المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوصفي الكتاب والسنة - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٨

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوصفي الكتاب والسنة

[ق 12]

‌ الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوص

في الكتاب والسنة

قد علمتَ دلالة القرآن على تفسير الربا الذي فيه، وأنه على طِبق اللغة، حتى على القول بأن الربا لغةً هو مطلق الزيادة؛ إذ غاية ما هناك أن القرآن حفَّه بقرائن تخص الربا المحرم من مطلق «الربا» بمعنى مطلق الزيادة، وذلك لا يخرجه عن الحقيقة اللغوية. وعلى كل حال فقد تبيَّن بالقرآن نفسه معنى الربا فيه، وذلك المعنى يصدق بالزيادة المشروطة في القرض كما لا يخفى. وعلى هذا فهي ربًا بنص القرآن.

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 37 - 39].

اختلف الناس في تفسير الربا في هذه الآية، فجاء عن ابن عباس وجماعة من التابعين وغيرهم تفسيره بالهدية طمعًا في عوضٍ أكثرَ منها

(1)

، وعن جماعة تفسيره بإعطاء الرجل قريبَه لغير وجه الله

(2)

، وعن الحسن

(1)

انظر «تفسير الطبري» (18/ 503 - 505).

(2)

المصدر نفسه (18/ 506).

ص: 407

والسدي ــ واختاره الجبائي كما في «روح المعاني»

(1)

ــ أنه الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرَّمها الشارع.

ومن حجة القولين الأولين أن السياق في الإنفاق، فكأنه قسَّم الإنفاق بغير عوض إلى قسمين: قسمٍ يُراد به وجه الله، وقسمٍ بخلافه. وسمَّى الثاني (ربا) تشنيعًا له، وسمَّى الأول (زكاة) ترغيبًا فيه.

وحجة أخرى، وهو أنه قال:{فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} . ولو كان المراد الربا الحرام لكان المناسب فيما يظهر أن يصرِّح بما فيه زجر ووعيد.

ومن حجة القول الثالث: أن المتبادر من الربا هو الربا الحرام، سواءٌ أقلنا إنه حقيقة لغوية أم لا. ويكفي في تبادره أن هذا اللفظ إنما ذكر في القرآن في الربا الحرام، فالأولى إلحاقه في هذا الموضع بسائر المواضع.

وجوابهم عن الحجة الأولى بأن آيات البقرة في الربا الحرام قطعًا، والسياق سياق الإنفاق. وقد تقدمت الآيات وقد تقدم وجه ذلك، وذكرنا نحوه عن الراغب.

ومثل ذلك قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 130 - 134].

(1)

(21/ 45). وانظر «تفسير القرطبي» (14/ 37).

ص: 408

وعن الثانية بأن الآية من سورة الروم وهي مكية، وتحريم الربا والتشديد فيه إنما كان بالمدينة، فسبيل الربا سبيل الخمر في وقوع تحريمه على التدريج، فاقتُصِر أولًا على قوله:{فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} ، ثم نزلت عقب غزوة أحد قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، ثم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين بعض ما يتعلق بالربا على حسب ما يقتضيه الحال. ثم نزلت آيات البقرة.

وفي «البخاري»

(1)

وغيره عن ابن عباس أنها آخر آية أُنزلت. وروي كما في «الفتح»

(2)

أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يَعِشْ بعدها إلا إحدى وعشرين، وقيل: تسع ليال، وقيل: سبعًا.

وفي «البخاري»

(3)

وغيره من حديث عائشة: «لمَّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، ثم حرَّم التجارة في الخمر» . وثَمَّ ما يدل على أن تحريم التجارة في الخمر قد كان قبل ذلك، فكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أعاده عند نزول آية الربا تنبيهًا على المشابهة بينهما. والله أعلم.

على أنه إن كان الربا في اللغة يشمل الزيادة [ق 13] الملتمسة بالهدية، فالأولى أن يقال: إن الربا في آية الروم يعمُّ النوعين. وارجعْ إلى ما تقدَّم في عبارة «اللسان» .

(1)

رقم (4544).

(2)

(8/ 205).

(3)

رقم (4540).

ص: 409

أما ظهور الآية في الزيادة المشروطة في القرض فهذا بيانه:

قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} ظاهر في أن رأس المال فيه الربا من حين إيتائه، أي إعطائه، فلا يكون الربا هنا هو أن يكون للرجل على آخر دينٌ من وجه حق إلى أجل، فإذا حال الأجل مدَّ له فيه على أن يزيده على رأس المال. فإنه على هذا لم يكن رأسُ المال ربًا حين إعطائه، فتدبر.

وقوله تعالى: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} ظاهر في أن المال المعطى نفسه يبقى في مال الآخذ، وهذا لا يصدق على إهداء ثوب على طمع أن يكافأ عليه بأكثر من ثمنه. فأما دينار بدينارين إلى أجل، فالدينار المأخوذ كأنه باقٍ في مال الآخر يربو فيه حتى يصير دينارين.

وقال الله عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161].

وفي التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن: «لا تُقرِضْ أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يُقرَض بربا. للأجنبي تُقرِض [بربا]

(1)

، ولكن لأخيك لا تُقرِض بربا» (سفر التثنية، الإصحاح 23، الفقرة 19

(2)

- 20). وفيها مواضع أخرى مصرحة بأن الربا في القرض، وأن اليهود عصوا وأخذوه من إخوتهم وغيرهم. انظر «دائرة المعارف» للبستاني

(3)

تحت

(1)

زيادة من «العهد القديم» .

(2)

في الأصل: «16 - » سبق قلم.

(3)

(8/ 513).

ص: 410

كلمة «ربا» .

وهذا وإن لم يكن حجة لعدم الوثوق بالتوراة التي بأيديهم، ففيه تقوية لِمَا تقدَّم. نبَّهني عليه الفاضل نور محمد أبو الفداء الفاروقي رحمه الله.

وأما السنة، فأولًا: الأحاديث المطلقة في ذم الربا. وثانيًا: الأحاديث التي فيها «الذهب بالذهب» «الدينار بالدينار» ونحوها بدون ذكر بيع. ومنها حديث أبي هريرة

(1)

مرفوعًا: «الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى» (صحيح مسلم ج 5 ص 45). وحديثه

(2)

مرفوعًا: «الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» .

وشرَّاح الحديث يحملون ذلك على البيع، ولا أرى له وجهًا صحيحًا، ولاسيما في الحديث الثاني، فإن قرض الدينار ليُقضى بدينار لا فضل بينهما أمر معروف مألوف، بخلاف بيع دينار بدينار لا فضل بينهما، فتدبَّر.

ثم رأيت الباجي قد نبَّه في «شرح الموطأ» على ما ظهر لي، قال: «وقوله: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، يقتضي ثلاثة أشياء: المبايعة والمبادلة والقضاء

فأما القضاء فقد يكون قضاءً عن سلف وقضاءً عن غير سلف

» (المنتقى ج 4 ص 260).

ويمكن أن يُعترض على هذا بأن المستقرض إذا زاد عند الأداء عن طيب نفس لم يكن ذلك ربًا، بل هو مستحب لحديث: «خياركم أحسنكم

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم (1588/ 85).

ص: 411

قضاءً»

(1)

وغيره.

والجواب: أن قوله «فمن زاد» عام، والمستقرض الزائد عند الأداء عن طيب نفس خاص، فيُحمل العام على الخاص، ويبقى العام حجةً في الباقي. وسيأتي الفرق بين هذه الزيادة حيث جازت وبين الزيادة في بيع الفضة بالفضة يدًا بيد حيث مُنِعت، وإن طابت النفس، فانتظر

(2)

.

[ملحق 1] ومن السنة أيضًا أحاديثُ النهي عن بيع الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ، وأنه من زاد أو ازداد فقد أربى، وهكذا الفضة والبُرّ والشعير والتمر والزبيب والملح. وهذا الدليل خاص بقرضها أو قرض ما في معناها بشرطِ زيادة، فإن قلنا بقول الحنفية: إن البيع لغةً وشرعًا هو تمليك المالِ بمالٍ بإيجابٍ وقبول عن تراضٍ منهما ــ كما حدَّه الجصَّاص في «أحكام القرآن»

(3)

ــ كانت دلالة هذه الأحاديث على أن القرض بشرطِ زيادةٍ ربًا بعموم اللفظ، وإذا قلنا: إن البيع لغةً وشرعًا أخصُّ مما قالوه، وإنه لا يتناول القرضَ ولو بشرطِ زيادة= كانت دلالة الأحاديث على ما ذكر من جهة المعنى، أعني أنها قياس من أعلى الأقيسة على ما يأتي تحريره إن شاء الله.

ووجه الدلالة أن القرض المطلق أي بلا شرط زيادةٍ إنما سلَخَه الشارع عن البيع؛ لأنه كما نقله صاحب الاستفتاء عن «إعلام الموقعين»

(4)

: «من

(1)

أخرجه البخاري (2393) ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة.

(2)

كتب المؤلف بعدها: (ملحق طويل ص 333). وهو الكلام الآتي من مكان آخر.

(3)

(1/ 469).

(4)

(3/ 111).

ص: 412

جنس التبرع بالمنافع كالعارية

لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات أن يُعطِي كلٌّ منهما أصلَ المال على وجهٍ لا يعود إليه، وباب القرض من جنس العارية والمِنْحة وإفقارِ الظَّهر، مما يُعطَى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه، ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلّا فنظيره».

ونقل المستفتي عباراتٍ عن كتب الحنفية في التفرقة بين البيع والقرض، حاصلُها: أن البيع مبادلةُ مالٍ بمالٍ بالتراضي ليس فيها معنى التبرع، وقال بعضهم: لا على وجه التبرع. والبيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوبٍ فيه. وأما القرض فإعارةٌ، حتى يصح بلفظ «أعرتُكَ» ، وتبرُّعٌ حكمًا، وإن كان مبادلةً صورةً، وهو اصطناع معروفٍ وصلة. ثم منهم من قال: هو تبرعٌ ابتداءً مبادلةٌ انتهاءً. ومنهم من قال: تبرعٌ ابتداءً وانتهاءً؛ لأن بدله كأنه عين المقبوض، ولولا ذلك لكان ربًا.

وزاد صاحب الاستفتاء قوله: «والحق أن المبادلة في البيع ركنٌ، وفي القرضِ ليس بركنٍ، نعم يستلزمه، وفرقٌ ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع هو الثمن، وغرضُ كلٍّ منهما إخراجُ ما في ملكه وتحصيلُ عوضه، والأحكام تترتب على الالتزام لا على اللزوم» .

أقول: إذا أُعطي الرجل باسم القرض خمسة آصُعٍ تمرًا رديئًا، وشرط أن يردَّ له خمسة آصُعٍ تمرًا جيدًا مثلًا، كانت هذه مبادلة مالٍ بمالٍ بالتراضي لا على وجه التبرع، لأن حقيقة التبرع هو إعطاء الشيء مجَّانًا بلا عوضٍ.

[ص 2] فإن قلت: إن الهبة تبرع، ومع ذلك فقد قال الحنفية بأن الهبة المطلقة يكون لصاحبها الرجوعُ فيها إلّا في صور، منها: أن يعطيه الموهوب

ص: 413

له عِوضَها.

قلت: قد صرَّحوا بأنه ليس بعوض حقيقةً، وإنما هو هبة مبتدأة، ويدلك على أن الهبة مع ذلك لم تصِرْ معاوضة سقوط حق الرجوع بنحو تصرف الموهوب له في الهبة.

وفي «تنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار»

(1)

في ذكر عوض الهبة المطلقة: «(ويُشترط فيه شرائط الهبة) كقبضٍ وإفراز وعدم شيوع ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا» .

قال في حاشية «قرة عيون الأخيار»

(2)

: «وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل للربا، يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكه لغيره، وإنما عوضه ليسقط حقُّه في الرجوع. وأيضًا فإنه لما كان العوض تمليكًا جديدًا، وفيه معنى الهبة المبتدأ، ولذا شرط فيه شرائطها، فيجوز بأقل من الموهوب ولو من جنسه، لا فرقَ بين الأموال الربوية وغيرها، ولو كان عوضًا من كلِّ وجه لامتنع في الأموال الربوية إلَّا مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ عند اتحاد الجنس» (قرة عيون الأخيار ج 2 ص 438).

فإن قلت: فقد قالوا في الهبة بشرط العوض: إنها تبرعٌ ابتداءً.

قلت: خالف في ذلك زفر منهم والشافعية وغيرهم، فقالوا: إنها بيعٌ مطلقًا. واعترف قاضيخان في «فتاويه»

(3)

بأن القياس أنها بيع، والقول بأنها

(1)

(8/ 472، 473) بحاشية «قرة عيون الأخيار» .

(2)

(8/ 473) ط. دار الفكر ببيروت.

(3)

(3/ 279).

ص: 414

تبرعٌ ابتداءً استحسان فقط.

أقول: والاستحسان مختلفٌ في حجيته، وقد فُسِّر في الأصول عدةَ تفاسير يقوى على بعضها ويضعف أو يبطُل على بعضها. وكأنه ههنا هو ما يقع في نفس العالم من استشعارِ فرقٍ بين قولِ القائل: بعتُك هذا الثوبَ بعشرة دراهم، وقولِه: وهبتُك هذا الثوبَ على أن تعطيني عشرةَ دراهم.

وفيه أن هذا الاستشعار إنما هو من تخييلات الألفاظ، وأما المعنى فهو على البيع كما اعترضوا به، وفوق ذلك فالاستحسان مخالف للقياس، وما عُدِلَ به عن سَننِ القياس لا يُقاس عليه كما تقرر في الأصول، فلا يصح قياسُ القرض على الهبة.

على أن هناك فرقًا، وهو أن لفظ الهبة صريحٌ في التبرع، وليس لفظ القرض كذلك، وإنما نزل القرض المطلق منزلةَ التبرع لأنه في المعنى كالعارية، فأما القرض بشرطِ زيادةٍ فقد تضافر فيه اللفظ والمعنى على عدم التبرع.

ومع هذا فالذي ظهر لي من كتب الحنفية أنه لو قال: وهبتُ لك هذا الدرهم على أن تعطيني هذا الخاتم الفضّي ــ ووزنه أكثر من درهم أو أقل ــ لم يصحَّ ذلك؛ لأن هذه المعاملة وإن كانت عندهم تبرعًا ابتداءً فهي بيع انتهاءً.

وأما ما في «القرة»

(1)

عند الكلام على العوض المشروط: «في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه» .

(1)

(8/ 487).

ص: 415

فأرى أن قوله: «ولا ربا فيه» جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها بشرط أن يكون الجنس لا ربا فيه. أو ربما يكون هذا النقل في غير محلِّه، وتكون هذه المسألة في العوض الذي لم يُشرط على ما تقدم.

ومما يدل على بطلان الهبة بشرط عوضٍ أقلَّ وأكثرَ من جنسِها والجنس ربوي: إرشاده [ص 3]صلى الله عليه وسلم من أراد أن يُعطي آصُعًا من تمرٍ رديء بصاعٍ من تمرٍ جيد، إلى أن يبيع تمرَه بالدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. والحديث في «الصحيحين» وغيرهما

(1)

.

ولو كانت الهبة بشرط العوض مُسقِطة للربا لأرشده إليها؛ لأنها أيسرُ من أن يذهبَ فيلتمس من يشتري منه تمرَه بدراهم، ثم يذهب بدراهمه فيشتري بها تمرًا جيدًا.

هذا، وفي المثال السابق مبادلة مرغوب بمرغوب؛ لأن الطالب راغبٌ في التمر الحاضر لحاجته، والمعطي راغب في التمر المؤجّل لجودته.

وكذلك ما ذكروه من خصائص القرض لا يُوجَد شيء منها في المثال السابق، فليس بإعارة؛ لأن الإعارة كما في كتب الحنفية

(2)

«تمليك المنافع مجَّانًا» ، قالوا:«وشرطها قابلية المستعار للانتفاع، وخلوُّها عن شرط العوض لأنها تصير إجارة» . والإجارة من المعاوضات اتفاقًا، وصرَّح الحنفية بأنها بيعٌ للمنفعة، وأن الأجرة ثمنٌ للمنفعة، وأجازها بعضهم بلفظ البيع ومنعه آخرون [ص 4] بحجة أنه لا يصح بيع المجهول.

(1)

أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة.

(2)

انظر «الدر المختار» (8/ 382، 383) بحاشيته «قرة عيون الأخيار» .

ص: 416

ويُرَدُّ بأن عدم الصحة في بيع الأعيان لا يستلزم عدمَها في بيع المنافع، وليس في المثال المذكور تبرعٌ حكمًا، وإنما التبرع الحكمي إذا كان القرض في معنى الإعارة، بأن لم يشترط المقرِض إلَّا ردَّ مثلِ ما أعطى؛ لأنه حينئذٍ أباح للمستقرض أن ينتفع بالمال كما يُبيح المعير، ولم يشترط عليه إلّا ردَّ مثل ما أعطاه، كما لا يشترط المعير إلَّا ردَّ ما أعطى. غايته أنه لما تعذَّر أن ينتفع بالقرض مع بقاء العين اعتبر في الردّ مثلها، فأما في المثال المذكور فقد اشترط ردّ غير المثل، فبطلَ الشبَهُ بالعارية، ولا ضرورة إلى ذلك كالضرورة التي تدعو إلى جواز ردّ المثل، فقد بطل الشبهُ بالعارية وانتفى التبرع الحكمي، ورجعت المعاملة إلى المعاوضة والبيع.

وليس في المثال المذكور اصطناعُ معروفٍ ولا صلة، لأن المعروف والصلة ما كان تفضلاً بدون طلب عوضٍ من المعطي، وليس فيه تبرع أصلاً لا ابتداءً ولا انتهاءً، أما في الابتداء فلأنه ابتدأه بشرط أن يردّ أفضل مما أخذ، فأمِنَ التبرع، وقد أجبنا عن شبهة الهبة، وأما في الانتهاء فلأنه لا يمكن في المثال أن يقال: البدلُ كأنه عين المقبوض.

وقول المستفتي: «والحق أن المبادلة

إلخ» مسلَّم في العوض الشرعي، وهو ما لم يشترط فيه الزيادة.

والوجه في ذلك أن الشارع لما اعتبر المدفوعَ قضاءً كأنه عين القرض انصرفت المعاملة إلى المنفعة وإباحة المنفعة به، إذ لم يشترط المُقرِض في مقابلها شيئًا، وردُّ المثل ليس عوضًا عن المنفعة، وإنما هو بمنزلة ردّ المأخوذ على وزان العارية.

ص: 417

وقوله: «لأن مقصود المشتري هو البيع، ومقصود البائع الثمن» صحيح، وهذا المعنى موجود في المثال المذكور، أعني إقراضَ آصُعٍ من تمرٍ رديء بشرطِ ردِّ قدرها من تمرٍ جيد، فالآخذ مقصوده التمر الحاضر لسدِّ حاجته، والمعطي مقصوده التمر المؤجَّل لجودته.

وقوله: «وغرض كلٍّ منهما إخراج ما في ملكِه وتحصيل عوضه» ، فيه أن المقصود الحقيقي في البيع هو تحصيل العوض، وأما إخراج ما في الملك فهو تبع له. فمن اشترى ثوبًا بدينار فمقصوده تحصيل الثوب، وإنما أعطى الدينارَ لأنه لا يحصل له الثوبُ إلَّا به. ومقصود البائع تحصيل الدينار، وإنما أعطى الثوبَ لأنه لا يحصل له الدينار إلَّا به، وهذا واضح. وهذا المعنى موجود في المثال السابق.

وقوله: «والأحكام تُبنَى على الالتزام لا على اللزوم» بعد تسليمه موجود في المثال السابق؛ لأن المعطي التزمَ إعطاءَ التمر الرديء بشرط أن يردّ له بقدره جيدًا، والآخذ قد التزم أن يردَّ تمرًا جيدًا مؤجَّلًا، ليأخذ بقدرِه تمرًا رديئًا حاضرًا.

وقد كنت راجعتُ صاحبَ الاستفتاء، فذكرتُ له ما يأتي أو نحوه أن القرض الشرعي إنما لم يكن بيعًا لأن المقرِض لا يشترط إلَّا ردَّ المثل، فاعتبره الشارع عاريةً، واعتبر بدلَه كأنه عين المقبوض. فأما إذا اشترط أجودَ أو أزيدَ فقد بطلَ هذا المعنى، وصارت المعاملة بيعًا.

ولا أذكر أنه أجابني، ولكنه قال في الاستفتاء: «وقد سلَّم بعض الأعيان [لعلّ غيري أيضًا راجعه] لما شافهتُهم في هذه المسألة أن القرض المطلق

ص: 418

ليس ببيعٍ، لكن إذا زيد فيه شرطُ النفع يصير بيعًا؛ لأنه حينئذٍ يفوت فيه كونه تبرعًا وصدقةً، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال الربوية، فيكون الفضل».

[ص 5] ثم قال: «وفيه أولًا أنّا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً؛ لأنه لا عوضَ له في الحال، كما مرَّ عن ملك العلماء» .

أقول: هذا باطلٌ قطعًا، وإلّا كان كل بيع إلى أجلٍ كذلك، وحينئذٍ يلزمك أن تجوِّز ربا النسيئة في بيع درهم بدرهمين إلى أجل. وقد أطلق الحنفية أن الإجارة تصحّ بلفظ الإعارة، وتكون إجارةً بمالَها وعليها.

قال: «وقد أخرج ملكُ العلماء الهبةَ بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء

».

أقول: قد قدمنا إبطالَ هذا.

قال: «بدليل أن الملك فيها يقف على القبض

».

أقول: هذا الدليل دعوى مجردة، وزفر منكم والشافعية وغيرهم لا يقولون به. ومن قال: إنها تكون هبةً ابتداءً فأراه إنما قصد الاحتياط، كما يدلّ عليه ما صرَّحوا ببنائه على هذا القول، من اشتراط التقابض في العوضين، وعدم ثبوت الملك قبل القبض ونحو ذلك. وصاحب الاستفتاء يحاول من تشبيه القرض بشرط الزيادة بالهبة أن يحلِّل ما حرَّم الله تعالى من الربا.

فأما ما قاله صاحب «قرة عيون الأخيار»

(1)

في أثناء الكلام على الهبة

(1)

(8/ 487).

ص: 419

بشرط العوض: «إن في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض، وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه» ، فلعل قوله:«ولا ربا فيه» جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها الذي لا ربا فيه، أي بخلاف ما إذا كان من جنسها وهو ربوي، فلا يصحّ؛ لأنها بيعٌ في الجملة ويمكن أن يكون محلُّ هذه المسألة في الهبة المطلقة، فإنهم ذكروا أن عوضها يصح وإن كان أقل، فقال بعد قول المتن: «ويشترط فيه شرائط الهبة

»: «ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا» . قال صاحب «قرة عيون الأخبار»

(1)

هناك: «أي من جنس الهبة ويسيرًا» .

قال: «وثانيًا: أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب، وفي القرض الطلبُ والرغبةُ في الطرفين مفقودٌ البتَّةَ، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فواتِ ركنه. على أن في القرض يُعطِي المقرِض ولا يريد أن لا يعود إليه ما أعطى، بخلاف البيع؛ لأن كلًّا منهما يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده» .

أقول: قد مرَّ بيان الرغبة من الجانبين في المثال السابق، على أن القرض الشرعي فيه رغبة من الجانبين، فإن المقرِض يُقرِض التماسَ الأجر والمعروف، ولو رُدَّ عليه نفس ما أعطاه لفاته بعضُ ذلك كما يأتي قريبًا، فأما رغبة المستقرض فواضحة، ولولا رغبته ما استقرض.

وقوله: «على أن في القرض

إلخ»، قد مَرَّ قريبًا أن المقرِض قرضًا شرعيًّا يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده؛ لأن في ذلك فوات ما

(1)

(8/ 473).

ص: 420

قصده من المعروف والصلة وانتفاع المستقرض، وما يتبع ذلك من الأجر والثواب. فأما إذا اشترط الزيادة فالأمر أوضح، فالذي يعطي تمرًا رديئًا ليردَّ إليه بقدره جيدًا لا يخفى أنه لا يريد أن يعود إليه رديئه ويفوتَه الجيّد.

ثم قال: «وثالثًا: أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمورٍ: الأول أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد، لأن مبنى القرض على التبرع، وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلافَ مقتضى العقد يُفسِده، ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل الشرط يصير مُلغًى والعقد صحيحًا، فإذا بقي القرض على صحته لم يصِرْ بيعًا

». ثم نقل من كتب الحنفية ما يُصرِّح بذلك.

فأقول: فإذا كان القرض إذا اشتُرِطتْ فيه الزيادة فاتَ كونه تبرعًا كما اعترفتَ به هنا، فما بالك أتعبتَ نفسَك وأتعبتَ أهلَ العلم وشَغلتَ الحَفَظةَ بما تقدمَ من إنكار ذلك والشغب فيه؟ بقي أنه لا يصير بيعًا ومعاوضةً بمجرد الشرط، بل يُلغَى الشرطُ، فيبقى القرض قرضًا شرعيًّا، وتبرعًا لا بيعًا، فهذه مسألة أخرى، فإنما ادَّعينا أن القرض مع شرطِ ردّ الأجود أو الأزيد بيع، وعَنَينا بذلك كما هو واضح ما دامَ الشرط قائمًا، وهو الأمر الذي تحاوله في رسالتك هذه، فإنك تحاول تصحيح الشرط ولزوم المشروط كما لا يخفى.

فهذا الأمر الذي تُحاوِله بيعٌ لا محالةَ، لفواتِ كونِه تبرعًا، كما اعترفتَ به آنفًا، فتجري عليه أحكام البيوع حتمًا. فإذا أعطاه خمسة آصُعٍ بشرط أن يردَّ ستةً كان فيه الربا من ثلاثة أوجه: ربا القرض وربا الفضل وربا النسيئة، ويكون داخلاً في الأحاديث المتواترة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب، ويدخل

ص: 421

تحت قولِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فمن زاد أو استزاد فقد أربَى»

(1)

حتمًا.

أما المسألة الأخرى ــ أعني أن مثل هذا الشرط لا يُفسِد المعاملةَ، ولكنه يُلْغَى الشرط ــ فقد اختلف فيها العلماء، فالشافعية وغيرهم يقولون: تبطُل هذه المعاملة أصلًا، والحنفية يقولون: بل يُلغى الشرط فيبقى العقد صحيحًا، ولكلٍّ وِجهةٌ هو مُولِّيها.

ثم قال: «والأمر الثاني: أن الفقهاء يُصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربًا حقيقةً، لا شبيهًا به» .

أقول: إنما نقلتَ هذا القول عن ملك العلماء وعن ابن رشد، وقد دفعنا ذلك فيما تقدم، وبيَّنّا أنه ربًا حقيقةً. وقد نقلتَ أنت في استفتائك عمن هو أعلم من هذين بكتاب الله وسنة رسوله وفقهِ الأئمة وأسرارِ الشريعة ما يخالف ذلك، نقلتَ عن الجصَّاص الحنفي وغيره من الحنفية وغيرهم أنه ربًا حقيقي، بل ونقلتَ عن ابن القيم والشاه ولي الله أنه هو الربا الحقيقي. ثم اعترفتَ آنفًا بقولك:«وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونُه تبرعًا» . وبيَّنّا أنه إذا فات عنه كونُه تبرعًا صارَ معاوضةً بالضرورة. والمعاوضةُ المحتملة هنا إما البيع وإما الإجارة وإما الهبة بشرط العوض، وقد حقّقنا أن الهبة بشرط العوض بيع، والإجارة لا وجهَ لها؛ لأنها إنما تكون على المنافع مع بقاء العين، والشارع إنما نزَّلَ القرضَ منزلةَ إباحةِ المنافع، ولم يلتفت إلى تلف العين، تسهيلاً للتبرع والمعروف والصلة، وليس مع الشرط تبرعٌ ولا معروفٌ

(1)

سبق تخريجه.

ص: 422

ولا صلة. وإذا زال سبب التنزيل والتسهيل رجعت المعاملةُ إلى أصلها، فلا يصحُّ اعتبارُ المعاملة المذكورة إجارةً، إذ من شرط الإجارة بقاء العين، فلم يبقَ إلَّا البيعُ.

ثم قال: «والأمر الثالث: لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيعَ الصرف، وبيعُ الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة يَفسُد، ويتعيَّن النقد في الصرف ــ وإذا فسدَ بيعُ الصرف فلا تكون هذه

(1)

الدراهم والدنانير ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا، مع أن الفقهاء صرَّحوا بأنه طيب». ثم نقل الطيب عن بعض فتاوى الحنفية.

أقول: قد بينّا أنه إذا أُلغي الشرط كما يقول الحنفية لا يكون بيعًا، فالحنفية يقولون: إن الشرط يُفسِد البيع ولا يُفسِد القرض، ولكنه يُلغي الشرط، فالشرط في الصرف ورد على بيعٍ [فأفسده، والشرطُ] في القرض ورد على قرضٍ فلم يُفسِده، ولكنه يلغُو الشرط، وإنما يتم [ ........ ]

(2)

فحينئذٍ يقال: لو كان بيعًا لكان إذا ورد [ ...... ] وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل. يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكِه لغيره، وإنما عوَّضه ليسقط حقُّه في الرجوع

».

وفي موضع آخر من «الدر»

(3)

: «ومراده العوض الغير المشروط، وأما

(1)

في الأصل: «فلا يكون هذا» .

(2)

يوجد خرم في الأصل في مكان النقط.

(3)

«الدر المختار» مع تكملة حاشية ابن عابدين (8/ 477).

ص: 423

المشروط فمبادلة كما سيجيء». وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مرشدًا لمن يريد شراء التمر الجيد بالرديء متفاضلاً: «بِعِ الجمعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جنيبًا»

(1)

. فلو كانت الهبة بشرط العوض تُسقِط الربا لأرشده إليها، لأنها أسهلُ من أن يذهب فيبيع ثمره، ثم يرجع فيشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. ووراءَ هذا فقد أثبتنا أن الهبة بشرط العوض بيعٌ البتَّة، والله أعلم.

[ص 7] ونحن لم نقل: إن القرض الشرعي بيع، وإنما قلنا: إن القرض بشرطِ الزيادة بيع، فتدبَّرْ.

قال: «والأمر الرابع: أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطةً في العقد، بأن أقرضَ غلَّةً ليردَّ عليه صحاحًا، أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجودَ مما عليه، فلا بأسَ. (عالمكيري)

(2)

.

وأخرج الزيلعي

(3)

عن عطاء: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. فلو ينقلب القرض من شرط النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربًا، لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام، ودليلهما

(4)

متغايران. قال العيني

(5)

:

(1)

سبق تخريجه.

(2)

«الفتاوى الهندية» (3/ 202).

(3)

«نصب الراية» (4/ 60).

(4)

كذا في الأصل نقلًا عن «الاستفتاء» .

(5)

«عمدة القاري» (11/ 200) نقلاً عن الماوردي من كلامه.

ص: 424

أجمع المسلمون على تحريم الربا وأنه من الكبائر

».

أقول: تاب الله عليك أيها الصديق! لقد وقعتَ في تمويهٍ يُشبه ما قال ديك الجن

(1)

:

ونلْ من عظيم الوزرِ كلَّ عظيمةٍ

إذا ذكرتْ خافَ الحفيظانِ نارَها

إنك لتعلم أن عامة المسلمين الآن وطلبة العلم وأكثر العلماء ولاسيما من غير الحنفية يفهمون إذا قيل: هذا مكروه وليس بحرام، أن المعنى: يُلام فاعلُه ولا يُفسَّق، ولا إثمَ عليه، ولا يعلمون ما تعلمه أنت أن السلف يُطلقون المكروه على الحرام بناءً على أصل اللغة، كما قال الله عز وجل بعد أن نهى عن أن يُجعَل معه إله آخر، وأن يعبدوا غيرَه، ونَهْر الوالدين، والتبذير، وقتل الأولاد، والزنا، وقتل النفس التي حرَّم الله، وأكل مال اليتيم، وقَفْوِ ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحًا، قال سبحانه بعد ذكر ذلك:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [اقرأ سورة الإسراء: 22 ــ 38].

وذكر أصحابكم في كتب الأصول عن محمد بن الحسن أنه قال: «كل مكروه حرام»

(2)

، وأنه ذكر في «المبسوط» أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلتَ في شيء: أكرهُه، فما رأيك فيه؟ قال: التحريم. نعم، للحنفية اصطلاح لا يكاد يعرفه غيرهم، وهو أن الحرام ما ثبت تحريمه بدليل قطعي،

(1)

«ديوانه» (ص 108).

(2)

انظر «تيسير التحرير» (2/ 134).

ص: 425

والمكروه ما ثبت تحريمه بدليل ظني

(1)

، وقد يُستعمل فيما لا يأثم فاعلُه ولكنه غير محمود، وإذا بينوا قالوا: كراهة تحريم أو كراهة تنزيه. وقد أشرتَ إلى هذا بقولك: «ودليلهما متغايران» ، ولكن هذه الإشارة لا تكفي لدفع الإيهام، بل الذي يظهر من صوغ العبارة تعمُّد هذا الإيهام، والله المستعان.

والمقصود مع صرف النظر عن هذا الإيهام أن صاحب الاستفتاء يرى أن ما نقله عن الإمام وصاحبه يُشعِر بأن القرض الذي يجرُّ منفعةً ليس قطعيَّ التحريم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولو كان عندهما ربًا لنصَّا على أنه قطعيُّ التحريم.

فنقول بعد العلم بأن هذا لا يَنفي أصلَ التحريم بل يُثبِته:

الجواب من وجوه:

[ ....... ] كثيرًا ما يطلقون الكراهية في التحريم القطعي، وفي كتب الحنفية أمثلة من ذلك [ ..... ] كتبهم بأن اشتراط الزيادة في القرض حرام، واصطلاحهم أنهم [ص 8] يَعنُون قطعيَّ التحريم، حتى صرَّح محدِّث الحنفية البدر العيني في «شرح البخاري»

(2)

بقوله: «أجمع المسلمون نقلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا» . وقد نقله صاحب الاستفتاء في صفحة 17، واعترضه، وسنبيِّن بطلانَ اعتراضه.

وصرَّح كبْشُ الحنفية الجصَّاص في «أحكام القرآن»

(3)

أن الربا في

(1)

في الأصل: «قطعي» ، وهو سبق قلم.

(2)

«عمدة القاري» (12/ 45، 135).

(3)

(1/ 465، 467).

ص: 426

قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يتناول اشتراط الزيادة في السلف. وقد نقله صاحب الاستفتاء أيضًا.

وصرَّح حكيم الحنفية الشاه ولي الله الدهلوي

(1)

بأن ذلك هو الربا الحقيقي، وما عداه فهو ربا غير حقيقي. ونقله صاحب الاستفتاء أيضًا.

وكلام هؤلاء ظاهر في أن الكراهية في كلام محمد أراد بها التحريم القطعي.

الوجه الثاني: أنه من المحتمل أن يكون الذي لم يثبت عندهما أنه حرام قطعي، وإنما ثبت أنه حرام ظني، هو اشتراط المنفعة، والمتبادر إلى الذهن من لفظ المنفعة هو ما ليس بزيادة في العين ولا في الصفة، وإنما هو نحو أن يشترط عليه أن يحمل معه متاعًا إلى بيته. وإذا سلَّمنا أن المنفعة أعمُّ من ذلك فلعلهما إنما عبَّرا بالكراهية التي هي لغةً أعمُّ من التحريم القطعي والظني، قابلة لعموم كلمة المنفعة.

الوجه الثالث: لو سلَّمنا أن أبا حنيفة ومحمدًا رحمهما الله إنما ثبت عندهما حرمة اشتراط الزيادة في القرض بدليل ظني، فهذا لا يدل على أنه ليس عليه دليلٌ قطعي اطلع عليه غيرهما. وكأنهما لم يستيقنا الإجماعَ على تحريمه، وتحقَّق بعدهما الإجماع، كما نقله جماعةٌ لا يُحْصَون من علماء المذاهب، كما تقدم بعض ذلك، ونصُّ العيني قريب. وسيأتي بحث الإجماع إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: أنه على فرض أنه لم يثبت عندهما دليلٌ قطعي على

ص: 427

التحريم، فذلك لا ينافي أنه عندهما ربًا، فإنه ليس لهما ولا لغيرهما اصطلاح أنه لا يُطلَق الربا إلَّا فيما ثبت بدليل قطعي أنه ربا.

ثم قال: «قال ابن الهمام

(1)

: وأحسنُ ما هنا عن الصحابة والسلف ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنِّفه»

(2)

: حدثنا [أبو]

(3)

خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. أي الصحابة يكرهون النفع المستحصَل من القرض، فهذا دليل على أن الصحابة أيضًا يفرّقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا، حيث يجعلون الأول مكروهًا والثاني حرامًا».

أقول: قد قدمنا أن الكراهة في اللغة أعمُّ من اصطلاحكم، وقد أطلقها القرآن كما سمعتَ في مقابل الشرك وغيره من الكبائر، وعطاء لم يحكِ عن الصحابة أنهم قالوا: نكره، وإنما قال:«كانوا يكرهون» واصطلاحكم الذي لم يلتزمْه أئمتُكم إنما نشأ بعد عطاءٍ بزمانٍ. ويأتي ههنا ما قدمناه في الوجه الثاني قريبًا، ويشهد لذلك ما تقدم عن عمر، وفيه:«فدَعُوا الربَا والريبةَ» . على أنه قد جاء عن الصحابة أن ذلك ربًا وأنه خبيث، كما نقلتَه أنتَ. وسيأتي إن شاء الله تعالى.

[ص 9] ثم قال: «ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيعٌ أو بشرط النفع، فلابدَّ عليه من البيان، ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموع» .

(1)

«فتح القدير» (7/ 251).

(2)

رقم (21077).

(3)

ما بين المعكوفتين من المؤلف، وهو كذلك في «المصنّف» . وسقط من «فتح القدير» .

ص: 428

أقول: أما على ما قاله الجصَّاص في «أحكام القرآن»

(1)

: إن البيع «تمليكُ المال بمالٍ بإيجابٍ وقبولٍ عن تراضٍ منهما» فلا يخفى دخول القرض مطلقًا، ولكن العلماء أخرجوا القرض بأن الشارع لم ينظر إلى تَلَف العين، بل نزَّل ما يردُّه المستقرض منزلة العين المأخوذة، فكأنها قائمة لم تتلَفْ، وإنما انتفع المستقرض بها ثم ردَّها كالعارية سواء. وقد أكثر صاحب الاستفتاء من النقل عنهم، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينَّا أن إعراضَ الشارع عما هو واقع من تلَف العين المعطاةِ وكونَ المردود غيرَها بدلاً عنها= إنما كان تسهيلاً للمعروف والصلة وفعل الخير. فإذا انتفى المعروف والصلة وفعل الخير، وحلَّ محلَّها ما يناقضُها، وهو اغتنام المقرِض ضرورةَ المستقرض، فيذبحه كما تقول العامة، وقد أشار القرآن إلى ذلك، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} .

فسَّرها ابن جرير بقوله

(2)

: «ولا يقتلْ بعضكم بعضًا وأنتم أهل ملَّةٍ واحدة ودعوةٍ واحدةٍ ودينٍ واحد، فجعل جلَّ ثناؤه أهلَ الإسلام كلَّهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة من قتلَ نفسَه» . ثم روى معنى ذلك عن السُّدّي وعطاء.

أقول: فإذا انتفى السبب الذي لأجله نزَّل الشارعُ الواقعَ بمنزلة غيرِ الواقع، وحلَّ محلَّه ما يناقضُه، فكيف يبقى أثره؟ وإذا لم يبقَ أثرُه لم يكن لنا

(1)

(1/ 469).

(2)

تفسيره (6/ 637). ط. دار هجر.

ص: 429

بُدٌّ من النظر إلى الواقع.

وبعبارةٍ أوضحَ إن الشارع في القرض الشرعي نزَّل الواقع منزلةَ غير الواقع لسببٍ، فكيف يصحُّ أن يُقاس عليه ما انتفى فيه ذلك السبب ووُجِد ما يُناقضُه؟

وقد زاد الحنفية على تعريف الجصَّاص ونقَصوا، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينّا أن القرض بشرط الزيادة خارجٌ عن تعريفاتهم للقرض، داخلٌ في تعريفاتهم للبيع.

وأما على المختار عندنا من أن القرض ولو بشرطِ زيادةٍ لا يَشملُه لفظ البيع لغةً ولا شرعًا، فقد قدَّمنا أنه على هذا القول يكون القرض بشرطِ زيادة في معنى البيع بلا فرقٍ، فيستحقُّ جميعَ أحكامه، فيدخل في عموم الأحاديث في النهي عن بيع الذهب بالذهب وما معه من جهة المعنى، ويكون هذا أعلى القياسات، ومحلُّ إيضاح ذلك بحثُ القياس إن شاء الله تعالى.

ثم قال: «وقد ظنَّ بعضهم أن بيع خمس رَبَابيّ

(1)

بستّ رَبَابِيّ يكون ربًا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمسَ رَبَابيّ بشرط أن يردَّ عليه ستَّ رَبابيّ كيف لا يكون هذا ربًا، مع أنه لا فرقَ بينهما إلا في اللفظ. ويُزَال بأنه لا مجالَ للقياس فيما وردَ به النصُّ، لأن الشارع عليه السلام جعلَ الأول بيعًا وربًا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية

(2)

: «وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم [بالدرهم إلى أجل، صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا] معصية

(1)

جمع رُبِّيّة عملة بلاد الهند.

(2)

«إعلام الموقعين» (3/ 122).

ص: 430

باطلة بالقصد».

أقول: ظاهر قوله: «لا مجالَ

لا الثاني» أن النصَّ وردَ بأن القرض بشرط الزيادة ليس بربًا، وهذه دعوى باطلة، أما على تعريف الحنفية للبيع والقرض فقد علمتَ أن القرض بشرط الزيادة بيعٌ، فدخل في النصوص الواردة في ربا النسيئة كما سلف. وأما على ما نختاره فإنه يدخل في تلك النصوص من جهة المعنى كما قدَّمنا، وليس هناك نصٌّ يخالف هذا، بل قد سبق من النصوص ما يوافقه ويزيد عليه.

ولكنه عاد فكتب بالهامش ما لفظه: «مثاله كمن باع خمسَ ربابي بخمس ربابي نسيئةً، لا يجوز، بخلاف من أقرضَ خمسَ ربابي ليعيدها بعد أيام، فالأول فيه بيع وفيه ربا، وهو حرام ومعصية، والثاني ليس ببيع، وليس فيه ربا، بل هو قربة وصدقة» .

فحاصلُ كلامه أن الشرع وردَ بالفرق بين بيع الدراهم بمثلها نسيئةً فحرَّمه، وبين إقراضها ليردّ مثلها فأحلَّه، فكما لم يحرم القرض في هذا مع أنه لو كان بيعًا لحرم، فكذلك فيما إذا أقرض بشرط الزيادة.

ويُجاب عن هذا بأن القرض بشرط الزيادة إما بيعٌ حقيقةً على تعريف الحنفية للبيع، وإما في معناه على ما اخترناه، بخلاف القرض الشرعي فليس بيعًا ولا في معنى البيع على ما قدَّمناه.

نعم، يؤخذ من مثاله دليلٌ آخر هذه صورته: «بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وإقراضُها ليُردَّ مثلُها هما سواء، فإن كان الأول بيعًا فالثاني بيع أو في معنى البيع، وإن كان الثاني قرضًا فالأول قرض أو في معنى القرض، ومع

ص: 431

ذلك فرَّق الشارع بينهما مراعاةً للَّفظ، فدلَّ ذلك على أن للَّفظ أثرًا في الفرق، وإذا ثبت أن للَّفظ أثرًا في الفرق بطلَ قولكم: إنه لا فرقَ بين بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجلٍ، وبين إقراضها ليردّ أكثر منها، بل يكون الثاني بيعًا أو في معنى البيع، فيجب أن يكون حكمه حكم البيع».

والجواب أن بين بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وبين إقراضِها ليردّ مثلها فروقًا:

الأول: أن الشارع استحبَّ القرض وندبَ إليه، ورغَّب فيه، ووعدَ بالثواب عليه، ولم يأتِ مثلُ ذلك في البيع. وهذه المعاملة يصحُّ اعتبارها قرضًا ويصحُّ اعتبارها بيعًا، فإذا عدلَ المتعاقدان عن الصيغة المستحبة المرغَّب فيها إلى الصيغة التي ليست كذلك، استحقَّا أن يُشدَّد عليهما.

الفرق الثاني: أنه قد تقدم أن الشارع سلخَ القرضَ عن البيع بتنزيله منزلةَ العارية، وكأن المردود هو عين المأخوذ، وإنما فعل ذلك تسهيلاً للمعروف والصلة، [ ......... ] فقد خالفَا ذلك التنزيل، فلا يستحقانِ التسهيل.

[ص 11] الفرق الثالث: أن البيع موضوع للمغابنة، فصيغتُه تُشعِر بذلك. والقرض موضوع للمعروف والصلة، وصيغتُه تُشعِر بذلك. والشارع إنما نزَّل القرضَ منزلةَ العارية تسهيلاً للمعروف والصلة، فإذا عَدلَ المتعاقدان إلى الصيغة التي تُشعِر بخلافِ ذلك لم يستحقَّا هذا التسهيلَ.

الفرق الرابع: أن هذه المعاملة قد لا تكون معروفًا وصلةً في الواقع، كأن يريد المعطي سفرًا أو يخاف سرقةً أو غصبًا، أو أن لا يصبر عن إنفاق الدراهم إذا بقيت تحتَ يده، ويخاف إذا أودعَها أن يتلَف فلا يكون على

ص: 432

المودع ضمان، أو يخاف الزكاةَ، والوديعةُ لا تُسقِط الزكاة بخلاف الإقراض.

هذه بعض تلك [الفروق]. والشارع إنما سلخَ القرضَ عن البيع بالتنزيل المعلوم تسهيلاً للمعروف والإحسان، والقصدُ أمرٌ خفيٌّ وغير منضبط، أما خفاؤه فواضح، وأما عدم انضباطه فعند اجتماع القصدينِ ــ وهو قصدُ المعروف وقصد غيره من الفوائد ــ فإنه لا ينضبط الغالب منهما حتى يُناطَ به الحكمُ. وقد تقرر في الأصول أن السبب الحقيقي إذا كان خفيًّا أو غير منضبطٍ يُعدَلُ عنه إلى ضابطٍ يشتمل عليه غالبًا.

فالشارع جعلَ الضابطَ هنا هو الصيغة، فإن اختار المتعاقدانِ صيغةَ القرض كان ذلك ضابطَ إرادة المعروف والإحسان، لأنه الظاهر، والصيغة تُشعِر به. وإن عدلَا إلى صيغة البيع كان ذلك ضابطَ إرادةِ فائدةٍ غير المعروف والإحسان، لأن الصيغة تُشعِر بذلك.

ولعلَّ هذا هو الذي عبَّر عنه ابن القيم بالقصد، فإن عبارته التي نقلها عنه صاحب الاستفتاء هي في مبحث طويل نفيس، حقَّق فيها وجوبَ مراعاة القصود في العقود إذا ظهرت وانضبطتْ، وأن لا يُوقَفَ مع الألفاظ والصيغ، ومما قال في هذا البحث

(1)

: «وهكذا [الحيل الربوية، فإن الربا لم يكن] حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع، [فتلك الحقيقة] حيث وُجِدتْ وُجد التحريم، في أيّ صورة رُكِّبت، وبأيّ لفظٍ عُبِّر عنها، فليس [الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في] حقائقها ومقاصدها وما عُقِدتْ له» . [ص 12] وكرَّرَ هذا المعنى مرارًا.

(1)

«إعلام الموقعين» (3/ 126).

ص: 433

ولنقتصر على هذه الفروق. بقي علينا أن نبيِّن أنه لا يوجد منها فرق واحد ولا ما يُشبهه ما بين بيع الدراهم بأزيدَ منها إلى أجلٍ وبين إقراضها بشرطِ ردِّ أزيدَ منها.

أما الفرق الأول: فإن الشارع إنما استحبّ القرض ورغَّب فيه لما فيه من الإحسان والمعروف، وهذه المعاملة نقيض الإحسان والمعروف، فالمتعاقدانِ إنما عبَّرا عن المعاملة التي يبغضها الله تعالى بلفظٍ وُضِع لما يحبه، ولا يخفى أن ذلك مما يوجب التشديد لا التسهيل.

وأما الثاني فالبيع هنا حرام بغير تنزيل، فإذا عدلَا عن صيغته إلى صيغة القرض لم يكونا مخالفينِ لتنزيلٍ بُنيت عليه حرمةُ البيع حتى يستحقّا التحليل.

وأما الثالث فلفظ القرض وإن أشعرَ بالمعروف والصلة، فالشرط ينفي ذلك ويحقّق أن المقصود المغابنة.

وأما الرابع فالقصد هنا ليس خفيًّا أو غير منضبط؛ لأن الشرط يوضح أن مقصود المعطي ذبحُ المعطَى.

وقد نقل صاحب الاستفتاء من كتاب «المعرفة» للبيهقي كلامًا للشافعي يدلُّ على أن القرض بشرط الزيادة عنده بيع باطل، وهذا لفظه: «قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجلِ الدينُ، فيحلّ الدين، فيقول له صاحب الدين: أتَقضِي أم تُربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره

قال الشافعي: فلما رُدَّ الناسُ إلى رؤوس أموالهم كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا»

(1)

.

ص: 434

فسمَّى الشافعي اتفاقَهما على الإمهال بشرط الزيادة في الدين بيعًا، والإمهال عنده قرضٌ أو كالقرض، لجمعه بينهما في عدم لزوم الأجل، فإنه يرى أنه لو أقرضه إلى أجلٍ لا يلزم المقرِضَ الوفاءُ بالأجل، بل له المطالبة قبله، وكذلك لو حلَّ الدينُ فجدَّد الدائن أجلاً آخر لا يلزمه الوفاء به. قال في كتاب «اختلاف العراقيين»: «قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان للرجل على الرجل مالٌ حالٌّ من سلفٍ أو من بيع أو أيّ وجهٍ كان، فأَنظَره صاحب المال بالمال إلى مدةٍ من المدد، كان له أن يرجع في النظرة متى شاء

». «الأم» (ج 7 ص 92)

(1)

.

وقد توهَّم صاحب الاستفتاء أن قول الشافعي: «كان ذلك فسخًا للبيع» يريد به العقد الأول، في نحو أن يبيع الرجل ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم عند حلول الأجل يتفقان على الإمهال والزيادة في الدين. فتوهَّم أن مراد الشافعي بقوله:«كان ذلك فسخًا للبيع» هو بيع الثوب، وراح يُدندِن على هذا، وهذه عبارته:«والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل: هي أن شُرَّاح قولهم قد فسَّروه به. قال البيهقي: قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية .... ، ظهر من كلام الشافعي أمرانِ: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع. والثاني أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو المال الذي جُعِل في ابتداء البيع، وكذلك المراد من حقٍّ إلى أجلٍ هو الثمن المؤجل» .

أقول: أما الأمر الأول فكأن صاحب الاستفتاء لم يتدبر، فإن الشافعي

(1)

(8/ 230) ط. دار الوفاء.

ص: 435

إنما قال: «كان من ربا الجاهلية» ، ولم يقل:«[كان ربا الجاهلية]» . فأفهمَ كلامُه أن هذا نوعٌ من رباهم، وهناك نوعٌ آخر أو أنواع.

وأما الثاني فأنت خبيرٌ أن ردّ الناس إلى الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع ليس فيه فسخٌ لبيع الثوب، ولا وقع بيع الثوب على ربا، بل كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا، فتدبَّرْ وتعجَّبْ، والله المستعان.

* * * *

ص: 436