حقيقةً ولا معنًى؛ لأن الشرط الذي فيه قد أخرج البيع عن حقيقته، وألحقه بحقيقة الرهن مع شرط انتفاع المرتهن به.
[ص 24] وأما إذا كانا تواطآ على هذا [المعنى] ثم تبايعا ولم يذكرا في العقد شرطًا، فملخص مذ [هبهم] في المواطأة المتقدمة للعقد أنه إذا اتفق
(1)
(4/ 405) طبعة دار الفكر.
المتعاقدان أنهما بنيا العقد على ما تواطآ عليه كان ذلك في حكم وقوع الشرط في صلب العقد، وإن اتفقا على أنهما أعرضا عما كانا قد تواطآ عليه قبل أن يعقدا، وعقدا بعد الإعراض فلا أثر للمواطأة، وإن قالا: لم تحضرنا نيةٌ حالَ العقد، لا على بنائه على المواطأة، ولا على عدم ذلك، ففيه خلاف.
فنُقِل عن الإمام: أنه لا أثر للمواطأة. وقال صاحباه: بل لها أثرها حتى يتحقق الإعراض عنها، وكذا إذا اختلفا، فقال أحدهما: أعرضنا عن المواطأة، ولا بينة، أو قال: لم تحضرني نية. وخالفه الآخر فيهما. فعلى المنقول عن الإمام أن القول قول مدعي الإعراض أو الذهول. وقال صاحباه: قد ثبتت المواطأة، فلا يزول حكمها إلا ببيان واضح، والمرجح عند الحنفية هنا هو قول الصاحبين. وإذا لم تكن هناك مواطأة ولا شرط في صلب العقد، ولكن كانت نيتهما حالَ العقد أنه على ذلك الشرط، أفتى بعض الحنفية بأنه لا التفات إلى النية إذ لا مواطأة ولا شرط، وخالفه آخرون.
وإذا لم يكن شيء مما ذكر، ولكن وقع الشرط بعد العقد، ففي هذه أيضًا خلاف، فعن الإمام: أنه يلتحق بالعقد، كأنه وقع في صلبه، وعن الصاحبين: لا يلتحق. وقول الصاحبين هو الأصح عندهم.
أقول: والمعقول أن شرط العهدة والوفاء حيث حكم بأنه مؤثر في العقد، كان حكمه كما لو وقع في صلب العقد، وقد تقدم حكمه. وإن حكم بأنه غير مؤثر في العقد، فالشرط لاغٍ لا حكم له البتةَ.
ولكن قال بعضهم: إن ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ولزم الوفاء، وقد يلزم الوعد فيجعل هنا لازمًا لحاجة الناس إليه.
أقول: أما الحاجة فسيأتي البحث عنها، وأما لزوم الوعد فيحتاج إلى معرفة ضابط الوعد الذي يلزم عندهم، حتى ينظر: أيدخل هذا فيه أم لا؟
قال في " [حاشية] الدر المختار": "قال في "البزازية" في أول كتاب الكفالة: إذا كفل معلّقًا، بأن قال: إن لم يؤدِّ فلان فأنا أدفعه إليك ونحوه، يكون كفالة لما علم أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة، فإن قوله: "أنا أحج" لا يلزم به شيء، ولو علَّق وقال: إن دخلت الدار فأنا أحج، يلزم الحج"(ج 4 ص 275)
(1)
.
أقول: ظاهر استدلاله بمسألة الحج أن قوله: "المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة" ليست قاعدة مقررة في المذهب، وإنما أراد أن يستنبطها من هذه المسألة.
إذا اتضح هذا ففي "البزازية" من كتبهم في باب النذر: "إن عُوفيتُ صمتُ كذا، لم يجب ما لم يقل: لله عليّ. وفي الاستحسان يجب، وإن لم يكن تعليقًا لا يجب قياسًا واستحسانًا، كما إذا قال: أنا أحج فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج. وإن سلم ولدي أصوم ما عشت، فهذا وعد". هامش "الهندية"(ج 4 ص 314)
(2)
.
ونقله في "الدر المختار" في باب النذر أيضًا (ج 3 ص 76)
(3)
.
[ص 25] وتحقيق المقام عندهم لا يكون إلا بالنذر والدالّ عليه، كما نقله
(1)
حاشية ابن عابدين (5/ 277) ط. دار الفكر.
(2)
(4/ 272) ط. دار الفكر.
(3)
حاشية ابن عابدين (3/ 740) ط. دار الفكر.
في "الدر"
(1)
عن "شرح الدرر" أن المدار عندهم على دلالة الصيغة على النذر، فإذا لم تكن دالة عليه فلا لزوم، وإن دلت عليه دلالة ظاهرة لزم، وإن احتملت فالقياس لا يلزم، وفي الاستحسان يلزم.
فقوله: "إن عوفيتُ صمتُ" يحتمل أن يكون إخبارًا منه بأن سيصوم إذا عوفي، فيكون وعدًا لا يجب الوفاء به. ويحتمل أن يكون إنشاء على سبيل النذر، فيجب الوفاء به، فقالوا: القياس لا يلزمه، كأنه لأن الأصل براءة الذمة، وألزموه استحسانًا لقوة الاحتمال.
وقوله: "إن سلم ولدي أصوم ما عشتُ، فهذا وعد" لأنه رفع الفعل، وهو قوله:"أصوم" فكان ظاهرًا في الإخبار، فهو وعد لا يلزم، ومثله لو لم يكن تعليق، كأن قال: سأصوم يومًا.
فأما قوله: "كما إذا قال: أنا أحج، فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج".
فواضح أن قوله ابتداء: أنا أحج، إخبارٌ محضٌ، فهو وعدٌ لا محالةَ، وقوله: إن فعلت كذا فأنا أحج، ظاهرٌ في النذر.
فليس المدار على صورة التعليق، وإنما المدار على ظهور الصيغة في النذر فيلزم، أو احتمالها له احتمالًا مساويًا، فلا يلزم قياسًا، ويلزم استحسانًا.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الصيغة التي يطلقها المشتري بعد العقد لا تلزم على مذهبهم أصلًا؛ لأنها إن كانت ظاهرةً في الوعد فقد علمت أن ذلك لا يلزم في مذهبهم، وإن وجدت صورة التعليق، وإن كانت محتملة أو ظاهرة
(1)
حاشية ابن عابدين (3/ 740).
في النذر أو نذرًا صريحًا، فلا تلزم على مذهبهم أيضًا؛ لأن من أصلهم أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان عبادة مقصودةً من جنسه فرض بأصل الشرع.
وفي "الدر" عن "البدائع": "ومن شروطه أن يكون قربةً مقصودةً، فلا يصح النذر بعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والوضوء، والاغتسال، ودخول المسجد، ومس المصحف، والأذان، وبناء الرباطات والمساجد". "الدر المختار"(ج 3 ص 73)
(1)
.
وفي "تنوير الأبصار"
(2)
: "ولم يلزم ما ليس من جنسه فرض، كعيادة مريض، وتشييع جنازة، ودخول مسجد".
إذا علمت هذا فكلا الشرطين منتفٍ في رد المبيع بيعًا صحيحًا [باتًّا] على المشتري؛ إذ ليس قربةً مقصودةً، والدين جنسه قرض.
وفوق هذا فهو ذريعة إلى الربا كما لا يخفى، فقد يطمع الرجل في أن يرتهن أموال الناس وينتفع بها، فيجري عادته على أن كل من أجري معه صورة بيع بلا مواطأة ولا شرط، والثمن أقل من ثمن المثل، ينذر له بأن يقبله إذا طلب صاحب المال على أن يجري مع هذا الرجل صورة بيع بلا مواطأة ولا شرطٍ ثقةً بأنه سينذر له، علمًا بأنه لا يسعه إلا النذر؛ لأنه إن لم ينذر تسامع الناس بذلك فامتنعوا من معاملته، فتفوته منافع كثيرة.
فعلى هذا يكون هذا النذر وصلةً إلى الربا، ويصير الشرط واقعًا في العرف والعادة، فهو في معنى الواقع في صلب العقد.
(1)
"حاشية ابن عابدين"(3/ 735).
(2)
(3/ 736) مع "الدر المختار" وحاشيته.
وأما مسألة الكفالة: إن صحت فوجهها أن العبارة المذكورة صارت بسبب التعليق محتملةً احتمالًا قويًّا للالتزام، والالتزام الذي يكون معناه كفالة يلزم كلزوم الكفالة، وأما التزام الإقالة فإنما يكون من جهة النذر، وقد علمتَ ما فيه. والله أعلم.
[ص 26] وقد توسع بعض الحنفية فأطلق أن الواقع بعد العقد يكون حكمه حكم الوعد، وإن كان خارجًا مخرج الشرط.
وفي كلام بعضهم ما قد يفهم منه أن المواطأة قبل العقد تعطي هذا الحكم، وقد يؤخذ من إطلاق بعضهم أنه يحكم بمثل ذلك ولو كان الشرط في صلب العقد.
وعلى كل حال فقد صرح بعضهم أن تجويز بيع الوفاء ممن جوزه في أي صورة كانت إنما هو استحسان من المتأخرين.
قال في "البزازية" في أثناء [البحث] في هذا البيع: "ولهذا لم يصح بيع الوفاء في المنقول، وصح في العقار باستحسان بعض المتأخرين". "هامش الهندية"(ج 4 ص 447)
(1)
.
أقول: واستحسان بعض المتأخرين إنما هو مبني على زعم أن الحاجة داعية إليه، وأوضح ذلك في "البزازية" نقلًا عن الفخر الزاهد قال:"وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلْخ اعتادوا الدين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وبخارى الإجارة الطويلة، ولا يمكن تلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاءً، وما ضاق على الناس اتسع حكمه". "هامش
(1)
(4/ 490) ط. بولاق.
الهندية" (ج 4 ص 446)
(1)
.
أقول: فقد آل خلاف هؤلاء المتأخرين من الحنفية إلى ما آل إليه خلاف المتأخرين من الحضارمة الشافعية، وهو دعوى احتياج الناس واضطرارهم إلى هذه المعاملة الربوية، فلنبحث عن هذه الضرورة، وعن حكمها.
فصل
أما الضرورة التي تحلُّ معها المحرَّمات، فليس منها عين ولا أثر، وإنما هوَّل بها هؤلاء القوم تهويلًا، فإن الرجل الذي يرضى أن يأخذ العقار بهذه المعاملة بألف مثلًا، فيكون على خطر أن يستردَّها بائعها بعد قليل، مع تعريضه نفسه للإثم، لا يُعقل أن يمتنع من شرائها بأكثر من ألفٍ شراءً باتًّا يعلم معه أن الأرض تصير ملكه وملك ورثته قطعًا، وأنه مع ذلك لم يرتكب حرامًا ولا شبهةً.
وما هوَّل به صاحب "القلائد" من أن المالك لا يجد راغبًا في الأرض إلا بغبنٍ كثيرٍ، فيه أمور:
الأول: أن الضرورة المعتبرة شرعًا ــ كالضرورة إلى القوت ــ مفقودةٌ في البلاد التي يتعاملون فيها بهذه المعاملة أو نادرةٌ، والنادر لا يكون مسوغًا لحكم عام.
الأمر الثاني: أن هذا الذي ادَّعاه من قلة الرغبة غير معروف في العادة، فإن عادة الناس في كل أرض هي الحرص على شراء العقار بثمن المثل وأزيد.
(1)
(4/ 408).
نعم إن ثمن المثل يزيد وينقص، فقوله:"بغبن كثير" إن أراد بالنسبة إلى ثمن المثل في الزمان والمكان فمردود، فإن وقع فنادرًا، والنادر لا يكون مسوِّغًا لحكم عامّ، وإن أراد بالنسبة إلى ما يطلب البائع من الثمن، فلا التفات إلى ذلك.
الأمر الثالث: أنه على فرض أن ما قلنا: إنه نادر هو واقع بكثرة، فمن أين لكم أن من اضطر إلى القوت ولم يقرضه أحد، وعنده قطعة أرض ثمنها ألف، فعرضَها فلم يرغب فيها أحد إلا بخمسمائة، أنه يكون مضطرًّا تحلُّ له المحرمات، ولا يبيع أرضه بخمسمائة؟ وأين في الشريعة هذا؟
الأمر الرابع: أنه لو فرضنا أن هناك حجةً شرعية على هذا، لما كان ذلك مسوِّغًا لأن تجعلوا هذا حكمًا عامًّا للمضطر إلى القوت وغيره، ولمن لا يجد راغبًا إلا بغبن فاحش، ومن يجد راغبًا بثمن المثل وأكثر منه، بل يُناط الحكم بتحقق هذا المعنى، أعني الاضطرار مع عدم وجود راغب [ص 27] إلا بغبن فاحش، فيرخص لمن كان كذلك فقط.
الأمر الخامس: أن الرخصة ــ على فرض جواز القول بها ــ إنما تتصور في حق المالك، فما بالكم رخَّصتم للمشترين، ونفَّذ حُكَّامكم لهم هذه المعاملة؟
فإن قالوا: لو لم تُنفِّذ لهم الحكام ذلك امتنعوا عن المعاملة به، فيتضرر المضطرون.
قلت: فقد كان عليكم أن تعلنوا بحرمة ذلك، وإثم الآخذ به، وإنكم مع ذلك لا تُبطِلون المعاملة إذا تحقق اضطرار البائع.
فإن قالوا: إذا أعلنَّا بحرمته خشينا أن يمتنع الناس عنه، فيتضرر المضطرون.
قلت: يمكنكم دفعه بكثرة الترغيب في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن، فإن الناس إذا كان عندهم من الإيمان ما يَكُفُّهم عن الحرام الذي لا يعارضهم فيه الحكام، فمثل هذا الإيمان يكفي للرغبة في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن إذا بالغ المشهورون بالعلم والصلاح في الترغيب فيه.
وقد قال صاحب "القلائد"
(1)
ما لفظه: "فلو شرط (يعني المشتري بالعهدة) أنه لا يفكُّ إلا بعد سنتين، أو أقل أو أكثر
…
وقد عمل به بعض وكلاء شيخنا إمام الوجود عبد الله بن عبد الرحمن بافَضْل في شراء عُهدةٍ له، وهو عالم بذلك، فقرره، وأنا ممن شهد ذلك".
هكذا هكذا وإلا فلا لا
(2)
إذا كان ربُّ الدارِ بالدفِّ ضاربًا
…
فحُقَّ لأهل الدارِ كلِّهم الرقصُ
(3)
وأما ما قاله الفخر الزاهد الحنفي: "إن أهل بلخ اعتادوا الدَّين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، ولا تصحُّ في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء".
ففيه أن هذا لا يكفي لتحقيق الضرورة، فإن من اعتاد أن يعامل معاملة،
(1)
"قلائد الخرائد"(1/ 317 - 318).
(2)
شطر بيت للمتنبي في "ديوانه"(3/ 254)، وصدره:
ذِي المعالي فلْيَعْلُوَنْ مَن تَعالَى
(3)
البيت لسبط ابن التعاويذي في "ديوانه"(ص 247).
ثم لم تمكنه تلك المعاملة في بعض الأشياء لا يُعدُّ مضطرًّا.
ولو فُرِض تحقق الضرورة، فكان ينبغي تجويز الإجارة التي اضطروا إليها، وفوق ذلك فهذه الضرورة ليست بعامة، فما بالكم عمَّمتم جواز بيع الوفاء في جميع الأشخاص وجميع البلدان.
وبعد، فلو جاز الربا لمثل هذه المعاذير، لزم مثله في سائر أحكام الشريعة.
فقال قائل: لا بدَّ من تجويز الربا في القرض والدين؛ لاحتياج الناس إلى الاستقراض والمهلة في الدين، ولا يجدون من يُقرِضهم أو يُمهِلهم بدون فائدة.
وقال قائل: لا بدَّ للحكومات الإسلامية من تجويز البِغاء الرسمي؛ لأن الناس لا ينتهون عن الزنا، فإذا لم يكن هناك بغاء رسمي اضطروا إلى إفساد البيوت، والزنا بالمبتليات بالأمراض الخبيثة، وكذا الحمل من الزنا، وضياع الأطفال، أو قتلهم، ومفاسدُ ذلك أعظم جدًّا من مفاسد البغاء الرسمي.
وقال ثالث: بجواز ترك الصيام؛ لأنه يؤدي إلى خلل في الأعمال التجارية والصناعية والحكومية، والخلل في هذه الأعمال في هذا العصر مفسدة عظيمة.
وقال آخر: وعلى هذا القياس يجوز ترك الجُمَع والجماعات، وتأخير الصلوات عن أوقاتها.
وقال آخر: فالحج أولى من ذلك.
وعلى هذا المنوال
…
الحاجة
يقولون: إننا وإن عبَّرنا بالضرورة، فلسنا نريد الضرورة المتعارفة، وإنما أردنا الحاجة.
وقد عُهِد من الشريعة استثناءُ صورٍ من التحريم مع وجود علة التحريم فيها، ولكن لأن الحاجة تدعو إليها، وقد مثَّل العلماء لذلك بالقرض في الأموال الربوية، فإنه في المعنى بيع الربوي بمثله نسيئةً، وكذلك السلم مع أنه بيع مجهول، وكذلك الحوالة مع أنها بيع دينٍ بدين، في أمور أخرى كالعرايا وغيرها، ولم يُشترط في شيء من ذلك تحقق ضرورة ولا حاجة، بل أطلق صحتها ولو كانت لغير حاجة، وعروض الحاجة إلى بيع العهدة لا تقلُّ عن الحاجة لبعض هذه المعاملات، إن لم تزد على بعضها.
[ص 28] الجواب
نقول نحن: أيَّ حاجة تريدون؟
يقولون هم: حاجة صاحب الأرض إلى النقد لقُوته وقوتِ أهله، أو ليتزوَّج، أو يزوِّج أحد بنيه، أو ليسافر سفرًا احتاج إليه، أو ليعمر بيته إذا انهدم، أو لغير ذلك.
نحن: وهل كان هذا الاحتياج يَعرِض لمُلَّاك العقارات في العهد النبوي وما بعده إلى أن اخترع هذا البيع؟
هم: نعم!
نحن: فما بال الشريعة لم تعلن بجواز بيع الوفاء لمُلَّاك العقارات؛ لسدّ هذه الحاجة، وهكذا الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ومن بعدهم،
حتى نشأ القول به أخيرًا؟
هم: كان مستغنًى عنه بإمكان الاستقراض، وبعد تلك القرون قَلّت رغبة الناس عن
(1)
الإقراض.
نحن: وإمكان البيع الشرعي!
هم: إمكان البيع الباتّ لمن يؤثره على الاستقراض، والاستقراض لمن لا يريد البيع الباتّ، إذا كان يرى البيع ضارًّا به.
نحن: وهل كان المستقرض يستقرض ويؤدي؟
هم: نعم.
نحن: فكيف كان يصنع إذا لم يمكنه الأداء إلا ببيع أرضه؟
هم: (يتحيرون).
نحن: أليس كان يضطر إلى بيعها، وإذا لم يبعها باعها القاضي جبرًا، كما قررته الشريعة، وأثبته العلماء في كتبهم في بيع الرهن، وبيع أموال المفلس، وعقدوا لكل من ذلك بابًا؟
هم: بلى، ولكن كان يقلُّ وقوع مثل هذا؛ لرغبة الناس في الإنظار.
نحن: إنما كانوا يرغبون في الإنظار الذي أمرهم الله تعالى به، لقوله سبحانه:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. ومالك العقار ليس بمُعْسِر، وقد باع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموال معاذ، ومعاذ معاذ.
هم: لم يكن يقع ذلك كثيرًا، وكان الراهن أو المفلس إذا ضايقه غرماؤه
(1)
كذا في الأصل، والصواب:"في".
ليبيع أرضه وجد في المسلمين من يُقرِضه ما يؤدي به دينه، ويُنظِره.
نحن: ولم يزل الناس إلى الآن يُقرِضون ويُنظِرون، وإنما قلَّ ذلك لأمور:
أولها: قلة الأمانة في المستقرض، فغالب الناس الآن إذا ظفر أحدهم بمن يُقرِضه عدَّ ذلك القرض غنيمة، فبدلَ أن يهتمَّ بقضائه يهتمُّ بمماطلته، وقد كان يقع مثل هذا قديمًا، ولذلك قيل في المثل القديم:"الأخذ سُرَّيْطَى والقضاء ضُرَّيْطَى"
(1)
.
ولكن وقوعه الآن ــ ولاسيما في المسلمين ــ أكثر، بل لا تكاد تجد ذلك إلا في المسلمين.
الثاني: أن الشريعة سدَّتْ أبوابَ الربا؛ لتيسير القرض، فكثير من الناس يكون لديه مال زائد عن حاجته في الحال، ولا يريد أن يتجر فيه، فإذا سُدَّت عليه أبوابُ الربا، لم يبق أمامه إلا أن يَكْنِزه أو يُقرِضه، والإقراض خير له وأنفع، كما قدَّمنا في فوائد المقرض.
فلما فتح قِصارُ النظر من الفقهاء أبواب الربا بالحيل والمعاذير، ومن جملة ذلك هذا البيع الذي نحن بصدده، عزَّتْ رغبةُ الناس في الإقراض، فكان ــ سابقًا ــ مَن بيده مالٌ لا يريد أن يتجر فيه محصورًا بين أن يكنزه أو يُقرِضه قرضًا شرعيًّا، وقد قدمنا الفوائد التي تحمله على ترجيح الإقراض.
(1)
انظر "لسان العرب" و"تاج العروس"(سرط)، وفي ضبطه أوجه. والمعنى: يأخذ الدَّين ويبتلعه، فإذا طولب للقضاء أو تقاضاه صاحبه أضرطَ به، أي عمل بفيه مثل الضراط.
فلما فُتِح لهم باب الربا وجدوا طريقًا ثالثًا هو أنفع لهم في دنياهم من الإقراض الشرعي.
[ص 29] الثالث: أن المسلمين فتحت لهم أبواب كثيرة للإنفاق، وأكثرها مما شرعه المنسوبون إلى العلم والصلاح، وأفهموا العامة بأنه من الدين والإيمان، ولم يزالوا يُربُّون ذلك في أذهان العامة حتى رسخ في أذهانهم أنه أهم من أركان الإسلام، وذلك كالموالد والحضرات وزيارات الأولياء وأحوالهم، وعمارة قبورهم، والنذور لها، والولائم التي يقيمها أهل الميت ثالثَ موتِه، ولتمام الأربعين، وبعضهم يكررها كل عام، والإنفاق على من ينتسب إلى الصلاح والتصوف، وإن كان قويًّا قادرًا على الاكتساب، ومُسرِفًا مبذِّرًا، يجمع حوله جماعةً من البطَّالين، ويعيشون معه عِيْشَةَ المترفهين، ونفقتهم على العمَّال الضعفاء.
ولو أنك أحصيتَ نفقةَ المسلم المتوسط في الهند لعشر سنوات مثلًا، لوجدتَ نصفَها أو أكثرَ صُرِفَتْ في هذه المصارف.
ويضاف إلى هذا تبذير المسلمين في غير هذه الأمور، كولائم النكاح، والتوسع في المأكل والملبس فوق الحاجة، وغير ذلك.
فأصبح الطبقة الوسطى من المسلمين إذا استقرض أحدهم لا يكاد يستطيع الوفاء؛ لأن ما اكتسبه يَصرِفه في هذه (الفرائض المحتمة)، والأغنياء يعرفون ذلك، فيمتنعون من إقراض هؤلاء.
الرابع: أن أولئك العلماء الذين أجازوا بيع العهدة هم أنفسهم يبخلون بأموالهم أن يُقرِضوها بغير نفع مادي، فإذا رآهم العامة قالوا: نحن أولى بذلك منهم.
وقد سمعتَ ما ذكره صاحب "القلائد" عن شيخه إمام الوجود، قد بَخِلَ إمام الوجود أن يُقرِض ذلك المحتاج قرضًا حسنًا، ويستوثق منه برهن أرضه رهنًا شرعيًّا، بل أخذها بالعهدة؛ ليفوز إمام الوجود بغلَّتها، ولم يكتفِ بذلك حتى شرط على الراهن أن لا يَفُكَّ الأرض حتى يحوزَ إمام الوجود غلَّتَها، لا أدري سنةً أو أكثر!
فقل لي بربك، إذا كان هذا حال إمام الوجود، فكيف يرغب العامة الذين علموا هذا منه أن يعملوا خيرًا من عمله؟
فأما السبب الأول: فهو تقصيرٌ من المستقرضين يستطيعون تركه، وإذا اعتاد الرجل صفة قبيحة مذمومة شرعًا وعقلًا، فأثمرت له ضررًا ما، فليس من المشروع ولا المعقول أن تُبدَّل الشريعة وتُغيَّر لدفع الضرر عن هذا الرجل، فيحمله ذلك على الاستمرار على تلك العادة، ويحمل غيره على اعتيادها أيضًا.
بل المشروع والمعقول أن العلماء إذا لم يبالغوا في التشديد عليه، فلا أقلَّ من أن يُقِرُّوا الشريعة على ما وردت، ويقولوا لهذا الرجل: أنت جلبتَ الضرر على نفسك بما اعتدته من تلك العادة الخبيثة.
ومن المُشاهَد المعروف في كل بلاد: أن الرجل إذا عُرِف بالأمانة، وأداء ديون الناس، والحرص على ذلك، لم يكد يستقرض قرضًا حسنًا إلا ناله، وفي المثل العامي:"من أخذ وأدَّى شارك الناسَ في أموالهم".
وأما الأسباب الأخرى: فهي كلها تقصير من العلماء وغيرهم، يستطيع العلماء السعي في إزالتها، فليس من المشروع ولا المعقول أن يُقِرُّوها على ما هي عليه، ويَدَعُوها تنمو وتفحش، ثم يَعْمِدوا إلى الشريعة فيبدِّلوها