المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الدين الممطول به والمال المغصوب - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٨

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الدين الممطول به والمال المغصوب

[ص 15/ 4]

‌ الدين الممطول به والمال المغصوب

قد يقال: الحجج المتقدمة إنما تُبطِل الربا إذا كان في مقابل أجل قد رضي به الطالب، فأما الدين الممطول به والمال المغصوب فلا يظهر فيه ذلك، فإن التاجر إذا أقرض رجلًا دراهم أو طعامًا على شرط أن لا يؤخِّره عن شهر مثلًا، فأخَّره سنةً مثلًا، ففي ذلك ضرر شديد يلحقُ التاجرَ بدون رضاه ولا رضا الشرع، أفليس من العدل أن يفرض على الماطل ربح المال مدةَ المَطْل عقوبةً له، وجبرًا لما فات التاجرَ من الربح لو كان عنده؟

ومثل هذا يقال فيمن باع أو أسلم إلى أجل، فمطلَه صاحبه بعد الأجل، وهكذا يقال في الغاصب، وقد قال الشافعي

(1)

: إن على من غصب دابةً أو دارًا فعليه أجرتها مدة الغصب، وإن لم يستعملها.

الجواب: أما المعسر في الدين فقد فرض الله تعالى إنظاره لعذره، فلا إشكال.

وأما الموسر فإنما لم تضمنه الشريعة ربحًا؛ لأن الربح لا ينضبط، فلو فرضنا أن الدين دفع إلى صاحبه، فمن يعلم أكان يتَّجر فيه أم لا؟ وإن اتَّجر أفيربح أم يخسر أم يتلَفُ المال؟ وإن ربح فما مقدار الربح؟ وما مقدار التعب؟ وقد حصل له فوائد من بقاء الدين في ذمة المدين تُعلم مما قدمناه في فوائد المقرض.

فلما كان هذا لا ينضبط عدلت الشريعة عنه إلى شرع عقوبة الماطل بالحبس والتعزير، وترك الاستقصاء إلى عالم السر وأخفى، فهو سبحانه

(1)

انظر "الأم"(4/ 523).

ص: 305

يعوِّض الممطولَ عما علم أنه فاته، ويعاقب الماطلَ عما علم أنه فوَّته.

والطاغوت الذي يقضي بالربح إنما يضبطه بما جرى به العرف في الربا، والربا في الشريعة باطلٌ، فلا يصح أن يُضْبط به.

وفي القوانين الطاغوتية كثير من الأحكام التي يَعْدِلون فيها عن تعويض من حصل عليه النقص إلى عقوبة الظالم، فلا وجه لأن يستبعدوا على رب العالمين أن يقضي بشيء من هذا الضرب، فيما نعلم أنه لا يمكن وضع قانون مطابق للعدل يمكن أن يعرفه الناس، ويستطيعون تطبيقه.

[ص 15/ 5] ومع هذا فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك نَصْب الحكام، وإقامة الأحكام، فإن كان في بلد المتداينين حكومة تقيم الحق، فالممطول متمكن من الشكوى إلى الحاكم وقتَ حلول الدين، فإن أخَّر مع قدرته فهو المقصِّر.

ولو شُرِع تضمينُ الماطل بربح مالًا يوشك أن يتراخى الممطول عن المطالبة أو عن الجدِّ فيها، ليأخذ الربا، فصار كأنه أقرض بشرط الربا، ويوشك أن يقول الرجل لمن يُداينُه: اكتب الدين إلى أجل ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك لك أن تؤخره شهرين أو ثلاثة مثلًا، ولكن بربا، فإن أعطيتني الربا فذاك، وإلا ادعيتُ عليك عند الحاكم: أنك مَطلتَني، فيحكم عليك بالربا.

وأما القرض فالأمر فيه أظهر، فإن أكثر العلماء يقولون: إنه لا يؤجل، فعلى هذا ربما أقرض الرجل صاحبه، وصاحبه يؤمِّل أن لا يطالبه إلا بعد شهرين مثلًا، فتربص المقرض حتى أنفق المستقرض المال ثم طلبه، فلا يتمكن المستقرض من قضائه حينئذٍ، فيقول: قد مطلني، فأنا أطلب منه الربا.

ص: 306

وأما إذا لم يكن في البلد حكومةٌ قائمة بالحق، فأهلها كلهم مقصِّرون، ومن دخل عليه ضرر بسبب تقصيره ينبغي أن لا يُجعل له مخرجٌ منه، بل يُشدَّد عليه حملًا له على الرجوع عن التقصير والقيام بالواجب. والله أعلم.

وعلى هذا القياس يكون الكلام في الغصب، إلا أن هناك مسائل يختلف فيها العلماء، منها: أن يتَّجر الغاصب بالمغصوب فيربح، فمذهب بعض العلماء ــ كالإمام أحمد ــ أن الربح لصاحب المال لا للغاصب، ومذهب بعضهم ــ كالإمام أبي حنيفة ــ أنه للغاصب، ولكن لا يحل له، بل يجب عليه التصدق به.

وهناك أقوال أُخر، لسنا بصدد استيفائها، ولا الترجيح بينها، وإنما يلزمنا ههنا الفرق بين الغصب والدين، فنقول: الفرق عندهم أن الغاصب في هذه المسألة اتجر بعين المال المغصوبة، وربح فيها، وأما المدين فالدين في ذمته، وليس هو عينًا معينة، ومع ذلك فيقولون جميعًا: إذا لم يتجر في العين المغصوبة لا يلزم ربح، وإنما يقول بعضهم ــ كالشافعي ــ بوجوب الأجرة على غاصب الدار والدابة ونحوها، وإن لم يستعملها؛ لأن النقص الذي دخل على المالك بالغصب يمكن ضبطه بأجرة المثل، فليس كالربح الذي لا ينضبط كما مر. والله أعلم.

* * * *

ص: 307