المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول ترجمة العلامة نجم الدين الغزي - حسن التنبه لما ورد في التشبه - مقدمة

[نجم الدين الغزي]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَة التَّحقِيق

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ تَرْجَمَةُ العَلَاّمَة نَجمِ الدِّينِ الغَزِّي

- ‌الفَصْلُ الثَّاني: دِرَاسَة الكِتَاب

- ‌المبحث الأَوَّل: تَحقِيْق اسمِ الكِتَاب

- ‌المبحث الثَّاني: إِثباتُ صِحَّةِ نِسبَةِ الكِتَابِ إِلَى مُؤَلِّفِهِ

- ‌المبحث الثَّالث: مَنْهَج المؤلِّف في الكِتَابِ

- ‌ ترتيب الكتاب:

- ‌ طول مادة الكتاب:

- ‌ تحقيقات المؤلف وتنبيهاته وإشاراته:

- ‌ منهجه في الاستدلال بالأحاديث النبوية والآثار:

- ‌ شعره:

- ‌المبحث الرابع مَوَارِد المؤَلِّف في الكِتَابِ

- ‌ أما مؤلفاتُه التي ذكرها في ثنايا كتابه هذا، ونقل عنها، وأحال في الرجوع إليها:

- ‌المبحث الخامس مَنرِلَة الكِتَاب العِلْمِيَّة

- ‌ أهمية الكتاب ومزاياه:

- ‌ المآخذ على الكتاب:

- ‌المبحث السادس وَصف النّسخِ الخَطِيَّة المُعتَمَدَة في التَّحْقِيقِ

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌المبحث السابع بَيَان منْهَج التَّحِقيق

الفصل: ‌الفصل الأول ترجمة العلامة نجم الدين الغزي

‌الفَصْلُ الأَوَّلُ تَرْجَمَةُ العَلَاّمَة نَجمِ الدِّينِ الغَزِّي

(1)

مُحمَّدُ بنُ محمدِ بنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الله بنِ مُفرِّجِ ابنِ بدرٍ، وتقدم تَمامُ النَّسبِ في ترجمة أخيه أبي الطَّيب (2).

(1) هذه الترجمة منقولة عن "خلاصة الأثر" للمحبي (4/ 189)؛ فإنه قد أوفى في ترجمته، وطوَّل عن غيره ممن ترجمه، وقد حَلَّينا هذه الترجمة بفوائد أخر مقتبسة من كتابه هذا:"حسن التنبه"، ومن غيرها من الكتب.

وانظر ترجمته في: "نفحة الريحانة" للمحبي (1/ 282)، و"تراجم الأعيان من أبناء الزمان" للبوريني (ق 143)، و"مشيخة أبي المواهب الحنبلي" (ص: 63 - 71)، وهي كالترجمة التي ساقها المحبي في "الخلاصة"، و"ديوان الإسلام" لشمس الدين الغزي (3/ 385)، و"فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار القرن الحادي عشر" لمصطفى الحموي (2/ 44)، و"تراجم بعض أعيان دمشق" لابن شاشو (ص: 101 - 104) - المطبعة اللبنانية - سنة (1886 م)، و"هدية العارفين" للبغدادي (6/ 285)، و"الأعلام" للزركلي (7/ 63)، و"معجم المؤلفين" لكحالة (11/ 289).

(2)

قال فيها (1/ 35) بعد قوله: "ابن بدر": "بن بدري بن عثمان بن جابر ابن ثعلب بن ضوي الغزي بن شداد بن عاد بن مفرج بن لقيط بن جابر بن وهب بن ضباب بن حجير بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب العامري، يتصل نسبه بعامر بن لؤي".

ص: 11

محدِّثُ الشام، ومسندُها، الشيخُ الإمام، نجم الدين، أبو المكارم، وأبو السعود، بن بدر الدين، بن رضي الدين، الغزي، العامري، الدمشقي (1)، الشافعي، شيخ الإسلام، ملحِقُ الأحفاد بالأجداد (2)، المتفرِّدُ بعلوِّ الإسناد.

ترجم نفسَه في كتابه "بُلْغةُ الواجد" في ترجمة والده البدر، فقال: مولدي كما رأيتُه بخط شيخ الإسلام: يوم الأربعاء، حادي عشر شعبان المكرم، سنة سبع وسبعين وتسع مئة، وسطَ النهار، وقتَ الظهيرة، ودعا لي الوالد بعدما كتب ميلادي؛ فقال: أنشاه الله تعالى وعَمَّره، واجعله ولداً صالحاً برًّا تقياً، واكَفَاه واحَمَاه من بلاء الدنيا والآخرة،

(1) قال المؤلف رحمه الله في كتابه هذا "حسن التنبه"(5/ 152): وقد قلت متحدثاً بنعمة الله تعالى على أن جعلني من أهل الشام، ولاسيما دمشق - حرسها الله -:

مُهاجَرُ إبراهيمَ داري ومَولدِي

ومنشأُ آبائي الكِرامِ ومَحْتِدِي

دمشقُ التي قَدْ بُورِكت وتَقدَّسَت

بمجتَمعٍ للصالحينَ ومَشْهَدِ

(2)

قال المحبي في "نفحة الريحانة": النجم الأرضي، وأبوه البدر المضي، وجده الرضي، ثلاثة في نسق، طلعوا فأناروا الغَسَق، وقدمهم في النباهة، أعلى قدرهم في الوجاهة، فمن يدانيهم، وإلى الكواكب مراميهم، وهم في القديم والحديث، أئمة التفسير والحديث.

ص: 12

وجعله من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وعلمائه العاملين (1)، ببركة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله نعم الوكيل. انتهى ما وجدته بخط الشيخ الوالد.

ولا بأس بذكر شيء مما منَّ الله تعالى عليَّ به على عادة علماء الحديث، دان كنتُ في نفسي مقصِّراً، وعن حَلْبة العلماء مقهقِراً، فأقول:

(1) قال المؤلف رحمه الله في كتابه هذا "حسن التنبه"(2/ 545): ومنذ كنت طفلاً ما حلا لي إلا صحبة الصالحين، ولا طمحت نفسي إلا إلى اللحاق بالعلماء العاملين، وكان ذلك بدعوة من والدي شيخ الإسلام، دعا لي بها عندما بشِّر بولادتي، ودعا لي بمثلها قبل وفاته بنحو يوم.

وقال رحمه الله (11/ 510): ونظر إلي بعض العلماء وأنا في أوائل الطلب، فوجد مني فهماً وحذقاً، فقال: لا يُستكثر عليه ذلك؛ فإنه ابن فلان، ثم تمثل بالمثل، فقال: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، فلم يزل ذلك يبعثني على طلب العلم والميل إلى التقوى والخير إلى يومنا هذا، وإلى الممات إن شاء الله تعالى بحيث إني أقول:[من مجزوء الرمل]

أَعْرَضَ القَلْبُ أَبِيًّا

عَنْ هَوى لُبْنَى وَلَيْلَى

وَلَقَدْ شَمَّرْتُ حَزْماً

فِي رِضَى مَولايَ ذَيْلا

مائِلاً عَمَّا سِواهُ

فِي بَقايا العُمْرِ مَيْلا

أَمْتَطِي مِنْ هِمَّةِ القَلـ

ـبِ إِلَى لُقياهُ خَيْلا

طائِعاً رَبِّي نهَاراً

بِالَّذِي يَرْضَى وَلَيْلا

عائِذاً مِنْ أَنْ أُلاقِي

يَوْمَ أَلْقَى اللهَ وَيْلا

ص: 13

رُبّيت في حِجْر والدي وتحت كَنَفه حتى بلغتُ سبعَ سنوات، وقرأتُ عليه من كتاب الله تعالى قِصَار المُفَصَّل، وحضرتُ بين يديه يومَ عيدِ الفطر عامَ وفاتِه، وقلتُ: يا سيدي! أريد أنْ أقرأَ عليك من أوَّل البقرة، قال: وتعرف تقرؤها؟ قلت: نعم، قال: هاتِ المصحفَ، فجئتُه به، فقرأتُ عليه الفاتحةَ، ثمَّ مِنْ أوَّل البقرة إلى {الْمُفْلِحُونَ} ، فقال لي: يكفيكَ إلى هنا، فأطبقتُ المصحفَ بعد أن لقَّنني:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وأنعمَ عليَّ حينئذ بأربعِ قِطَعِ فِضَّةٍ ترغيباً لي، وأمرني وأنا ابنُ ستِّ سنواتٍ أن أصومَ رمضانَ، ويعطيَني في كلِّ يومٍ قطعةَ فِضَّة، فصُمتُ مُعظمَ الشهر، وكان ذلك ترغيباً منه وحُسنَ تربية، وصُمتُ رمضانَ السنةَ التي ماتَ فيها إلا يوماً أو يومين وأنا ابنُ سبع (1)، وبقيت أجلس معه للسحور، وكان يدعو لي كثيراً، وأحْضَرني دروسَه (2) أنا

(1) قال المؤلف رحمه الله: وكان والدي شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - بعد أن أمرني بصوم رمضان وأنا في السنة السابعة من عمري - وهي سنة أربع وثمانين وتسع مئة - يقول لي: كلما صمت يوماً، أعطيتك درهماً، فصمت رمضان كله إلا يومين أو ثلاثة. انظر:(10/ 223) من هذا الكتاب.

(2)

جاء على هامش "مشيخة أبي المواهب الحنبلي"(ص: 68): قال النجم في أواخر الشرح المذكور - يعني: منبر التوحيد - مانصه: حضرت شيخ الإسلام الوالد رضي الله عنه سنة اثنتين وثمانين وتسع مئة بالمدرسة التَّقَوية باطن دمشق المحمية، وقد كنت حضرت دروسه بالتقوية، ثم بالشامية الجوانية، وبالجامع الأموي وأنا ابنُ خمس سنوات، إلى أن توفي في سادس عشري شوال سنة =

ص: 14

وأخي الشيخُ كمالُ الدِّين في سنة اثنتين وثمانين، وثلاث وثمانين، وأربع وثمانين.

وحدَّثتني والدتي عنه: أنه كان يقول: إنْ أحياني اللهُ تعالى حتَّى يكبُرَ نجمُ الدِّينِ، أقرأْتُه في كتاب "التنبيه"، وأجازني فيمن حضر دروسه إجازةً خاصة، وأجازني في حزبه الذي كتبه لمفتي مكةَ الشيخِ قُطْبِ الدِّين إجازةً عامةً في عموم أهل عصره من المسلمين (1).

ثم رُبِّيت بعد وفاته في حِجر والدتي أنا وإخوتي، فأحسنَتْ تربيتَنا، ووفَّرتْ حُرمتَنا، وعلَّمتْنَا الصلواتِ والآدابَ، وحَرَصَتْ على تعليمنا القرآنَ، وجَازَتْ شيوخَنا على ذلك وكافأَتْهُم، وقامَتْ في كَفالتنا بما هو فوقَ ما تقوم به الرِّجالُ، مترمّلةً علينا، راغبةً من الله سبحانه في حُسن الثواب والنَّوال، وجزيل الحَظِّ من قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا أولُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجَنَّةِ، أَلَا إِني أَرَى امْرَأةً تُبادِرُني، فأقولُ لها: مَالَكِ؟ ومَنْ أنتِ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قَعَدْتُ على أيتامٍ لي" رواه أبو يعلى من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال الحافظ المُنذري: "وإسناده حسن - إن شاء الله تعالى -.

= أربع وثمانين وأنا ابن سبع سنوات؛ لأن مولدي في ثالث عشر شعبان سنة سبع وسبعين، فسمعت دروسه في التفسير من أواسط سورة النساء.

(1)

وقد روى المؤلف رحمه الله عن والده في مواضع عدة بأسانيده في كتابه "حسن التنبه"؛ انظر مثلاً: (1/ 388)، (2/ 66، 127، 206، 272، 549)، (4/ 385، 447، 480)، (9/ 463، 525، 12/ 357).

ص: 15

وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنا وامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّينِ كَهَاتَيْن يَوْمَ القِيَامَةِ"، وأومأ بيده - يزيد بنُ زُريعٍ: السَّبَّابةَ والوسطى - "وامرأةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجهَا، ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَها عَلَى يَتَامَاهَا حتَّى بَاتُوا أَوْ مَاتُوا"، رواه أبو داود، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.

قال الخَطَّابي: السَّفعاء: التي تَغَيَّر لونُها إلى الكُمُودة والسَّواد من طول الأيمة؛ يريد بذلك: أنها حبسَتْ نفسَها على أولادها، ولم تتزوج فتحتاج إلى الزِّينة والتصنُّع للزوج. فجزاها الله عنَّا أحسنَ الجزاء، وعَوَّضها عَمَّا تركَتْ من أجله لوجهه في دار البقاء.

وساعدها على ذلك كلِّه شقيقُها الخَواجا زينُ الدين عمر بن الخواجا بدر الدين حسن بن سبت، وأجزل إلينا خيراً، وكانت معيشتُنا من رَيعِ وَقْفِ جَدِّنا ومُلكِ أبينا وميراثِه الذي تلقَّيناه عنه، أحسنَتْ والدتُنا التصرفَ في أموالنا، وفي مُؤْنتنا وكسوتنا، ولم تُحَمِّلْنا مِنَّة أحدٍ قطُّ، وتقول: هو ببركة والدهم (1)، ثم إنها - أعزَّها الله ومَدَّ في أجلها - أشغلتنا بقراءة القرآن، وطلب العلم؛ فقرأتُ القرآنَ على الشيخ عثمان اليماني.

ثم نقلني الوالدُ قبل وفاته إلى الشيخ يحيى العماري (2)، فختمت

(1) قال المؤلف رحمه الله (2/ 548) من كتابه هذا: "وأخبرني غير واحد: أن الشيخ الوالد رضي الله عنه وهبه شيئاً من النقد، فحرص عليه، وحفظه في كيسه - أو خزانته -، فكان سبباً لنمو ماله، وحلول البركة فيها".

(2)

وقد نقل في كتابه هذا عنه، انظر:(10/ 222).

ص: 16

عليه القرآن مراتٍ، وأقرأني في "الأجرومية"، و"الجزرية"، و "الشاطبية"، و "الألفية"، تصحيحاً وحفظاً لبعضهنَّ، وحفِظْتُ عليه معظمَ القرآن.

قلتُ: وقد ترجمَهُ في "الكواكب"، وقال: إنه كان من أولياء الله تعالى ممن تُطوى له الأرض.

قال: ثم أخذتُ في طلب العلم، فتردَّدتُ إلى مجلس الشيخ العلَاّمةِ زينِ الدينِ عمرَ بنِ سلطان مفتي الحنفية، فقرأت عليه "الأجرومية" حفظاً وحلاًّ، وشَرْحَهَا للشيخ خالد.

ثم لزِمْتُ درسَ شيخنا شيخ الإسلامِ شهابِ الدينِ العيثاويِّ (1)، فقرأت عليه "شرح الجزرية" للمكودي، وقرأت عليه "شرح المنهاج" بتمامه إلَّا فرقاً يسيراً من أواسطه وأواخره، ولكن سمعت عليه ما فاتني، وقرأت عليه نصفَ "شرح المنهاج الصغير" الأول لشيخ الإسلام والدي، وسمعتُ عليه مواضعَ صالحةً من "شرح المحلَّى"، وقرأت من أوائل "شرح البهجة" للقاضي زكريا، وسمعت عليه من أول "الإرشاد" وأوسطه بقراءة الشيخ محمد بن داود، وصاحبِه الشيخِ محمد الزوكاري الصالحيين، وسمعتُ عليه "عقيدة الشيباني" بقراءة أبي الصفاء بن الحمصي، وله عليَّ تربية وحُنُوٌّ وعطفٌ، وهو أعزُّ شيوخي عندي، وأحبُّهم إليَّ - جزاهم الله عني خيراً -، وقرأتُ عليه

(1) أبو العباس أحمد بن أبي الندى يونس العيثاوي الشافعي، وقد ذكره ونقل عنه في عدة مواضع من كتابه هذا، انظر:(1/ 352).

ص: 17

في الحديث من أول البخاري وغيره، وإلى الآن في صحبته من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة ثلاثَ عشرة سنة - أطال الله صحبتَنا، ومتَّعني بحياته، ونفعني ببركته (1) -.

ولزِمْتُ شيخَنا مفتي الفِرَق شيخَ الإسلام أبا الفضل محمد محبّ الدين القاضي الحنفي (2) - أعزَّ الله جانبه -، فقرأتُ "شرحَه على منظومة الشيخ العلامة محب الدين بن الشحنة"؛ كما تقدم في ترجمته، ومن أوائل "المُطَوَّل"، وقرأتُ عليه نحو ربع "صحيح البخاريِّ"، وكتب لي به وبغيره إجازة بخطِّه، وهو - متَّع الله بحياته - إلى الآن يُوصِلُ إلينا إحسانَه وإنعامَه، علماً وثناءً ومالاً، وغير ذلك مما لا نستطيع مكافأته إلَّا أن يجازيَهُ الله عنَّا أحسنَ الجزاء، ويمتِّعنا بحياته وعلومِه ما تعاقب الصباحُ والمساء.

وقرأت على السيد الشريف، الحسيب النسيب، الامام، العلامة، اللَّوْذَعِيِّ المحقِّقِ، الفَهَّامة، قاضي القضاة في حلب، ثم المدينةِ، ثم آمد بضميمة الإفتاء بها وقضاءِ البيرةِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ محمدِ بنِ السيدِ حسنٍ السُّعوديّ - تغمَّده الله تعالى برحمته - حين قدم علينا دمشق الشام

(1) وكان الشيخ العيثاوي يحبه ويجله، ويعامله معاملة الوالد لولده، واستنابه في حياته في وظائفه وخطبه، ثم زوجه إحدى بناته، فولدت له بدرَ الدين محمداً، ثم ماتت، فزوجه أختها، ولما حضرته الوفاة، أذن له بالكتابة على الفتوى. انظر "فوائد الارتحال" لمصطفى الحموي (2/ 47).

(2)

وقد نقل عنه في كتابه هذا، انظر:(2/ 142).

ص: 18

في سنة ثمان وتسعين وتسع مئة، مواضعَ من "تفسير القاضي العلامة ناصرِ الدين البيضاوي"، منها: تفسير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآيتين بإشارته، وأجازني بمروياته، منها:"تفسير المفتي الأعظم والإمام الأقدم أبي السُّعود محمد بن العمادي - رحمه الله تعالى"، ولم أر في موالي الروم أذكى منه، ولا أرغبَ في العلم منه - رحمه الله تعالى -.

وأجازني من المصريين شيخُنا شيخ الإسلام شمسُ الدين الرمليُّ المِصْريُّ، وشيخُنا العارف بالله تعالى الأستاذُ الأعظم زينُ العابدين البَكْريُّ - متَّع الله بحياتهما -، كتابةً إلي.

قلت: وسمع المُسلسل بالأولية من محدِّث حلب شيخِ الإسلام محمودِ بنِ محمدٍ البيلونيِّ الشافعيِّ حين قدم دمشقَ في سنة سبع بعد الألف، وأجازه بمروياته.

وأخذ عن محدِّث مكةَ المشرفةِ شيخِ الإسلام الشمسِ محمدِ بنِ عبدِ العزيزِ الزَّمزميِّ الشافعيِّ في سنة سبع بعد الألف.

قال: وفتح الله تعالى عليَّ بالنظم والنثر والتأليف من سنة إحدى وتسعين وتسع مئة، وذَكَرَ من شعره قولَه:

لو بُحْتُ بالحبّ الذي

أَضْنى الفؤادَ وكَلَّما

لَبَكى لِيَ الصخرُ الأَصَـ

ـمُّ وكاد أنْ يتكلَّما

ثم قال بعد ذلك: ودخلتُ في يوم عرفةَ سنة اثنتين وتسعين وتسع مئة على شيخ الإسلام الشيخِ إسماعيلَ النابُلُسيِّ أهنِّيه بالعيد،

ص: 19

فرأيت عنده جماعةً، منهم: شيخنا العلامة المنلا أسدُ بنُ مُعينِ الدِّين.

أقول: فعُلم من قوله ذلك: أن المنلا أسداً من مشايخه، ثم رأيتُه ذكر في ترجمة الأسد في "الكواكب": أنه قرأ عليه في "شرح الشذور" لابن هشام، ودروساً من "شرح الجاربردي على الشافية".

ثم قال: ومن مؤلفاتي:

"نظم الأجرومية"، سميته:"الحُلَّة البَهِيَّة"، واقتديت في نظمها بوالدي لـ "شرح الأجرومية"، لطيف ممزوج.

و"شرح القَطْر" لابن هشام.

و"شرح القواعد" لابن هشام - أيضاً -.

و"شرح منظومة والدي في النحو" نظماً في أربعة آلاف بيت سميته: "المِنْحة النجميَّة في شرح المُلْحَة البدريَّة"، قرَّظ العلماء عليها.

و"منظومة في النحو" مئة بيت.

و"منظومة في التصريف والخط" كذلك مئة بيت.

و"نظم العقيان في مورثات الفقر والنسيان" للناجي، وهو غير نظم الجد الشيخ رضيِّ الدين.

ومختصر في النحو سميته: "البهجة".

وكتبتُ قطعة على "التوضيح" لابن هشام.

ص: 20

وقطعة على "الشافية" لابن الحاجب.

و"شرح لامية الأفعال" لابن مالك في التصريف في شرحين ممزوجين، الأول منظوم من بحر الأصل، وقافيته في نحو ألف بيت.

ونظم شرح شيخنا علامة العصر المحبِّ الحَمَويِّ على منظومة العلامة المحبِّ بن الشحنة في المعاني والبيان.

و"نظم فرائض المنهاج" في الفقه.

و"شرح منظومة والدي" في ضبط شأن القاعدة الفقهية: كلُّ ما كان أكثرَ عملاً أو أشقَّ، فهو أكثر في الثواب، وسميته:"تحفة الطلاب".

وشرحت أبياتاً لصاحبنا الشيخِ أبي الوفا الحَمَوي العَبْدَري في شروط تكبيرة الإحرام، بالتماس منه، في شرحين: الأول منثور سميته: "الدرة المنيرة في شروط التكبيرة"، والثاني منظوم سميته:"تحفة النظام في تكبيرة الإحرام".

وشرحت كتاب "اللآلئ المُبْدَعة في الكتابات المخترعة" لشيخ الإسلام الجد.

ونظمت "خصائص الجمعة" في منظومة سميتها: "اللآلئ المجتمعة".

ونظمت كتاب "رواة الأساطين في عدم الدخول على السلاطين" للشيخ السيوطي.

واختصرت كتاب "المنهل الرَّوِيّ في الطبِّ النبويِّ" له - أيضاً - في مختصر سميته: "المختار".

ص: 21

وكتبت شرحاً حافلاً على قول الشيخ علوان الحموي - رحمه الله تعالى -:

وشَرعٍ وحَقٍّ وحَقٍّ وشرعٍ

وجَمْع وفَرْقٍ وفرقٍ وجَمْعِ

ينال الفتى كلَّ ما يشتهي

بتنزيهِ طَرْفٍ وتقديسِ سَمْعِ

وتركِ هوًى باتباعِ الهوى

وتأديبِ نفْسٍ وتنزيهِ طَبْعِ

عليكَ بها إنَّها إنَّها

جِماعٌ لخيرٍ ومفتاحُ جَمْعِ

وسميته كتاب: "الهَمْع الهَتَّان في شرح أبيات الجمع للشيخ عُلوان".

وأعظمُ مؤلفاتي الآن: "شرحي على ألفية التصوف" لشيخ الإسلام الجد المسمى بـ: "منبر التوحيد ومظهر التفريد في شرح جمع الجوهر الفريد في أدب الصوفي والمريد"، وهو كتاب حافل جمعتُ فيه جميعَ أحكام الطريق، ووفيت فيه شروط الشرع في عين التحقيق، وهو وكلُّ مؤلفاتي التي أشرتُ إليها الآن كواملُ بفضل الله، ما عدا "شرح التوضيح"، و"شرح الشافيه"، و"شرح اللآلئ المُبْدَعة"، لكن الأخير مُشْرِفٌ على الكمال.

وفي عزمي الآن أَنْ أكتبَ في الفقه كتاباً حافلاً، وأنا شارع في مؤلفاتٍ أخرى، أسأل الله تعالى التوفيق.

ومن مؤلفاتي التي كملت الآن - أيضاً -:

"مجالسي" في تفسير سورة الإسراء، التي أمليتُها في سنة ثمان

ص: 22

وتسعين وتسع مئة.

و"مجالسي" التي أمليتها في السنتين بعدها إلى آخر سورة طه.

ثم تركت تدريسَ مجالسِ وعظي، وجعلتُ أُمليها على ما يُفيض الله من سَيْب فضله ويفتح.

ومن مؤلفاتي - أيضاً -:

هذا الكتاب الحافل المُسمَّى: "بُلغة الواجد في ترجمة شيخ الإسلام الوالد"، وفي ضمنها أربعون حديثاً من مسموعاتي كما تراها مسطَّرة في الباب السابع، ونسأل اللهَ تعالى التوفيق.

وقد قرَّظ أكابرُ علماء مصر والشام على شرحي "الملحة البدرية"، وشرحي على منظومة ابن الشحنة. ا. هـ كلامه، ثم ذكر شيئاً من التقاريظ.

أقول (1): ومن مؤلفاته - أيضاً -:

كتاب "عقد النظام لعقد الكلام"، وهو كتاب غريب الوضع، مبني على مقولات للسلف في النصيحة والزهد وأشباههما، ثم ينظم تلك المقولات، ويذكر نظمه عند آخر كلِّ مقولة، نقلتُ منه أشياء، منها: ذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" عن الإمام الشافعي: أنه قال: ما أفلح في العلم إلا مَنْ طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب القِرطاس، فيعسُر عليَّ، وقال: لا يطلب أحدٌ هذا العلمَ بالمال وعزِّ

(1) أي: المحبي.

ص: 23

النفس فيفلح، ولكن مَنْ طلبه بذِلَّةِ النفس، وضيقِ العيش، وخدمةِ المعلِّم، والتواضعِ في النفس، أفلحَ.

قال: وقلت في معناه هذا:

مَنْ يطلبِ العلمَ بذلٍّ وضِيـ

ـقِ العيشِ والخدمةِ والإِنقطاعْ

فَهْوَ الذي يُفْلِحُ لا مَنْ غَدَا

يَطْلُبُه بالعِزِّ والإِتِّساعْ

وقلت:

مَنْ يطلبِ العلمَ بعزِّ الغنى

يَبطَرْ ولا يُفلِحْ بما يَصْنعُ

للعلم طُغْيانٌ كما للغِنَى

والعلمُ بالطُّغيانِ لا يَنْفَعُ

لايبلغُ العالمُ شأوَ العُلَا

إلَّا التَّقيُّ الأَرْوَعُ الأَوْرَعُ

ومنها: عن أبي سليمان الدَّاراني رضي الله عنه، قال: لو اجتمع الخلقُ جميعاً أن يضعوا عملي كما عند نفسي، ما قدروا على ذلك، قال: وقد ضمَّنت كلامه رضي الله عنه في قولي:

قُلْ لنفسي: إنْ تُراعي

حَق رَبِّي لن تُراعي

إنما نقصٌ وضَعْفٌ

وانتقاصٌ من طِباعي

مَنْ يَضَعْ مني وَيجْهَدْ

لَمْ يَضَعْني كاتِّضاعي

إنَ عِرْفانِي بِنَفْسي

قد كفاني وَعْظَ واعي

إنَّمَا الدُّنيا متاعٌ

لم يَدُمْ فيها انتفاعي

ص: 24

إنَّمَا يُسْعى لدارٍ

لم تَضِعْ فيها المساعي

دارِ تكريمٍ إليها

قد دعاني كُلُّ داعي

وله: كتاب: "تحبير العبارات في تحرير الأمارات"، وهو - أيضاً - عجيب، نَقَلَ فيه ما نصُّه: يُبتلى المغتابُ بأن يُغتاب؛ روى أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "النكت والنوادر" عن عبد الله بن وهب، قال: قال مالكُ بنُ أنسٍ رضي الله عنه: كان عندنا بالمدينة قومٌ لا عيوبَ لهم، تكلَّموا في عيوب الناس، فصارت لهم عيوبٌ، وكان عندنا قومٌ لهم عيوبٌ، سكتوا عن عيوب الناس، فَنُسِيت عيوبهم، قلت:

عَائِبُ الناسِ وإنْ كا

ن سليماً يُستَعَابْ

والذي يُمْسِكُ عن عَيْ

ـبِ الوَرَى سوفَ يُهاب

ما دخولُ المرءِ فيما

ليس يَعْنيه صواب

وذكر فيه - أيضاً -: روى أبو الشيخ عن مُطرِّفٍ، قال: قال لي مالكُ ابنُ أنسٍ رضي الله عنه: ما تقول الناسُ فيَّ؟ قلت: أمَّا الصَّديق، فيثني، وأما العدوُّ، فيقع، فقال: ما زال الناسُ كذلك، لهم صديقٌ وعدوٌّ، ولكن نعوذ بالله من تَتَابعِ الألسنِ كلِّها، وقلت:

لا تَرَى كاملاً خَلا

من عَدُوٍّ يَعيبُهْ

بَلْ لَهُ مِنْ سِبابِهِ

وأذاهُ نَصيبُهْ

أحمقُ الناسِ مَن يَرَى

أَنَّ ذا لا يُصيبُهْ

ص: 25

وأخو الكَيْسِ قد رَجَا

اللهَ عنهُ يُثيبُهْ

حَسْبُهُ اللهُ ربُّهُ

فَهْوَ عنه يَنوبُه

ونقل فيه - عندَ ذكر أمارات الصبيان -، قال: ومن لطائف العلامة الشيخ زين الدين عمرَ بنِ المظفر الوردي، وقد ولي السلطنةَ صبيٌّ مميزٌ غير بالغ:

سُلطاننُا اليومَ طفلٌ والأكابر في

خُلْفٍ وبينهمُ الشيطانُ قد نزَغا

وكيف يطمعُ مَنْ مسَّتْهُ مَظْلمَةٌ

أن يبلغَ السُّؤْلَ والسُّلطانُ ما بَلَغا

وله: كتاب: "التنبيه في التشبيه"، وهو كتاب بديع في سبع مجلدات، في قِطْع النصف، لم يُسبق إلى تأليفه، وهو: أن يذكر ما ينبغي للإنسان ما يتشبه به من أفعال الأنبياء والملائكة والحيوانات المحمودة، وما يتشبه به من اجتناب ما يُذَمُّ فعلُه، رأيته، ونقلتُ منه أشياء لطيفة، منها: قوله: لقد مرَّ بي - في بعض مجالسي من نحو عشرين سنة -: أني دعوتُ الله تعالى، فقلتُ: اللهمَّ! اجعلْنا من الصالحين، فإن لم تجعلْنا من الصالحين، فاجعلْنا من المخلِّطين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيئاً، أو ما هذا معناه، فَبَعْدَ انقضاء المجلس، اعترض عليَّ بعضُ السامعين، فقال: يا سيدي! كيف تدعو الله أن يجعلنا

ص: 26

من المخلِّطين، والمعصيةُ مقررةٌ فيهم؟ قلت: سبحان الله! والعملُ الصالح مقرَّرٌ فيهم - أيضاً -، وهو أولى من أن نكون من المُصِرِّين، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} ، ثم وقفتُ على كلام مُطَرِّفٍ، وهو ما روى البيهقيُّ عن مطرِّفٍ، قال: إني لأستلقي في الليل على فراشي، وأتدبَّرُ القرآنَ، فأعرِض نفسي على أعمالِ أهلِ الجنة، فإذا أعمالُهم شديدة:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} ، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} ، فلا أُراني منهم، فأعرض نفسي على هذه الآية:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} ، فأرى القومَ مكذِّبين، فلا أراني منهم، فأمُرُّ بهذه الآية:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ، فأرجو أن كون منهم، فحمِدْتُ اللهَ تعالى على موافقته، على أن المخلِّطين المذكورين كانوا من أعيان الأنصار، والصحابة الأخيار، وأنَّى لنا باللحاق بأقلِّهم؟ وقوله تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، فـ {عَسَى} و {لَعَلَّ} هو في القرآن يدلَاّنِ على تحقيق ما بعدَهما بإجماع المحققين من المفسرين، فالتوبة مقبولة منهم بفضل الله تعالى. انتهى (1).

ومما ذكره: فيما يجتنب التشبيه بالثيران ونحوها من الفَظَاظة، وجهر الصوت، والتكلُّم بما لا يليق بالمكان والزمان، والناس يشبِّهون كلَّ فَظٍّ غليظٍ بَليدٍ أكُولٍ بالبقرة والثور، وتقدم فيما أنشدناه عن عبد الحق الإشبيلي، وهو:

(1) انظر: (3/ 69 - 70) من مطبوعتنا هذه.

ص: 27

يا راكبَ الرَّوع لِلَذَّاته

كأنه في أُتُنٍ عَيْرُ

يأكُلُ من كلِّ الذي يشتهي

كأنّه في كَلأٍ ثَوْرُ

وكنت يوماً في جماعة، منهم: العلامةُ المنلا أسدُ الدين بنُ معينِ الدينِ العجميُّ - أحد تلاميذ والدي - عند بعض الصوفية، فبينما المنلا أسدٌ يقرأ الفاتحة، إذا فقير من فقراء ذلك الصوفيِّ صرّح مثوِّراً، فانذعر المنلا أسدٌ وانزعج، ثم التفتَ إلينا، وقال: واللهِ! لم أعلم قولَ فقراء الصوفية: (ثوروا)، مِن أيِّ شيء اشتقاقُه إلَّا في هذا الوقت، علمتُ أنه مشتق من لفظِ الثور، فإني رأيتُ هذا الرجل الآن خار خواراً كأنه ثور.

وذَكَر أنَّ بعض الوعاظ كان يعظ طائفةً من الناس وهو يلقي الكلام، فنظر منهم إعراضاً ولَغَطاً، فأراد أن يستبطنهم، فقال: ألا اسمعوا يا بقر! فقال بعضهم: قلْ: يا ثور! (1).

ونقلت من خطه، قال: أوردت في بعض مجالسي هذا الحديث: "يقولُ اللهُ تعالى للحَفَظَةِ يومَ القيامة: اكتُبُوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربَّنا! لم نَحْفَظْ ذلكَ عنه، ولا هُوَ في صُحُفِنا؟ فيقول: إنَّة نَواهُ"، وقلت على هذا بديهةً، حتى كأن المُنشدَ على لساني ينشد هذين البيتين:

تَلُومُوني على فِعْلٍ

بِفَرْطِ اللَّومِ والعَتْبِ

ولَمْ تَدروا الَّذي بيني

وبينَ اللهِ في قلبي

(1) انظر: (11/ 40) من مطبوعتنا هذه.

ص: 28

وحَكَى: أنه رأى النبيَّ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في النوم في ليلة مرتين، فأنشده يقول:

لَئِنْ تَقَضَّى زَمَنٌ أنتَ فيهْ

فإنَّ آثارَكَ تكفي النَّبِيه

مَنْ تَبِعَ الآثارَ منكَ اهْتَدَى

ومَنْ أباها فهو في أَيِّ تِيْه

صَلَّى عليكَ اللهُ يا سيدي

مُسَلِّماً ما فاهَ بالنطقِ فيهْ

أصله: (فيهِ) - بالحركة الظاهرة -.

وله فوائد منظومة كثيرة، منها: قوله جامعاً آداب العيادة للمريض، وهي:

إِنْ تَعُدْ يوماً مريضاً فليكُنْ

في زمانٍ لاقَ فيه أن تَعودْ

واطرُقِ البابَ برفقٍ ثم باسـ

ـمكَ صرِّح، ما صديقٌ كالحسودْ

واغضُضِ الطَّرفَ ولا تُكْثِرْ إذاً

من سؤالٍ ثم خفِّفْ في القعودْ

لا تَكَلَّم في الذي يُضْجِرُهُ

أو له فيه ارتيابٌ في الوجود

ص: 29

ضَعْ عليه يَدَكَ اليمنى وعَنْ

حالِه سَلْهُ على وجهٍ يَجُودْ

أَظْهِرِ الرِّقَّةَ، وسِّعْ مُدَّةً

وعِدَنْهُ بالعوافي أن تعودْ

وأَشِرْ بالصَّبرِ، حَذِّرْ جَزَعاً

وادعُ بالإخلاص مولاك الوَدُودْ

تلك آدابُك إن عُدْتَ ومَن

يَحْفَظُ الآدابَ يُرجَى أنْ يسودْ

وله: التاريخ الذي ألفه في أعيان المئة العاشرة، وسماه بـ:"الكواكب السائرة"، والذيل الذي سماه:"لطف السَّمَر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر"، والثاني أحدُ مادة تاريخي هذا، وكِلا الأثرين له جيد، جزاه الله على صنعهما خيراً، إلا أنهما يحتاجان إلى تنقيح وحُسن ضبط، فإن فيهما الغَثَّ، وتكريرَ بعض تراجم، وبعض سَهْوٍ في الوَفَيات، وما إخاله إلا أنه أجاد كلَّ الإجادة في هذا الجمع على كل حال، وأما ما فيه من بعض الأغراض، فقد عرفت بها المؤرخون في الماضي.

ثم تصدَّر للإقراء والتدريس، فدرَّس بالشامية البرَّانية، تفرغ له عنها الشهابُ العيثاوي اختياراً، وكذلك فَرَّغ له عن تدريسٍ بالعُمُرية، وعن إمامةٍ بالجامع الأموي، وعن وعظٍ به بعد أن وَلِيَه عن الشيخ أحمدَ بنِ الطيبي، ثم وَلِيَ العيثاويُّ الوعظَ - أيضاً - عن الشمس الداوديِّ،

ص: 30

ففرغ له ولابن أختِه البدرِ الموصلىِّ، وأذن له العيثاويُّ بالكتابة على الفتوى قبل وفاته بنحو عشرين سنة، فكتب في هذه المدة على فتوى واحدة في الفقه، وغير واحدة في التفسير؛ تأدبا مع العيثاوي، فلما كان قبل وفاته بنحو خمسة أيام، دخل النجمُ عليه، فحضَرَتْ فتوى، فقال له: اكتبْ عليها، فكتب وقال: اكتبْ اسمكم، قال: بل اكتبُ اسَمك، فكتبه، ثم تتابعت عليه الفتاوى، فاستمرَّ يُفتي من سنة خمس وعشرين وألف إلى سنة إحدى وستين، وهي سنة وفاته (1).

وكان مُغْرَماً بالحج إلى بيت الله الحرام، واتفق له مَرَّاتٍ؛ فأولُ حَجَّاته كانت في سنة إحدى وألف، قال في ترجمة والده في "الكواكب": بمناسبة وقع لنا اتفاقٌ غريب، وهو أنَّا حَجَجْنا في سنة إحدى وألف، وهي أولُ حجةٍ حججتُها، وكنا نترجَّى أن يكون عرفة يومَ الإثنين، فرأينا هلالَ ذي الحجة ليلةَ السبت، وكان وقوفُنا بعرفةَ يوم الأحد، وهو خلافُ ما كان الناس يتوقعونه، فقلت لبعض إخواننا من أهل مكة وغيرهم؛ ظهر لي اتفاقٌ غريب، وهو أن الله تعالى قدر الوقوف

(1) وقال أبو المواهب الحنبلي في "مشيخته"(ص: 71): وقد حضرت في دروسه العامة بعد العصر في الثلاثة أشهر تحت القبة في "البخاري" المجالسَ التي لا تُعد، وكنت أسأله ومَنْ في المجلس إذ ذاك من العلماء الكبار عن كلِّ ما يُشكل عليَّ، وحضرته في شرح "جمع الجوامع" في الأصول في مدرسة الشامية البرانية، وتوجهت مع بعض إخواني من الطلبة إلى منزله بزقاق الوزير، وقرأت عليه "الألفية" للعراقي في المصطلح، وأجازني خصوصاً بعد الإجازة العامة.

ص: 31

يومَ الأحد في هذا العام؛ لأنه عام أحد بعد الألف، فاستحسنوا ذلك، وقلت مقيِّدًا لهذا، وهو:

لقد حَجَجْنا عامَ ألفٍ وأَحَدْ

وكانتِ الوَقْفَةُ في يومِ الأَحَدْ

اليومُ والعامُ توافَقَا معاً

فَجَلَّ مولانا المُهيمنُ الأحَدْ

وسافر إلى حلب مع شيخه العيثاويِّ في جماعة من مشايخ دمشق، منهم: السيدُ محمدُ بنُ عجلانَ نقيبُ الأشراف، والسيدُ إبراهيمُ بنُ مسلمٍ الصماديُّ، والسيدُ أحمدُ بنُ على الصفوريُّ، في آخرين، إلى الوزير محمد باشا؛ بقصد رفع التكليف عن أهل دمشق بسبب سفر العجم الواقع ذلك في سنة خمس وعشرين وألف.

ولما وُجِّهَتْ عنه الشاميةُ للشمس الميداني - كما ذكرناه في ترجمة الميداني -، سافر إلى الروم في سنة اثنتين وثلاثين وألف، وقُرِّرَ في المدرسة، إلى أن جاء الميدانيَّ تقريرٌ آخر، فاشتركا في المعلوم، ثم لم تمض سنة حتى مات الميداني، فاستقل بالمدرسة، وجلس مكان الميداني تحت القبة في الجامع الأموي لإقراء "صحيح البخاري" في الأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان، ورَأَس الرياسة التامة، ولم يبق من أقرانه الشافعية أحدٌ، وهَرَعَتْ إليه الناس والطلبة، وعظم قدرُه، وبَعُدَ صيتُه، وكان قارئُ الدَّرس بين يديه السيدَ أحمدَ بنَ عليٍّ الصفوريَّ، ثم الشيخَ الإمامَ رمضانَ بنَ عبدِ الحق العكاريَّ، ثم الشيخَ العالمَ مصطفى بنَ سوارٍ، وكانت مدةُ جلوسه تحت قبة

ص: 32

النسر سبعة وعشرين سنة، وهو قدرُ مدةِ المَيدانيِّ، وهو غريبُ الاتفاق، وانتفع الناس به، وأخذوا عنه طبقةً بعد طبقة، وهم في الكثرة لا يحوم الإحصاء حولهم.

وكان له بالحجاز الصِّيتُ الذائع، والذكرُ الشائع، وحكى الشيخ العالم التقي الشيخ حمزةُ بنُ يوسفَ الدُّومانيُّ ثم الدمشقيُّ الحنبليُّ - أبقاه الله تعالى - غيرَ مرة: أنه لمَّا حج في سنة تسع وخمسين وألف، كان النجم حاجاً تلك السنة، وهي آخر حجاته، وكذلك الشيخ منصور السطوحيُّ كان حاجاً، قال: وكنت في صحبة الشيخ منصور، فبينما أنا ذات يوم عند الشيخ منصور بخَلْوة عند باب الزيارة، وإذا بحسِّ ضجة عظيمة، قال: فخرجت فنظرت، وإذا بالشيخ النجم بينهم وهم يقولون له: أجزنا، ومنهم من يقول: هذا حافظ العصر، ومنهم من يقول: هذا حافظ الشام، ومنهم من يقول: هذا محدث الدنيا، فوقف عند باب الزيارة، وقال لهم: أجزتكم بما تجوز لي روايتُه بشرطه عند أهله بشرط أن لا يلحقَنا أحدٌ حتى نطوف، ثم مشى إلى المَطاف، فما وصل إليه إلا وخلفَه أناسٌ أكثر من الأول، فوقف وأجازهم كما تقدم، وقال لهم: بشرط أن لا يَشْغَلَنا أحدٌ عن الطواف، قال: فوقف الناس، وطاف الشيخ، قال: ولم يكن يطوف مع الشيخ إلا أناسٌ قلائلُ كأنما أُخلي له المَطَاف، فلما فرغ من الطواف، طَلَبوا منه الإجازة - أيضاً -، فأجازهم، ثم أرسل الشيخ منصور، ودعاه إلى الخَلْوة، فذهب، ولحقه الناس إلى باب الخلوة، وطلبوا منه الإجازة، فأجازهم، ودخل

ص: 33

الخلوة، ثم جاء الشمس محمدٌ البابلىُّ، ثم بعد هُنَيَّةٍ جاء الشريفُ زيدٌ

صاحبُ مكةَ، فلما استقر بهم المجلس، تذاكروا أمر الساعة، فأخذ

الشمس البابلي في الكلام، فقال النجم بصوت مزعج، وقد جلس

على ركبتيه، وشرع يُورد أحاديث الساعة بأسانيدها وعَزْوها

لمخرِّجيها، ويتكلم على معانيها، حتى بَهَر العقولَ، وأطال في ذلك،

ثم لما فرغ، قال البابليُّ: تجيزونا يا مولانا! بما لكم؟ وكذلك

استجازه الشيخُ منصورٌ، والشريفُ زيدٌ، وأنا ومَنْ حضر، فأجازَ الجميعَ، ثم قدَّم لهم الشيخ منصور مِنْ عنده سماطاً، وأردفه الشريف زيدٌ بأشياءَ من المآكل، فلما فرغوا، انصرف الشيخُ النجمُ، وبقي البابلي، فقال للشيخ: سبحان الله! ما هذا إلا عن نبأ عظيم، فقال له الشيخ منصور: أنا كنتُ إذا رأيتُ كُتبَه وتصانيفَه أَعْجَبُ منها، وإذا اجتمعت به، لا يتكلم إلا قليلاً، فأَعْجَبُ من ذلك، ولكن الآن تحقَّقَ عندي علمُه وحفظُه، انتهى.

وكان قبل موته بست سنوات أو سبع سنوات اعتراه طَرَفُ فالِجٍ، فكان لا يتكلم إلا قليلاً، فعُدَّ هذا المجلسُ وكثرةُ الكلام فيه بالمناسب لِمَا هُم بصدده من غير توقُّف ولا تلعثُم كرامةً له، وهو محل الكرامة، فقد أخبر بعض الثقات: أنه سأل بعض الصالحين عن الأبدال بالشام، فعدَّ منهم ثلاثة، أحدُهم النجم.

وما اشتهر من أن سكوته بذلك العارض كان من الشيخ حسين بن فرفرة - كما ذكرناه في ترجمة الشيخ حسين - لا يقدح في ولايته كما

ص: 34

يُظن، ولعل ذلك كان سبباً لولايته في مقابلة انكسارٍ حصل له (1).

(1) وقد كان المؤلف رحمه الله مبتلًى بحسد حسَّاده لعلمه، صابراً - مع الاقتدار -؛ لعفوه وحلمه؛ كما قال ابن شاشو في "تراجم بعض أعيان دمشق" (ص: 103).

وقد ذكر رحمه الله في كتابه هذا طرفاً من ذلك:

فقال في (11/ 195): ومما اتفق لي في هذا المثل: أني لمَّا ابتليتُ بحسد الشيخ شمس الدين بن المنقار في أوان الطلب، وكان له تعرضٌ للناس، فداريتُه بقصيدة جاء فيها قولي:

يا شمسَ دِينِ اللهِ، يا

مَنْ قَدْ عَلا شَمْسَ الْفَلا

فلمَّا عرضتها عليه، قبلها، وشَكَر عليها، ثم بعد شهر أو أكثر جرت بيننا وبينه قصة آلتْ إلى أن ناظرتُه فيما ظهرت فيه الحجة عليه، فشرع يعترض على ما مدحته به، ويذم، ويدعي فيه سوء التركيب، فقلت:

أتيْتُكَ يَوْماً مَادِحاً لَكَ مُطْرِباً

وَلَمْ أَخْشَ قَوْلَ النَّاسِ عَنِّيَ لِمْ فَعَلْ

فَنافَقْتَنِي بِالشُّكْرِ حِينَ قَبِلْتَ ما

أتيْتُ بِهِ نظماً عَلى الدُّرَرِ اشْتَمَلْ

وَبَعْدَ زَمانٍ قُلْتَ عَنْهُ بِأنَّهُ

مَعِيبُ الْمَعانِي ثُمَّ فِي وَزْنِهِ خَلَلْ

فَقُلْتُ لِنَفْسِي إِنَّنَي أَسْتَحِقُّ ما

تَقُولُ وَإِنْ بالغْتَ فِي القَوْلِ وَالعَذَلْ

وَما ذاكَ إِلَاّ أَنْ وَصَفْتُكَ كاذِباً

بِشَمْسٍ، وَلَمْ أَعْلم بِأَنَّكَ ذُو عِلَلْ

وَما الشمْسُ إِلَاّ مَنْ يُضِيءُ بِنُورِه

وَلَمْ يَكُ ذا لُؤْمٍ كَمِثْلِكَ أَوْ خَطَلْ

فَوإنيِّ وَضَعْتُ الشيْءَ غَيْرَ مَحَلِّهِ

وَذَكَّرْتُ ذا التَّأْنِيثَ فَاسْتَنْوَقَ الْجَمَلْ

وكان ذلك في سنة أربع وتسعين وتسع مئة، وأنا دون العشرين من عمري، وكان المذكور قد تجاوز السبعين.

ص: 35

وتوجَّه إلى القدس قربَ موته هو والشيخُ إبراهيمُ الصماديُّ في جمعية عظيمة، ونزلا إلى الرَّملة، وزارا تلك المعاهد، ورجعا إلى دمشق، فتخلَّى النجمُ للعبادة، وتركَ التأليفَ، وبلغت به السنُّ إلى الهَرَم.

وبالجملة: فهو خاتمة حُفَّاظ الشام (1).

وكانت وفاتُه يوم الأربعاء، ثامن عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وستين وألف، عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وأربعة أيام، ودفن بمقبرة الشيخ أرسلان.

ومن غريب ما اتفق له في درسه تحت القبة: أن الشمسَ الداوديَّ كان وصل في قراءته البخاري إلى (باب: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى، لا يَكُفُّ شَعَراً ولا ثوباً)، ودرَّس بعده الشمسُ الميدانيّ من ذلك الباب إلى (باب: مناقب عمارِ بنِ ياسرٍ)، وتوفي، ودرَّس من بعده النجمُ إلى أن أكمله في ثلاث سنوات، ثم افتتحه وخَتَمه، وأعاد قراءته إلى أن وصل إلى (باب: البكاء على الميت).

ووقع له قبل موته بيومين: أنه طلع إلى بساتينه أوقافِ جدِّه، واستبرأ الذمةَ من الفلاحين، وطلب منهم المسامحةَ، وفي اليوم الثاني

(1) قال الحافظ المسند شمس الدين البابلي: إنه حافظ الدنيا في عصره.

انظر: "فوائد الارتحال" لمصطفى الحموي (2/ 45).

وقد وصفه الشيخ شمس الدين الغزي في "ديوان الإسلام"(3/ 385) بقوله: الحبر، الحافظ، شيخ الاسلام.

ص: 36

دَارَ على أهله: ابنتِه، وبنتها، وغيرِهم، وزارَهم، وأتى إلى منزله بيتِ زوجتِه أمِّ القاضي يحيى بنِ حميد بزقاق الوزير الآخذ إلى سوق جَقْمَق، وصلى المغرب، ثم جلس لقراءة الأوراد، وأخذ يسأل عن أذان العشاء، وأخذ في ذكر: لا إله إلا الله، وهو مستقبلٌ القبلةَ، ثم سُمعَ منه وهو يقول: بالذي أرسلكَ، ارفُقْ بي، فدخلوا عليه، فرأوه قد قَضَى نحبَه، ولَقِيَ ربَّه - رحمه الله تعالى -.

ورثاه جماعة من الفضلاء، منهم: الأديبُ محمدُ بنُ يوسفَ الكريميُّ، رثاه بقصيدة طويلةٍ مطلعُها:

لمَّا لِجنَّاتِ العُلا

شيخُ الشيوخِ انتقلا

وجعل تاريخَ الوفاة في بيت هو آخر القصيدة، وهو هذا:

يا نجمَ دينِ الله مِنْ

أُفْقِ دمشقٍ أَفَلا

ص: 37